لغز البورتريه الكبير
الجزء الأول
نستطيع القول إن المعرض الوطني يتحول في أي يوم من الأيام المخصصة لنسخ اللوحات إلى مكان تجمع لنوعيات متباينة من البشر، وهو في ذلك الأمر يفوق حتى غرفة القراءة بالمتحف البريطاني، بينما يتساوى تقريبًا مع مجلس العموم. ويُمثل مشهد المعرض في هذا اليوم مصدر اهتمام دائم للسيد جوزيف فيتلوورث، تمامًا مثلما تفعل اللوحات المنسوخة بواسطة الناسخين المحترِفين، الذين يُطلَق عليهم بشكل فكاهي في المصطلحات الرسمية بين الرسامين؛ الطلاب. ونظرًا إلى أن جوزيف فيتلوورث هو في الأصل رسام ذو نزعة إلى الأساليب القديمة للرسم أكثر من المستقبلية، فإن هذا كان سببًا في فشله المهني. كما تُبرِز الحقيقة اللافتة للنظر في هذه الأيام؛ لأنه عندما يصل الأمر إلى أن يبيع الرسامون القدامى متوسِّطو المستوى لوحاتِهم بأسعار مرتفعة، وأن تُترَك لوحات العباقرة المعاصرين راكدةً في الاستوديوهات ولا تجد من يشتريها، إذن تُصبح الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الرسام كي يشتهر هي أن يبتعد قدر الإمكان عن تقليد الأساليب القديمة للرسامين العظماء، الذين يتزايد الطلب على شراء لوحاتهم.
ومِن ثَم فقد وافق فيتلوورث بحماس شديد على وظيفةٍ براتب قليل للغاية في المعرض الوطني حيث يُمكنه على الأقل أن يوجد وسط أشياء وأناس يعشقهم، ومنهم على وجه الدقة امرأةٌ شابة جذابة للغاية، تأتي بصفة منتظمة إلى المعرض لنسخ اللوحات، وخاصة تلك التي تنتمي للمدرسة الفليمشية.
وفي صباح أحد أيام الخميس، سار السيد فيتلوورث ببطء عبر القاعات، وراح يتوقف بين الحين والآخر ليُتابع أعمال الناسخين ويُقيِّمها بكلمات حصيفة أو نقد بَنَّاء. وقد قام بجولةٍ تفقَّد خلالها أغلب أجزاء المبنى وأوشك على إنهائها، لكنه ذكَّر نفسه بنسخة مثيرة للاهتمام تجري عملية نسخها في غرفة صغيرة منعزلة في طرف المعارض البريطانية؛ لذا توجَّه لمتابعتها هناك. وفي الممر المؤدِّي إلى الغرفة جلس رجل ينسخ بالألوان المائية إحدى اللوحات الصغيرة للرسام كونستابل، وكان عمله رديئًا للغاية لدرجة جعلت فيتلوورث يُشيح بناظِرَيه للجهة المقابلة بتلقائية وهو يمر مسرعًا إلى الغرفة في نهاية الممر. أثار العمل الجاري داخل الغرفة اهتمامه للغاية. فاللوحة الأصلية التي يجري نسخها هي بورتريه جيمس الثاني للسير جودفري نيلر، وقد أثارت النسخة المتميزة إعجابه لدرجة أنه توقف بجوار حامل اللوحة مشدوهًا بالمهارة الفنية التي تنم عنها اللوحة. بينما جلس الفنان الناسخ، الذي نقش اسمه على صندوق الألوان الخاص به، وهو جيلدفورد ددلي، وهو ينظر إلى لوحته المنسوخة واللوحة الأصلية ويخلط بتروٍّ عددًا من الألوان على الباليت.
فقال فيتلوورث: «أرى أنك لم تبدأ العمل بعد.»
فنظر إليه الرسام محدقًا عبر نظارته الضخمة السميكة، وهز رأسه الذي يعلوه شعر أحمر متشابك طويل للغاية.
ثم رد قائلًا: «لا، إني أتفحصها أولًا قبل البدء.»
فسأله فيتلوورث: «هل تظن أن نسختك تحتاج إلى أي عمل إضافي؟ إنها ممتازة كما هي، على الرغم من انخفاض طفيف في درجة اللون.»
فأجابه الفنان مستوضحًا: «ليست أكثر انخفاضًا من الأصل، أليس كذلك؟»
رد فيتلوورث: «بلى، ولكنها ستنخفض خلال عام أو نحوه، عندما تزداد قتامة المادة المستخدمة، وهي أكثر انخفاضًا بكثير من اللوحة الأصلية حين رسمت في البداية.»
أمعن الرسام التفكير، ثم قال: «أميل إلى الاعتقاد بأنك على صواب، إذ كان عليَّ جعل درجة اللون أعلى بدرجة أو اثنتَين؛ لكن الوقت لم يَفُت بعد.» وأضاف بنشاط: «إن العمل لمدة يوم أو نحوه كفيل بمنحها درجة اللون المطلوبة.»
تشكَّك فيتلوورث في كلامه وندم على إبداء هذه الملاحظة؛ إذ إن رفع درجة اللون يعني عمليًّا إعادة تلوين كامل اللوحة مرة أخرى، وهو أمر ينطوي على مخاطرة في مثل هذه الحالة؛ لأن عملية النسخ قد اكتملت وبنجاح كبير. فأراد أن يُقنعه بالعدول عن هذا العمل بلطف، لكن شروع الرسام في عملية التعديل أعفاه من محاولة حثه على التوقف أكثر من ذلك.
ثم قال فيتلوورث: «أرى أن زجاج الحماية ما زال موضوعًا على اللوحة الأصلية. ألا تود أن نخلعه؟»
فأجابه الرسام: «أوه، لا، شكرًا لك، لا يُوجد انعكاس عليه من هنا.»
بدأ فيتلوورث قائلًا: «إن الزجاج يخفض درجة اللون قليلًا»، لكنه توقف فجأة عن الكلام، وظل فمه مفتوحًا بعض الشيء، بينما توقفت يد الفنان، الذي كان قد شرع في العمل، في الهواء بلا حَراك وهي تحمل سكين مزج الألوان. وارتسمت الدهشة على وجهَيهما وهما يستمعان إلى صوت باغتَ آذانَهما؛ ولم تكن الدهشة بلا سبب، إذ انبعث من مكان ما في حرم المبنى صوت لحن مبهج صادر من آلة الأوبوا الموسيقية. ظل فيتلوورث ثابتًا كتمثال لبضع ثوانٍ، مع فمه المفتوح وعينَيه المحدقتَين في عينَي الرسام؛ لكنه تمالك نفسه فجأة، وخرج من الغرفة دون التفوُّه بكلمة. وبعد أن مر بالرجل الذي يرسم بالألوان المائية الجالس في الممر، والذي راح ينظر من فوق كتفه مبتسمًا، دخل إلى بهو المعرض ليجد الطلاب قد تركوا لوحاتهم وتدافعوا نحو الباب؛ فتبعهم ليجد نفسه وسط حشد، يتزايد لحظيًّا، من الناسخين الذين يتدافعون نحو مصدر الموسيقى وقد علت الابتسامة وجوههم جميعًا.
وأخيرًا وجد فيتلوورث عازف الموسيقى داخل الغرفة الفينيسية؛ حيث تجمع حوله حشد كبير وقد وقف في المنتصف بجوار لوحة باكوس وأدريان للرسام تيتيان. كان رجلًا طويلًا ونحيفًا ذا مظهر شاذ غريب الأطوار، يرتدي قبعة مستدقة الطرف من اللباد وعباءة طويلة، ويبدو غير واعٍ تمامًا بجمهوره. وفي اللحظة التي وصل فيها فيتلوورث كان يعزف مقطوعة «كرنفال فينسيا» بإلهام ومهارة مع تنويعات لحنية منمقة، بينما ثبَّت عينَيه على اللوحة وهو يتأملها. فتحكم فيتلوورث في ملامحه بقدر ما استطاع وهو يخوض طريقه وسط الحشد حتى وصل إلى العازف وربت على كتفه برفق.
ثم قال له: «أنا آسف للغاية لمقاطعة عزفك الذي أُقدره حقًّا، لكن أخشى أنه من غير المسموح أن تُواصل العزف هنا.»
نظر العازف الغريب إلى الموظف بنظرة متجهمة بها بعضُ التأنيب، خافضًا نَغْمة العزف؛ ثم بدأ فجأة في عزف مقطوعة أوكتاف ثم افتتح مجموعة تنويعات لحنية جديدة برشاقة مدهشة. فابتسم فيتلوورث ابتسامة حاول أن يجعلها رقيقة، وانتظر بصبر حتى انتهت المعزوفة الرائعة بمقطع منمَّق مذهل؛ ثم كرر اعتراضه المهذب. فأبعد العازف الغريب الآلة الموسيقية عن فمه، وانتظر حتى توقف التصفيق، ثم التفت بثبات نحو فيتلوورث.
وقال: «هل أفهم من موقفك هذا أنك تعترض على عزف الموسيقى في هذا المعرض؟»
رد فيتلوورث بالإيجاب.
فهز العازف الغريب رأسه برصانة؛ ثم قال: «إن هذه تبدو وجهة نظر خاطئة للغاية. إنك بالتأكيد لا تُنكر الصلة الوطيدة بين الفنون الجميلة؟»
ابتسم فيتلوورث ابتسامة تهرب من الرد، فاستأنف العازف الغريب كلامه، وسط همهمات وضحكات تشجيع من الطلاب، وقال:
«أنت لن تُنكر يا سيدي أن الفنون الجميلة المختلفة ما هي إلا أساليبُ متنوعة للإحساس العام بالجمال.»
لم يكن فيتلوورث يُنكر أي شيء؛ لكنه اعترض فقط على عزف آلة الأوبوا داخل المكان.
واصل العازف الغريب كلامه في إصرار، ودون أن يتحرك من مكانه، قائلًا: «ومِن ثَم، ستُقِر بأن كل نوع من أنواع الجمال يُمكن تعزيزه بالعرض والتوضيح عبر نوع آخر من الجمال. ومن جهتي، فأنا أعتبر الموسيقى الملائمة والمحركة للأحاسيس أمرًا ضروريًّا من أجل التقدير الواجب للجمال التصويري.» واختتم حديثه بهذه الكلمات، ثم التفَّ مبتعدًا وتحرك عبر المعرض متبوعًا، مثل زمار هاملين، بجمع غفير من الحضور.
وجد فيتلوورث نفسَه أمام معضلة؛ إذ لا تُوجَد قاعدة صريحة تمنع عزف الآلات الموسيقية في المعرض، كما أن التصرف بحد ذاته لم يكن فيه ما يُخالف القانون؛ علاوة على أن حُجة العازف الغريب، رغم كونها خيالية وغير واقعية، قد سِيقَت بلباقة ومنطقية؛ مما شكَّل صعوبة في التعامل معها. فحافظ على ابتسامته وهو يُحاول تقدير الموقف للوصول إلى قرار سليم، بينما توقَّف العازف الغريب أمام لوحة «صعود سانت أورسولا» للرسام كلود لورين، وعلى الفور بدأ في عزف حزين لمقطوعة «المغادرة إلى سوريا». كانت سخرية الموقف أكبرَ مما يُمكن لفيتلوورث احتمالُه، ولم يستطع استجماع قدرته على الاعتراض مجددًا إلا بعد أن شارفت المقطوعةُ على النهاية؛ وبينما تحرك العازف الغريب مبتعدًا عن اللوحة، أبلغه فيتلوورث اعتراضَه المهذب وحثَّه على التوقف. عاود العازف النظر إلى فيتلوورث بتأنيب مندهش، وراح يحثُّه مجددًا على مراعاة الصلة الوثيقة بين الأنواع المختلفة للجمال، مستشهدًا بعروض الآنسة مود آلن كمثال مألوف وشهير، وبينما أخذ فيتلوورث يقدح زِناد فكره لإيجاد ردٍّ مناسب، توقف العازف أمام بورتريه إليسا بونابرت للرسام جاك لويس ديفيد، وحدَّق فيها بنظرة نارية، ثم انطلق يعزف مقطوعة «مرسيليا».
أحس فيتلوورث بأنه قد أُصيبَ بهيستيريا مع تزايد هتافات الطلاب وجلجلة اللحن العدائي المثير عبر المبني. ولم يَعُد الاعتراض مجديًا؛ إذ واجهه العازف بالعبوس والنظرات الغاضبة التي تُطالب المعترِضَ بالصمت. وراح الموظفون المذهولون يُشاهدون الموقف عن بُعد بنظرات منزعجة؛ بينما أخذت أعداد الجمهور في التزايد من لحظة لأخرى. وبعد تقدير مختصر للوحة «الأم السعيدة» للرسام فراجونارد (مع لحن «العذراء في المهد»)، انتقل للمعرض الهولندي، وتوقف أمام لوحة فان أوستاد، ليعزف مقطوعة «الكلب الصغير للرجل الهولندي»، التي أشعلت الأجواءَ في المكان ووضعَت نهاية بشكل عارض للعزف. إذ عند هذه اللحظة، ومن حسن حظ فيتلوورث الذي شعر بارتياح كبير، جاءت سيدة عجوز منفعلة كانت تنسخ إحدى لوحات رمبرانت، وطالبت بالهدوء لأنها لا تستطيع العمل وسط هذا الضجيج المنفِّر. فانتهز فيتلوورث الفرصة ليُوضح للعازف أن المعارض في الوقت الحاضر تمتلئ بالناسخين الذين يُمثل لهم عزفه، رغم أنه قد يكون مبهجًا في مناسبة ملائمة أخرى، مجردَ إلهاء وإعاقة في اللحظة الحاليَّة.
استدار العازف الغريب ورفع قبعته المستدقَّة؛ ثم انحنى للسيدة العجوز وقال: «هذا أمر مختلف تمامًا. إذا كان وجودي يُمثل مصدر إزعاج، فلا يسَعني إلا أن أنصرف متمنيًا لك صباحًا سعيدًا جدًّا.»
وأتبعَ جملته بانحناءة أخرى، مع حركة أنيقة بقبعته، ثم استدار، وضبط قطعة الفم في آلته الموسيقية وابتعد بخفة نحو بهو المدخل، وهو يعزف مقطوعة «الفتاة التي تركتها ورائي».
مر وقت ليس بالقصير قبل أن تستقر المعارض مرة أخرى. بينما اجتمع الطلاب في مجموعات، وناقشوا بشغف أمر العازف الغريب الرائع، وأُمطِر فيتلوورث، وهو ينتقل من مجموعة إلى أخرى، بسيل من الأسئلة لا حصر له. وكان وقت الغَداء قد اقترب عندما وجد نفسه مرة أخرى بجوار الغرفة المعزولة حيث يجري العمل على نسخ البورتريه، وقد لاحظ، أثناء مروره عبر الممر، أن رسَّام الألوان المائية قد غادر بالفعل. ثم وجد السيد ددلي يُحدق بسخط من خلال نظارته الكبيرة في الصورة الموجودة على حامله، وأظهرت له نظرة واحدة عليها أن هناك سببًا وجيهًا للاستياء.
«ما رأيك فيها؟» سأله الرسام وهو ينظر بعين الشك.
مطَّ فيتلوورث شفتَيه قائلًا: «للأسف، أنت لم تُحسِنها. لقد أصبحت درجة اللون أعلى بالتأكيد ولكن التشابه قد تأثر، وتبدو اللوحة برُمَّتها رديئةً ومرقَّعة.»
حدَّق ددلي عابسًا في اللوحة وأومأ برأسه قائلًا: «للأسف أنت على حق، لقد أتلفتها؛ هذه هي الحقيقة الواضحة.»
وافقه فيتلوورث الرأيَ قائلًا: «من المؤكَّد أنك لم تُحسنها، وإن جاز لي أن أُقدِّم النصح، فإنني أرى أن تُزيل الألوان التي وضعتها على اللوحة هذا الصباح، وتعتبر أنها قد اكتملت».
نهض الرسام وتفحَّص عمله بعصبية وهو يقول: «أنت محق تمامًا، وسأتبع نصيحتك.» ثم أغلق لوح الألوان الخاص به وبدأ بسرعة في حزم مواده، بينما وقف فيتلوورث وهو يُحدق بأسفٍ في اللوحة التالفة. وبعد أن انتهى ددلي من تعبئة صندوقه وحافظة الفرش، شرع في تأمين اللوحة، التي أُعِدت بدقة شديدة لنقل آمن، حيث ثُبتت بواسطة ماسكات في قاع صندوق مُعَد لحفظ اللوحات، بينما يعمل غطاؤه المنزلق على حماية السطح الرطب للوحة.
