مدخل
السجن هو جامعتي؛ ففيه عايشتُ القهر والموت، ورأيتُ بعض الوجوه
النادرة للإنسان، وتعلَّمتُ الكثير عن عالمه الداخلي وحيَواته
المتنوِّعة، ومارستُ الاستبطان والتأمُّل، وقرأتُ في مجالاتٍ متباينة.
وفيه أيضًا قرَّرتُ أن أكون كاتبًا. أما أبي فهو المدرسة.
•••
كان حكَّاءً عظيمًا، يُتقِن سبك حكاياته ونوادره المختلفة، النابعة
من تجاربه أو قراءاته، بحيث يستولي على مستمعيه. وكدتُ أُصبِح المستمع
الوحيد في السنوات الأخيرة من عمره؛ فقد كان على مشارف الستين عندما
أنجبَني من زوجةٍ ثانية. وخلَق بيننا تقدُّمه في السن — واختفاء أمي
المبكِّر — العلاقة الحميمة التي تنشأ عادةً بين الجد والحفيد. كنا
نلعب معًا النرد والورق، وأُشارِكه مزَّة البيرة التي يُحبُّها ويشربها
مرةً في الشهر، ثم كان هو الذي شجَّعني على القراءة. وما زلتُ أذكُر
الليلة التي عاد فيها إلى المنزل حاملًا ربطةً كبيرة من «روايات الجيب»
المستعمَلَة المتنوِّعة. وعندما دخلتُ طَور المراهقة كان هو الوحيد
الذي لجأتُ إليه فجمعتُ مجموعةً من الكتابات عن الممارسات الطبيعية
لتلك المرحلة، قدَّمتُها إليه ليقرأها ويُسديني النصيحة. وكانت هذه
الكتابات تُحيط هذه الممارسات بإطارٍ من الترويع والجهل، فيما عدا
مقالًا في مجلةٍ جديدةٍ اسمها «الطب النفسي» أصدرها ممارس للتنويم
المغناطيسي يُدعى الدكتور محب، حقَّق
شهرةً كبيرة في تلك الفترة، ونسَب لنفسه نجاحاتٍ عديدة، أهمها استعادة
ساعة مصطفى أمين الضائعة. تعرَّض
المقال للأوهام المنتشرة بشأن «العادة السرية»، ونفى أية أضرارٍ لها،
وهاجم دعاة العفَّة المطلقة قائلًا: إن الكف عن استعمال أية عضلة في
الجسم يؤدِّي إلى ضمورها! قرأ أبي هذا المقال باهتمامٍ لكنه ظل حائرًا،
وحاول أن يدفعَني إلى الصلاة، ثم أخذني إلى صيدليٍّ صديق له شاركَه
الحَيرة ونصح بإعطائي بعض الفيتامينات.
•••
وكان أبي مثل الكثيرين من أبناء عصره، متدينًا مستنيرًا، يربط
التعاليم الدينية والأخلاقية بالواقع المُستوحَى من تجاربه الواسعة،
وبعضها نابع من تنقُّلاته في أنحاء مصر
والسودان بحكم وظيفته المدنية في وزارة الحربية. وآمن
في الوقت نفسه بكثيرٍ من الأمور الغيبية وبالسحر والشعوذة. وقد أفادني
هذا التناقُض في شخصيته؛ فقد تشرَّبتُ منه احترام الكثير من القيم
الدينية السامية، وفي الوقت نفسه كراهية المحتل الإنجليزي والملك
والأحزاب الفاسدة، والاستعداد للتمرُّد على الأوضاع والأفكار السائدة،
وعدم التسليم بما لا يتفق مع العقل. وفتحَت لي حكاياتُه عالمًا مثيرًا
من المُثل والبطولات، وشاركتُه الإعجاب بعمر بن
الخطاب وعلي بن أبي
طالب وكراهية معاوية بن أبي
سفيان. وعندما بلغتُ في تطوُّري مرحلة التمرُّد عليه،
وجدتُ هدفًا لتمرُّدي في الجزء الغيبي من أفكاره.
دفعَني الملل من الدراسة (التي كنتُ فيها متواضعَ الأداء)، فضلًا عن
ظروفي العائلية، إلى عالم القصص الساحر. ومن حسن حظِّي وحظِّ جيلي من
الكُتاب، أن وجَدْنا أمامنا مجلةً أسبوعية تُدعى «روايات الجيب» تصدُر
منذ الثلاثينيات، وتنشُر ملخصاتٍ وافية لكافَّة أنواع الروايات
العالمية من كلاسيكية إلى بوليسية. وقد أسبغ عليها ناشرها عمر عبد
العزيز أمين، ما يتميَّز به من أسلوبٍ عصري بعيد عن التقعُّر. وشاركَه
في ذلك عددٌ من المترجمين المتميزين مثل شفيق
أسعد فريد وصادق راشد
ومحمود مسعود وبدر الدين خليل. وصار أبطالي هم «أرسين لوبين» و«روبن
هود»، «الفرسان الثلاثة» و«الكابتن بلود»، وهم مغامرون رومانسيون، وضحايا
للظلم الاجتماعي، ويتميَّزون بالجرأة والشجاعة، وفي أغلب الأحيان
يأخذون من الغني ليُعطوا الفقير.
شجَّعني أبي على قراءتها، فشُغِفتُ بالروايات البوليسية التي دفعَتني
إلى كتابة أولى رواياتي وأنا بعدُ في الثانية عشرة من عمري. جمعتُ
كميةً من الورق الفولوسكاب المسطَّر ونقلتُ عليه خُفية روايةً بوليسية
اسمها «الرجل المُقنَّع» بعد أن غيَّرتُ أسماء الشخصيات ووضعتُ اسمي
مكان اسم المؤلِّف الحقيقي. وفي السنة التالية حاولتُ أن أؤلِّف فعلًا
رواية عن سرقة مجوهرات — تجري أحداثها في لندن — لم أتقدم فيها أبعدَ
من الفصل الأول. كما حاولتُ أن أُترجم بعض القصص الإنجليزية.
في سنة ١٩٥٠ انتقلتُ مع أبي وأختي الصغيرة من حارة
المرصفي بالعباسية إلى شارع السبكي
بالدقي قريبًا من كلية الفنون
التطبيقية وجامعة القاهرة. وانتقلتُ بدوري من مدرسة
فاروق الأول الثانوية إلى مدرسة
السعيدية. أقمنا في منزلٍ قديم من ثلاثة
طوابق، يمثِّل كل طابقٍ شقةً واحدة من عدة غرفٍ واسعة عالية الأسقف،
تتألَّف أرضياتها من بلاطاتٍ حجرية كبيرة، واقتطَع أصحابه ثلاث غرفٍ من
الطابق الأول متصلةٍ ببعضها في خطٍّ مستقيم وحوَّلوها إلى مسكنٍ مستقل.
وكانت الغرفة الداخلية بنافذتَين تُطِل إحداهما على حديقةٍ صغيرة، تمتد
أمام طابقٍ أرضي تسكنُه عجوزٌ سوداء طالما روَّعَتني. وتُطِل الثانية
مباشرةً على نصبة شواءٍ صغيرة بجوار مقهًى شعبي في شارعٍ يشبه شوارع
القرى ويحمل الاسم التقليدي لأكبرها وهو شارع «داير الناحية»،
مُدلِّلًا على التاريخ الريفي القريب للمنطقة كلها. أما الغرفة الثالثة
— التي خُصِّصَت للطهي، وأُقيم في ركنٍ منها حمَّامٌ صغير بجدارَين
خشبيَّين — فكانت تُطِل على الحديقة الجرداء الأمامية التي تؤدي إلى
الشارع ذي المساكن البرجوازية القديمة.
١
•••
تزامَن هذا الانتقال مع دخولي مرحلة المراهقة وتغيُّر اهتماماتي
ونوعية قراءاتي، فاتسعَت لقصصٍ من نوع «خذني بعاري»، وعندما أزمع
مؤلِّفها عزيز أرماني تنظيم مسابقةٍ لكتاب القصة الشبان، اشتركتُ فيها
بأول قصة قصيرة في حياتي. وفزت بالجائزة الثالثة، فيما أعتقد، ومقدارها
ثلاثة جنيهات.
٢
كانت القصة ساذجةً للغاية تحمل عنوان «الأصل والصورة». ولم أُدرِك
وقتَها أن حياتي كلَّها ستدور حول هذه المقارنة الصعبة، والمحاولة
المُستمرَّة للمواءمة بين المثال والواقع.
•••
اتسعَت اهتماماتي أيضًا للموضوعات السياسية؛ فقد كانت البلاد — في ظل
الحكم الوفدي وبعد إلغاء معاهدة ٣٦ — تغلي بالمشاعر الوطنية ضد
الإنجليز والطبقة الإقطاعية الحاكمة. وتكوَّنَت كتائب الفدائيين في
منطقة القناة، بينما شَنَّ
أحمد
حسين٣ هجومًا صاعقًا على الملك، وقفز توزيع جريدته «الاشتراكية»
بعناوينها المثيرة التي تدعو إلى الثورة. وانتشرَت الصحف المعارضة مثل
«الجمهور المصري» لصاحبها
أبو الخير
نجيب، و«الملايين» التي كانت تُصدِرها «الحركة
الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)
٤ علانية. ومن ناحيةٍ أخرى كانت «أخبار اليوم» تشنُّ حملةً
مُركَّزَة على
مصطفى النحاس وحكومته
وتنشُر صورًا له تُبرِز خاتمه الماسي وفراء زوجته الفاخر. وكان أبي
يحتفظ بنسخة من «الكتاب الأسود» الشهير،
٥ فجعلتُه نواة الأرشيف السياسي الذي شرعتُ في تكوينه من
المواد الصحفية. واتسع هذا الأرشيف أيضًا لصور نجمات السينما الشهيرات
مثل
جين راسل صاحبة الصدر الأعظم،
و
كاميليا ذات الفم الدافئ، وبيتي
جرابل صاحبة السيقان الذهبية، فضلًا عن
أستر
ويليامز والسابحات الفاتنات. وقد لازمَتني هذه العادة
إلى الآن وإن اختفت منها صور الممثِّلات بالتدريج.
•••
كانت سنة ١٩٥٢ سنة حاسمة في حياتي وحياة البلاد. في بدايتها اشتركتُ
في المظاهرات التي خرجَت من كليتَي العلوم والهندسة بقيادة عادل فهمي وعادل
حسين وحسن صدقي
(واجتمعنا جميعًا فيما بعدُ بسجن الواحات). وحضرتُ الاجتماع الحاشد في
قاعة الاجتماعات الكبرى في الجامعة قبل حريق القاهرة بأيام، والذي هتف
فيه الطالب الوفدي أحمد الخطيب (وكان
يبدو بطربوشه في سن أبي) بسقوط الملك. وسمَح لي أبي بالذهاب إلى
الاجتماع العام الأسبوعي لحزب أحمد
حسين الاشتراكي في مقره بشارع «ضريح «سعد»». فشاهدتُه في بزَّةٍ بيضاءَ وفوجئتُ
بقِصر قامته. وفي نهاية الاجتماع حاصرت الشرطة المكان وقُبضَ عَليَّ
لأول مرة، وقضيتُ ليلة في قسم شرطة السيدة
زينب. وبعدها بأسبوع شاهدتُ القاهرة تحترق.
وبينما جرت محاكمة أحمد حسين الذي
اتُّهم بالحريق، وطالبَت النيابة برأسه، كنتُ أجاهد عبثًا لفهمِ أربعة
كُتبٍ في الفلسفة تضمَّنَتها المسابقة السنوية التي تنظِّمها وزارة
المعارف، ويتمتَّع الناجح فيها بمجانية التعليم الجامعي، أذكر منها
«التأملات الميتافيزيقية» لديكارت،
ترجمة عثمان أمين، و«المنقذ من
الضلال» للغزالي، ومع ذلك نجحتُ في
المسابقة وكِدتُ أرسُب في امتحان الشهادة الثانوية ذاتها (التوجيهية).
وكان معي في نفس الفصل بهاء طاهر
الذي اشترك في المسابقة الخاصة بالتاريخ.