فسأله فيتلوورث: «هل ستأخذها معك؟» بينما واصل الرسام وضع الغطاء في المجرى المخصَّص وثبَّت أحزمة الحمل.
ثم رد قائلًا: «نعم، سآخذها إلى المنزل ولن أعبث بها مرة أخرى بعد أن أُنظف هذه الفوضى.»
وبعد أن أغلق حاملَ اللوحات وحَزَمه، التقط صندوق ألوانه الثقيلَ، وحافظةَ الفرش وحقيبة جلدية أخرى، فعرض عليه فيتلوورث، الذي رآه مثقَلًا بحقائبه، أن يحمل الصندوق الذي يحتوي على اللوحة؛ وهكذا سارا معًا إلى بهو المدخل، حيث سلَّم فيتلوورث الصندوق إلى صاحبه، متمنيًا له التوفيق في جهوده لمحو الآثار المؤسفة للتعديلات التي قام بها في الصباح.
وفي اليوم التالي؛ حين قاربت الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وقف فيتلوورث بجوار حامل اللوحات الخاص بالآنسة كاثرين هايد لإجراء محادثة خاصة لبضع دقائق. وهو لم يسمح لنفسه في كثير من الأحيان بهذه الرفاهية؛ لأنه اتفق معها على أنه من الأفضل أن تظل علاقتهما داخل المبنى في إطار مهني. لكن كل قاعدة لها استثناءات، وإلى جانب ذلك، بما أن كاثرين لم تكن حاضرة في الصباح السابق، فقد رأى أنه يجب إخبارها عن عازف الموسيقى الغريب. كان فيتلوورث وسط سردٍ مفعَم بالحيوية للحادث، عندما اقترب منهما أحد الموظَّفين بينما تعلو وجهه سيماءُ الغموض.
قال الموظف: «عذرًا سيدي، لكن شخصًا يُدعى السيد ددلي قد حضر ليستكمل العمل على لوحته، لكننا لم نستطع العثور عليها.»
قطَّب فيتلوورث جبينه وهو يُغمغم: «ددلي، ددلي؛ أليس هو ذلك اﻟ… نعم، بالطبع.» وفي تلك اللحظة دخل في أعقاب الموظف شخصٌ أحمرُ الشعر يرتدي نظاراتٍ كبيرة، فقال له فيتلوورث: «هل كنت تسأل عن لوحتك، يا سيد ددلي؟» فأجاب الرسام بأنه فعل. ضحك فيتلوورث وهو يقول: «لكن يا سيدي العزيز، أنت أخذتها معك صباح أمس.»
حدَّق الرسام فيه بدهشة قائلًا: «أنا لم أكن هنا صباح أمس.»
حدق فيه فيتلوورث في ذهول صامت لبضع لحظات. ثم صاحَ بنفادِ صبر:
«أوه، هذا غير معقول يا سيد ددلي؛ لا يُمكن أن تكون قد نسيت، لقد كنت تعمل في اللوحة طوال الصباح، وساعدتك بنفسي على حملها إلى بهو المدخل.»
هز الرسام رأسه نافيًا وهو يقول: «لقد كنت أعمل طوال يوم أمس في معرض اللوحات الوطني. لا بد أنك قد ساعدت شخصًا آخر في إخراج لوحتي.»
انتفض فيتلوورث وهو يشعر برجفة ذعر مبهَم. كان مظهر الرسام مميزًا لدرجة أنه لا يُمكن لفيتلوورث أن يُخطئ في تمييزه. ومع ذلك انتابَه شعورٌ غير مريح بأن هذا لم يكن الرجلَ نفسَه. إن لديه نفسَ الشعر الطويل الأحمر ونفس النظارات الضخمة، لكن الوجه لم يكن تمامًا مثل وجه الرجل الذي تحدث إليه أمس، وبدا الصوت والأسلوب مختلفَين بشكل ملحوظ. ومرة أخرى، خيم رعب مبهم وبارد على قلبه.
لكنه قال: «هل نذهب لفحص سجل الحضور؟» فوافق الرسام متحمِّسًا وذهبا مسرعَين.
قال فيتلوورث واضعًا إصبعه على الصفحة التي سجلت حضور أمس: «إن اسمك هو جيلدفورد ددلي، حسبما أذكر.»
أجاب ددلي: «نعم، لكن هذا ليس خطَّ يدي.»
راح فيتلوورث يُفكر بعمق وهو في حالة تقترب من الذعر.
ثم قال: «للأسف هناك شيء خاطئ؛ لكن من الأفضل أن نذهب إلى معرض اللوحات ونتحقَّق من أقوالك.»
أسرعا معًا وسارا حول ميدان ساحة سانت مارتن، ودخلا معرض اللوحات، حيث أثبت تحقيقٌ قصير جدًّا أن السيد ددلي كان موجودًا فيه طوال اليوم السابق.
غرق فيتلوورث في عرق بارد. من الواضح إذن أنه قد وقعَت عمليةُ احتيال؛ وهو احتيالٌ مدروس للغاية؛ إذ من بين أمور أخرى، من المؤكد أن بطاقة الحضور قد زُوِّرَت. ولكن ماذا عساه يكون الهدف من وراء هذا الاحتيال؟ إن الحصول على نسخة، مهما كانت جودتها، أمر لا يستحقُّ مثل هذه الخطط المحكَمة والمدروسة بعناية. نظر فيتلوورث والرسام بعضهما إلى بعض، وبنفس الشك الرهيب في عقلَيهما خرجا من معرض اللوحات معًا وذهبا مسرعَين لتحري الأمر.
عندما دخل فيتلوورث الغرفة الصغيرة المعزولة التي كان ددلي المزيف يعمل داخلها في اليوم السابق، استردَّ أنفاسه وشعر بارتياح. لأنه على الأقل، كانت اللوحة الأصلية موجودةً هناك ومعلَّقة في إطارها بأمان. لكن ارتياحه لم يَدُم طويلًا؛ لأن ددلي، الذي تبعه عن كثب، سار نحو اللوحة، وبعد نظرة متفحصة سريعة، التفت إليه مندهشًا وهو يقول:
«إن هذه هي نسختي، وليست اللوحة الأصلية.»
شعر فيتلوورث بكل رعبه يُهاجمه من جديد، ومع ذلك بدا هذا الأمر الفظيع مستحيلًا.
فصاح قائلًا: «كيف يُمكن أن يحدث هذا؟ إن قماش اللوحة لم يُصَب بأذًى، والإطار مثبَّت بمساميرَ على الحائط.»
أجاب ددلي: «لا أعرف شيئًا عن ذلك؛ كل ما أعرفه هو أن هذه هي نسختي.»
أخذ فيتلوورث يُحدق بنظرة متحيرة من خلال الزجاج، وبينما هو يتفحص اللوحة عن قرب أكثر، شعر بشك متزايد وأن الرسام على حق. لقد قُلِّدت عملية التلوين وقُلِّد سطح اللوحة الأصلية بدقة ومهارة شديدتَين، ولكن مهلًا … وهنا التفت فيتلوورث بحدَّة إلى أحد الموظفين، الذي كان قد تبعهم إلى الغرفة.
ثم قال له: «اذهب وأحضر مفك المسامير، واجلب رجلًا آخر معك.»
ذهب الموظف مسرعًا، ثم عاد على الفور برفقة عامل يحمل مفكَّ المسامير. كان إطار الصورة، على عكس بعض الأطر الأخرى في المعرض، مزودًا بشرائحَ نُحاسية مثبتة بمسامير على قواعد خشبية قوية داخل الحائط. وبتوجيهٍ من فيتلوورث، شرع العامل في فك إحدى الشرائح بينما أمسك مساعدُه إطار اللوحة. راقب فيتلوورث بصبرٍ نافدٍ مِفكَّ المسامير وهو يدور حوالي اثنتَي عشرةَ دورة، إلى أن توقف الرجل، ونظر إليه وهو يقول: «هناك شيء غريب في هذا المسمار يا سيدي.»
فقال فيتلوورث: «يبدو أنه يلف على نحو جيد.»
قال الرجل: «نعم يلف على نحو جيد، لكنه لا يخرج من مكانه. فلنُجرب مسمارًا آخر.»
وقد فعل ذلك بالفعل، لكن المسمار الثانيَ لم يخرج من مكانه أيضًا. ثم حدث شيء مثير للدهشة. إذ عندما تراجع العامل إلى الوراء لتوجيه نظرة متحيرة إلى الشرائح، لا بد أن مساعده قد سحب الإطار قليلًا، لأنه بدأ ينفصل بشكل واضح عن الحائط. أسقط العامل مفك المسامير وأمسك الإطار الذي، مع سَحبةٍ أخرى، انخلع عن الحائط، بينما المسامير الأربعة ما زالت في الشرائح، لكنها مفكوكة.
أطلق فيتلوورث صرخة يأس؛ إذ إن نظرة واحدة على الجزء الخلفي من قماش اللوحة الجديد تمامًا قطعت الشك باليقين وأكدت عملية السرقة، كما أوضحت نظرةٌ أخرى على المسامير نوع الأساليب التي استخدمها السارق. لكن بالنسبة لددلي، الذي لم يكن على علم بأحداث اليوم السابق، مثَّلَت القضية برُمَّتها لغزًا عميقًا.
حيث قال: «لا أفهم على الإطلاق كيف تمكَّنوا من ذلك، إلا إذا دخلوا في الليل.»
قال فيتلوورث: «سأُخبرك عن ذلك حالًا، ولكن هلَّا أقرضتنا نسختك في الوقت الحاليِّ لبضعة أيام لو سمحت، وسنُعيد تثبيت الإطار كما كان.» وأضاف مخاطبًا الموظفين: «إذا أمكن، أرجو ألا تنبسا ببِنْت شَفة عن هذا الأمر في الوقت الحالي.»
عندما وُضِعت اللوحة كما كانت من قبل وغادر الرجال الغرفة، قدَّم فيتلوورث للرسام سردًا موجزًا لأحداث اليوم السابق، حيث استمع إليه ددلي بعناية.
ثم قال: «لقد فهمت الخطة بشكل عام، لكن ما لم أفهمه هو كيف تمكَّن هذا الرجل من القيام بكل شيء في مثل هذا الوقت القصير، بينما يتنقل الناس في قاعات المعرض أيضًا.»
قال فيتلوورث: «أعتقد أن الخطة واضحة بما فيه الكفاية، انظر، إن التبادل الفعليَّ للوحات لا يحتاج إلا إلى أقلَّ من دقيقة. وقد أُعِدَّ كل شيء بعناية مسبقًا. من المؤكد أن اللصوص قد أتوا إلى هنا في الأيام السابقة حاملين المسامير المزيفة في جيوبهم، ومن السهل عليهم فكُّ مسمار واحد في كل مرة ودفعُ مسمار وهمي في مكانه. وبالنسبة لخلع قماش اللوحة من الإطار، يُمكن لرجلَين القيامُ بذلك بسهولة في غضون دقيقة أو دقيقتَين، بمجرد سحب المسامير المزيفة من مكانها، إذا كان هناك مراقبٌ تابع لهم يقف في الممر. كما أن عدد مَن يأتون إلى هذه الغرفة قليل نسبيًّا، كما تعلم.»
واعترض ددلي قائلًا: «لكن هذا سيحتاج إلى ثلاثة رجال على الأقل.»
أجاب فيتلوورث: «بالضبط، وأعتقد أنه كان هناك ثلاثة رجال؛ أحدهم هو عازف الأوبوا؛ ودوره في الخطة هو جذب الجميع بعيدًا عن مسرح الأحداث، ولا أشعر بأي شك في أن الرسام صاحب الألوان المائية هو فرد آخر منهم؛ فهو المراقب الذي جلس في الممر ليُتابع الموقف بينما أجرى الرجل الثالث عملية تبديل اللوحات.»
قال ددلي: «لقد فهمت، وبعد التبديل وضع بعض الألوان الزيتية على اللوحة الأصلية، وبسَط بعض الألوان، ثم وضع بعض اللمسات على الخطوط الرئيسية.»
أومأ فيتلوورث برأسه قائلًا: «نعم، هذا بالتأكيد ما قد فعله؛ وكان من السهل إلى حدٍّ ما لأن اللوحة في حالة جيدة ولم تكن هناك شقوق لتغطيتها».
قال ددلي متفقًا معه في الرأي: «نعم بالفعل، بالفعل. لكن، على الرغم من كل شيء، لا بد أن ذلك السارق هو رسام ماهر يُجيد التعامل مع الألوان والفرشاة.»
وافقه فيتلوورث قائلًا: «نعم بكل تأكيد، وهذا يُشير إلى سؤال مهم جدًّا: من الواضح أن هذا الرجل يعرفك جيدًا، كما ثبت من الدقة التي قلَّدك بها. وهو يعرف بالضبط ما كنت تفعله، وقبل وقت طويل؛ لأنها بالقطع خُطة معدة مسبقًا ومدروسة بعناية. علاوة على ذلك، فالمقلد هو رسام يتمتع ببعض المهارة، وهو يُشبهك إلى حد ما في هيئته. والآن، سيد ددلي، هل يُمكنك التفكيرُ في أي شخص يُمكن أن ينطبق عليه هذا الوصف؟»
فكَّر الرسام للحظة، فسأله فيتلوورث فجأة: «مَن الذي طلب منك نسخ هذه اللوحة؟»
أجاب ددلي: «هذه النسخة، والنسخة التي كنت أقوم بها في المعرض المجاور؛ طلبهما مني رجلٌ أمريكي، يُدعى ستراوس، يُقيم في فندق سافوي.»
فقال فيتلوورث: «صف لي السيد ستراوس.»
«إنه رجل طويل ونحيل، يُشبه إلى حدٍّ ما صور أبراهام لنكولن.»
غمغم فيتلوورث، وقد استدعى هيئة عازف الأوبوا في مخيلته، قائلًا: «آه، كيف تعرفت على السيد ستراوس؟»
«لقد قدَّم نفسه لي قبل شهر أو نحو ذلك، عندما كنت أقوم بالنسخ في لوكسمبورج.» ثم أضاف ددلي، مع وميض مفاجئ من الذكريات: «إنه هو من اقترح عليَّ استخدام ذلك الصندوق الممتاز لحماية اللوحات. كان لديه صندوق من أجل نسخة صنعتها في باريس، ثم قدم لي صندوقَين آخَرَين لهاتَين النسختَين.»
فكر فيتلوورث بعمق. إن تفاصيل خطة هذا الاحتيال الذكي تزداد وضوحًا أكثرَ فأكثر. ومن الواضح أنه سيُصبح من الضروري إجراءُ تحريات حول السيد ستراوس، في غضون ذلك، يجب إبلاغ مدير المعرض بالكارثة؛ وهي مهمة رهيبة، لذا فمن أجل تنفيذها، استعد فيتلوورث بقلب منقبض وشكوك في أن أيامه في العمل أصبحت معدودة.
خيَّم جو غير معتاد من الاكتئاب في ذلك المساء على الشقة المتواضعة الخاصة بالآنسة كاثرين هايد؛ لأن فيتلوورث قد روى للتوِّ، بتفاصيلَ دقيقة، وصوتٍ جنائزي خفيض، التاريخَ المروع للسرقة.
وفي الختام، تمتم قائلًا: «إنها قضية شائنة. لقد استقبل المدير الأمر بشكل جيد للغاية، مع أخذ كل شيء في الاعتبار، ولكن، بالطبع، ينبغي أن أترك عملي.»
فسألته كاثرين: «هل طلب منك ذلك؟»
«لا، لكنك تعرفين نوع العواء الذي سيُثار عندما يُصبح الأمر معروفًا. سيكون الأمر مزعجًا بشدة بالنسبة إليه، وأقل ما يُمكنني فعله هو أن أتحمل اللوم الكامل، نظرًا لأنني قد حملت اللوحة للخارج بالفعل. ينبغي لي أن أُقدم استقالتي وينبغي له أن يقبلها. وما سأفعله بعد ذلك أو كيف سأكسب رزقي، ذلك يعلمه الله وحده.»
قالت كاثرين: «إنه أمر مروع بالنسبة إليك، مع كل مواهبك وإنجازاتك أيضًا.»
وافقها فيتلوورث قائلًا: «إنه أمر صعب، فقد بدا أن هناك فرصة لأن نُصبح قادرين على الزواج بعد كل هذه السنوات. لذا أفترض أنه ينبغي لي أن أحلَّكِ من الارتباط بي يا كاتي، الآن بعد أن أصبح مستقبلنا بلا أمل.»