وفي منتصف السنة قامت الثورة. وقُرب نهايتها التحقتُ بجامعة
القاهرة لدراسة القانون. لكن
علاقتي بالجامعة لم تختلف عن علاقتي بالمدرسة؛ فسرعان ما هربتُ من
قاعات المحاضرات إلى عالم الكبار المثير. وحرَّرتُ بمفردي جريدة حائط
باسم «الحزب الاشتراكي» دون أن يعلم الحزب عنها شيئًا.
•••
وكان يسكُنُ المنزل المجاور زميلٌ لي في الكلية مغرم بالرسم
الكاريكاتيري وبتقليد الرسام المعروف طوغان. واشتركنا سويًّا في إصدار مجلةٍ مطبوعة باسم
«أنوار الجامعة»، على نفقتنا الخاصة (أعطاني أبي عشرين جنيهًا لهذا
الغرض)، مقتفين أثَر تجربة مجلة «أخبار الجامعات» الناجحة التي أصدرها
محمد جلال بالتعاون مع «أخبار
اليوم». أصدرنا من مجلَّتنا ثلاثة أعداد، طُبع العدد الأول بالحروف
اليدوية في مطبعة «المستقبل» بشارع نجيب
الريحاني التي كان يملكها يهودي يُدعى سولومون (كتَبتُ به عدة موضوعات وقَّعتُها
جميعًا باسمي الثلاثي، أذكر منها واحدًا عن الشاعر الهندي طاغور، وملخصًا لعرضٍ قدَّمَته مجلة
«كتابي» التي كان يُصدِرها حلمي مراد
لكتاب بوكاشيو المعروف «ديكاميرون»)، وطبعنا الثالث في مطابع
«أخبار اليوم».
وفيما بعدُ تعرَّفنا على محفوظ عبد
الرحمن الذي يسكُن في نهاية شارعي، كما كنا نلتقي
أحيانًا على ناصيته جلال أمين الذي
كان عضوًا بالتنظيم السري لحزب «البعث»، وأعطانا مجلةً سرية غريبة
الشكل مطبوعةً على ورقٍ فاخر تُسمَّى «الثأر»، ودخل معنا في نقاشاتٍ
معقَّدة تجاوزَت مستوانا الذهني.
•••
وفي الصف المواجه لمنزلي كان فاروق
منيب زميلي بكلية الحقوق، يقيم مع أخته وزوجها في طابقٍ
أرضي، وكانت غرفته تُطِل على الشارع، فأنادي عليه وأنتظر حتى يفتح
النافذة، فأعتلي قاعدتها وأقفز إلى الداخل. وينضم إلينا مصطفى الحسيني الذي كان يسكُن في حي بين
السرايات المجاور مع إخوته بهي
وعادل وعظيمة ومهدي
وهاني، قريبًا من أُسرتَي النقاش
(رجاء ووحيد وعطاء
وفريدة وغيرهم!) وجبر (إسماعيل ومحمد وعبد الرحيم
وغيرهم! أشقَّاء زوجة عبد الرحمن
الخميسي) ومن أُسرة إبراهيم
فتحي وأخيه صلاح
قنصوه. كان لقاؤنا بدعوى الاستذكار المشترك لكن
فاروق كان يقضي الوقت في الكتابة
مرارًا وتكرارًا فوق صفحات كتب القانون: «قصة بقلم فاروق منيب» (ترك كلية الحقوق بعد سنتَين،
والتحق بكلية الآداب ثم عمل في الصحافة. وأصبح من كتَّاب القصة
المعروفين) بينما كنتُ أستسلم لأحلام يقظة تدور حول العمل في الصحافة.
أما مصطفى فكان سريع الاستيعاب
والوحيد بيننا الذي استذكَر بجدية.
•••
كان ينضم إلينا أحيانًا الشاعر السوداني جيلي
عبد الرحمن (الذي نشأ مع فاروق في بلدة أنشاص) ونذهب معه إلى النادي النوبي؛ حيث تعرَّفنا
بمحمود شندي وإبراهيم شعراوي وتاج
السر الحسن وغيرهم، وأُغرِمنا بشرب الشاي النوبي
الممزوج باللبن، والغشية التي تنتاب جيلي عبد
الرحمن — مصحوبة بعرق غزير — عندما يُلقي شِعره.
وتداولنا كتب جوركي وتشيخوف وشتاينبك وكالدويل
وأمادو وبريخت وإيلوار
وسارتر ومارلو وكامو
وتوماس مان. وحاولنا عبثًا أن
نفهم كتب «هنري لوفافر» في ترجمتها
البيروتية. وتردَّدنا على جمعية الأدباء ومجلة «روز اليوسف» حيث تعرَّفنا بيوسف
إدريس وأحمد بهاء
الدين وإحسان عبد
القدوس وصلاح حافظ.
وأعددتُ ماكيتًّا كاملًا لجريدة «تابلويد» حملتُه إلى عبد المنعم الصاوي في غرفته الضيقة على رأس
درَج مبنى جريدة «المصري» في شارع «القصر العيني»، وذلك قبل إغلاقها
بشهور. وحاولتُ الالتحاق بجريدة «القاهرة» اليومية في بداية صدورها، فترجمتُ بعض
الأخبار من صحفٍ إنجليزية، وذهبتُ إلى دارها. وبقيتُ في الردهة
الخارجية حتى خرج لي سعد لبيب وألقى
نظرةً عليها، ثم اعتذَر عن نشرها.
ثم كتبتُ بعض القصص على المنوال الواقعي الرومانسي الذي تجلَّى لدى
عبد الرحمن الخميسي و
عبد الرحمن الشرقاوي و
يوسف إدريس. وعرضتُ إحداها على الأخير —
ودارت حول شخصية تُدعى خليل بيه — فوعدَني بنَشرها في باب القصة الذي
أشرف عليه في «
روز اليوسف» عام ١٩٥٤.
ولم يلبث أن اعتُقل فلم يتحقَّق الوعد.
٦
وكنتُ أقترب بسرعة من هذا المصير؛ فقد شكَّلنا أنا ومصطفى الحسيني وبدوي
محمود بدوي وآخرون جمعية «الثقافة الجديدة» بكلية
الحقوق التي نظَّمَت ندوة عن الديمقراطية دعَونا إليها عبد العظيم أنيس، عبد الرازق حسن، أحمد بهاء
الدين، وصلاح حافظ
وآخرين. وفي ذلك الوقت تعرَّضَت حكومة الانقلاب إلى ضغوطٍ أجنبية
وأمريكية أساسًا من أجل فتح البلاد لرءوس الأموال الأجنبية. ودار نقاشٌ
ساخن حول هذا الموضوع في الصحف، فنظَّمنا في ٢١ يناير ٥٤ مناظرةً بشأنه
بين محبِّذين (عبد الوهاب مسيحة
وعبد المنعم البيه الأستاذَين
بكلية التجارة) ومعارضين (عبد الرازق
حسن وحلمي مراد
وصلاح حافظ). وبالنتيجة قُبض
علينا — أنا ومصطفى الحسيني — عندما
نَشبَت أزمة مارس بين محمد نجيب
وعبد الناصر.
احتُجزنا ثلاثَ ليالٍ في مركز شرطة الدقي. وكنتُ ما أزال أحمل في جيب بنطلوني الخلفي
لفافة من الأحجبة والآيات القرآنية التي أعدَّها لي أبي كي تحميني من
كل مكروه. وعندما أحكم عبد الناصر
قبضته على البلاد توقَّعنا الاعتقال فاختفينا في قريته.
ولَعلِّي قرَّرتُ في تلك الفترة أن أنتقل من التظاهُر إلى الفعل
المنظَّم (وكانت رواية
جوركي «الأم»
قد سحَرَتني) فالتحقتُ بعدها مباشرةً بتنظيم «حدتو»، وهي الحروف الأولى
من «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» التي اتهمَتها المنظَّمات
الشيوعية الأخرى بالخيانة لأنها أيَّدَت الانقلاب العسكري فور
وقوعه.
٧ أما
مصطفى الحسيني
فالتحق على ما أظن بمنظمة «طليعة العمال» أو «
د.
ش» (ديمقراطية شعبية) التي تحوَّلَت بعد ذلك إلى
«
ع. ف»؛ أي العمال والفلاحين.
ولم يلبث أن انضمَّ إلى
حدتو.
٨
وأهملتُ دراستي مُنكَبًّا على النشاط السري من اجتماعات وتوزيع
منشورات تطالب بجبهة لإسقاط «الدكتاتورية العسكرية». وذات يوم عثر أبي
على بعض هذه المنشورات في مخبأ صنعتُه في مكتبي وأراد التخلُّص منها،
فتجرأتُ عليه لأول مرة في حياتي؛ إذ هدَّدتُه بالقتل إن فعل.
ومع ذلك كان هناك تغيُّر واضح في سلوكي إزاء أختي وأبي وأقاربي
والناس عمومًا. حقًّا إن انضمامي للنشاط السري كان امتدادًا لقصص
المغامرات التي شُغِفتُ بها، وتأكيدًا للذات في مواجهة الكبار
والأغنياء. لكني كنتُ أنا وغيري في حالة تربيةٍ ثقافية مستمرة انعكسَت
على سلوكنا وأخلاقياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية. آمنَّا أن الشيوعي يجب
أن يكون قدوةً لغيره في السلوك والخلُق وأن يحقق اتساقًا بين حربه ضد
الاستغلال وحديثه عن العدالة الاجتماعية وبين حياته الخاصة. وبدت قيم
الأمانة والصدق والإخلاص والوفاء والتضحية والزهد والتعالي على
المظهرية واحترام المرأة والبعد عن الغرور متسقة مع التعاليم الدينية
والمفاهيم الإنسانية.
•••
مات أبي في
يونيو سنة ١٩٥٥،
فانتقلَت أختي للحياة في منزل أخي الأكبر وبقيتُ بمفردي، وقد أُتيحَت
لي فرصة الانغماس الكامل في العمل السياسي. هجرت الجامعة وتخلصت من
القصص القليلة التي كتبتُها معتبرًا أنها عبث المراهقة، كما تخلصتُ
أيضًا من أرشيفي المصور ومن دفترٍ كبير سجلَت فيه أمي مذكراتها. وفرضتُ
نفسي على جماعة المحترفين الثوريين الذين تفرغوا تمامًا للعمل السري
مقابل راتبٍ ضئيل من حصيلة مساهمات الأعضاء. لكني كنت محترفًا على
حسابي.
٩
بحثتُ عن غرفةٍ مفروشة رخيصة فوجدتُ واحدة لدى أسرةٍ يهودية مصرية في
حارة بحي عابدين، كانت تستعد للهجرة
إلى إسرائيل. ثم تركتُها عندما
احتجَّت مدام روز، صاحبة الشقة، على
استقبالي لشابٍّ وفتاة من زملائي. ثم تنقَّلتُ بين عدة غرف. وفي واحدةٍ
منها فوق سطح منزل بشارع «ولي العهد» في حدائق
القبة اشتركتُ في طباعة المنشور الذي غيَّر خط الحزب من
الإسقاط إلى التأييد في أعقاب مؤتمر باندونج في أبريل
١٩٥٥. وكانت مطبعة الحزب قد سقطَت في يد الشرطة فقمتُ
مع منير المغربي ونبيل غالي بإعداد واحدةٍ بدائية من إطارٍ
خشبي صغير في حجم المجلة الأسبوعية وغطاء من القماش الشفَّاف ثم فرشاة
من المطاط وأنبوبة من الحبر الأسود وقلمٍ حديدي وورق «استنسل» وطبعنا
عليه منشورًا بخط يدي وصَف فيه كاتبه — ولعله كان محمود أمين العالم أو شهدي عطية — الحكومة بالرشيدة، ووقَّعه
باسم «الحزب الشيوعي المصري الموحد» الذي تكوَّن قبل شهور في فبراير
١٩٥٥ من اندماج عدة منظمات مع حدتو.
وفي غرفةٍ أخرى كريهة بسطح منزلٍ قديم في منطقة الوايلي يتميز بموقعه؛ إذ يمكن الوصول إليه من عدة
جهات، كتبتُ قصة حب قصيرة للغاية عن لقاءٍ غرامي بين ثوريَّين أردتُ
نشرها في مجلة الحزب السرية التي كنتُ أشارك في لجنة تحريرها. لكن
المسئول عن المجلة وكان إبراهيم
المناسترلي لم يتحمَّس للأمر.
•••
وفي السنة التالية اشتركتُ في مظاهرة نظَّمها أهالي المسجونين
السياسيين أمام نقابة الصحفيين وقُبِضَ عَليَّ من جديد مع
منير المغربي و
نبيل
غالي وأخذونا إلى سجن مصر الذي كان يديره محمود صاحب
خال الأخير. حلقوا لنا رءوسنا، وألبسونا البزَّة البيضاء المضحكة، ثم
نقلونا إلى سجن الاستئناف، ثم سجن
القناطر
الخيرية حيث تعرَّفتُ فيه على الرموز الشهيرة للحركة
التي حُوكمَت أمام محكمة
الدجوي
العسكرية سنة
١٩٥٣ — ومن بينهم
زكي مراد المحامي و
محمد شطا أحد قادة عمال
شبرا الخيمة الذي كان يحتفظ بشاربٍ مماثل
لشارب ستالين الشهير.
١٠ كما تعرَّفتُ على أغاني
سيد
درويش المفَّضلة لدى المسجونين الشيوعيين. واستفدتُ من
إلغاء الأحكام العرفية فخرجتُ إلى الشارع في نفس اللحظة التي كان فيها
جمال عبد الناصر يُعلِن تأميم قناة السويس وفي حذائي ورقةٌ مهرَّبة
تتضمَّن النص الكامل لأغنية
سيد
درويش «شفتي بتاكلني».
•••
قُبِضَ عليَّ مرة أخرى بعد شهور قليلة عندما كنتُ أوزِّع علنًا
منشورًا بتوقيع الحزب الشيوعي الموحد يدعو إلى الوقوف صفًا واحدًا خلف
جمال عبد الناصر في مواجهة
العدوان الثلاثي. وجرى إيداعي في قسم شرطة الدقي مرةً أخرى لكن لمدة ساعات؛ إذ وصل على الفور
حسن طلعت مدير المباحث الذي صار
بعد عشر سنوات أمينًا ﻟ «الاتحاد الاشتراكي» في القاهرة.
أخذني حسن طلعت في سيارته، وأجلسني
بجوار السائق وجلس ورائي، ثم انهال على رأسي باللطمات وأنا عاجز عن
تفاديها، وأرفقها بمجموعة طيبة من الشتائم والإهانات وهو يردد في غضب
هائج: «وديتوا البلد في داهية»! وتواصل ضربي وتحطيم نظارتي في بدروم
الفيلا التي تضم مكتب مباحث الدقي،
وكانت في الشارع الذي يُوجد به منزل أحمد
أمين. واستمر ذلك ثلاث ليالٍ، حتى أنقذني الإنذار
الروسي، فاستدعاني طلعت إلى مكتبه،
واعتذر لي قائلًا إنه فقد أعصابه بسبب خوفه على الوطن، وأفرج
عني.
•••
انتقل مركز الثقل من العمل السري إلى العمل الجماهيري، فاستأجرتُ
غرفةً صغيرةً نظيفة في شارعٍ جانبي متفرع من
سليمان جوهر بالدقي (تعتمد على حمَّام في السطح)،
وشرعتُ في الاختلاط بالناس والتعرُّف على مشاكلهم ومحاولة الوصول إلى
تجمُّعاتهم. كانت عمليةً شاقة للغاية بسبب شخصيتي الانطوائية. لكني
تمكَّنتُ من إقامة علاقاتٍ جيدة ببعض المزارعين في
بولاق الدكرور وبعض الطلبة، فضلًا عن
الضابطَين المسئولَين عن هيئة التحرير، وهما
فتح
الله رفعت و
جمال
الليثي الذي أسَرَّ إليَّ بأن حُلم حياته هو تحويل قصص
أرسين لوبين إلى أفلام
سينمائية.
١١ وسِرتُ خلفه في موكبٍ من المتطوعين للمقاومة الشعبية في
شوارع
الدقي حاملين البنادق، وتولَّى
تدريبنا صول عجوز يُدعى
أبو رجيلة،
استمتع كثيرًا بعجزي عن التمييز بين القدم اليسرى وأختها
اليمنى.
في الوقت نفسه عُدتُ إلى محاولة العمل في الصحافة، فكتبتُ عرضًا
لكتاب
علي الشلقاني عن ثورة الجزائر
نُشِر في مجلة «الهدف». ثم مقالًا عن يعقوب بن صنوع حملتُه إلى
شهدي عطية في مسكن أبيه بالطابق
العلوي من منزل في بداية شارع
الخليج، حيث كان يقيم في غرفةٍ بسيطة ذات فراشٍ حديدي
مجاورة للباب كي يسهُل عليه استقبال الشرطي بعد غروب الشمس للتوقيع في
دفتر المراقبة القضائية.
١٢ وكان قد اشترك في تأسيس جريدة «المساء» وتولى مسئولية
الصفحة الأخيرة ونشر بها حلقات من روايته الوحيدة «حارة
أم الحسيني» باسمٍ مستعار هو
أحمد نصر.
خصَّصتُ النهار للعمل السياسي، وفي المساء كانت غرفتي تتحوَّل إلى
ورشة كتابة ينضم إليها كمال القلش
بأكوامٍ من الكتابات التي لم تكتمل أبدًا، ومهدي
الحسيني عندما يختلف مع والدَيه.
واختارني شهدي للعمل معه في منشأةٍ
صغيرة للترجمة أسَّسها (بعد أن فشل مشروع تأسيس مدرسة خاصة)، احتلت في
البداية الركن العلوي من حانوت للكتب الأجنبية في الزمالك تملكه زوجته اليونانية الأصل
(جاليري، صفر خان الآن) قبل أن ينتقل
إلى عمارةٍ حديثة في شارع محمد مظهر.
وانتقلتُ أنا إلى شقة وشاركَني رجائي
طنطاوي بعض الوقت.
تعلَّمتُ من
شهدي أخلاقيات العمل
الجاد المنضبط والترجمة من الإنجليزية إلى العربية. واحتل مني موقع
الوالد أو الأخ الأكبر. وكان يعتمد منهاجًا في التربية يقوم على إفساح
المجال للمبادرات الشخصية، فشجَّعني على تنفيذ اقتراحاتي بإعادة صياغة
الموضوعات المملة للمجلة السوفييتية التي كان المكتب يتولى ترجمتَها
وطباعتَها، ثم على القيام بإعداد التوضيب الفني لصفحاتها.
١٣
جاء عام ١٩٥٨ بثلاثة أحداثٍ هامة؛
ففي ٨ يناير توحَّدَت المنظمات
الشيوعية (الموحد والراية والعمال والفلاحين) في حزبٍ واحد. وشابَ
الوحدةَ نوعٌ من العَجَلة والتسابُق بين المنظَّمات الثلاث على الفوز
بأكبر عددٍ من المقاعد في الحزب الجديد. وبعد شهرٍ تمَّت الوحدة
السورية المصرية بنفس العَجَلة. وفي ١٤ يوليو
١٩٥٨ قامت الثورة العراقية التي شَهدَت في أسابيعها
الأولى ازدهارًا مدهشًا للديمقراطية، أدار رأس الشيوعيين العراقيين
وعبد الكريم قاسم وأثار القلق
لدى عبد الناصر، كما أنعش الاتجاهات
اليسارية في الحزب المصري الوليد. وتصاعَد داخله الخلاف بسرعة حول
الوحدة المصرية السورية وحول الموقف من «الاتحاد القومي»، التنظيم
الناصري.
وكما ضاق صدر عبد الناصر بالحوار
الوطني، ضاق صدر فرقاء الحزب الوليد بالحوار الحزبي فحاول البعض — كما
يقول رفعت السعيد في تأريخه للحركة
الشيوعية المصرية — «أن يستخدم الأغلبية العددية في القيادة استخدامًا
عنيفًا، وتمرَّد الآخرون تمرُّدًا متعجلًا.» وانتهى الأمر بالانقسام،
فخرجَت أغلب عناصر حدتو بقيادة
كمال عبد الحليم وشهدي عطية
وأحمد الرفاعي، مراهنين على
وطنية الحكم وإمكان التحالُف معه.
في هذه الأثناء تصاعدَت حملةٌ صحفية شرسة بلغَت قمتها بمقال
محمد حسنين هيكل، الذي هدَّد فيه
بوضع أقفالٍ من حديد على شفاه الشيوعيين. وجاءت الضربة بأسرعَ مما
توقَّع الجميع، وشملَت الجميع من مؤيدين ومعارضين على السواء، الذين
أنهكوا أنفسهم في صراعهم مع بعضهم البعض، ولم يتورَّعوا في غِمار هذا
الصراع عن فضحِ أدقِّ أسرار حياتهم الحزبية الداخلية.
•••
في اليوم الأول من شهر يناير عام
٥٩ كنتُ أمُر مع بضع عشرات —
تحوَّلوا خلال عدة شهور إلى مئات — من البوابة الخشبية لمعتقل «القلعة»
الشهير.
وكان الإنجليز قد أنشئوا داخل المبنى الأثري سجنًا حربيًّا ظل يستقبل
الثوريين والسياسيين حتى بعد جلائهم عن مصر سنة ١٩٥٤. وفي
عام ١٩٨١ استقبل آخر نزلائه، وهم مجموعة الأصوليين الإسلاميين الذين
قتلوا أنور السادات، وأُغلِق بعدها،
ثم تحوَّل إلى مُتحفٍ للشرطة.
يتألَّف السجن/المتحف من عنبرٍ طويل تعلُوه سلسلةٌ من الزنازين
الصغيرة التي شُيِّدَت على جانبَي ممرَّين مفتوحَين. وفي أربعة من هذه
الزنازين تُوجَد الآن «مانيكانات» تمثل سجناء من عهودٍ مختلفة،
تميِّزها اللافتات المثبتة إلى جوار الأبواب. وتشير ثلاث من هذه
اللافتات إلى عهود المماليك والعثمانيين ومحمد
علي، ويظهر فيها السجناء في ملابس تلك العهود، مقيَّدين
بسلاسلَ حديدية إلى أوتاد. وتتغيَّر الصورة في الزنزانة الرابعة التي
تعلن لافتتها عن «سجين من العصر الحديث»، فنُشاهِد داخلها «مانيكانًا»
يرتدي الملابس العصرية (قميص وبنطلون) ويضع على عينَيه نظارةً طبية
ويُمسِك كتابًا. وهي صورة تثير الإعجاب بالمصمِّم الذي أدرك الارتباط
بين التمرد والوعي، لكنها للأسف تفتقر إلى الدقة التاريخية.
ذلك أني حلَلتُ في هذه الزنزانة ذاتها وبقيتُ ثلاثة شهور محرومًا من
الصحف والراديو والكتب والورق والقلم. وهي كلها حقوقٌ عادية كان
يتمتَّع بها المعتقل السياسي أيام الاستعمار الإنجليزي.
•••
لكن تاريخية المكان ما لبثَت أن استولَت عَليَّ وحرَّكَت خيالي؛ فقد
كان يُشرِف على موقع المذبحة الشهيرة التي تخلَّص فيها محمد علي من إحدى أغرب الجماعات البشرية في
التاريخ وهي جماعة «المماليك». وكانت تجلِّيات الحاضر أكثر إلفاتًا؛
فقد شاهدتُ إلهام سيف النصر في روب
دي شامبر حريري مزركش، ومحمد علي
عامر، الزعيم العمالي الشهير، يمارس التمرينات الرياضية
مزهوًّا بجسمه المفتول العضلات، وشهدي عندما تفشَّى بيننا وباء الإنفلونزا يُحاوِل
تنظيف مناديله في حوض الغسيل الضيِّق وقد ربط عشرةً منها إلى بعضها من
أطرافها جاعلًا منها سلسلةً واحدة، وسعد عبد
اللطيف المحامي الأربعيني بوجهه البشوش ودماثته وقدرته
على حل المشاكل؛ الأمر الذي أهَّلَه لأن يمثِّل المعتقلين لدى إدارة
المعتقل (وقد استقر في هذا الدور طوال سنوات الاعتقال الخمس وعُرف في
كل السجون باسم سعد اللجنة).