سألته ببساطة: «لماذا؟ أنا لا أرغب في أي شخص غيرك، وأنت تعلم هذا؛ وبالنسبة إلى حريتي، حسنًا، أنا حرة في أن أُصبح عانسًا الآن إذا لم تتزوَّجني. لكننا لن نفقد الأمل. ربما يتم العثور على اللوحة في نهاية الأمر، وعندئذٍ لن تُضطَر إلى الاستقالة، هل هي لوحة قيمة للغاية؟»
قال فيتلوورث: «إن الأمر أسوأ من ذلك.» «إنها لوحة تمَّت استعارتها من مالِكيها، وهي لا تُقدَّر بثمن لديهم لأسباب عاطفية.»
بدَت كاثرين مهتمة، ولأنها حريصة على تشتيت انتباه حبيبها عن موضوع مصابهم الشخصي، فقد طلبت المزيد من التفاصيل.
قال فيتلوورث: «إن هذه اللوحة لها تاريخ مثير للاهتمام؛ حيث رسمها نيلر في عام ١٦٨٨، وقِصَّتُها هي أن الملك كان جالسًا بالفعل أمام الرسام؛ عندما وصله مرسال الحرب وأبلغه أن أمير أورانج قد هاجم تورباي. وكان الملك ينوي إهداء ذلك البورتريه لصديقه صامويل ببيس الذي يرتبط به بشدة، وعلى الرغم من التوتر الذي أحدثَته الأخبار السيئة، فقد أمر الملك أن يستأنف نيلر رسم البورتريه حتى لا يُخيب أمل صديقه القديم وخادمه المخلص.»
فسألته كاثرين: «وهل حصل ببيس على اللوحة؟»
«نعم، وما هو أكثر من ذلك، أنها لا تزال في حوزة الأسرة حتى يومِنا هذا، أو على الأقل، ظلت كذلك حتى سُرِقت. لذلك فإنه بصرف النظر عن قيمتها الجوهرية كلوحة، فهي ذات قيمة خاصة لدى العائلة. ليت هؤلاء الهمج قد سرَقوا أي لوحة أخرى في المعرض، حتى لو كانت لوحة مادونا لرافاييل.»
سألت كاثرين: «أليس هناك أي دليل على الإطلاق يُرشدنا إلى هُوية اللص؟»
أجابها فيتلوورث: «كان هناك دليل واحد، لكنه لم يَعُد مجديًا؛ وهو رجل أمريكي، يُدعى ستراوس، هو من طلب نسخ اللوحة. وقد بحثنا عنه في فندق سافوي، لكنه اختفى، ولا أحد يعرف من أين أتى أو إلى أين ذهب. وهو بلا شك أحد اللصوص، لكن يبدو أنه قد تلاشى في الهواء.»
قالت كاثرين: «أوه، حسنًا، أُؤكد لك أن الشرطة ستقبض عليه قريبًا، وأنه بالتأكيد يحرص على العناية باللوحة.» وبهذه النبوءة المفعمة بالأمل أنهيَا النقاش في الموضوع، رغم أن اللوحة المفقودة ظلت عالقة في ذهنَيهما كخلفية قاتمة لكل الأفكار الأخرى.
بينما كان فيتلوورث في طريقه إلى المعرض في صباح اليوم التالي، أخذ فيتلوورث يُفكر، للمرة المائة، في الإجراء الأكثرِ حكمةً الذي يُمكنه اتخاذُه. هل يجب أن يكتب خطابًا رسميًّا ليُقدم من خلاله استقالته، أم يتخذ إجراءً أقل حدة وغير نهائي بتقديم الاستقالة شفهيًّا؟ لم يكن قد حسم أمره بعد عندما دخل عبر البوابة وبدأ يصعد السلم؛ لكنه توصل إلى قرار عندما وصل إلى درجة السلم الثالثة من الأعلى، في نفس اللحظة التي اصطدم فيها مع أحد السعاة الذي كان يصعد السلم أيضًا وهو يحمل طردًا من الورق ذا لون بني. لقد قرر أن يستقيل، في المقام الأول، وعلى أي حال، استقالة شفهية ويرى كيف سيكون رد الفعل.
وبعد أن اتخذ هذا القرار، شرع دون مزيد من التأخير في تنفيذه.
وعلى ما يبدو أن المدير قد ناقش الأمر باستفاضة مع أمين المعرض، وقد توقعا هذا التصرف. إذ قال الأول: «حسنًا يا فيتلوورث، إن القرار ليس لي وحدي. لو أنه كان كذلك، كنت سأقول … من أرسل هذا يا جينكينز؟» وجه السؤال إلى موظف أحضر للتو طردًا من الورق ذا لون بني، موجهًا بالاسم إلى المدير.
كان الرد: «لا أعرف، يا سيدي السير جون.» واستأنف قائلًا: «لقد أحضره أحد السعاة. وقال إنه أيضًا لا يعرف؛ ثم انصرف.»
أومأ المدير برأسه، وعندما خرج الرجل فحص الطرد بدقة وكذلك ملصق العنوان المكتوب على الآلة الكاتبة. وتابع كلامه: «إن القرار ليس لي وحدي، فيجب أن أقول … الآن، إني أتعجب؛ ماذا يحوي هذا الطرد؟» ثم قلب الطرد المستطيل المسطح، مرارًا وتَكرارًا، وأخيرًا، التقط سكين المكتب، وقطع به خيط الطرد. وهو يُكرر كلامه: «فيجب أن أقول، إذا كان القرار قراري أنا وحدي، وهو بالطبع ليس كذلك، فإنني أقول … إنه صندوق. أنا لم أطلب أي صندوق. إنني أتعجب ما هو.» وهنا جذب الورقة وفتح الصندوق؛ فأطلق فيتلوورث صيحة اندهاش.
«ما هذا يا فيتلوورث؟» سأله السير جون؛ لكن فيتلوورث لم يردَّ عليه، وانحنى عبر الطاولة، وسحب الغطاء المنزلق للصندوق بسرعة. ثم ساد صمت مطبق ذاهل على الغرفة؛ إذ أطلت من الصندوق ملامحُ جيمس الثاني المألوفة.
صاح السير جون: «حسنًا، إن هذه هي القضية الأكثر إثارة للدهشة على الإطلاق.» ثم أضاف بشك، وهو يفك مشابك اللوحة ويرفعها خارج الصندوق: «أعتقد أنها سليمة تمامًا. إنهم محتالون بارعون بشكل غير مألوف؛ ومع ذلك، أعتقد أنه ليس هناك شك في أن هذه هي اللوحة الأصلية. لكنني أتعجب لماذا أعادوها، بعد أن بذلوا كل هذا العناء لسرقتها؟»
أخذ الرجال الثلاثة يفحصون قماش اللوحة بتمعن بحثًا عن أي علامة تغيير أو استبدال. لكن لم يكن هناك شيء؛ إذ لم يتأثر سطح اللوحة مطلقًا بسبب ما حدث لها من تغييرات مؤخرًا.
وعلَّق السيد برنارد قائلًا: «يبدو أنهم تعاملوا مع اللوحة بعناية، لا يُمكن لأحد أن يُلاحظ مطلقًا أنها قد طُلِيَت بطلاء جديد ثم أُزيل الطلاء مرة أخرى.»
وافقه السير جون قائلًا: «لا، لم يترك الطلاء أي أثر. لا بد أنهم استخدموا زيتًا يجف ببطء وأزالوه على الفور. ولكن …» استدرك الرجل وهو يقلب اللوحة، «لقد نزعوا قماش اللوحة عن الإطار الخشبي. هل تُلاحظون؟» ثم أمسك باللوحة تجاه الشخصَين الآخَرَين اللذَين تفحَّصاها عن قرب.
قال فيتلوورث، بعد أن تفحص جوانب قماش اللوحة: «يبدو لي، يا سير جون، أنه قد نُزِع من جانب واحد فقط. فالمسامير في الجانب العلوي والجانبَين الأيمن والأيسر لم تُنتزَع.»
نظر المدير إلى اللوحة مرة أخرى ثم قال: «أنت محقٌّ تمامًا يا فيتلوورث، لقد نُزِع قماش اللوحة من الإطار الخشبي عند الجانب السفلي فقط؛ وما هو أكثر من ذلك، أنهم قد نزعوا الضِّلَع السفليَّة من الإطار الخشبي واستبدلوا بها ضلعًا خشبية أخرى. هل ترى هذا؟ إن القطعة المستبدلة هي من الخشب القديم، ولكنها مختلفة عن الثلاثة الآخرين، ويُمكنك أن تُميز بوضوح السطح الجديد الذي نتج عن قطع الحواف. إنه شيء مذهل للغاية. ماذا تستنتج من هذا يا برنارد؟»
لم يستطع السيد برنارد أن يستنتج شيئًا وقد قال ذلك. ثم أضاف: «إن الأمر برُمته هو لغز تام بالنسبة إليَّ؛ ولكن ربما يكونون قد أتلَفوا ضِلَع الإطار القديمةَ واضطُروا إلى استبدالها، لكنني لا أفهم سبب رغبتهم في فك قماش اللوحة من الأساس.»
قال السير جون: «ولا أنا كذلك، لكن الشيء المهم هو أننا استعَدْنا اللوحة دون أن تتلف، ونظرًا لذلك، فربما ترغب في إعادة النظر في استقالتك يا فيتلوورث.»
أجاب الأخير: «لا أعتقد أنني سأفعل، يا سيدي السير جون؛ فالقضية معروفة للعديد من الناس ولا بد أن يكون هناك نوعٌ من التحقيق.»
رد عليه المدير قائلًا: «ربما أنت على حق، على أي حال، سوف نعرض الأمر على مجلس الأمناء وننتظر قراره. بالطبع، إن القرار ليس لي وحدي؛ لذا، في الوقت الحالي، يجب أن أقبل استقالتك.»
الجزء الثاني
ربما كان من حسن الحظ أن يوم السبت هو يوم مخصص للجمهور في معظم المعارض، وبالتالي فهو يوم عطلة لناسخي اللوحات؛ وعلى أي حال لم يكن هناك عمل في هذا الصباح الكارثي للآنسة كاثرين. وفي غضون بضع دقائق من وصول فيتلوورث إلى المعرض، كانت تقف بانتظاره أسفل عمود نيلسون كي يُخبرها بالتقرير الذي وعدها به حول مسار الأحداث. وبعد مغادرته غرفة المدير، توجَّه مباشرة إلى مكان لقاء محبوبته، حيث استقبلَته بابتسامة مشرقة ويدٍ صغيرة ممدودة، ثم توجَّها معًا نحو قاعة وايتهول.
فسألته كاثرين: «حسنًا، ماذا حدث؟»
أجاب فيتلوورث: «لقد عرضت الاستقالة.»
قالت: «وبالطبع رفض السير جون الفكرة؟»
فصاح قائلًا: «أوه، أتمزحين؟ لم يفعل على الإطلاق. لكنه قال لو أن القرار كان قراره وحده، كان سوف …»
«ماذا؟»
«لا أعرف على وجه التحديد، لكن الخبر الجيد هو أن اللوحة قد عادت.»
صاحت كاثرين: «أوه، خبر عظيم! لكن إن كانت قد عادت، فلِمَ بحق السماء ينبغي أن تستقيل؟»
«ستفهمين إذا أخبرتك كيف عادت.» وهنا وصف لها فيتلوورث العودة الغامضة للوحة والأمر الأكثر غموضًا وهو استبدال ضِلَع الإطار الخشبي.
قالت كاثرين بإصرار: «لكنني ما زلت لا أفهم سببَ استقالتك.»
قال فيتلوورث: «إذن، سأشرح لك. عليك أن تُدركي أن كل ما يُهم السير جون وبرنارد هو اللوحة، كمجرد لوحة، ومن وجهة النظر هذه، فإن ضلع الإطار الخشبي هي مجرد ضلع إطار خشبي ولا شيء آخر. لكن هناك نقطة واحدة قد غفلا عنها؛ على الأقل، هذا ما أظنه. هذه اللوحة ليست مجردَ لوحة: إنها تراث عائلة عريقة.»
سألَت كاثرين: «ولكن ما علاقة ذلك بالأمر؟»
«إن أفضل إجابة على هذا السؤال، يا حبيبتي، هو سؤال آخر. ماذا أراد هؤلاء الرجال من ضلع الإطار الخشبي القديمة؟»
«حسنًا، ماذا أرادوا؟»
أجاب فيتلوورث: «لا أعرف، ولكن بمجرد أن رأيت تلك الضلعَ وقد استُبدِلت، أدركت أن هناك سرًّا خفيًّا وراء هذه السرقة. تأملي في الحقائق يا كاتي. أولًا ستُدركين أن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصًا عاديين، لأنهم لم يُعيدوا اللوحة فحسب، ولكن من الواضح أنهم حرَصوا بشدة على عدم إلحاق الضرر بها؛ وهذا ليس تصرفَ لصٍّ عادي، لا يأبهُ مطلقًا لمدى الضرر الذي يتسبب فيه. ثانيًا، ستُلاحظين أن هؤلاء الرجال أرادوا، تحديدًا، الضلعَ السفلية من الإطار الخشبي لقماش اللوحة، وقد أرادوه بشدة لدرجة أنهم كانوا على استعداد للوقوع في مشكلة كبيرة للحصول عليه مهما كلَّفهم الأمر. بعد ذلك، ستُدركين أنهم رجال يتمتعون بذكاء فائق للغاية. واحد منهم رسام ماهر، والآخر موسيقي خبير، وواحد منهم، على الأقل، هو شخص يتمتع ببراعة كبيرة. والآن، فكِّري في اللوحة نفسِها. لقد رُسِمَت للملك عندما بدأت الثورة بالفعل وكان من المقرَّر أن يتم تسليمها إلى عهدة رجل هو الصديق المخلص للملك، رجل ذي ولاء مطلق وحكم وحكمة صائبة، رجل خبير بأمور الحياة، ومن المؤكد أنه لن يتم توريطه في أيٍّ من المشاكل التي تحملها الأيام القادمة. ماذا يكشف لك هذا؟»
فأجابت مع هزة بسيطة لرأسها: «لا يكشف لي أي شيء؛ فماذا يكشف لك أنت؟»
أجاب قائلًا: «حسنًا، ستتفقين معي على أنه بالنسبة إلى قطعة صغيرة وثمينة، فإن ضلع إطار اللوحة القيمة ستُوفِّر مكانًا مثاليًّا للإخفاء؛ ومع رؤية أن ثلاثة رجال من الواضح أنهم ليسوا حمقى قد واجهوا مشاكل هائلة للحصول على هذه الضِّلع، فأنا أميل إلى افتراض أنها قد استُخدِمت لهذا الغرض.»
صاحت كاثرين: «حقًّا يا جو! يا لها من فكرة خيالية مبهجة! إنك تتبع نهجًا ميكيافيليًّا للغاية لتُفكر في ذلك! هلَّا نذهب إلى المتنزه لفترة قصيرة!»
وافق فيتلوورث، ونظرًا لأنهما قد وصلا الآن إلى بوابات هورس جاردز، مرُّوا عبرها، بينما يُراقبهم خفية الحارسُ المبهرج، الذي وقف، مثل طير استوائي رائع، ليحرس المدخل الذي يُشبه النفق. سار العاشقان بهدوء عبر الساحة الكبيرة المغطَّاة بالحصى، وبمجرد مرورهما عبر البوابة الصغيرة إلى داخل المتنزَّه، عاودا النقاش مرة أخرى. حيث كانت كاثرين هي التي تحدَّثَت أولًا: «هل لديك أي تخمين حول ما كان مخفيًّا في داخل ضلع الإطار؟»
أجاب فيتلوورث: «لا، ليس لديَّ، ولن يُجديَ التخمين نفعًا. ولكن أعتقد أن الأمر واضح للغاية: لا بد أن هؤلاء الرجال لديهم بعض المعلومات المؤكدة تمامًا، وبما أنهم لم يتمكَّنوا من الحصول عليها من اللوحة، فلا بد أنهم حصلوا عليها من مكان آخر؛ والسؤال هو من أين حصَلوا عليها؟»
سألته كاثرين: «هل من الممكن أن أحدًا قد أخبرهم؟»
«لا، بالتأكيد لا؛ لأنه إذا كان أي شخص قد عرَف مكان الإخفاء، لكان الشيء المخفي قد أُخِذ منذ فترة طويلة. يبدو أن الاستنتاج الوحيد الممكن هو أنه يوجد دليل مكتوب ليُرشِد عن مكان الإخفاء، ولكن لم يُعثَر عليه حتى الآن.»
قالت كاثرين: «فهمت، أنت تقصد أنه موجود وسط بعض أوراق العائلة القديمة.»