استمعتُ أيضًا إلى شروح محمد سيد
أحمد للنظرية النسبية — دون أن أفهم منها شيئًا — أثناء
طابور المشي في الساحة الصغيرة الفاصلة بين العنابر، وإلى إبراهيم عبد الحليم وقد دسَّ بنطلون بيجامته
داخل جوربٍ صوفي، وأخذ يدُق الأرض في مِشيةٍ عسكرية مُردِّدًا أحد
الأناشيد الثورية بعد أن حوَّره بحيث يتغنى بعبد
الناصر مستفزًّا أعضاء المنظماتِ الأخرى. كما رأيتُ
لأول مرة فؤاد مرسي أستاذ الاقتصاد
الذي أسَّس منظمة «الراية» مع إسماعيل صبري عبد
الله، وعجزَت المباحث عن الوصول إلى حقيقته حتى كشف عن
نفسِه بعد الوحدة. وكنتُ أتصوَّر الرجل الذي تعوَّد أنصاره الهتاف
باسمه في الزنازين مردِّدين: «عاش الرفيق خالد ألف عام»، (على وزن هتافٍ مماثل باسم ستالين)
عملاقًا ضخم القامة، فوجدتُه أقصر مني. كما لمستُ زهو إسماعيل صبري عبد الله المشروع بنفسه، وهو
الذي صمد لتعذيبٍ شرس قبل ثلاثة أعوام كي يعترف بشخصية الرفيق
خالد الحقيقية.
•••
خلال ذلك تضاعَف عددنا، وضاقت بنا زنازين السجن الصغير فنُقلنا إلى
السجن المركزي القريب، الذي كان يُعرف بسجن مصر، وكانت به مكتبةٌ ضخمة تكوَّنَت أغلب محتوياتها
على مدى الزمن من مساهمات النزلاء أنفسهم الذين ضمُّوا نسبةً محترمة من
المتعلمين والأجانب. وأُتيح لنا استخدام هذه المكتبة بواسطة مندوبٍ
يقترض بضعة كتب تُوزَّع على الزنازين ويتم تبادلها بيننا ثم تُستبدَل
بمجموعةٍ غيرها.
بالطبع لم يكن من الممكن التحكُّم في اختيارات المندوب التي يُحاوِل
بها إرضاء الأذواق المختلفة. هكذا أُتيحَت لي الفرصة لأن أقرأ كتبًا لم
يكن من الممكن أن اختارها بنفسي. كنتُ في الواحدة والعشرين من عمري وما
زلت مغرمًا بروايات المغامرة، ولا أستسيغ الكتب النظرية التي كنتُ
أقرؤها بغير حماسٍ بسبب جفافها وعسرها على الفهم؛ إذ كان أغلبها في
ترجماتٍ لبنانيةٍ ضعيفة وغامضة. وصرتُ فجأة مرغمًا على القراءة لكُتابٍ
لم أهتمَّ بهم من قبلُ وفي موضوعاتٍ لم تخطر لي على بال. قرأتُ
لطه حسين والمازني الذي وجدتُ له روايةً إيروتيكية أذكر منها
مشهد سِحاقٍ في مكتبة منزل، وأعتقد أنها مقتبَسة أو ممصَّرة. كما قرأتُ
رواية الشاعر الإنجليزي روبرت جريفز
عن الإمبراطور كلوديوس. وما زلتُ
أذكر غلاف هذا الكتاب الأصفر اللون البسيط التصميم والذي حمل علامة
القطرس، شعار دار النشر الشهيرة في الثلاثينيات. قرأتُ أيضًا كتابًا
فريدًا بالإنجليزية لكاتب ذي اسمٍ هولندي لا أتذكَّره وموضوعه
الجغرافيا التي طالما عذَّبَتْني في المدرسة. وأمتعَني الكتاب بطلاوة
أسلوبه وخفَّة ظله، وجعلَني أدرك أن أكثر الموضوعات جفافًا وتعقيدًا
يمكن أن تكتسب جاذبية وإثارة إذا كان الكاتب واسع الثقافة عاشقًا
لموضوعه وحريصًا على توصيله للآخرين.
كما قرأتُ عن عالم الحيوان في كتابٍ جميل للكاتب السويدي أكسيل مونتيه نشره مشروع الألف كتاب
العظيم. ولعل هذا الكتاب هو الذي وضع في رأسي البذرة الأولى لسلسلة
الروايات التي كتبتُها بعد عقدَين عن عالم الحيوان.
تعرَّفتُ أيضًا على عالم العمارة وإنجاز «فرانك لويد رايت» من خلال رواية «النبع» للكاتبة
الأمريكية المحافظة آني راند. لم تُخفِ المؤلفة ميولها الفاشية ودفاعها
عن الفردية المطلقة والتميُّز الشخصي، لكني شُغفتُ بالموضوع الرئيسي
لها، وهو فن العمارة والتاريخ الشخصي للمعماري الأمريكي العظيم.
•••
لكننا لم نهنأ بهذا الوضع طويلًا؛ فقد تصاعدت الأزمة المصرية
العراقية. وعندما وقع انقلاب الشواف في الموصل في الأسبوع الأول من مارس انطلق أحمد سعيد من «صوت العرب» يصرخ بطريقته
الهمجية: «هيا يا عرب … أجهزوا عليهم، الشيوعيين الملاحدة … طهِّروا
التراب والتراث … اقتلوهم حيث وجدتموهم.» وفَشِل الانقلاب فخرجَت صحف
«أخبار اليوم» تُعلِن أن الشيوعيين يدوسون المصاحف ويقتلون رجال الدين
ويسحلونهم في الشوارع، وطالبَت بإقامة مذابحَ للشيوعيين. وأصدرَت مصلحة
الاستعلامات بسرعة كتب إلياس مرقص
وأمين الأعور وغيرهما المعادية ﻟ
«الشعوبيين» كما أسمَوا الشيوعيين. وعُزل خالد
محيي الدين عن رئاسة تحرير جريدة «المساء» التي ظلَّت
تدعو إلى ضبط النفس والحرص على الوحدة الوطنية، وجرى اعتقال أغلب
محرِّريها. وفي العراق أيضًا انزلق
الحزب الشيوعي العراقي إلى الحملة العصبية فرفع شعار «ماكو زعيم إلا
كريم». وفيما بعدُ انتقد الحزب
هذا الموقف.
•••
نقلَنا خبراء الأمن إلى الواحات في
قطارٍ خاص، بعد أن قيَّدونا إلى بعضنا البعض بسلسلةٍ واحدة تمر من ثقب
في القيود (الكلبشات) التي يضم كلٌّ منها شخصَين متجاورَين. وكان من
شأن هذه «الوحدة» المتينة أن من يرفع يده لشيء ترتفع أيدي رفاقه كلها
معه، وكذلك شأنه عندما يرغب في التبول.
استغرقَت الرحلة حتى سوهاج، ومنها
إلى الواحات، على مبعدةٍ حوالي ٤٠٠
كيلومتر من شاطئ النيل، عشرين ساعةً دون طعام أو ماء. لكني حظيتُ
خلالها بمشاهدة قُرص الشمس أثناء اكتماله وصعوده في الفجر، وبالاستماع
إلى صوت محمد علي عامر الأوبرالي وهو
يغني «عالدلعونة عالدلعونة».
وكان في انتظارنا اللواء
إسماعيل
همت، المتخصص في الاستقبالات الدموية وحفلات التعذيب.
وكان بيننا من «تخرَّجوا» على يدَيه في معتقل
أبي زعبل الأول سنة ١٩٥٤ مثل
أحمد الرفاعي و
جمال
غالي و
عادل حسين
و
محمد عباس و
إبراهيم عبد الحليم.
١٤
•••
سرنا في الصحراء بين مدافعَ رشاشة مصوَّبة إلى صدورنا إلى أن ولجنا
ساحة بها ثلاثة عنابر مستطيلة حديثة البناء من طابقٍ واحد. وتألَّف
كلُّ عنبر من جناحَين يضم كل جناحٍ عشر زنازين كبيرة. وفي نهاية كل
جناحٍ دورة مياه بها خمسة محلَّات وثلاثةُ أحواضٍ لغسيل الوجه.
خُصِّص العنبر الأول للمعتقلين الشيوعيين الذين صدر قرارٌ من الحاكم
العسكري العام أو رئيس الجمهورية باعتقالهم دون توجيه أي تهمةٍ لهم أو
عرضهم على جهات التحقيق. وضم العنبر الثاني المسجونين الشيوعيين الذين
صدرَت ضدهم أحكامٌ محدَّدة بمدةٍ معيَّنة، بعضهم ممن حُوكموا أمام
محكمة الدجوي العسكرية. والبعض الآخر
حُكم عليه قبيل الثورة وعندما أفرجَت عن كافة المسجونين السياسيين في
أول عهدها استثنتهم بعد أن ابتدع لها سليمان
حافظ قانونًا يعتبر الشيوعية جريمةً اجتماعية وليست
سياسية!
أما العنبر الثالث فقد أُودع في أحد جناحَيه الإخوان المسلمون الذين
حُوكموا في أعقاب محاولة اغتيال عبد
الناصر في الإسكندرية. واحتل سجناء في جرائمَ غيرِ سياسية الجناح
الآخر، وكان الغرض من وجودهم هو القيام بأعمال النظافة والمخبز
والمطبخ. لكن الشيوعيين كانوا يرفضون أن يقوم أحدٌ غيرهم بتنظيف
عنابرهم أو زنازينهم معتبرين ذلك نوعًا من العبودية.
انتهى الاستقبال دون حادثٍ لكن اليوم التالي حمَل إلينا صُراخ
استنجاد وصوت السياط. وعلمنا فيما بعدُ أن همت أشرف قبل رحيله على ضرب سيد
ترك، أحد المسجونين القدامى من قادة حدتو العمال، فوق «العروسة» الخشبية التي
يُشَد إليها السجين من أمام بحيث يُصبِح ظهره العاري تحت رحمة السياط
الجلدية. وأظن أنها كانت تمثيليةً متعمدة لإرهابنا، خاصة وأن الشكوك
حامت حول علاقة سيد ترك بالمباحث بعد
الإفراج عنه.
لكن الإرهاب الحقيقي جاءنا من ناحيةٍ أخرى؛ فقد خلق وجودنا بيئةً
مواتية لجحافل الذباب. ولم نلبث أن انخرطنا في أول معركةٍ لنا مع
الطبيعة. ولم يكن الأمر يتعلَّق بالصراع معها بقَدْرِ ما تعلَّق
بالصراع مع أنفسنا. وتلقَّيتُ أحد الدروس الهامة في حياتي العملية
عندما بدأنا حملةً منظمة من أجل النظافة.
كان نفضُ البطاطين وكنسُ الأرضيات ثم مسحُها وغسل أواني الطعام
وتفريغ جرادل البول والبراز وتنظيف دورات المياه أمرًا صعبًا لمن لم
تؤهلهم تربيتُهم لذلك. وعندما حان دوري مع زميلٍ لي هو إبراهيم المناسترلي تسلَّلتُ إلى الفِناء
في محاولة للتهرُّب. ووجدتُ أن المناسترلي — الذي يكبرني بعقدَين من الأعوام — قد
سبقني إلى الهرب. وكان هو مَن بذل جهدًا خارقًا للسيطرة على مشاعره
وتطويعها لواجبٍ فرضه العقل، فعُدنا سويًّا للقيام بالمهمة
البغيضة.
•••
لم نمكث كثيرًا في الواحات؛ إذ جرى
ترحيلنا فجأةً بعد شهورٍ قليلة إلى سجن القناطر
الخيرية، ووُضِعنا في مكانٍ منعزل وحُرمنا تمامًا من
فرصة الاختلاط بالسجناء العاديين والحصول على الصحف منهم، كما مُنعنا
من استخدام المكتبة ومن الاستماع إلى الراديو. وفُوجئتُ بالصول العجوز
أبو رجيلة — الذي كان يتولَّى
تدريبي في المقاومة الشعبية — مسئولًا عن الطابق الذي أقمنا به. وكان
يستمتع بأن يجلس في منتصفه على مقعدٍ وسط العنبر، ويأمرنا بأن نُقعِي
أمامه وفي مقدِّمتنا شهدي
عطية.