قال فيتلوورث: «من المحتمل، لكنني لا أعتقد ذلك. أتعلمين، أيًّا كان مكان وجود الدليل، فقد تمكن هؤلاء الرجال من الحصول على معلومةٍ ما تُوصلهم إليه. والآن، أظن أنهم ليسوا أفرادًا من العائلة، لأنهم لو كانوا كذلك، لأمكنهم الحصول على ضلع الإطار عندما كانت اللوحة موجودة في المجموعة الخاصة بدلًا من الانتظار حتى تُعرَض في معرض عام. لذلك يبدو أن الدليل الذي شاهدوه، يوجد في مكان ما يُمكن للجمهور الوصول إليه. وإذا كان في متناول الجمهور، عجبًا، أتعلمين، يا كاتي العزيزة، فإنه بالتأكيد يُمكننا نحن أيضًا أن نصل إليه.»
وافقته كاثرين قائلة: «نعم، أفترض ذلك بالتأكيد؛ لو أننا فقط استطعنا معرفة المكان الذي نبحث فيه عنه. ولكن ربما فكر حبيبي جوزيف فيتلوورث الميكافيلي في ذلك، أيضًا.»
أجاب فيتلوورث: «لم يكن لديَّ الكثيرُ من الوقت للتفكير في ذلك على الإطلاق، ولكن هناك مكان واحد محتمل يخطر ببالي، وربما هو الأكثر احتمالية: إنه كلِّيتي القديمة.»
«في كامبريدج؟»
«نعم، كلية ماجدالين. إنها نفس الكلية التي تخرج فيها ببيس، أتعلمين، لقد أوصى بأن تُوهَب مكتبته الخاصة بعد وفاته لتُوضَع في الكلية؛ التي تضم ليس فقط يومياته الشهيرة، ولكن عددًا كبيرًا من المذكرات المكتوبة بخط يده حول الشئون البحرية والسياسية، وكذلك المطبوعات ومجموعات من اللوحات القديمة. ومن المحتمل جدًّا أن يكون الدليل أو الوثيقة التي نفترض وجودها من بين الأوراق الموجودة في مكتبة ببيس؛ ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهناك عقبة واحدة صغيرة يجب التغلب عليها.»
«وما هي؟»
«عجبًا، ألا تتذكرين أن صامويل ببيس ذلك الرجل الحكيم والمتكتم كانت لديه طريقة لكتابة مذكراته الخاصة بنظام الترميز، والتي من الواضح أنه استخدمها من أجل الأمن أكثر من الإيجاز؛ ولما كان الأمر كذلك، فقد نكون متأكدين تمامًا من أن وثيقتنا الافتراضية مكتوبة بنظام الترميز، أيضًا. وهذه عقبة جدية، على الرغم من أنني أتخيل أن النظام الذي استخدمه لم يكن معقدًا للغاية. لذا يتحتم عليَّ أن أدرس نظام ريتش للترميز.»
صفَّقت كاثرين بيدَيها وهي تصيح: «نظام ريتش! إنه أمر مفرح! هل نسيت أنني خبيرة في نظام ريتش للترميز؟»
قال فيتلوورث: «لم أكن أعرف ذلك مطلقًا.»
«أوه، لكنني متأكدة من أنني أخبرتك. عندما كنت أعمل على نسخ الرسومات والمخطوطات المكتوبة بخط اليد في المتحف البريطاني، حصلت على مهمة لعمل نسخة طبق الأصل من مجلد مكتوب بنظام ريتش للترميز. وبالطبع، كان من الضروري أن أتعلم ذلك النظام وإلا فسأُخطئ في تفسير الحروف، لذلك تعلمت ذلك من كتيب قديم، وبحلول الوقت الذي أنجزت فيه مهمتي أصبحت ماهرة إلى حد ما. أتعلم، إنه حقًّا بسيط للغاية مقارنة بالأنظمة الحديثة مثل نظام بيتمان.»
نظر فيتلوورث إلى كاثرين بدهشة تمتزج بالإعجاب وهو يقول: «يا لك من سيدة صغيرة ذكية! لقد جاءت مهارتك في وقت مناسب أيضًا! هل تعتقدين أن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا كي تُعلميني؟»
فسألته: «ماذا تنوي أن تفعل؟»
«أنوي الذَّهاب إلى كلية ماجدالين، والاطلاع على جميع وثائق ببيس الخاصة بفترة الثورة، مع الانتباه بشكل خاص لأي وثيقة مكتوبة بنظام الترميز. ليس من المحتمل أن يكون هناك الكثير منها، إذ إن ببيس العجوز المسكين قد عانى من ضعف البصر، لدرجة أنه اضطُرَّ إلى التخلي عن الاحتفاظ بمذكرات مكتوبة بنظام الترميز بعد عام ١٦٧٠.»
أخذت كاثرين تُفكر بجدية، وعندما جلسا على مقعد فارغ في مسار منعزل داخل الحديقة، لفت يدها حول ذراعه بطريقة تنم عن الاقتناع والإطراء.
«إن لديَّ اقتراحًا جريئًا بعض الشيء، يا جو. أنت بالطبع يُمكنك تعلمُ نظام ريتش للترميز دون أي صعوبة. ولكن الأمر سيستغرق بعض الوقت وقدرًا كبيرًا من التعب، في حين أنني أُتقنه بالفعل ولديَّ خبرة كبيرة في نسخ الأحرف وقراءتها. إذن، لماذا لا تأخذني معك إلى كامبريدج وتسمح لي بفك ترميز الأوراق ذات الرموز؟»
كان فيتلوورث يتفحص طرَف حذائه باهتمام، وهو يسترجع في ذهنه الصفات الغريبة لأنثى أسطورية تحمل اسم جراندي؛ بينما راحت كاثرين، وهي تسترقُ نظرة حذرة إليه، تفك رموز ملامحه التي هي أسهل من نظام ريتش.
فقالت كاثرين مقترَحًا لفك الترميز: «ماجي فليندرز ستُساعدني، أنا واثقة. إنها تشغل وظيفة جيدة في نيونهام، ونحن أصدقاء قدامى.»
صفا وجه فيتلوورث، ثم قال: «إن هذا يُخلصنا من عقبة واحدة، أما العقبة الأخرى فيجب أن أتغلب عليها بأفضل ما أستطيع.»
قالت كاثرين: «هل تقصد التكلفة التي يتطلبها التحقيق؟»
«نعم. أتعلمين، ليس لديَّ أدنى شك في أن شيئًا ذا قيمة كبيرة قد سُرِق، وسُرِق بسبب حماقتي، وإذا كان من الممكن استردادُ هذا الشيء، فإن واجبي هو استعادته حتى لو أنفقت من أجل ذلك آخِرَ نصف بنس أملكه.»
قالت كاثرين: «نعم، أنا أتفق معك تمامًا، باستثناء أمر حماقتك، فهو أمر غير صحيح؛ لأن المدير نفسه كان سينخدع بالطبع إذا كان في مكانك. لذلك سأقترح عليك اقتراحًا آخر. فأنا حريصة على استرجاع هذا الشيء مثلما تحرص أنت؛ وفي واقع الأمر، أنا أعتبر أن نقودي هي نقودك. والآن، إن لديَّ مبلغًا صغيرًا من المال أدَّخره للطوارئ التي لا يبدو من المحتمل أن تحدث في الوقت الحالي، وأودُّ أن أستثمر بعضًا منه في مهمتنا المشتركة.»
لا داعي للقول إن فيتلوورث اعترض بشدة. كما أنه لا داعي للقول إن كاثرين قد رفضت اعتراضاته بشدة؛ لذا لم ينهضا من فوق المقعد، إلا بعد أن كانت قد أقنعته تمامًا. وكما قال الشاعر: «إن للرجل إرادتَه، لكن للمرأة أسلوبها.» وهكذا أصبحت الرحلة الاستكشافية المشتركة إلى كامبريدج أمرًا واقعًا مقبولًا.
الجزء الثالث
لم يستدعِ الأمر خدمات الآنسة فليندرز في النهاية؛ إذ إن صديقًا قديمًا لفيتلوورث، وهو مدرس وزميل في الكلية، تزوج واستقرَّ في كامبريدج، كان لديه سكن في منزله يتسع لرفيقَين مولَعَين بالدراسة بجدِّية، كما أنه كان على استعداد لتزويدهم بمكتب صغير لإجراء أبحاثهم فيه.
وهكذا، ومع استرضاء السيدة جراندي بشروط مفيدة للغاية، استقر الرفيقان المذكوران أعلاه بمسكنهما في منزل السيد آرثر وينتون، مدرس الفنون، وحصلا على إذن عميد الكلية، الذي منحه أمين المكتبة الخاصة بالسيد ببيس؛ وبدأ التحقيق الكبير.
وفى صباح يوم ثلاثاء، صحوٍ ومشمس، انطلق فيتلوورث في سعيه. حيث حمل معه، بالإضافة إلى دفتر ملاحظات صغير الحجم، كاميرا صغيرة ذات هيكل خشبي، استعارها من السيد وينتون، الذي كان مصوِّرًا خبيرًا وقد اقترح اقتراحًا ممتازًا بضرورة تصوير أي وثائق محتملة من أجل دراستها بهدوء في المنزل، والاحتفاظ بنُسَخ منها بشكل دائم للرجوع إليها لاحقًا. لذلك بدأ فيتلوورث بحثه حاملًا الكاميرا في يده والأمل في قلبه، متخيلًا نفسه وقد عثر بالفعل على ذلك الشيء (الذي يُفترَض أنه ثمين) ذي الطبيعة المجهولة والذي لم يكن أي شخص غيره يتوقَّع وجوده؛ وأعاده لمالكه الذي لا يعلم شيئًا عن الأمر. سيُصبح إنجازًا عظيمًا. وبذلك يستعيد نقوده بالكامل، ويُعاد تعيينه في منصبه غير المربح على الإطلاق.
كان أول تيار بارد يعصف بحماسه المتقد ناتجًا عن كم الوثائق الموضوعة تحت تصرفه؛ إذ كانت كمية هائلة. فبصرف النظر عن المطبوعات والرسومات والخرائط ومجموعات الشعر، التي لا يُمكن تجاهلُ أيٍّ منها تمامًا — لأنه حتى القصائد قد تحتوي على تلميح مخفي — كان هناك قدرٌ هائل من الأوراق المتنوعة، التي يجب فحصها قبل استبعاد أيٍّ منها. وبينما كان يُحدق في المجموعة بفزع متزايد، أدرك لأول مرة كم الغموض الرهيب الذي يُحيط بمسعاه. ما هي طبيعة ذاك الشيء الذي يبحث عنه في النهاية؟ إن السؤال نفسَه ينمُّ عن إجابة أشدَّ غموضًا. لم يكن لديه سوى نقطتَين ثابتتَين؛ الثورة والبورتريه الذي رسمه نيلر. كان يجهل تمامًا العلاقة بينهما، وبالتالي قد يفقد الدليل بسهولة حتى لو كان تحت عينَيه.
كانت المذكرات الشهيرة التي استبعدها، بعد نظرة موجزة تتسم بالفضول والإعجاب، بسبب أن آخر تدوين حزين فيها حدث في الثالث من مايو ١٦٦٩، أي قبل فترة طويلة من الأيام العاصفة عندما تسبب العناد الكاثوليكي لدى جيمس في كارثة حتمية. كما يُمكن استبعاد الأوراق المؤرَّخة الأخرى أيضًا؛ ولكن عندما تم القيام بكل ما هو ممكن بهذه الطريقة، كانت الوثائق المتبقية للدراسة لا تزال مروعة في حجمها الضخم. استنفدَت عمليةُ الفحص المبدئي وقت اليوم الأول بالكامل، وكانت النتيجة الرئيسية لها هي الإحباط الشديد. تبع ذلك أسبوعان من العمل الشاق الدقيق، الذي تضمَّن دراسة دقيقة لعدد لا يُحصَى من الوثائق حول كل موضوع محتمَل، مع جهود غير مثمرة لاستخراج بعض المعلومات منها التي قد يكون لها صلةٌ باللوحة، حتى ولو بشكل غير مباشر.
واستمر يومًا بعد يوم في العودة إلى كاثرين بنفس التقرير المحبط عن الفشل التام. وعلى الرغم من أنها كانت ترفع من معنوياته بفعل أملها المشرق، إلا أنه مع استمرار البحث وتناقص رأس المال المشترك، تناقص معه تفاؤله. لقد كان مشروعًا أكبر مما خطط له؛ إذ تتطلب كمية الوثائق والإجراءات المصاحبة لفحص الآثار الثمينة وقتًا وجهدًا يتجاوز حساباته تمامًا. كما أن هناك عنصرًا محبطًا آخر، لم يقل عنه شيئًا لكاثرين في الوقت الحاضر. فمع مرور الأيام دون أي إشارة إلى أي دليل، بدأ شكٌّ رهيب يتسلل إلى ذهنه. افترض أن الأمر برُمَّته كان وهمًا! وأن استبدال ضلع الإطار الخشبي كان بسبب حادث عارض، وأنه كان يبحث عن شيء لا وجود له إلا في خياله. عندها سيذهب سُدًى كلُّ هذا البحث والوقت والمال المدخَر للطوارئ. كانت فكرة مروِّعة؛ وبينما أخذت تُهاجمه مرارًا وتكرارًا على فترات متكررة بشكل متزايد، غرق قلبه وأصبح المستقبل مظلمًا ويائسًا.
وفي اليوم الخامس عشر، اخترق أولُ شعاع خافت من الأمل كآبةَ يأسه المتزايد؛ إذ إنه في ذلك اليوم، وسط مجموعة من الأوراق غير المصنفة، اكتشف شيئًا يدعو على الأقل إلى الاستفسار. ويتألَّف الاكتشاف من ثلاث أوراق صغيرة، اقتُطِعت بشكل واضح من دفتر مذكرات صغير للجيب، حجم كلٍّ منها حوالي أربع بوصات في اثنتَين ونصف، وكلها مغطاة بكتابة ذات حروف صغيرة للغاية ذات طابع غريب وغير منسق، فأدرك فيتلوورث على الفور أنه نوع من الترميز. لم يكن هناك ما يُشير إلى التاريخ، وعند تقديم طلب استفسار إلى أمين المكتبة، أُبلِغ فيتلوورث أنه لا يوجد شيء معروف عن الأوراق الصغيرة باستثناء أنها تخص ببيس، ومن المؤكد أنها بخط يده. كما لم يتمَّ فكُّ ترميز النص الموجود عليها مطلقًا من قبل، على الرغم من قيام العديد من الأشخاص — وأحدهم قام بذلك منذ فترة وجيزة — بفحصها؛ وكان من رأي أمين المكتبة أنه من غير المحتمل أن يتمكَّن أحد من فك الترميز أبدًا، لأن الكتابة صغيرة جدًّا ومهتزة للغاية ومكتوبة بخط سيئ، لدرجة أنها بدَت عمليًّا غير قابلة للفك.
كان تقرير أمين المكتبة، في ظاهر الأمر، محبطًا. لكن بالنسبة إلى فيتلوورث، فإن عدم وضوح الكتابة أعطاها اهتمامًا إضافيًّا، وموحيًا، كما حدث في الفترة الأخيرة عندما أصبح استخدام الترميز صعبًا. وبِناءً على طلبه، تم فحص اليوميات للمقارنة بين أسلوب الكتابة اليدوية. وعند مقارنة الجزء الأول من المجلدات الستة بالقائمة، كان من الواضح أن هناك تغييرًا في طبيعة النص، على الرغم من أن التدوين الأخير، حيث يُسجل ببيس إخفاقه في الإبصار بوضوح، كان أكثر وضوحًا وأفضل كتابةً من الخربشة المتناهية الصغر على هذه الأوراق الثلاثة المقتطعة. وهو ما كان مُرضيًا للغاية، بشرط ألا يكون عدم وضوحها تامًّا لدرجة تجعل فك الترميز مستحيلًا تمامًا.
وبعد أن حصل على إذن لتصوير الأوراق الثلاث فوتوغرافيًّا — كلٌّ منها مكتوب على جانب واحد فقط — صوَّر فيتلوورث ثلاث صور، وبعد ذلك، علَّق بحثَه ليوم واحد، ثم انطلق إلى المنزل مفعمًا بالإثارة والأمل.
كان قد اقترب من المنزل عندما قابلته كاثرين، وقد خمنت من عودته المبكرة أن شيئًا ما قد حدث، فسألته بلهفة: «هل حصلت عليه يا جو؟»
ابتسم فيتلوورث. ثم أجاب: «لقد حصلت على وثيقة كُتِبت بنظام الترميز.»
سألت كاثرين: «هل تعتقد أنها قد تُنبئ بأي شيء عن اللوحة؟» وأضافت وهي تضحك: «إن حماستي تجعلني أتحدَّث بلا معنًى. بالطبع، يجب أن أفك الترميز لأعرف ما تُنبئ به.»