كانت هذه فترةً قاسية حقًّا؛ فالمكان شديد البرودة. وفراشنا مكوَّن
من بُرشٍ من الليف وبطانية. وفرضوا علينا أن نضع هذا الفِراشَ كل صباح
خارج الزنازين التي تُغلَق علينا حتى المساء. ونقضي اليوم كله ونحن
نقفز كالقرود التماسًا لبعض الدفء، وخلال ذلك نتبادل الحكايات. هكذا
بدأتُ أتذكَّر أحداثَ طفولتي التي انشغلتُ عنها بحاضري. وعندما انتهت
الحكايات واستنفدت ذكرياتي انفتح المجال لأحلام اليقظة، وتأليف القصص.
وتحوَّلَت كل حكايةٍ سمعتُها إلى قصةٍ فنية بعنوانٍ مثير.
مُنعنا تمامًا من الكتب، لكن لم يكن بوسع مدير السجن أن يرفض
مطالبتنا بالكتب المقدَّسة. هكذا أُتيح لي أن أقرأ التوراة والإنجيل
وأرى العلاقة القائمة بين الكتب السماوية الثلاثة والتجلِّيات المختلفة
للحُلم الإنساني بالعدل والمساواة. كما أن الحكايات التاريخية في
التوراة والقرآن روت عطشي إلى القصص. ونشط خيالي في تطوير كثيرٍ
منها.
•••
في أواخر فبراير من العام التالي
نُقلنا إلى سجن الإسكندرية للمثول
أمام محكمةٍ عسكرية بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم. وقبل المحاكمة
بأسبوعٍ نَشبَت مُشادَّة بين أحد ضباط السجن وزميلٍ من الإسكندرية — حمدي
مرسي — يهوى الملاكمة ويتميَّز بسرعة الانفعال. وجَّه
الضابط السباب إلى الزميل فردَّ عليه باللكمات. أمر الضابط بإغلاق
الزنازين، وتجمَّع الحراس على الفور وأمرونا بالخروج عرايا، حيث
انهالوا علينا بالضرب، وتم تجريد الزنازين من محتوياتها من الملابس
والأطعمة. وعندما أعادونا إليها وجدتُ نفسي في زنزانة مع أحمد القصير وجمال
غالي. وتعرَّف الأخير على موسيقى بيزيه التي كان الراديو يذيعها. وفُتح الباب مرةً أخرى
ودخل حارسً متجهِّم سكب فوق أجسادنا العارية جردل البراز والبول.
تمخَّض عن ذلك تأجيل المحاكمة أسبوعًا، وتحقَّق الهدف من المؤامرة
الصغيرة — والتي ثارت شكوك في أنها كانت تمثيليةً مدبَّرة — وهو
الحيلولة دون حضور الصحفيين الأجانب، فضلًا عن المحامين الفرنسيين
الذين أرسلهم هنري كورييل للدفاع
عنا.
•••
تولَّى رئاسة المحكمة الفريق هلال عبد الله
هلال الذي عُزل بعد عدوان ١٩٦٧، بصفته أحد المسئولين عن
الهزيمة. واستمرَّت المحاكمة ثلاثة شهور بلغَت أَوْجها بدفاع شهدي الذي أقر باعتناقه الماركسية، وفي نفس
الوقت أوضَح موقف التأييد الذي اتخذَته حدتو من عبد الناصر. وشَهدَت المحاكمة قمةً أخرى عندما وقف
كمال الشلودي، أحد المتهمين، وسط
القفص، ورفع يده ليعترف على عدد من زملائه من بينهم اثنان من الذين سبق
الحكم عليهم ويقضيان مدة حكمهما في سجن الواحات؛ هما محمد
شطا وزكي مراد.
تابعتُ الموقف مذهولًا، وقضيتُ فترةً طويلة فيما بعدُ أتساءل عن
العوامل التي دفعَته لهذا السلوك. وكان عاملًا ومحترفًا ثوريًّا لطيف
المعشر.
استمرَّت المحاكمة ثلاثة شهور، ودَّع شهدي في نهايتها القضاة، وطالب بالإفراج عنا للمساهمة
في بناء الوطن كجنودٍ مخلصين ﻟ «حكومتنا الوطنية ولرئيسنا جمال عبد الناصر». وختم كلمته بالهتاف
بحياة الحكومة الوطنية ووحدة الصف العربي ووحدة الصف الوطني.
•••
نُقلنا عقب انتهاء المحاكمة مباشرةً إلى معتقل
أبي زعبل الملحق بالليمان الشهير في ضواحي
القاهرة. ولم يكن أغلبنا يعلم أن إحدى
الصفحات السوداء في التاريخ السياسي المصري الحديث تُكتب فيه.
١٥
غادرنا الإسكندرية بعد منتصف ليلة
١٥ يونيو في سيارات «الترحيلات» الكبيرة المغطَّاة، وجاء نصيبي في
سيارةٍ واحدة مع شهدي الذي تميَّز
بقامةٍ طويلة وعظامٍ عريضة، بينما كنتُ وما زلتُ نحيف البنية ضئيلها؛
ولهذا السبب اختار أن نشترك سويًّا في القيد الحديدي لمعصمَينا. وقضينا
الوقت في حديث عن الكاتب الأمريكي هيمنجواي. وكان يرفع يده بين الحين والآخر ليتناول
مشطًا صغيرًا من جيب سُترته الأعلى ويمُر به على شعره الخفيف وهي
عادتُه في لحظات القلق.
وصلَت بنا السيارات في الخامسة والنصف صباحًا إلى ساحةٍ تُحيط بها
أكوام من القاذورات، وتُشرِف عليها فرقة من الجنود المسلحين بالمدافع
الرشاشة والضباط المزوَّدين بالسياط فوق خيولهم. يقودهم حسن منير مدير المعتقل، وبينهم ضابط
بشواربَ مرفوعةٍ إلى أعلى … وصدرَت إلينا الأوامر — التي تخلَّلَتها
الشتائم — بالجلوس القرفصاء وخفض الرءوس. ومن الطبيعي أن رأس شهدي كانت بارزة بسبب طول جسمه، فصاح به
أحد الضباط وهو يضربه بالعصا على عنقه (عرفتُ فيما بعد أن اسمه النقيب
مرجان إسحاق مرجان): وطي راسك يا
ولد.
ولمحتُه بطرف عيني يضرب شهدي
بالعصا على رقبته، وانهال ضابطٌ آخر بالسوط على بهيج نصار الذي كان قريبًا مني، ولا يتحكَّم عادةً في
تعبيرات وجهه وهو يصيح به: إنت مشمئنط ليه يا ابن القحبة؟
انصرمَت ساعة ونصف ونحن على هذا الوضع حتى لم أعُد أشعر بساقي، ثم
سمعتُ صوتًا يصيح: فين هو شهدي؟
وارتفع صوت شهدي قائلًا: أنا
هو.
ولعله ظن في تلك اللحظة أن تدخلًا سياسيًّا ما قد تم، وأنه استُدعي
لحوارٍ سياسي أو لاستثنائه من التعذيب، بحُكم سنه ومكانته الاجتماعية
والسياسية. لكن النداء عليه لم يكن إلا إيذانًا ببدء الحفل.
•••
وفجأةً جاء الرائد صلاح طه الذي
كان يرتدي بزةً مدنية كحلية اللون، وأعطى ورقة لأحد الضباط. وسمعتُ
اسمي وأسماء ثلاثةٍ آخرين من زملائي؛ هم إبراهيم
المناسترلي، وسعد
بهجت، وعبد الحميد
السحرتي. أخرجونا من الصفوف وأمرونا بالجلوس القرفصاء.
ورأيتُ زملائي يَجْرون وخلفهم ضابط على حصان. ثم صدر إلينا أمر بالوقوف
وارتفع صوتٌ قائلًا: اجري يا ابن الكلب.
جريتُ مع زملائي وسط صفَّين من الجنود مزوَّدَين بأحجامٍ مختلفة من
العصي والشوم. وما زلتُ أذكر وجهًا ريفيًّا شابًّا، يخلو من أي تعبير،
بينما يهوي صاحبه على جسدي بعصًا في سُمكِ جذع الشجرة. وأبصرتُ أمامي
مائدةً طويلة اصطَف خلفها عددٌ من الرجال في ملابسَ عسكريةٍ ومدنية
يرتدون النظارات الشمسية السوداء، ميزت بينهم إسماعيل همت بجسده السمين وملامحه التركية، والحلواني مدير سجن الإسكندرية، وسعد عقل رئيس مباحث الإسكندرية ومعاونه السيد
فهمي — الذي صار وزيرًا للداخلية في عهد السادات —
وصلاح طه.
أمرونا نحن الأربعة بأن نجلس القرفصاء في جانب ونضع رءوسنا في الأرض
ففعَلنا، ثم أمرونا أن نرفع رءوسنا بحيثُ نرى ما يجري لزملائنا.
وتتابَع هؤلاء أمامنا؛ يُجرَّدون من ملابسهم وهم يُضربون ويترنَّحون
عرايا وهم يلهثون ويُغمى عليهم، فيُغمسون في مياه ترعةٍ صغيرة ويُداسون
بالأقدام. ورأيتُ إبراهيم عبد الحليم
وهو عارٍ يلهث من الضرب الذي كاله له يونس
مرعي. وتردَّدَت الأصوات الآمرة: إنت شيوعي يا بن
الكلب، قول أنا مرة.
– اسمك يا ولد، قول أنا مرة.
انصَرف جميع الجالسين أمامنا، وخلَت الساحة إلا من اللجنة ونحن
الأربعة. أمرونا بالمشي حتى صرتُ أمام همت فسألَني عن اسمي. وردَّد أحد الضباط: إسمك يا ابن
القحبة.
– بصوت أعلى.
– قول أفندم.
– بصوت أعلى …
ثم قال همت للعساكر خدوه. وفي
ثوانٍ تم تجريدنا من ملابسنا الخارجية والداخلية حتى صرنا عرايا دون أن
تكُف الشتائم والضربات. وركعتُ أمام حلَّاق جزَّ شعر رأسي وعانتي دون
أن يتوقف الضرب بالشوم. ثم أعطاني أحدُهم لفافةً من ملابس السجن وبرش
وبطانية خفيفة. وصاح آخر: نام على ضهرك. قول أنا مرة.
بدأ الضرب من جديد. رأيتُ صلاح طه
يقترب وسمعتُه يقول: كفاية.
جرَّني أحدُهم على ظهري فوق الرمال بطريقة السحل التي ذاع أمرها في
أحداث العراق. وكان في انتظاري على
باب المعتقل الضابط عبد اللطيف رشدي
بجسمه الضخم راكعًا على ركبته. ارتفعَت قبضتُه في الهواء وتسمَّرَت
عيناي على بقعة دماءٍ فوقها ثم التقت بعينَيه الباردتَين.
اتجهَت قبضتُه نحوي، وقبل أن تلمس رأسي تدخَّل
صلاح طه مرةً أخرى.
١٦ أمرني رشدي بالوقوف وبالجري حتى باب العنبر حيث انتظرني
الصول
مطاوع.
كانت هستريا المرأة قد استولت عليهم جميعًا فلم أكد أقترب منه حتى
انهال عليَّ بعصًا رفيعة وهو يقول: قول أنا مرة.
دخلتُ العنبر فوجدتُ زملائي واقفين أمام الجدران رافعين أيديَهم إلى
أعلى وبعضهم راكعين على الأرض. وكان النقابي المخضرم أحمد خضر يجلس مذهولًا وهو يتمتم:
العصافير. العصافير. وتصاعدَت من الباقين الأنَّات والتأوُّهات.
وفي المساء تبيَّنَّا أن شهدي
وأربعة آخرين هم جمال غالي
ومبارك عبده فضل ومحمد عباس وعادل
حسين غير موجودين معنا. وكان العنبر عبارةً عن ردهةٍ
مستطيلة تنتهي من ناحية ببابٍ مصفَّح ومن الناحية الأخرى بدورة مياه،
وتُشرِف عليها نوافذُ عالية بقضبانٍ حديدية. وحملنا أحدَ الزملاء فوق
الأكتاف حتى أصبح رأسه في مستوى النافذة، وتمكَّن من مخاطبة معتقلي
العنبر المجاور. هكذا علمنا بوفاة شهدي.
ساد الصمت والوجوم، وعندما هجعتُ للنوم كان جسمي كله يؤلمني رغم أني
لم أتعرَّض لضربٍ كثير. ولم أتمكَّن من النوم إلا بعد أن استمنيتُ
خفية.
•••
استيقظنا في الصباح على صوتٍ غريب متكرِّر لم أتبيَّن طبيعته إلا
عندما دخل الصول مطاوع مع الحراس
وصاح: وشك في الحيط وفك الحزام.
أدرنا وجوهنا للحائط وفككنا أحزمة سراويلنا. وتردَّد الصوت الغريب
المتكرِّر: تش تش. تش تش. مقتربًا مني. ثم انهال حزام جلدي على ظهري
جيئةً وذهابًا محدثًا الصوت الغريب. وبعد لحظات توقَّف الضرب وانسحب
الحراس ثم انغلق باب العنبر وساد السكون.
انفتح الباب من جديد بعد قليل وتردَّد صوت الصول
مطاوع يأمرنا بالوقوف في انتباه. ثم نادى
علينا أنا والزملاء الثلاثة الذين نجَوْا من القِسم الأكبر من التعذيب.
وقادنا إلى مكتب الضابط يونس مرعي الذي رافقنا في رحلة الواحات. وكان
بالغ النحافة أصفر الوجه ذا حركاتٍ عصبية.
١٧
•••
وقفنا أمامه في انتباهٍ مطرقي الرءوس، فأمرَنا بصوتٍ متوتر أن نخلع
ملابسنا، ثم أمرنا أن نعطيه ظهورنا. ولمحتُ بطرف عيني جانبًا من يده في
مرآةٍ طويلة وقد تغطى أحد أصابعها بضمادة.
تأمل ظهورنا ثم أمرنا أن نرتدي ملابسنا وصرف اثنَين منا، هما
السحرتي والمناسترلي. وبقيتُ أنا وسعد
بهجت.
قال وهو يخطو أمامنا إننا سننتقل بعد قليلٍ إلى المبنى الرئيسي
لليمان لنمثل أمام النيابة ونُدلي بشهادتنا في واقعة وفاة شهدي، ونقول إنه تُوفي في الطريق قبل
وصولنا إلى المعتقل. وأضاف أنه لا تُوجد ثمة إصاباتٌ واضحة في ظهرَينا
مما سيؤكِّد أقوالنا.
لم ينتظر منا إجابة، ولم يكن في حاجة إلى ذلك؛ إذ كنا شبه مشلولين.
وصَحِبنا الصول مطاوع إلى حجرةٍ
خالية فوقفنا ووجهانا إلى الحائط. همستُ لزميلي متسائلًا: حنعمل إيه يا
سعد؟
رد عليَّ بأنه سيقول إن شرفه العسكري يمنعه من تنفيذ هذا
المطلب.
كان صيدليًّا وضابطًا سابقًا بالجيش. وكنتُ محرومًا من هذا
الشرف.
عقبتُ: طب وأنا أقول إيه؟
لا أذكُر أني مررتُ في حياتي كلها بلحظةٍ شعرتُ فيها بالوحدة التامة
كما كان شأني آنذاك. وشل الرعب تفكيري وإرادتي وصرتُ مثل «الروبوت»،
المستعد لتنفيذ كل ما يُطلب منه.
أمرَنا الصول بعد قليل أن نتحرك وعاد بنا إلى العنبر. وعندما اقتربنا
منه رأيتُ عدة أشخاص في ملابسَ مدنية يغادرونه. وعرفتُ عندما دخلنا
أنهم من كبار موظَّفي الداخلية، وأن أحدَهم دمعَت عيناه عندما رأى آثار
التعذيب على الظهور.
وبعد قليلٍ جاء يونس مرعي وأخذ
أربعتنا إلى الغرفة الخالية مرةً أخرى.
قال: إنتم شايفين المشرف على المسائل دي المباحث. تحقيق النيابة
حيروحلها وبعدين نوريكم شغلكم. أنا عاوزكم تقولوا إنه حصل هياج وهتاف
وبعدين حصل الضرب.
في هذه المرة كنا قد استعدنا شيئًا من آدميتنا فردَّ عليه إبراهيم المناسترلي قائلًا: مقدرش يا
أفندم. وكرَّرتُ العبارة — وعيني في الأرض — عندما جاء دوري.
صاح في عصبية: طيب روحوا العنبر.
ولحسن الحظ أن الموقف تغيَّر تمامًا بعد لحظات؛ إذ اقتحمَت النيابة
مبنى المعتقل وأمام مكاتبَ صغيرة انتشرَت في ساحة المعتقل أدلينا
جميعًا بشهاداتنا عما حدَث.
١٨
•••
كانت زوجة «شهدي» قد اقتفت أثَرنا من الإسكندرية إلى أبي
زعبل في سيارتها الخاصة، وسمعَت من الحراس بمصرع زوجها.
وظهر نعيٌ له في جريدة «الأهرام» (لم تكن الرقابة المفروضة على الصحف
تهتم بصفحة الوفيات). وتضمَّن النعي — الذي أعده الشاعر محمود توفيق — السجين الشيوعي السابق وصهر
يوسف صديق — عدة أبيات من شعر
أبي تمام في الرثاء، استُهلَّت
بهذا البيت:
فتًى مات بين الطعن والضرب ميتةً
تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
ألمحَت هذه الأبيات إلى الظروف التي جرى فيها مصرع
شهدي. وتناقلَت وكالات الأنباء الخبر. وكان
عبد الناصر وقتها في
بلغراد. ودعاه تيتو لحضور مؤتمرٍ شيوعي.
ووقف مندوبٌ يوغوسلافي وسط الجلسة المهيبة ووجه التحية إلى «ذكرى
الشهيد الذي قُتل في مصر بسبب التعذيب». وتعرَّض
عبد الناصر لسؤال من أحد الصحفيين عن الأمر فقال: لم
نقتل أحدًا، ومن يخرج على النظام يقدَّم للقضاء العادل. لكنه أبرق
لوزارة الداخلية في
القاهرة بإجراء
تحقيقٍ عاجل في الحادث، ووقف التعذيب، وترحيل المعتقلين إلى مكانٍ أكثر
أمنًا.
١٩
•••
أرتني هذه التجربة بشاعة القهر وما يؤدي إليه من إهدار للكرامة
الإنسانية. وعلَّمَتني النظر إلى الإنسان ككلٍّ متكامل مؤلَّف من نقاط
قوة ونقاط ضعف. واحتل هذا الموضوع مكان الصدارة من تفكيري بعد ذلك فيما
تلا ذلك من أحداث.
نُقلنا بعد عشرة أيام إلى سجن القناطر في انتظار صدور الأحكام. وبعد عدة شهور مثلتُ
مرة أخرى أمام المحكمة العسكرية لأسمع الحكم عليَّ بسبع سنواتٍ مع
الأشغال الشاقة. وبعد قليل نُقلنا إلى سجن الواحات.
تجمَّعنا في الزنازين الواسعة التي لا يقل عدد أفراد الواحدة منها عن
أربعة عشر نزيلًا. وصارت مثل المختبر العلمي للسلوك البشري ولقصص
الحياة؛ فقد ضمَّت بين نزلائها صحفيين وعمالًا وكُتابًا وأساتذة جامعات
ومزارعين وطلابًا ونوبيين وفلسطينيين أيضًا. وداخلها جرى صراعٌ حاد بين
التيارات السياسية وبين التكوينات الشخصية على اختلاف مميزاتها.
•••
اعتمدنا لفترةٍ طويلة في تزجية الوقت على الألعاب الجماعية التي
تتناول موضوعاتٍ ثقافية متنوعة وعلى ذكريات ونوادر الحكَّائين. وكان
البعض يتمتَّعون بذاكرةٍ قوية ويُجيدون سرد قراءاتهم مثل جمال غالي. وكان صلاح حافظ يعشق أم
كلثوم ويُجيد ترديد أغانيها. وصار الاثنان نجمَين
تتنافس الزنازين على استقبالهما ويتم تهريبهما من واحدة إلى أخرى لقضاء
أمسيةٍ يمارسان خلالها موهبتهما.
وألفتُ أن أترك الأحاديث والحكايات تحملُني على أجنحتها، فأتخيَّل
نفسي في أماكن غريبة؛ على شواطئ البحر
الأحمر أو في غابة وحوش أو في صحراء لا نهاية لها،
وصاعدًا جبالًا من الثلج، أو نائمًا في خيمة على حافة بركان، أو
متفرجًا من أعلى ناطحة سحاب. وكنتُ أصوغ لنفسي في كل ليلة حياةً
مختلفة: فلاحًا يجمع القطن، أو بحَّارًا في مركب يتنقل بين الموانئ، أو
حمالًا في ميناء، أو متسلقًا للجبال أو صيادًا يبدأ يومه بالليل، أو
عاملًا في عنبر من آلاف العمال والآلات، أو عالمًا في معملٍ كبير مليء
بالأنابيب والتحاليل والاكتشافات، أو صحفيًّا يلُف العالم ويعيش بقلمه
وأعصابه أخطر الأزمات والأحداث. حيواتٌ متعددة مثيرة استهوَتْني كلها
وأردتُ أن أعيشها جميعًا.
•••
كان الطعام الذي يُقدَّم إلينا بالغ السوء
٢٠ فسعَينا إلى الاشتراك في العمل بالمطبخ العام، وأحدثنا
تحسنًا في نوعية الطعام أدى إلى نقص كميته. وهنا ظهرَت فكرة إنشاء
مزرعةٍ تُزوِّدنا بما نحتاج إليه من خضروات من ناحية، وتمتص طاقتنا
أيضًا كما تقدِّم مثالًا على ما نستطيع إنجازه في أصعب الظروف. واحتاجت
هذه المزرعة إلى سمادٍ عضوي أمكن توفيره من خلال «الترنش» وهو مجمع
للصرف الصحي خارج الأسوار على شكل مستنقعات، فتكوَّنَت فرقٌ مهمَّتها
النزول إلى هذه المستنقعات وخلطها بالرمال. كما تطلَّبَت خزانًا
للمياه، فجرى حفر حوضٍ كبير وتبليطه بالحجارة، ليستقبل مياه الآبار.
وفي هذا الخزان تعلَّمتُ السباحة.
نجح مشروع المزرعة وظهر إنتاجها من الخضروات الذي كان يوزِّع على
الزنازين بالدَّور فيسهَر نزلاؤها في إعداد وجبةٍ جيدة على نيران
«التوتو» وهو مصباحٌ بدائي يعمل بالزيت. وعندما ارتفعت قامة الفول
الأخضر أغرى منظر الحبوب السمينة الطرية البعض بمحاولة تخطي الدور.
وتعدَّدَت حالات الاعتداء على الحق الجمعي فتكوَّنَت فرقة لحراسة الحقل
رأسها محمد عمارة (الدكتور والمفكر
الإسلامي الآن). وكان ذا وجهٍ متجهِّم بالغ الصرامة، مما دفعَنا — أنا
واثنَين من الأشقياء هما كمال القلش
وإبراهيم هاجوج — لمداعبته،
فتسلَّلنا إلى الحقل ورقَدنا بين العيدان العالية ثم بدأنا في التهام
حبَّاتها الطرية اللذيذة ونحن نتابع قدمَيه أثناء تجواله حولنا.
أصبح باب السجن مفتوحًا بصفةٍ دائمة، فكان العاملون في المزرعة
يخرجون إليها في أي وقتٍ من الصباح الباكر حتى غروب الشمس، ولا تُغلِق
الزنازين أبوابها إلا عند الغروب، وبالتدريج أصبحَت مفتوحة ليلًا
ونهارًا وتكتفي الإدارة بإغلاق باب العنبر فقط عند الغروب.