قال فيتلوورث: «نعم، عليك أن تفعلي؛ وأتمنى أن تستمتعي بالمهمة. إنها خربشة مخيفة؛ سيئة للغاية لدرجة أنه لم يتمكن أحد من فك ترميزها حتى الآن.» ثم أضاف مع نظرة واعية لها: «لقد قال لي أمين المكتبة إنه قبل ثلاثة أشهر فقط، قضى باحثٌ أكاديمي أمريكي، حصل على إذن لتصفُّح المجموعة، أكثرَ من أسبوع في محاولة فك رموزها بمساعدة عدسة صانع ساعات، ثم استسلم وتركها في النهاية. إذن يا عزيزتي اعلمي أن أمامك مهمة دقيقة جدًّا جدًّا.»
نظرت إليه كاثرين بتفكير، وقالت: «هذا لا يبدو مشجعًا للغاية.» ثم، بعد فترة تأملَت خلالها بعمق، وقد عقدَت جبينها الناعم عادة لتبرز بعض التجاعيد الدالة على التفكير العميق، نظرَت فجأةً إلى الأعلى: «أفترض يا جو، أنه لم يستفد شيئًا منها في النهاية.»
ضحك فيتلوورث بلطف ثم قال: «كنت أنتظر ذلك، أنت تعتقدين أن الأكاديمي الأمريكي قد يكون رجلًا ذوَّاقًا للموسيقى. أتوقع أنك على حق وآمُل أن تكوني كذلك؛ لأن ذلك سيُثبت أننا حقًّا على نفس طريق أصدقائنا؛ لكننا سنكون قادرين على الحكم بشكل أفضل عندما تُعطينا عينة من مهاراتك. إذ سنُصبح في موقف صعب إن لم تتمكني من فك ترميز هذا الشيء.»
رفضت كاثرين التفكير في تلك الاحتمالية الأخيرة، وقاوم الرفيقان إغراء تناول الشاي، واتجها مباشرة إلى غرفة السيد وينتون المظلمة من أجل طبع الصور الفوتوغرافية. وبالفعل طبعت الصور الثلاث بدون عوائق، وأثناء تجفيف اثنتَين في الرف، أخذا الصورة الثالثة إلى النافذة للفحص.
وبينما كانت كاثرين واقفة عند نافذة التظهير، وهي تحمل الفيلم السلبي الرطب نحو الأعلى، قال فيتلوورث: «حسنًا، ما رأيك في ذلك؟»
لم تردَّ كاثرين عليه لبضع ثوانٍ، لكنها استمرت في التحديق في الخطوط المعقَّدة على الخلفية السوداء مع عبوس يتعمق تدريجيًّا.
فأجابت بعد مرور وقت طويل: «إنها كتابة صغيرة جدًّا وغير واضحة بشكل مخيف.»
قال فيتلوورث: «نعم، كنت أخشى أن يُصبح الأمر كذلك، ولكن هل يُمكنك تفسير أي شيء من، ممم … مغزًى، أو … أو … ما تُشير إليه، في الواقع؟»
ساد الصمت لبرهة؛ ثم صاحت كاثرين، وهي تنظر إليه بشكل مأساوي في عينَيه:
«عزيزي جو، أنا لا أستطيع أن أفهم كلمة واحدة. إنها طلاسم مطلَقة.»
ساد الصمت لفترة أخرى، ثم غمغم فيتلوورث في نهايتها بكلمة «موسى!»
لم يستطيعا الصبر وانتظار التجفيف الطبيعي للأفلام السلبية للصور واحدًا تلو الآخر، لذا غمرا الألواح في خليط الميثيل والإيثيل، وبعد تجفيفها، طبعاها بسرعة على ورق بروميد لامع، ومع وجود المطبوعات أمامهما على طاولة بجانب نافذة المكتب، انكبت كاثرين الحزينة على العمل مستعينة بعدسة الجيب الخاصة بفيتلوورث وبعبوس شديد.
مرت خمس دقائق؛ وتحرك فيتلوورث بهدوء شديد، ولكن بانزعاج وقلق، في أرجاء الغرفة على أطراف أصابعه، مجبرًا نفسه تارة على الجلوس على حافة كرسي، ويجبره حماسه تارة أخرى على النهوض والذهاب على أطراف أصابعه إلى آخر. وبعد فترة طويلة، لم يعد قادرًا على تمالك نفسه، فسأل بصوت خافت: «هل هي معقدة جدًّا يا كاتي؟»
وضعت كاثرين العدسة والتفت نحوه بيأس.
صاحت قائلة: «إنه أمر معقد للغاية يا جو، فأنا ببساطة لا أستطيع تفسير أي شيء منه.»
فقال فيتلوورث: «ربما كُتِبت بنظام ترميز مختلف عن نظام ريتش.»
«أوه، إنها بنظام ريتش بالفعل. أستطيع أن أجزم بأنها كُتِبت بهذا النظام، فقد استطعتُ فك ترميز كلمة «مع» واثنَين من «اﻟ»، أما البقية فتبدو كأنها مجرد خربشة.»
قفز فيتلوورث من الكرسي الذي جلس عليه قرابة عشر ثوانٍ وهو يقول: «أوه، استمري، إن كنت قد استطعتِ أن تُفسري هذا القدر، فيُمكنك تفسير البقية. علينا فقط أن نُنظم عملنا بشكل منهجي. وأفضل طريقة هي وضع علامة على كل كلمة استطعتِ فكَّ ترميزها وكتابتها على قطعة من الورق. هذه هي أفضل طريقة عمل من خلال صورة لا يهم إتلافها.»
قالت كاثرين: «أنا لا أفهم ما تعنيه.»
أجابها قائلًا: «الطريقة التي أقترحها هي كما يلي؛ أولًا نُميز الصور الثلاثَ بالأحرف أ، ب، ﺟ. ثم نُرقم أسطر كلٍّ منها، ونُجهز ثلاث ورقات ونُميزها بنفس الحروف ونرقِّمها بالطريقة نفسها. وبعد ذلك، عندما تقومين بفك ترميز كلمة، فلنقل مثلًا في الصورة أ، سطر ٦، اكتبيها على الورقة أ، في السطر السادس وعلى الجزء المناسب من هذا السطر؛ وهكذا. هل يُمكنني مساعدتك في عمل هذا؟»
وافقته كاثرين وتركته يساعدها؛ لذا، سحب كرسيًّا إلى الطاولة وشرع في إعداد ثلاث ورقات بالطريقة التي اقترحها ووضع علامات تمييز على الصور.
ويبدو أن هناك سرًّا ما في أسلوب العمل الممنهج يُلهم المرء بالثقة؛ إذ أصبحت كاثرين أكثرَ تركيزًا على الفور، وعندما تم وضع الاثنَين «اﻟ» و«مع» في أماكنها المناسبة، شعرت أن هذه هي الانطلاقة الفعلية وعادت إلى مهمتها بروح متجددة.
وسرعان ما أعلنت أنها استطاعت تفسير كلمة «له»، في نهاية السطر ١، في الصفحة ب، والكلمة الأولى في السطر التالي هي كلمة طويلة تنتهي بالمقطع «لة».
اقترح عليها فيتلوورث: «ألا يُمكن أن تكون «جلالة»، حسبما أظن.»
صاحت كاثرين: «نعم، بالطبع هي كذلك، وهناك كلمة تنتهي بالمقطع «ضاء»، وأخرى تنتهي بالمقطع «عة».»
قال فيتلوورث مخمِّنًا: «القاعة البيضاء؟» وبمزيد من الفحص اتضح بالفعل أن الكلمة هي القاعة البيضاء. كان الإجراء التالي هو البحثَ عن تَكرار هذه الكلمات؛ فاكتشفا تَكرار كلمتَي «صاحب الجلالة» ستَّ مرات في المجموع، و«القاعة البيضاء» مرتَين.
قال فيتلوورث: «الآن جربي الكلمات المجاورة لكلمة «صاحب الجلالة»، خذي تلك الموجودة في الصفحة ب؛ لدينا جملة «صاحب الجلالة في القاعة البيضاء». والآن، ماذا يوجد قبل ذلك؟»
«هناك كلمة «أنا»، ثم كلمة «أهجم» أو «أرفق».»
غمغم فيتلوورث: ««أنا أهاجم صاحب الجلالة»، هذا لا يبدو صحيحًا. هل يُمكن أن تكون الكلمة «أَحضَر»؟»
«نعم، أعتقد أنها كذلك، وهكذا يجب أن تكون الكلمة التي تسبقها هي «دعوة». ها نحن نتقدم بشكل رائع. فلنُجرب كلمة «صاحب الجلالة» في الصفحة أ. يبدو أن السطر الخامس يبدأ كما يلي: «بالنسبة إلى» كلمةٍ ما «صاحب الجلالة قد» كلمة ما «الخاصة به» والآن. ما الذي فعله جلالته؟ أوه، فهمت «كتب» (لقد كتب صاحب الجلالة … الخاصة به).»
اقترح فيتلوورث: «التعليمات؟»
«لا، وليست «أمنيات»، وليست … أوه، فهمت، إنها كلمة «أوامر»، والكلمات التالية هي: «في كامل في» كلمة ما «والتي هي» كلمة ما «لي في صندوق» كلمة ما «صغير». والآن، لنرَ ما إذا كان بإمكاننا استكمال هذه الجملة. «بالنسبة إلى» كلمة ما، «فقد كتب صاحب الجلالة الملك الأوامر الخاصة به»؛ إذن، بالنسبة إلى ماذا؟ يبدو أنها كلمة تبدأ بحرف «ت».»
اقترح فيتلوورث: «توفير؟» وعندما هزت كاثرين رأسها نافية؛ اقترح «تمهيد»، وأخيرًا «تصرف».
«لا، إنها ليست «تصرف». إنها «توزيع». «بالنسبة إلى توزيع ملكيتها، فقد كتب صاحب الجلالة الملك الأوامر الخاصة به كاملة في ورقة والتي» كلمة ما «لي في صندوق» كلمة ما «صغير» والذي …»
«أعطاه، أرسله، قدَّمه، أظهره، عرضه …»
««سلمه»، هذه هي الكلمة الصحيحة. «سلمه لي في صندوق» كلمة ما «صغير».»
«خشبي، عاجي، جلدي، فضي …»
صاحت كاثرين مبتهجة: «ذهبي، «صندوق ذهبي صغير»، وتستمر الجملة: «الصندوق المذكور» كلمة ما «ﺑ» كلمة ما «جلالته»، كلمة ما، «وقد أمرني بوضع الصندوق في مكان آمن و» تبدو الكلمة وكأنها «سري». سأقرؤها بسهولة أكبر الآن. دعنا نعُد إلى ذلك «الصندوق». «بختم جلالته» كلمة ما، على ما أعتقد.»
«ختم خاص، ربما.»
«نعم، بالطبع. ثم تقرأ: «الصندوق المذكور مختوم بختم جلالته الخاص، وقد أمرني بوضع الصندوق في مكان آمن وسري.» هذا رائع يا جو. سنتمكَّن من تفسيرها رغم كل شيء، ويُمكنك أن ترى بالفعل أننا على المسار الصحيح.»
«نعم؛ ويُمكننا أن نرى كيف سار هؤلاء السادة الآخرون على المسار الصحيح. ولكن بما أنكِ أصبحتِ أكثر تمكنًا من تفسير الكتابة، ألن يكون من الجيد الآن محاولةُ البدء من البداية والمضي قدمًا؟»
«ربما. ولكن السؤال هو: في أي الورقات توجد البداية؟»
«إن أفضل طريقة لحل هذه العقبة هي كتابة السطر الأول من كل صفحة. ألا تعتقدين ذلك يا كاتي؟»
«نعم، بالطبع؛ وسأبدأ بالورقة «أ». والآن، يبدو أن السطر الأول يُقرَأ: «لقد أمرني أن أحمل» لا، إنها ليست «أحمل»؛ أعتقد أنها «أنقل»، «أنقلها إلى السير» أندرو، على ما أعتقد «السير أندرو هايد».»
عند هذه النقطة، وضعت كاثرين العدسة واستدارت لتُحدق في فيتلوورث بتعبير فضولي للغاية ينم عن الدهشة والحيرة.
قال: «إنه يحمل نفس اسم عائلتك يا كاتي؛ ربما هو أحد أجدادك.»
«نعم يا جو، بالفعل. فقط، في هذه الحالة سيكون «السير أندرياس». وفحصت الورقة مرة أخرى من خلال العدسة لفترة طويلة؛ ثم صاحت مبتهجة: إن الكلمة بالفعل هي «أندرياس». دعنا نرَ كيف يستمر الأمر: «إلى السير أندرياس هايد، ابن عم سيدي كلاريندون» نعم، هذا هو الرجل «الذي سيُودعها في مكان آمن في أحد منازله في كينت». أتساءل عما إذا كان يعني اللوحة!»
قال فيتلوورث: «سنرى الآن، ولكن في الوقت نفسه من الواضح أن هذه ليست الورقة الأولى. ألقِ نظرة على الورقة «ﺟ».»
كاثرين نقلت انتباهها، وكذلك حماستها، إلى الورقة الأخيرة؛ ولكن بعد فحص مطول هزت رأسها.
قالت: «هذه ليست الأولى، لأن السطر الأول يبدأ بالكلمات «قد أنهى العمل». إذن يجب أن تكون الورقة «ب» هي الأولى. دعنا نُجرب ذلك.» ثم أحضرت العدسة لتركز على الكلمات الافتتاحية للورقة «ب»، ولكن بعد فحص قصير صاحت بخيبة أمل.
«أوه يا جو، كم هذا محير! هذه ليست الأولى أيضًا! هناك صفحة مفقودة. سيتعين عليك العودة إلى المكتبة ومعرفة ما إذا كان يُمكنك العثور عليها.»
قال فيتلوورث: «إنها مشكلة إلى حد ما، لكنني أعتقد، يا عزيزتي كاتي، أنه من الأفضل أن نعمل على ما لدينا حيث يجب فك ترميز هذه الورقات على أي حال، وعندئذٍ نُصبح قادرين على تحديد مقدار ما هو مفقود. دعينا نحصل على السطر الأول من الورقة «ب».»
التقطت كاثرين العدسة واستأنفت مهمتها وهي محبطة، وراحت تقرأ محتويات الورقة «ب» ببطء، مع توقفات عديدة لتفسير الكلمات الصعبة.
«… أرسل إليَّ رسول يأمرني بالمثول بين يدَي جلالته في القاعة البيضاء. فذهبت من فوري ووجدت الملك في معرض ماتيد، يتحدث مع جمع متنوع من الضباط والنبلاء. وبعدما قبَّلت يده تحدث إليَّ بصراحة حول شئون القوات البحرية، ولكن بعد فترة قصيرة، دعاني إلى خلوته، حيث فتح الأمر الذي استدعاني من أجله. فعلى ما يبدو أنه قد نما إلى علمه بعض الشائعات عن أن بعض النبلاء والأساقفة — ويظن حتى أن من بينهم رئيس الأساقفة — قد دعَوا أمير أورانج؛ وهو ما أدانه باعتباره عملًا شائنًا ومخزيًا ينم عن الخيانة. والآن، وهو يتذكر المصير التعيس الذي حل بأخيه الملك الراحل ووالدهما الملك، سيتخذ بعض التدابير لتفادي خطر اقتياده إلى المنفى، لا قدر الله. وبعد ذلك تحدث بلطف شديد عن صداقتنا الطويلة، وكان من دواعي سروره أن يذكر بإعزاز خدمتي المخلصة وحكمتي في خدمة البحرية، ثم استرسل إلى الأمر الذي بين أيدينا. فتحدث أولًا عن السير ويليام فيبس الذي أحضر سفينته «جيمس وماري» …»
كانت تلك هي نهاية الورقة «ب»، وبينما أرادت كاثرين بشغف أن تفحص الصفحتَين الأُخريَين اللتَين تم فك ترميزهما بالفعل، ترقرقت عيناها بالدموع.
فصاحت بصوت يائس: «أوه! يا عزيزي جو! يا لها من خيبة أمل مروعة! ألا ترى؟ إن الكلام ليس مسترسلًا في الأوراق على الإطلاق. هذه مجرد أوراق غير متتالية.»
قال فيتلوورث: «بالفعل، يبدو أنها مقتطَعة من سياق ما. ومع ذلك، من الأفضل أن نستمر. وكما تبين أن الورقة «ﺟ» على ما يبدو تُشير إلى اختتام الأمر، أيًّا كان، فيُمكننا أن نأخذ كذلك الورقة «أ» بعدها. حافظي على شجاعتك أيتها الآنسة الصغيرة. ربما أتمكن من العثور على الصفحات المفقودة في المكتبة. أما الآن، ما الذي تحمله لنا الصفحة «أ»؟»
عادت كاثرين مرة أخرى إلى تركيز جهدها على مهمتها، فمسحَت عينَيها كإجراء أوَّلي؛ وببطء ومع العديد من التوقفات من أجل الصراع مع كلمة معقَّدة غيرِ قابلة للتفسير تقريبًا، استطاعت ترجمة الخربشة المعقدة إلى كلمات عادية جيدة ومقروءة.
«… أمرني أن أنقلها إلى السير أندرياس هايد، ابن عم سيدي كلاريندون، الذي من المقرر أن يُودِعَها في مكان آمن في أحد منازله في كينت. أما بالنسبة إلى توزيع ملكيتها، فقد كتب جلالة الملك أوامره بالكامل في ورقة سلمها لي في صندوق ذهبي صغير، والصندوق المذكور مختوم بختم جلالته الخاص، وقد أمرني بحفظ هذا الصندوق في مكان آمن وسري، وألَّا أُخبر أحدًا بهذا الأمر، ولا حتى السير أندرياس نفسه، إلا بعد وفاة صاحب الجلالة وكذلك أمير ويلز «إن أطال الله في عمري كل هذا الوقت» إلا إذا ارتأيت، وفق تقديري، أنه من المستحسن فعلُ ذلك. وأن عليَّ أيضًا أن أقوم ببعض الترتيبات الخاصة بتسليم الورقة المذكورة في حالة وفاتي.
عندما عدت إلى المنزل، فكرت مليًّا في المكان الذي يجب أن أحفظ فيه الصندوق الذهبي، وحاليًّا أُفكر في لوحة بورتريه الملك التي يرسمها السير جودفري الآن والتي يعتزم جلالة الملك منحي إياها، وقد تراءى لي أن الإطار الخشبي الذي ثُبِّت عليه قماش اللوحة يُمكن أن يُصبح مكانًا آمنًا للإخفاء. لم أتوانَ في الذَّهاب إلى السير أندرياس في منزله بمقاطعة لي في كينت، والذي تحدث إليه الملك بالفعل حول الأمر، وتسليمه في يده المذكور …»
إلى هنا انتهت الصفحة، وبعد أن كتبت الكلمة الأخيرة، مرت فترة وجيزة من الصمت التام، ثم انفجرت كاثرين في البكاء.
ربَّت فيتلوورث على يدها مواسيًا. ثم قال بنبرة هادئة: «هدِّئي من روعك، يا عزيزتي كاتي؛ لن نبكي بشأن ذلك، على الرغم من أنه أمر محبط للغاية. لقد قمتِ بعمل رائع؛ ونحن بالفعل نجمع الكثير من المعلومات.»
«ولكن ما الذي أعطاه للسير أندرياس؟ لا يُمكن أن تكون اللوحة؛ لأنه لم يحصل عليها آنذاك.»
«لا، بالقطع لم يحصل عليها. دعينا نُفسِّر الورقة «ﺟ». هذه قطعة قصيرة جدًّا وتشبه إلى حد ما نهاية السجل.»
مرة أخرى، جففت كاثرين عينَيها وأمسكت العدسة بيدها؛ وشرعت ببطء — ولكنه بطء أقلُّ من ذي قبل — في فك الترميز.
«… أتممت المهمة، وقد ساعدني المد، إذ أخذت قاربًا إلى القاعة البيضاء وهناك أبلغت جلالة الملك بما قمت به، لكنني لم أقل شيئًا عن اللوحة، فقد فكرت أن السر سيُصبح في أمان أكثر إن لم أُخبر به أحدًا سوى نفسي.
إنها مهمة ثقيلة وتُقلقني إلى حد ما؛ وفي الواقع، أنا لا أثق في خطة الملك التي تتسم بالكثير من السرية، وتترك الكثير في يد رجل واحد، على الرغم من أن هذا الرجل، كما يعلم الله، صادق النية ويأمُل في خدمة جلالة الملك في كل الأحوال، خاصة في هذا الوقت العصيب. لكنني سأفعل ما أمرني به، وإذا أراد الله أن تفشل هذه المهمة، على الأقل لن يصير ذلك بسبب تقصير من جانبي.»
بعدما كتبت كاثرين الكلمة الأخيرة، أغلقت العدسة وأعادتها إلى فيتلوورث وهي تصيح: «هذه هي! إنها بالتأكيد نهاية السجل ونحن محقُّون فيما ظنناه من قبل حول ما قدمه للسير أندرياس. أما أنت فعليك العودة إلى المكتبة غدًا والبحث عن الأوراق الناقصة.»
رفع فيتلوورث إصبعه محذرًا وهو يقول: «الآن عليك يا كاتي ألا تُصبحي شخصًا صغيرًا غيرَ صبور وغير منطقي. من المرجح للغاية أن الأوراق الناقصة قد اختفت تمامًا؛ لذلك، قبل أن نقضيَ وقتًا ثمينًا في البحث عنها، دعينا نُفكر فيما حصلنا عليه من هذه الأوراق التي بحوزتنا.
أولًا: نعلم أن ضِلع الإطار الخشبي المفقودةَ تحتوي على صندوق ذهبي صغير به وثيقة مهمة. وهذه نقطة رائعة قد توصلنا إليها؛ نقطة رائعة جدًّا يا كاتي؛ لأنه، لو تذكرين، كان مجرد تخمين حول ما إذا كان هناك أي شيء على الإطلاق في الإطار الخشبي؛ إلى أن تمكَّنتِ من فك ترميز هذه الأوراق.
ثم توصلنا إلى أن ببيس قد سلَّم إلى السير أندرياس شيئًا من الواضح أنه ذو قيمة كبيرة. نحن لا نعرف ما هو هذا الشيء، لكننا نعرف مكان إيداعه. على الأقل سنعرف إذا تَمكنَّا من تحديد مكان منازل السير أندرياس في كينت.»
قالت كاثرين: «يُمكنني أن أخبرك بذلك.»
صاح فيتلوورث وهو يُحدق بها مندهشًا: «حقًّا!»
أجابت مزهوَّة: «نعم، يُمكنني إخبارك بكل شيء عنه. يبدو أنك تنسى أنني أنتمي لعائلة هايد. إن السير أندرياس كان كبيرَ فرعنا من العائلة، وأنا أعرف كل شيء عنه. لقد كنا مجرد عائلة من الريفيين العاديين، على عكس أقاربنا العظماء، عائلة كلاريندون وعائلة روشيستر، لكنَّ لدينا سجلاتٍ عائليةً كاملة تمامًا، وقد درستها بالتفصيل. كان للسير أندرياس ثلاثة منازل؛ واحد في مقاطعة لي بالقرب من لندن، وواحد في سنودلاند، بالقرب من ميدستون، ومنزل ثالث، مكان صغير يُسمَّى بارثولوميو جرانج، في جزيرة ثانيت. وقد قُتِل السير أندرياس، الذي كان كاثوليكيًّا، في معركة بوين، ويبدو أن الأسرة قد أصبحت فقيرة إلى حد كبير بعد فترة وجيزة، لأن ابنه، ماثيو هايد، قد باع المنزلَين في لي وسنودلاند وهاجر إلى نيو إنجلاند.»
«وماذا حدث لهذَين المنزلَين؟»
«أعتقد أنهما قد هُدِما وأُعيد بناؤهما. على أي حال، لقد خرجا من العائلة. حسنًا، ظل ماثيو في نيو إنجلاند حتى بداية عهد الملكة آن — عام ١٧٠٣، على ما أعتقد — ثم أبحر عائدًا للوطن في سفينة تجارية تُسمَّى هارفست مون. التي أبحرت من ميناء بوسطن في ديسمبر عام ١٧٠٣، ولم يُسمَع عنها مرة أخرى، ولا بالطبع عن ماثيو هايد؛ إذ غرقا معًا. أما الممتلكات — أي القليل الذي تبقى منها — فقد ذهبَت إلى ابنه روبرت الذي بقي في إنجلترا.»
أخذ فيتلوورث يُفكر في هذه الحقائق صامتًا لبعض الوقت، وهو يعبث شاردًا بالأوراق. ثم تحدث بعد فترة.
«أعتقد أنه يُمكننا تخمين ما حدث. لقد احتفظ ببيس بمستشاره الخاص طوال فترة حكم ويليام الهولندي، ولكن عندما اعتلت آن العرش (بالمناسبة، لقد كانت ابنة آن هايد، وهي من نفس عائلتك) نظر إلى الإرث على أنه محسوم، ولأنه قد أصبح رجلًا عجوزًا، اعتقد أن الوقت قد حان لإبلاغ ماثيو بوجود الوثيقة المخبَّأة في اللوحة والشيء الآخر الذي سلمه إلى عهدة السير أندرياس. وأتخيل أنه أرسل رسولًا إلى ماثيو برسالة مختومة تحتوي على هذه المعلومات، فأبحر ماثيو على الفور إلى إنجلترا وفُقِد في البحر؛ وأنه قبل وصول خبر تحطُّم السفينة إلى هذا البلد، كان ببيس نفسُه قد مات (تُوفِّي في الحادي والعشرين من مايو، عام ١٧٠٤) وهكذا ضاع السر، وهو ما كان صامويل ببيس العجوز الحكيم يخشى حدوثه.»
ذكَّرَته كاثرين قائلة: «لكن السر لم يفقد تمامًا؛ لأنه يبدو أن هذا «الأكاديمي الأمريكي» العبقري يتعقب المسار الصحيح للعثور عليه؛ والسؤال هو كيف لنا أن نسير على نفس المسار؟»
سألها فيتلوورث: «هل تعرفين من يملك المنزل الثالث، بارثولوميو جرانج؟»
أجابت كاثرين: «نعم، أنا أملكه.»
صاح فيتلوورث، وهو يُحدق بها غير مصدق: «حقًّا!»
«نعم. كنت أظن أنك تعرف. إن والدي هو آخر ذكَر من هذا الفرع من العائلة وأنا في الواقع آخرُ وريثة. والمنزل الصغير في ثانيت هو كل ما تبقى من ممتلكات العائلة، وإيجاره هو مصدر دخلي الوحيد إلى جانب عملي في نسخ اللوحات.»
«إذن يُمكنك الدخول إليه؟»
«بالطبع يُمكنني ذلك. ينتهي عقد الإيجار الحاليُّ في العام المقبل، وهو أمر مؤسف؛ لأن الإيجار الذي أحصل عليه سيتوقف بعد ذلك، وسأُضطَرُّ إلى دفع أجر مدبرة المنزل، وهي خادمة قديمة لعائلتنا. لذلك يُمكنني أن أطلب بسهولة إجراءَ مسح للمبنى. ولكن ما الفائدة التي ستعود علينا؟ فليس لدينا دليل على إخفاء «الشيء» الغامض هناك، وحتى لو كان لدينا، فنحن لا نعرف ما هو أو أين هو مخفي.»
«بالفعل يا عزيزتي، هذا صحيح تمامًا. لكنك نسيت أننا نبحث عن ثلاثة رجال يعتقدون على الأرجح (وربما لسببٍ وجيه) أن لديهم دليلًا؛ ومن المؤكد تقريبًا أن الصندوق الذهبي المسروق بحوزتهم. إذا كان بارثولوميو جرانج هو المنزل الوحيد المتبقي في العائلة، فسوف يبحث هؤلاء السادة بلا شك هناك أولًا؛ وإذا لم نكن قد تأخَّرنا، فسنجدهم هناك؛ وإذا لم نتمكَّن من جعلِهم يتخلَّون عن الأمر بطريقة سلمية فسأُبلغ الشرطة كي تُلقِيَ القبض عليهم بتهمة سرقة اللوحة. إذن تذكَّري أن الصندوق الذهبي هو هدفنا المباشر؛ وأن بقية التحقيق يُمكن أن تنتظر.»
سألته كاثرين، بينما تصاعدَ تدفُّقٌ من الإثارة الممتعة إلى خدها: «وماذا تنوي أن تفعل بعد ذلك؟»
«أقترح أن تُرسلي رسالة إلى المستأجر الخاص بك الليلة، وأن نتوجَّه إلى المدينة صباح الغد، ومن هناك ننتقل مباشرة إلى ثانيت. ويُمكننا التحدثُ حول التفاصيل أثناء ذَهابنا.»
حدَّقَت كاثرين في حبيبها بإعجاب، ثم صاحت: «يا لك من ماهر يا جو!»
ضحك فيتلوورث قائلًا: «ربما عليَّ أن أظن كذلك! فلولا معرفتي الخبيرةُ بنظام ترميز ريتش والطريقة الدقيقة التي فككت بها ترميز ذلك …»
صاحت كاثرين: «أوه، استمر، أيها المخادع القديم!» ولم يبدُ عليها أيُّ مشاعرِ رفض للثناء الموجَّه إليها، فاستمر بأسلوب رمزي مرحٍ في ثنائه.
الجزء الرابع
تتمتع جزيرة ثانيت بسحر غريب خاص لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، على الرغم من الجهود الناجحة للغاية التي يبذلها البناة للقضاء عليه. ومنذ عدة سنوات — في وقت هذه الأحداث، على سبيل المثال — قبل ظهور الضواحي القبيحة لتشويهها، ساد المنطقةَ الشمالية الشرقية من الجزيرة جوٌّ لطيف من العُزلة أخفى وراءه قُربَها من مارجيت المزدحمة وبرودستيرز المزدهرة. كانت هذه هي المنطقة التي تدور فيها أحداثُ مهمة مغامِرينا، وبعد أن استيقظا مبكِّرَين مع العصافير وكانا محظوظَين في مسألة مواعيد القطارات، وصلا إليها في وقت مبكر جدًّا من النهار.
صاح فيتلوورث: «آه!» وهو يستنشق هواء البحر بفرحِ مَن هرب من هواء لندن الملوث، بعد أن تركا ضواحيَ مارجيت خلفهم، وشقَّا طريقهما على طول الطريق الواسع بالقرب من حافة الجرف؛ ثم استرسل قائلًا: «لقد كان جدك الفاضل محقًّا في إبقائه على هذا المنزل يا كاتي. فأنا نفسي أتمنى العيش هنا. بالمناسبة، أفترض أن مستأجرة منزلك لن تعترض على أن نُلقِيَ نظرة على المنزل؟»
«ليس بإمكانها الاعتراض؛ وحتى لو كان، فهي لن تفعل. إنها شخص لطيف للغاية، وهي أرملة لها ابنتان. وقد أخبرتها عنك في رسالتي لها، وأننا نُريد أن نرى ما يجب فعله بالمنزل إذا لم يُجدد عقد الإيجار. كما ذكرت لها أنك رسام ومهتم جدًّا بالبيوت العريقة؛ وهو أمر صحيح تمامًا، أليس كذلك؟»
«بالتأكيد يا عزيزتي. لكنني الآن مهتم أكثر بكثير فقط بثلاثة رجال بارعين وصندوق ذهبي صغير.»
قالت كاثرين: «سيكون الأمر مخيِّبًا للآمال جدًّا إذا لم يكونوا هنا بعد كل ذلك.»
«سيكون الأمر مخيِّبًا أكثرَ إذا كانوا قد أتَوا إلى هنا ثم غادروا بالفعل. هذا هو ما أخشاه. لقد بدَءوا بحثهم قبلنا بفترة طويلة.»
«هذا صحيح؛ لكن لم يكن بإمكانهم تفتيشُ المنزل دون موافقة السيدة ماثيوز؛ المستأجرة. لكننا سنعرف قريبًا كل شيء؛ هذا هو المنزل، إنه يقع وسط تلك الأشجار.»
حفزتهما رؤية هدفهما على تسريع خطواتهما. وسرعان ما وصلا إلى جدار مرتفع من الحجر الصوَّان يُحيط بحديقة كثيفة الأشجار، فدارا حوله حتى وصلا إلى بوابة على الجانب المواجه للأرض وليس للبحر. فدخلا من البوابة، وسارا عبر ممر نبتت فيه الأعشاب، إلى أن أصبحا أمام المنزل، وهو مبنًى صغير من الحجر الصوَّان والطوب، مع الجملونات الفلمنكية المنحنية الجذابة التي تُميز هذا الجزء من العالم.
صاح فيتلوورث: «يا له من منزل قديم مبهج!» واستمر في التحديق بإعجاب في المبنى الخلَّاب بزواياه التي نحتها الزمن، فتحولت حدَّتها إلى استدارة خفيفة، كما اكتسَت جدرانه بالطحالب ونباتات الأشنة والمخلدة.
وأضاف، وهو يُلقي نظرة سريعة على لوحة موضوعة فوق الشرفة؛ مدوَّن عليها تاريخ بناء المنزل: «عام ألف وستمائة وواحد وثلاثين، لقد فهمت، إذن فقد كان منزلًا جديدًا تقريبًا عندما امتلكه السير أندرياس.»