وأتاح ذلك الوضع الفرصة لأنشطةٍ متنوعة؛ فقد نُظِّمَت محاضراتٌ عامة
في الاقتصاد وتاريخ الفلسفة ودروس في اللغات والرياضة البحتة. وعُقدَت
مسابقاتٌ أدبية وندواتٌ شعرية ومبارياتٌ رياضية خاصة في كرة
القدم.
وصدرَت صحفٌ ناطقة عديدة، ثم أسس عبد الستار
الطويلة «وكالة أنباء السجن» (واس) التي تجمع الأخبار
من مصادرَ مختلفة أهمها إذاعات العالم ثم تُذيعها بردهات العنابر (كانت
البداية قبل سنوات عندما هرَّب كورييل إلى القلة المنفية منذ بداية
الخمسينيات راديو ترانزستور قبل أن تعرف مصر هذا النوع من
الأجهزة).
وأقام وليم إسحاق المعروف باسم
الملك هو وداود عزيز مرسمًا تردَّد عليه عبد الوهاب الجريتلي (الذي غرق في النيل خلال رحلة قام
بها إلى السد العالي بعد الإفراج،
مماثلة للرحلة التي قمتُ بها مع كمال
القلش ورءوف مسعد)
ومجدي نجيب والمهداوي وسعيد
عارف وسعد عبد
الوهاب. وخصَّص حسن فؤاد مكانًا
للنحت وسط مجموعة شجراتٍ في الفِناء تردَّد عليه
صبحي الشاروني.
ووضع
فوزي حبشي تصميمًا لمسرحٍ
روماني في فِناء السجن
٢١ وصمَّم
حسن فؤاد
بالتعاون مع
زهدي و
داود عزيز و
عبد
الوهاب الجريتلي مسجدًا شارك الجميع في بنائه.
أمثال هذه المنافي تخلُق وضعًا لا تستطيع أي سلطة مقاومته؛ فالحراس
من جنود وضباط هم أيضًا مسجونون بسبب المسافة التي تفصلهم عن العمران.
ولا مفر من أن تنشأ بينهم وبين مسجونيهم مع الوقت علاقاتٌ إنسانية.
هكذا أمكن إقناع البعض بالقول وأغلب الأحيان بالمال لكي يجلبوا بعض
الكتب عند عودتهم من العطلات ويدفنوها في رمال الصحراء. وفيما بعدُ يتم
نقلها إلى داخل السجن لتستقر في مخابئ تحت الأرض. هكذا تكوَّنَت مكتبةٌ
ضخمة ضمَّت قُرابة عشرة آلاف كتاب، وتوفَّرت الصحف والمجلات الفرنسية
التي كان يُرسلها كورييل من باريس مع الملابس والأطعمة والسكر طيلة عشر
سنوات.
ولا زلتُ أذكُر اليوم الذي
وصلَتنا فيه «ثلاثية» نجيب محفوظ عقب
نشرها مباشرةً في ثلاث مجلَّدات، وكانت تُنشر قبلًا مسلسلة في مجلة
«الرسالة الجديدة» التي رأسها يوسف
السباعي. وكان الزميل المسئول عن توزيع الكتب يحتفظ
بقائمةٍ طويلة للرغبات يُسجِّلها بعودٍ محروق من الخشب فوق قاعدة صندوق
سجائر. وعندما هُرعتُ لإضافة اسمي أمام «الثلاثية» وجدتُ أمامي طابورًا
طويلًا من الحاجزين. ولمَّا كان المرضى يُقدَّمون على غيرهم في مختلف
منافع الحياة المشتركة، من طعام وخلافه؛ فقد تظاهرتُ بالمرض. لكني
اكتشفت أن أمامي عددًا كبيرًا من المرضى الذين يحتاجون لتسلية لا
تتوفَّر إلا في هذا الكتاب بالذات. وتفتَّق ذهني عن حجةٍ جديدة لتخطي
زملائي فزعَمتُ أني مقبل على كتابة عددٍ من النصوص الأدبية وفي حاجةٍ
شديدة أكثر من غيري لقراءة الثلاثية
لكي أتعلَّم منها. وفُوجئتُ بأن عددًا لا بأس به من الزملاء قرَّروا
أيضًا ممارسة الكتابة الأدبية ويحتاجون جميعًا لشحذ إبداعهم بقراءة نفس
الرواية. بل كان منهم كتابٌ حقيقيون بالفعل مثل فؤاد حداد، إبراهيم عبد
الحليم، محمد خليل
قاسم، صاحب رواية «الشمندورة» الرائدة، ومحمد صدقي، الذي عُرف باسم جوركي مصر، زكي
مراد، محمود أمين
العالم وعبد العظيم
أنيس، معين بسيسو
الشاعر الفلسطيني، فتحي خليل، إلى
جانب مشاريع كُتاب عديدين مثل عبد الحكيم
قاسم، سمير عبد
الباقي، كمال القلش،
فؤاد حجازي، حسين عبد ربه، متولي
عبد اللطيف، مهران
السيد، محمود شندي،
كمال عمار، محسن الخياط، مجدي
نجيب، رءوف نظمي الذي
اشتُهر بعد ذلك باسم محجوب عمر وغيرهم.
والواقع أني لم أكذب عندما تذرَّعتُ بمشروعاتي الأدبية؛ فقد كنتُ
أتحرق شوقًا لوصفِ ما رأيتُ وسمعتُ وعرفتُ. وكتبتُ بالفعل — منذ وضعتُ
قدمي في سجن مصر — عشرات القصص
والروايات في … رأسي! ولم ألبث أن ضقتُ بهذا الشكل من الكتابة وأخذتُ
أتطلَّع إلى استخدام الورقة والقلم.
•••
كان الزملاء قد احتفظوا بأجولة الأسمنت الورقية التي تخلَّفَت من
موقع البناء، وتم تمزيقها إلى شرائحَ جاهزة للكتابة. ولم يكن من الصعب
الحصول على أجزاءٍ صغيرة من أقلام الرصاص. وسرعان ما تمكَّنتُ من كتابة
أول قصةٍ لي باسم «الضربة»، تصوِّر رد فعل التأميمات الناصرية على أحد
أصحاب الشركات الرأسماليين. وعرضتُها على إبراهيم عبد الحليم في مزيج من الزهو والخجل ثم
تتابعَت القصص.
لم أكن قادرًا بعدُ على تمثُّل تجاربي الشخصية فاعتمدتُ على تجارب
الآخرين. كتبتُ قصةً بعنوان «بذور الحب» عن تجربةٍ مَر بها كمال القلش في طفولته. وعرض عليَّ
إبراهيم المناسترلي أن أكتب قصة
حياته في حلقاتٍ مقابل ثلاث سجائر لكل حلقة. وبعد الحلقة الأولى أدركتُ
أني لن أتمكَّن من المواصلة رغم الإغراء المادي! لم تكن هناك لذَّة في
الكتابة لأني كنتُ أتعامل مع تجارب لم أعشها. ووجدتُ هذه اللذة عندما
بدأتُ أصوغ بعض القصص من أجواء طفولتي. هكذا تلقَّيتُ درسي الأول؛
ألَّا أكتب عن شيء إلا إذا كنتُ أعرفه جيدًا. وكان من الطبيعي أن تتحول
الطفولة إلى منجمٍ غني بالنسبة للعمل الأول، إلا أني لم ألبث أن
توقَّفتُ عندما واجهتُ المشاكل التي يُواجهها كل كاتب في بداية عمله؛
أي طريق بين عشرات الطرق والأساليب والمدارس والأشكال؟
•••
في تلك الفترة كنتُ أشبه بجهاز رادارٍ نشط يتحرَّك في كل الاتجاهات
ليلتقط كل ما يثير المخيِّلة أو يصلُح مادةً للكتابة أو يُساعِد على
فهم العملية الإبداعية والحياة نفسها. وأخذتُ نفسي بجديةٍ شديدة
فأخضعتُ كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة؛ التذكُّر، القراءة، العلاقات
الشخصية والإصغاء إلى الآخرين. كنتُ قد قرَّرتُ أن أصبح كاتبًا.
وكنتُ أنتهز فرصة الهدوء الذي يسود العنبر في الصباح عندما يغادره
العاملون في المزرعة، فألجأ إلى فَرشتي، وأسند الورقة والقلم إلى
ركبتي، وأنهمك في تسجيل كل ما يعِن لي من خواطر. ويتكرَّر الأمر في
المساء بعد إغلاق السجن وانصراف الحراس إلى ثكناتهم القريبة؛ فبعد
العشاء تُفتح المخابئ ليحصل كل واحدٍ على أوراقه أو «جوَّاله» وقلمه.
وحوالي منتصف الليل يعود كل ذلك إلى مخبئه؛ ولهذا سعيتُ لأن أصبح أنا
نفسي مسئولًا عن المخبأ الموجود في زنزانتي كي أضمن مكانًا لبنات
أفكاري. لكني لم أتمتع بهذه الميزة طويلًا؛ ففي أحد الأيام وبينما أنا
أستخرج الكتب والأوراق ذات الرائحة الرطبة من المخبأ قام الحراس بحملة
تفتيشٍ مفاجئة ولم أتمكَّن من التصرُّف بسرعة فوجدوني متلبسًا بالجريمة
الكبرى.
اقتادني الحراس إلى مكتب المدير وفي أعقابي عدد من المسجونين من ذوي
الشخصيات البارزة التي تُمثِّلنا عادةً عند التعامل مع الإدارة، مثل
شريف حتاتة وسعد عبد اللطيف وأحمد الرفاعي. وهناك جرت مواجهةٌ عكسَت ميزان القوى
الجديد في السجن؛ فقد دافع المندوبون عن حقنا في حيازة الكُتب، وهدَّد
أحدهم — فؤاد حبشي — بإعلان العصيان
إذا مسَّني أذى أو صُودرت المضبوطات. وقرَّر المدير أن يتراجع في هدوء
ويتغاضى عما حدث وعُدتُ منتصرًا بكتبي وأوراقي.
•••
كانت هذه المواجهة مؤشِّرًا على التحسُّن الذي طرأ على وضعنا؛ فقد
أصبحَت الإدارة تغُض الطرف عن وجود الصحف والكتب. وصار في وسعي أن ألجأ
إلى المرحوم إبراهيم عامر ليُترجِم
لي عن الفرنسية شفويًّا نص مقال عن جيمس
جويس في «ماجازين
ليتيرير»، تناول البناء الداخلي لرواية «بوليسيز» الشهيرة. وظهرَت أنواعٌ أفضل من
الورق في صورة الكراريس المدرسية، وتوفَّرَت أقلامٌ كاملة للكتاب
الشبان من أمثالي، كما أُتيح لهم أن ينقلوا إبداعاتهم على ورق لف
السجائر الرقيق بخطٍّ دقيق يسمح بتهريبها إلى الخارج. وبدأتُ أفكر في
روايةٍ طويلة كتبتُ منها عدة فصول. بل احتفظتُ بيومياتٍ دوَّنتُ فيها
خواطري ومشروعاتي القصصية وتعليقاتٍ على الكتب التي قرأتُها وأسماء كتب
أنوي قراءتها في المستقبل.
على أن أَبرز نتيجةٍ لهذه التطوُّرات هي رغبتي في أن يُصبِح لي أنا
الآخر كتاب. كانت هناك الآن عمليةَ نشرٍ واسعة للكتب السياسية والنظرية
ولمساهمات الشخصيات البارزة بين المسجونين أو من لهم تجربة في الكتابة.
وفي هذه الحالة يتم تمويل عملية النشر من المال العام المشترك، وتشمل
هذه العملية ثَمَن الورق وأجر الخطَّاط الذي يُدوِّن النص بخطٍّ جميل
ويتفنَّن في كتابة العناوين، ويتقاضى أجره في صورة سجائر معدودة. ولو
كان المؤلِّف محظوظًا حصل على رسومٍ بالحبر أو بالألوان المائية من
حسن فؤاد أو غيره من الفنانين.
وبعد ذلك تأتي مرحلة التجليد بواسطة الورق السميك الذي يتبقَّى من
صناديق السجائر والطعام، ويتم تثبيته بواسطة معجونٍ من دقيق
الخبز.