ثم قرع الجرس، ففُتِح الباب على الفور تقريبًا من قِبَل خادمة وقور متوسطة العمر، ومن الواضح أنها كانت تتوقع وصولهما، حيث استقبلت كاثرين بترحاب وألقَت نظرة فاحصة على فيتلوورث.
قالت الخادمة: «أنا آسفة يا آنسة كيت، لأن السيدة ماثيوز ليست في المنزل. كان عليها أن تأخذ الفتيات إلى المدينة هذا الصباح، ولن تعود قبل أسبوع أو أكثر؛ لكنها تركت كل المفاتيح من أجلك، وكذلك هذه الرسالة الصغيرة، كما قالت إن عليكِ التصرفَ بحرية وفِعلَ ما يحلو لكِ. وبالمناسبة، هناك ثلاثة من السادة يتفحصون المنزل، لكنهم لن يُشكلوا أي عائق في طريقك.»
وعند سماع الجملة الأخيرة، أضاءت عينا فيتلوورث ببريق عدائي، ونظر إلى كاثرين: «هل تعرفين من هم هؤلاء السادة الثلاثة يا راتشيل، ولماذا يتفحَّصون المنزل؟»
«لقد سمعت السيدة ماثيوز تقول إنهم مهندسون معماريون يا سيدي، أيًّا كان ما يعنيه ذلك. لكنهم مهتمون بالمنزل للغاية. وهم يتفحصون المكان منذ أكثرَ من أسبوع، حيث يرسمون رسومات تخطيطية للغرف والسلالم، ومخطَّطات الأرض، كما ينقرون على الجدران، ويُفتشون المداخن. لم أرَ مثل هذه الإجراءات من قبل. لقد أمضَوا يومَين كاملَين في الأقبية، يرسمون رسومات تخطيطية، رغم أن ما يُمكن رؤيته في قبو من الطوب العادي يدهشني يا سيدي. لقد تفحصوا جميع الجدران وهم ينقرون عليها بمطرقة، وأرادوا حتى أن ينزعوا جزءًا من الأرضية، لكن، بالطبع، أخبرتهم السيدة ماثيوز أنها لا تستطيع السماح بذلك دون إذن مالكة المنزل. ربما ترغبين في مقابلتهم يا آنستي.»
سألتها كاثرين: «هل هم هنا الآن؟»
«أحدهم موجود هنا الآن؛ السيد سيمبسون. إنه في قاعة استقبال المستشار، يرسم رسومات تخطيطية للأعمال الخشبية.»
نظرت كاثرين إلى فيتلوورث الذي قال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نرى السيد سيمبسون.» قادتهم الخادمة عبر ممر طويل إلى جَناح بعيد من المبنى، حيث توقفت عند باب ضخم وأدارت المقبض.
صاحت الخادمة: «عجبًا، لقد أغلق الباب على نفسه من الداخل!» ثم أضافت هامسة وهي تطرق على الباب بقبضة حاسمة: «يا له من وقح!»
لم تُثِر الطرقات أي استجابة، ولم يكن هناك أي صوت إجابة من الداخل حتى عندما تكررت وعزَّزَت القرع بصوت عالٍ باستخدام عصا فيتلوورث. أنصتت راتشيل عبر ثقب المفتاح، لكنها لم تسمع شيئًا، فصاحت بانزعاج:
«حسنًا، أنا متأكدة! إنه أمر غير لائق عندما يجرؤ الغرباء على احتجاز الناس خارج غرفهم.»
قال فيتلوورث: «لكن الشيء الغريب هو أنه لا يبدو أن هناك أيَّ شخص بالداخل. هل يُمكننا الرؤية من خلال أيٍّ من النوافذ؟»
أجابت راتشيل: «أوه، نعم يا سيدي. إن النافذة تُطِل على حديقة المستشار، وهي حديقة صغيرة محاطة بسياج من أشجار السرو. إذا أتيت معي فسوف أُريك إياها؛ على الرغم من أن … بالطبع، الآنسة كيت تعرف الطريق.»
وبينما تبعوا الخادمة إلى الحديقة، سأل فيتلوورث: «لماذا تُسمَّى هذه الغرفة بقاعة استقبال المستشار؟»
أجابت كاثرين: «لقد سُمِّيَت على اسم اللورد المبجَّل كلاريندون، عميد الأسرة، كما تعلم، حيث اعتاد القدوم إلى هنا أحيانًا للراحة والهدوء، وكان يُقيم بهذا الجناح المنفصل عن باقي المنزل والملحق به حديقة خاصة. وها هي الحديقة، وهذه هي نافذة القاعة، ولحسن الحظ ليست مغلقة».
كانت النافذة العتيقة الطراز والمطلية بالرَّصاص مفتوحةً قليلًا؛ لذا تمكنَت راتشيل من الوصول إليها وفتح المزلاج. وبعد أن فتحتها على مصراعَيها، قالت:
«لا يوجد أحد في الغرفة، لكن مزلاج الباب مغلق. لا بد أنه قد خرج من النافذة. يا له من تصرف مثير للدهشة. ولماذا لم يخرج من الباب، أتمنى أن أعرف السبب؟»
اقترح فيتلوورث: «ربما لم يُرِد أن يُعطل أحدٌ عملَه، أرى أن لديه لوحةً كبيرة على حامل. ومع ذلك، سأقفز عبر النافذة وأفتح الباب، بينما تعودان للداخل.»
قفز بسهولة عبر النافذة، وبعد أن فتح مزلاج الباب ألقى نظرة فضولية على ترتيبات سيمبسون الغائب. فعلى حامل اللوحات، كانت هناك لوحة رسم كبيرة مغطاة بورقة ترشيح من نوع واتمان، التي يُوجد عليها محاولة أولية لرسم رف المدفأة المنحوت. وبجوارها طاولة وضع عليها قلمًا أو اثنَين من أقلام الرصاص، وباليت ألوان مائية، وإناءً من الماء، وممحاة، وعددًا من الفرش. إن الرسم — أو ما تم منه — قد صُنِع بخبرة، ولكنه يستغرق، على الأكثر، نصف ساعة من العمل.
وبينما دخلت راتشيل وكاثرين القاعة، سأل فيتلوورث: «كم من الوقت أمضى السيد سيمبسون في هذه الغرفة؟»
«لقد جاء السادة الثلاثة إلى هنا أمس وقاموا برسم بعض الرسومات، لكن السيد سيمبسون أحضر أغراضه هذا الصباح. وقد أتى في حوالي الساعة التاسعة، وعند الساعة الحادية عشرة والنصف أتى إليَّ للحصول على إناء من الماء.»
تأمل فيتلوورث الرسم وهو يُفكر مليًّا.
ثم قال بعد فترة وهو ينظر إلى كاثرين: «حسنًا، أعتقد أنه يُمكننا تدبرُ أمرنا بدون السيد سيمبسون. وبما أننا هنا، يُمكننا أن نبدأ بحثنا بهذه الغرفة. ألا تعتقدين ذلك؟»
وافقته كاثرين. وعندما أوضحت لراتشيل المضيافة أنهما قد تناولا الغداء في القطار، قالت الخادمة:
«إذن سأترككما الآن. إذا كنتما تُريدان أي شيء، فما عليكِ إلا أن تدقِّي الجرس. إنها غرفة عتيقة، ولكنْ بها جرس كهربائي. وإذا كان بإمكاني تقديم اقتراح، فسيكون من الأفضل إغلاق النافذة، كي يتعيَّن على السيد سيمبسون أن يأتيَ من الباب بطريقة مناسبة ولائقة.»
بمجرد رحيلها، نظر فيتلوورث وكاثرين إلى بعضهما البعض بتمعن، بينما صاحت هي: «يا له من أمر غير عادي يا جو. هل تعتقد حقًّا أنه خرج من النافذة؟»
«أشك في ذلك كثيرًا يا كاتي. ولكن، على أي حال، سوف نُنفذ اقتراح الآنسة راتشيل، ونتأكد من أنه لن يعود عبر النافذة؛ وبعد ذلك سنُلقي نظرة فاحصة على القاعة.»
أغلق النافذة وثبَّت مزلاجها، ووقف برهة يتفحص القاعة. كانت عبارة عن جناح صغير، ومؤثثة بخمسة كراسيَّ منحوتة من خشب الجوز، وخزانة من خشب البلوط، ومائدة ثقيلة مع مساند أقدام سميكة وأرجل ضخمة منحوتة على شكل ثمرة البطيخ تنتمي لأسلوب تلك الفترة، كما توجد مدفأة عريضة ذات رف منحوت بأناقة، وتحتوي على باب يبدو أنه لخزانة مدمجة. كانت هذه هي المعالم البناءة الوحيدة التي تَلفت النظر داخل القاعة، باستثناء ألواح التبطين الخشبية، التي امتدت على جميع الجدران.
قال فيتلوورث: «من الواضح أن هناك شيئًا غريبًا في تصرفات السيد سيمبسون، وهو أمر كنَّا نتوقعه، وفقًا لراتشيل، لقد كان في هذه الغرفة من الساعة التاسعة صباحًا حتى الساعة الحادية عشرة والنصف على الأقل. إذن، ماذا كان يفعل؟ لم يكن يرسم. إذا نظرت إلى العمل على لوحته، فستُدركين أن أنت أو أنا كان بإمكاننا رسم ذلك في عشر دقائق. لكن طريقته تُظهر أنه ليس غبيًّا. ثم في الحادية عشرة والنصف، ذهب إلى المطبخ للحصول على إناء من المياه. ما هو الأمر الذي أراد هذه المياهَ من أجله؟ هو لم يكن سيُلوِّن رسمه. لقد بدأ فقط في التخطيط الأوَّلي لرسمه، ورف المدفأة هذا يحتاج إلى العمل طوال يوم كامل للانتهاء من رسمه.»
قالت كاثرين: «نعم، هذا أمر مريب إلى حد ما. يبدو أنه ذهب إلى هناك ليرى ماذا يفعل الخدم.»
«نعم. أو ليتظاهر بأنه يعمل قبل أن يُغلق على نفسه الباب من الداخل. قد يُشير ذلك إلى أنه قد توصل بالفعل إلى اكتشاف. أتساءل، بالمناسبة، ماذا لديه في تلك الحقيبة. هل سيكون من غير اللائق أن أفتحها؟»
وسواءٌ كان الأمر غير لائق أم لا، فقد فعله، وعندما فتح غطاء حقيبة الرسم الكبيرة، التي كانت معلقة بحزامها على ظهر الكرسي، اقتربت كاثرين ونظرت إلى الداخل.
ثم قالت: «إنها أدوات غريبة بالنسبة إلى رسام ألوان مائية.» بينما أخرج فيتلوورث منها حقيبة أدوات جلدية مطوية.
قال فيتلوورث: «غريبة للغاية، إذن هذا هو: ما يصفه تجار الخردوات بأنه طفاشة الأبواب، والسيد سايكس يُسميه عتلة. ولماذا يحمل لفة الحبال هذه؟ إنها حبال رفيعة — ما يُسميه البحارة «حبل تحديد العمق»، على ما أعتقد — لكنها حبال غليظة جدًّا بالنسبة إلى رسام، وهناك الكثير منها. يبدو أن هناك حوالي اثنتَي عشرة ياردة. ولكن دعينا من هذا! إذ لا فائدة من النظر إلى أدواته؛ فنحن نعرف ما الذي يبحث عنه السيد سيمبسون. والسؤال الآن: أين السيد سيمبسون؟»
قالت كاثرين: «أظن أنه لا يُمكن أن يكون في تلك الخزانة؟»
تقدم فيتلوورث وحاول فتحها بالمفتاح الموضوع داخل قفلها. لكنه قال: «إنها مغلقة، وهو بالتأكيد لم يحبس نفسه بداخلها ويترك المفتاح بالخارج. أتساءل عما إذا كان هناك أي شيء يُمكن رؤيته في المدخنة. إن هذه المداخن القديمة العريضة تُعَد أماكنَ مفضلة للاختباء.»
أزاح فيتلوورث من طريقه الشبكة الحديدية القديمة التي تحمي المدفأة من عبث الكلب، وانحنى تحت عتبتها ووقف داخل المدخنة الفسيحة. كان من الواضح أن أنبوبها غير مستقيم، لأنه لم يكن هناك ضوء من الأعلى، ولأن القليل جدًّا من الضوء ينعكس من الأرضية، وكان التجويف في ظلام دامس تقريبًا. فأشعل عود ثقاب، وبمساعدة ضوئه الضعيف، راح يفحص ذلك الجزء من الداخل الذي يقع في نطاق الرؤية. ولكن أثناء فحصه عن كثب، لم يرَ سوى السطح الأسود لطوب المدخنة. ومع ذلك، فكر في أن أماكن الإخفاء لا يصح أن تكون واضحةً للعيان بسهولة، لذا فقد انحنى، كي يصل إلى حامل الحطب المعدني، والتقط قضيب إذكاء النار.
ضحكت كاثرين قائلة: «أنت لن تضربه بهذا القضيب، يا جو، أليس كذلك؟» ثم فتحت الخزانة، ووقفت وهي تُمسك الباب المفتوح بيدها. فطمأنها فيتلوورث حول نواياه، وهو ينحني تحت العتبة ويقف مرة أخرى داخل المدخنة المظلمة. وبعد أن أشعل عود ثقاب آخر، بدأ بشكل منظم في النقر على قطع الطوب، وراح يُقارن بين الأصوات الصادرة عن النقرات المتتالية لقضيب المدفأة، ويُلاحظ المقاومة والشعور بالصلابة. لكن النتيجة لم تكن مشجعة أكثر من نتيجة فحص بالعين؛ إذ أظهرت «المقارنة بين الأصوات» اتساقًا مخيبًا للآمال، وكان الإحساس بالمقاومة المنقولة عبر القضيب هو أنه جدار من الطوب الصلب للغاية.
لقد استمر في الفحص لعدة دقائق، وتركز انتباهه على الكتلة غير المستجيبة من الطوب، وذلك عندما روَّعه صوت باب يُغلَق بعنف. فتوقف وأصغى السمع، وبعد فترة وجيزة، تناهى إلى سمعه صوتُ صرخة مكتومة وقرع على جسم خشبي مجوف. فانحنى على الفور ليستطلع الأمر، وقد أزعج عينَيه الضوءُ الذي لم يعتد عليه خارج المدخنة، وبعد أن نظر في المكان أطلق صرخة دهشة.
إذ وجد القاعة خالية.
قفز عبر المدفأة، وعندما وضع قدمه على أرضية القاعة تكررت الصرخة المكتومة بصوت مألوف، واستطاع تمييز كلمة «جو!» بينما استمر القرع على الجسم الخشبي، الذي اتضح أنه الخِزانة؛ حيث كانت هي مصدر انبعاث الصوت. فتقدم نحوها وأمسك بالمفتاح وسحبه بقوة، لكن الباب لم يُفتَح. أدار فيتلوورث المفتاح داخل القفل، فانفتح الباب، وخرجت كاثرين وهي تضحك من قلبها، بدون أدنى اضطراب.
صاحت قائلة: «أوه يا عزيزي جو! هذا الباب الحقير أصابني بالخوف. أعتقد أنه ممسوس بشيطان. بدا لي أنه أوقعني في فخ بذكاء وحقد مقصود.»
قال فيتلوورث: «أخبريني بما حدث بالضبط، كيف دخلتِ هناك؟»
«لقد خطوتُ على قدمي ودخلت الخزانة، بالطبع، أيها السخيف. اسمع، أثناء قيامك بالتفتيش في المدخنة، وقفت هنا والباب مفتوح، أنظر إلى كل تلك الأشياء المبعثرة على الرفوف. ثم لمحت عيني تلك الجرة القديمة الرائعة على الرف العلوي، فخطوت داخل الخزانة لأُنزِلها من على الرف؛ ولكن ما إن خطوت داخلها حتى ارتد ذلك الباب البائس، وانغلق القفل الحقير، ووجدت نفسي مثل فأر في المصيدة. إنها رحمة من الله أنك كنت قريبًا كي تسمع استغاثتي.»
«نعم إنها كذلك بالفعل. ولكن الآن بعد أن أخرجتك، أعتقد أننا سنُلقي نظرة جيدة على هذا الفخ. إنه ترتيب غريب لخزانة. فبها قفل زنبركي، ولاحظي أيضًا أن المفصلات النُّحاسية القوية ذات نمط منحرف لجعل الباب يُغلق ذاتيًّا. ولا أرى أي سبب وجيه لذلك.»
«بالفعل، وهذا ما كنت أُفكر فيه عندما كنت بالداخل. فمن المفترض إبقاء الناس خارج الخزانة، وليس حبسهم داخلها.»