ومن الطبيعي أن هذه الخدمات لم تكن تتوفَّر لكل إنسانٍ وخاصة إذا كان
كاتبًا ناشئًا صغير السن مثلي. ولم يكن أمامي سوى أن أعتمد على نفسي،
فضحَّيتُ بجزء من نصيب السجائر اليومي واشتريتُ الورق وخدمات التجليد
وتخلَّيتُ عن الناسخ مستخدمًا خطي، مكتفيًا بأن يكتب لي الخطاط
العناوين بلونٍ أحمر تم «تصنيعه» من دواء «الميكروكروم» المطهِّر
للجروح. وأصبح لي كُتيبٌ صغير من نسخةٍ واحدة يضم ثلاث قصصٍ قصيرة
ومقدمة رواية بعنوان «خليل بيه»، لم
أُعطِه عنوانًا ولا وضعتُ اسمي عليه، ولا نشرتُ شيئًا منه في
المستقبل.
•••
وأتاح لي اتساع حركة النشر فرصة الارتقاء إلى مستوًى أعلى؛ فقد قرَّر
الزملاء إقامة معرض للكتب التي تم إصدارها داخل السجن. وتولى حسن فؤاد الإشراف على إصدار طبعةٍ خاصة من
هذه الكتب بأغلفةٍ ملوَّنة أنيقة رسم بنفسِه بعضها.
وكنتُ قد ترجمتُ إلى اللغة العربية جانبًا من مذكِّرات الشاعر
السوفييتي الشهير
يوفتوشنكو التي
نشرَتها جريدة
صنداي تايمز
الإنجليزية على ما أذكُر.
٢٢ ورحَّب أستاذ الرياضيات
عبد العظيم
أنيس بأن أشترك معه بهذه الترجمة في كرَّاس نساهم به في
المعرض، ويضم ترجمةً قام بها لدراسةٍ سوفييتية قيِّمة عن
هيمنجواي.
تحدَّد يوم المعرض في أحد الأعياد التي تَخِفُّ فيها القيود،
ويتغيَّب فيها عادةً مدير السجن. وصُفَّت الكتب فوق عدد من الصناديق
المغطَّاة بالقماش وُضعَت في الممر الفاصل بين الزنازين. كانت هناك
روايتان لإبراهيم عبد الحليم ومسرحية
«الخبر» لصلاح حافظ بمقدمة لحسن فؤاد وترجمة عربية لرواية من الخيال
العلمي السوفييتي اسمها «أندروميدا»
لمجدي نصيف وأخرى لروايةٍ
ألمانية بعنوان «عريان بين الذئاب» قام بها فخري
لبيب، ودراسة عن ثورة ١٩ لفتحي
خليل ومجموعاتٌ قصصية وشعرية بالإضافة إلى عدد من
الترجمات السياسية والنظرية الجديدة. ووسط هذه المجموعة ذات الأغلفة
الأنيقة استقر كتابي الثاني (أو الأول حسبما تكون وجهة النظر)
وتحقَّقَت لي أخيرًا فرصة النشر «المحترم».
•••
جرى تهريب أغلب هذه الإصدارات إلى الخارج، وتمكَّنتُ أنا من تهريب
«كتابي الأول» بينما ضاع الكتاب الثاني الذي شاركتُ فيه عبد العظيم أنيس. كما هرَّبتُ بضعة فصولٍ
من رواية باسم «الرجل والصبي والعنكبوت» لم يُقدَّر لي أن أُتمها.
ويبدو أني قرَّرتُ في نوفمبر ٦٣ نقل اليوميات والملاحظات المتفرقة إلى
ورق «البفرة» تمهيدًا لإخراجها.
وكانت الإفراجات قد بدأَت بالمعتقلين، ولم نكن نحن المسجونين على ثقة
من أن الإفراج سيشملنا. وكنتُ قد احتفظتُ باليوميات حتى آخر لحظة
خائفًا من تعريضها لمغامرة التهريب. وتطوَّع حسين عبد ربه — الذي كان من المعتقلين — لأن يحملها
عند الإفراج عنه. وعندما خرجتُ أخيرًا في منتصف مايو ١٩٦٤ وجدتُ أوراقي
كلها لدى أختي، وبينها المفكِّرة الثمينة.
•••
تتألَّف هذه الأوراق من عدة أجزاء؛ الأول عبارة عن «كتابي الأول»
الذي يحمل تاريخ يونيو ١٩٦٢. ويحوي
هذا الدفتر بضع قصصٍ قصيرة هي «بذور الحب»، (نوفمبر ١٩٦١)، «الذبابة» (٢٥
نوفمبر ١٩٦٠)، «قرص أحمر في الأفق» (٢٦ أبريل ١٩٦٢) ثم بضع صفحاتٍ بعنوان
«مقدمة رواية خليل بيه» بتاريخ
مارس ١٩٦٢.
ويضم هذا الجزء كشكولًا بغلافٍ أزرق اللون من ١١٠ صفحة، يحمل ظهره
الداخلي تاريخ
٢٧ أبريل ٦٢–
أول يناير ٦٣. ويتصدَّر الصفحة الأولى من
الكشكول عنوان «الرجل والصبي والعنكبوت» الذي كتبه بمادة «الميكروكروم»
الحمراء عامل من
الإسكندرية يُدعى
محمد الليثي اشتُهر بخطه
الجميل.
٢٣ وفي نهاية صفحة ٩٧ عبارة «نهاية الجزء الأول»، ثم قصة
قصيرة بعنوان «أميرتي السمراء» اختُتمَت بتاريخ كتابتها في
٢٥ فبراير ٦٣.
وداخل الكشكول ورقتا أرز (وهو الورق الذي يُستخدم في اللف) مطويتان
على شكل ثمانية أعمدة تضم أفكارًا عن فلسفة الرواية ومخططًا عامًّا لها
وبعض تفاصيل عن شخصياتها الأساسية وعلى رأسها «خليل بيه». كما ألصقت بظهر الغلاف الداخلي للكشكول
ورقة أرز عريضة دوَّنتُ عليها بخطي قصة «الثعبان» وعليها تاريخ ١٨ / ٤ / ٦٣، هي الوحيدة من بين
كل هذه الكتابات التي اعترفتُ بجودتها وعرضتُها للنشر الواسع بعد
الإفراج عني.
الجزء الثاني من هذه الأوراق عبارةٌ عن صفحاتٍ مقتطَعة من كرَّاسٍ
ومطويةٍ على هيئة كتيبٍ صغير تضُم بضع مصطلحاتٍ إنجليزية من كتاب
«الفسيولوجي» السوفييتي وترجمتها إلى العربية.
ويتألَّف الجزء الثالث من مجموعةٍ صغيرة من ورق الأرز، وورق «البفرة»
الذي يُستخدم في لف السجائر، وكرَّاسةٍ صغيرة في حجم علبة الكبريت
صنعتُها من أوراقِ كرَّاسٍ مدرسي وثبَّتُّها بخيط في المنتصف. وتضُم
هذه المجموعة الأخيرة قصصي الأولى التي نُشرَت فيما بعدُ («الشكولاتة»،
«
أرسين لوبين»، «أغاني المساء»)
ومسوَّدة مشاهد قصيرة من الطفولة ثم بضع وريقاتٍ من مشروع رواية
بعنوان: «منزل النوافذ الزرقاء» بتاريخ
سبتمبر
٦٣. كما تضمَّنَت يوميات وملاحظات ومقتطفات من قراءاتٍ
مختلفة ومشروعات كتابة يرجع بعضها إلى فترة «الكتابة في الرأس» قبل أن
يُتاح لي الحصول على ورقة وقلم.
٢٤ وأغلبها من خلال الحكايات التي كنتُ أسمعها. ويبدو أني
كنتُ مفتونًا بالعناوين مثل «سبع قطط تحت الجدار»، «قمر ونجمتين»،
«وابور الساعة ١٢»، وغيرها.
احتلَّت الكتابة ومشاكلُها ودور الكاتب وتكوينه ونظرية الرواية
والأقوال المتضاربة بشأنها جانبًا هامًّا من هذه المدوَّنات. شغلَت
القضايا الفلسفية والسيكولوجية المرتبطة بالعمل السياسي جانبًا آخر.
وعكَس الحديثُ في أكثر من فقرة عن «سقوط الأوهام» عملية النضج والأسئلة
التي طرحَتْها المواءمة بين المثال والواقع.
ولم تكن كتابةُ يومياتٍ حقيقية بالأمر السهل؛ فهناك دائمًا الخوف من
أن تقع في أيدي إدارة السجن والمباحث، فضلًا عن زملائي أنفسهم؛ ولهذا
كان عليَّ أن أتجنَّب بعض الموضوعات وخاصةً ما يتعلق بمشاعري الجنسية
أو تساؤلاتي أو ملاحظاتي على الأشخاص والأحداث اليومية داخل السجن.
وعند الضرورة كنتُ ألجأ إلى الرمز.
والحقُّ أني بالرغم من شدة حرصي على هذه الأوراق (حملتُها معي إلى كل
مكانٍ سافرتُ إليه وأودعتُها مخابئ مختلفة ثم شرعتُ في نقلها إلى جهاز
الكمبيوتر عام ١٩٩٨)، لم أفكِّر لحظة في نشرها. كنتُ أعتبرها أمرًا
شخصيًّا لا يهم أحدًا غيري، ومن شأنه أن يكون مبعث تسلية لي في وحدة
الشيخوخة. وعندما طلب مني الصديق مصطفى
نبيل، رئيس تحرير مجلة «الهلال»، كتابة بضع صفحاتٍ عن
العوامل التي ساهمت في تكويني الأدبي، اخترتُ بعضًا من اليوميات نُشرَت
في عددَي المجلة الصادرَين في نوفمبر
وديسمبر ٢٠٠٣. ثم رأيتُ أن
اليوميات ككلٍّ قد تكون مفيدة في إلقاء الضوء على بعض الأحداث
والمواقف، وأيضًا على البدايات المعقَّدة الصعبة لتطوُّر الكاتب،
فتفرَّغتُ في صيف ٢٠٠٤ لإعدادها للنشر في كتاب.
قرَّرتُ المحافظة على النص الأصلي فلم أتدخَّل فيه إلا في القليل
النادر عندما وجدتُ تكرارًا أو خطأ في النقل (الذي مر بمراحل متعددة من
أوراقٍ صغيرة متفرقة إلى كرَّاسٍ صغير وورق «بفرة» ثم إلى الكمبيوتر
فيما بعدُ)، أو غموضًا لا تُجدي معه القراءة، ولم تفلح معه محاولات
التذكُّر؛ خاصة وقد تُوفِّي أغلب من يمكن استيضاح الأمر منهم. هكذا
أبقيتُ على التأملات الساذجة أو الصياغات السطحية المتعجلة. وأبقيتُ
الخطوط التي وضعتُها تحت بعض السطور. ولم أتدخَّل لتصحيح الهفوات
اللغوية. أما الكلمات التي لم أستطع قراءتها فقد وضعتُ مكانها نقاطًا
بين أقواس، ثم أضفتُ هوامشَ توضيحية لأغلب كل ذلك.
وحرصتُ على الإشارة إلى مصادر المقتطَفات وعلى رأسها جريدة «الأهرام»
(الصفحة الأدبية التي أشرف عليها لويس
عوض وعاونه فيها متخصصان في الثقافة الفرنسية هما
وحيد النقاش ومصطفى مرجان، الذي كان يكتب باسم مصطفى إبراهيم مصطفى، بالإضافة إلى مقالات
حسين فوزي)، وكُتب مشروع «الألف
كتاب»، وأعداد من مجلتَي «تايم»
و«نيوزويك»، ومن مجلَّاتٍ فرنسية
مثل «نوفيل كريتيك» و«بانسيه» ترجم مادتها داخل السجن حليم طوسون وإبراهيم
عامر. من ناحيةٍ أخرى قمتُ بترجمة العبارات التي وردَت
بالإنجليزية، وهي غالبًا مقتطَفات من قراءاتٍ لم يكن ثمَّة إمكانية
لترجمتها في حينها.