«بالضبط. لذا سنُحافظ على هذا الباب مفتوحًا وندعمه بواسطة كرسي، ثم نفحص هذه الخزانة المتفردة بدقة.»
فتح فيتلوورث الباب على مصراعَيه، وبعد أن ثبته في هذا الوضع بواسطة كرسي ذي مسند، بدأ في الفحص، وأخذ الباب نفسه كأول عنصر. بعد أن جرب القفل وفحص الجزء الخارجي، مرر عينَيه بدقة على السطح الداخلي، ثم اكتشف شيئًا. إذ وجد بالقرب من قمة الباب رقعة صغيرة مربعة من الخشب تخضع للضغط، وعند الضغط ينزلق مسمار القفل للخلف وينفتح الباب من الداخل.
صاح فيتلوورث: «ها! أرأيت يا كاتي، أستطيع أن أكتشف الحيل الماكرة. هل ترين؟ إنه مفتاح داخلي. والآن السؤال هو؛ لماذا صُنِعت هذه الحيلة؟»
«عجبًا، من الواضح أنها لتمكين الشخص الذي قد يُحبَس بالداخل من السماح لنفسه بالخروج. إنه مكان للاختباء يا جو. ألا ترى؟ الهارب الذي تمت ملاحقته عن كثب يُمكن أن يخطو داخل الخزانة فينغلق الباب خلفه. ثم يأتي المطاردون ويسحبون المفتاح، ويقولون، كما فعلت أنت، إن الرجل لا يستطيع أن يحبس نفسه داخل الخزانة ويترك المفتاح بالخارج. ثم يذهبون بعيدًا.»
ابتسم فيتلوورث وهز رأسه، ثم قال: «إنه استنتاج جيد يا فتاتي العزيزة، ولكن افترضي أن من بين المطاردين مَن لديه الفضول، مثل كاتي، لإدارة المفتاح وفتح الباب؟ عندها لن يُفلِح الاختباء. لا يا عزيزتي، أعتقد أنه من المؤكد عمليًّا أن هناك مخرجًا سريًّا من هذه الخِزانة. لأنه في هذه الحالة سيفتح المطارد الفضولي الباب ليجد الخزانة فارغة، وعندئذٍ سيكون المفتاح الخارجي مقنعًا للغاية. دعينا نتحرَّ الأمر.»
خطا فيتلوورث داخل الخزانة التي يبلغ عمقها حوالي أربعة أقدام والتي كان ظهرها مشغولًا بخمسة رفوف ضخمة ولكنها ضيقة إلى حد ما، ونظر حوله بفضول. كانت الأجزاء الداخلية بالكامل — الجوانب والأرضية والسقف — مبطنة بألواح من خشب البلوط الصلب، وعلى الرفوف وُضِعت أشياء متنوعة، بدا من مظهرها أنها قد تراكمت ببطء على مدى سنوات. وقد وجَّه فيتلوورث انتباهه بشكل خاص إلى هذه الرفوف، ومثله فعلت كاثرين.
قال فيتلوورث: «لاحظي معي أن جميع الرفوف ممتلئة بشكل أو بآخر بما يُمكن أن تُسميه «فوضى»، باستثناء الرف الثاني من الأعلى، الذي تم تنظيفه بشكل واضح، ومنذ فترة قريبة أيضًا، وهو ما يتضح من آثار الغبار. كما أن اللوح الخلفي به مساحة فارغة خلفه.»
ولإثبات ذلك، أعطى ضربة أو اثنتَين من الضربات الصاخبة على الظهر الأجوف؛ ولكن عند الضربة الثالثة توقف واستدار بحماس إلى كاثرين.
«لقد ضربناها — حرفيًّا — يا كيت. هل ترَين؟ لقد بدأ هذا اللوح في الاستجابة. إنه باب مفصلي، تم إخفاء مفصلاته بواسطة الرفوف. سنعثر قريبًا على السيد سيمبسون.»
عندما مدت كاثرين رأسها للأمام لتتفحص الخِزانة، أعطى فيتلوورث دفعة قوية على اللوح المتحرك، مما دفعه للخلف عدة بوصات. وعلى الفور، تبع ذلك صوت عالٍ وهديرٌ مُدوٍّ، وبدأت الخزانة بأكملها في الهبوط بسرعة. فتشبث فيتلوورث بالرف في هلع ليُحافظ على توازنه، بينما أطلقت كاثرين صيحة انزعاج، وانحنَت على حافة بئر المصعد وهي تنظر إلى أسفل كما لو كانت متحجرة، نحو رفيقها المتلاشي.
استمرت الخزانة في الهبوط لحوالي عشر أقدام. ثم توقفت، وفي نفس اللحظة، سقط القاع لأسفل، وهو يتأرجح مثل باب مصيدة على مفصلات غير مرئية. وقد كان من الجيد لفيتلوورث أنه احتفظ بقبضته على الرف، وإلا كان سينحدر إلى أسفل البئر المظلم الممتد من تحته، الذي لا يُمكن تقدير عمقه. وهكذا، فقد كاد أن يُفلت قبضته غير الآمنة، وهو الآن معلَّق من يدَيه، بينما تركل قدماه الهواء؛ وهي وضعية مستحيلة لأكثرَ من دقيقة واحدة، وقد أدرك ذلك في الحال بسبب إجهاد أصابعه. ومع ذلك، بعد بعض التحسس الحذر بقدم واحدة، تمكن من العثور على الرف السفلي، وعندما ثبَّت قدمَيه بشكل آمن على هذا الرف، خفف الضغط على يدَيه وتمكن من تفحُّص المكان. ومِن ثَم نظر إلى الأعلى، ورأى أن النصف الخلفي فقط من سقف الخزانة قد هبط، بحيث كان هناك مسافةُ قدمَين فوقه، يُمكن من خلالها أن يرى وجه كاثرين المنزعج وهي تمد عنقها نحو حافة البئر كي تراه.
صاحت كاثرين بصوت مرعوب: «ماذا أفعل كي أُساعدك يا جو؟»
أجابها: «أحضري حبل سيمبسون من حقيبته وارمي أحدَ طرفَيه نحوي واربِطي الطرف الآخر بإحكام في ساق المائدة.»
اختفى وجهها، وبينما جاءه صوت الحركة المتسرعة من الأعلى، نظر فيتلوورث من فوق كتفه على جانب البئر الذي كان مرئيًّا له؛ والذي يُمثل السطح الأملس للحجر الجيري الذي حُفِرت البئر فيه، وفي منتصفها فجوة غير عميقة مزودة بحلقات حديدية ضخمة، تُشكِّل سلمًا ثابتًا، والذي يبدو أنه يُتيح الوصول إلى قاع البئر. فنظر بتمعن إلى تلك الدرجات الصلبة الصدئة، وفكر فيما إذا كان بإمكانه الوصول إليها والإمساك بها، لكن قبضته كانت غير آمنة للسماح له بفعل ذلك مع وجود تلك الحفرة المظلمة الرهيبة، ذات العمق المجهول، الممتدة تحته. لم يكن هناك شيء ليفعله سوى التمسك بالرف، رغم أن أصابعه تُؤلمه بسبب التوتر وبدأت عضلاته ترتجف مع الإجهاد المستمر. حدَّق في الفتحة الضيقة، واستمع بفارغ الصبر للأصوات من الأعلى التي تُخبره عن جهود كاثرين السريعة لإنقاذه؛ وبينما كان يستمع، جاء إلى أذنَيه صوت آخر — من أسفل — صوت مقبور أجوف يتردد صداه بغرابة من جوانب البئر.
قال صاحب الصوت: «أهذا أنت يا وارن؟»
أجابه فيتلوورث: «حسنًا، سننزل إليك عما قليل. هل أنت مصاب؟»
«أجل، لقد انكسر كاحلي، على ما أعتقد. لكن لا تستعجل. كن حذرًا وأنت تهبط.»
كان فيتلوورث على وشك الرد، عندما ظهر وجه كاثرين مرة أخرى عند الفتحة بالأعلى وهي تقول: «هذا هو الحبل يا جو، لقد ربطته بقوة بساق المائدة، وسأُمسك به أيضًا. هيا التقطه.»
وبينما كان الحبل ينحدر عبر البئر أحدث الجزء المعدني المربوط في طرفه جلجلة صاخبة، وراحت كاثرين تُؤرجحه ببراعة تجاه فيتلوورث الذي أمسكه بيد واحدة، وحمَّل عليه قدر استطاعته على أمل أن ترتفع الخزانة، التي تخففت جزئيًّا من وزنه. لكن القوة التي يُمكن أن يبذلها بيد واحدة لم تكن كافية لذلك. وحاول السحب قدر استطاعته، لكن الخزانة بقيت ثابتة.
بعد أن اكتشف أن الأمر سيظل كذلك، وأن الجهود المتكررة كانت فقط تستنفد قواه، قرر المخاطرة بإمساك الحبل بكلتا يدَيه؛ ولكن في اللحظة التي أفلت فيها قبضته من الرف العلوي، تأرجح مباشرة فوق البئر، وبدأت قدماه بالانزلاق من الرف السفلي. وفي لحظة أخرى كان سيتدلَّى بحرية فوق الهوة العميقة، إلا إذا انقطع الحبل الرفيع؛ لكن الآن، وبينما هو يتأرجح بالقرب من السلم، تشبث بيد واحدة في إحدى الدرجات الحديدية. وبعد أن أحكم قبضته عليها، أصبح قادرًا، دون صعوبة، على القفز إلى السلم، وعندما سحب قدمَيه من فوق الرف أخيرًا، بدأت الخزانة في الصعود محدثة ضجة عالية.
وقف فيتلوورث على السلم ناظرًا إلى الخزانة المتراجعة وإلى وجه كاثرين القلق، ومتسائلًا عما سيحدث بعد ذلك. وسرعان ما اقتنع فضوله. عندما اقتربت الخزانة من قمة البئر، بدأت أرضيتها في الارتفاع، وكانت ستُغلَق تمامًا لولا الحبلُ الذي انحشر فيها، تاركًا شقًّا ضيقًا خرج من خلاله بصيصٌ من الضوء. لقد كان مأزقًا حرجًا، ولم يكن فيتلوورث يعلم ماذا يجب عليه أن يفعل؛ ولكن، بينما هو يفكر، جاءه صوت كاثرين من خلال الشق.
«هل أنت بخير يا جو؟»
«نعم.»
فأضافت: «إن من الأفضل لك النزولَ إلى مسافة أعمق، وأن تبتعد عن طريق الخزانة؛ إذ إنها تهبط مرة أخرى.»
نزل فيتلوورث بسرعة لبضع درجات على السلم الحديدي لتجنب اصطدام الخزانة برأسه ثم توقف متسائلًا كيف قررت كاثرين إرسال الخزانة لأسفل مجددًا. وقبل أن يصل إلى أي استنتاج، سحبت هي الحبل بمهارة، وراحت الخزانة تُصدر صوتًا صاخبًا بينما تهبط لأسفل، ولكن بشكل أبطأ هذه المرة، كما لو كانت قد فحصت بطريقة ما. وعندما هبطت لمسافة بضع أقدام، بدأت الأرضية في السقوط بسبب عدم رفعها بما يكفي لتصل إلى مزلاجها؛ بسبب الحبل غالبًا. فنظر فيتلوورث إلى الأعلى واندهش لرؤيته كاثرين وهي تتشبث بالداخل. ثم وصلت الخزانة إلى قاع مسارها واستقرت، فصعد السلم حتى أصبح في مواجهة الخزانة ثم التفت بقلق. لكن وضع كاثرين كان أكثر أمانًا مقارنة بما حدث له؛ لأنها كانت تُمسك بإحدى يدَيها مشجبًا نُحاسيًّا ضخمًا مثبتًا على جانب الخزانة، بينما تُمسك بالأخرى الحبل الذي مررته حول خُطَّاف قوي مثبت بالقرب من الأرضية — على ما يبدو لهذا الغرض بالذات — ثم حول المشجب؛ وهكذا تمكنت بسهولة من التحكم في هبوط الخِزانة. على أي حال، لم يكن فيتلوورث قادرًا على رؤية هذه الترتيبات وسط الضوء الخافت الذي ساد البئر، ومع تذكر الصعوبات التي واجهها، نظر إلى كاثرين ببعض الذعر.
ثم سألها: «إني أتعجب، كيف سنتمكن من إرجاعك إلى الأعلى مرة أخرى يا كاتي؟»
أجابته: «عجبًا، كل ما عليك هو فقط أن تصعد على السلم وتسحب الحبل. لقد قمت بتثبيته بقوة في هذا الخطاف.»
صعد فيتلوورث بضع درجات ببطء وسحب الحبل بحذر، فتحركَت الخزانة لمسافة بوصة أو اثنتَين إلى أعلى، ومِن ثَم بدأ في الصعود سريعًا على السلم. وبينما هو يشق طريقه للأعلى نحو القاعة، سمع صدى صوت أجوف يأتي من الأسفل ويتردد مستعطفًا.
«لا تتأخر في جلب المساعدة لي يا وارين.»
صاحت كاثرين: «يا إلهي! إني أتعجب، صوت من هذا؟»
قال فيتلوورث: «صه! هذا هو صاحبنا سيمبسون.» ثم رفع صوته وصاح: «سننزل إليك بأسرع ما يُمكن.» واستمر في صعوده إلى أعلى السلم.
وبمجرد أن وصل إلى الأرضية الصلبة للقاعة، أمسك بالحبل وبدأ في سحبه بحذر؛ ومع ازدياد الشد، بدأت السلسلة البرونزية الكبيرة التي تتعلق بها الخزانة تلف على عجلة البكرة وهي تُجلجِل. وفي بضع ثوانٍ ظهرت الخزانة نفسها في الفتحة؛ وعندما أصبحت أرضية الخزانة عند نفس مستوى أرضية القاعة توقفت، وأعلنت طقطقةٌ مزدوجة أن المزلاجَين — الأول الذي يدعم الخزانة نفسَها والآخر الذي يُثبت أرضيتها — قد انزلقا داخل محبسَيهما. وعندئذٍ اختبرَت كاثرين ثباتَ الأرضية بحذر شديد، ثم تخلت عن المشجب وخرجت إلى القاعة.
قال فيتلوورث وهو يُساعدها في الخروج: «حسنًا، أنا فخور بكِ يا كاتي. لقد قمتِ بمجازفة بُطولية للغاية عندما هبطتِ لتُنقذيني على هذا النحو؛ وقد تمكنتِ من ذلك بمهارة. لقد اكتسبت مهارات متميزة من الإبحار مع والدك على متن اليخت الخاص به.»
تلقت كاثرين هذا الثناء برضا هادئ، لكن من الواضح أن عقلها كان منشغلًا بالصوت الغامض الذي كان يستجديهما من داخل البئر العميقة، حيث سألت بقلق:
«كيف سننتشل هذا المسكين من الأسفل يا جو؟»
أجاب فيتلوورث: «سنُفكر في طريقة ما سريعًا، وفي غضون ذلك، سنُعيد الحبل إلى مكانه ونُرتب كل شيء كما كان بينما نتباحث الأمور.»
أصرَّت كاثرين قائلة: «لكن لا يُمكننا تركُ ذلك البائس هناك في تلك الحفرة الرهيبة. ألا يُمكننا انتشاله الآن؟»
«أعتقد أنه سيُضطَر إلى البقاء هناك حتى نُقرر ما يجب القيام به. إذ سنحتاج لبعض الأجهزة الإضافية، وربما بعض المساعدة. لكن اسمعي!»
لف الحبل بسرعة وأعاده إلى حقيبة سيمبسون، عندما انفتح الباب وعادت راتشيل إلى الظهور.
قالت راتشيل: «من فضلك يا سيدتي، لقد أتى السيد فيرس والسيد تانر، للبحث عن السيد سيمبسون. فأخبرتهم بما حدث، وأنك قد وصلتِ إلى هنا. هل تودين مقابلتهم يا سيدتي؟ إنهم قلقون للغاية على السيد سيمبسون.»
وبمجرد أن أكملَت حديثها، سُمِعت خُطًى في الممر ودخل الرجلان دون انتظار الإذن بدخولهما، حيث قدَّمتهما راتشيل، بحدة نوعًا ما، ثم غادرت القاعة. نظر فيتلوورث إلى الغريبَين بفضول ولم يجد صعوبة في التعرف عليهما إذ كان أحدهما هو من تنكَّر في شخصية عازف الأوبوا، والآخر في شخصية الناسخ بالألوان المائية على التوالي، بينما كان من الواضح أن أيًّا منهما لم يتعرف على فيتلوورث. كان كلٌّ منهما في حالة تعصب شديد، وخاصة الموسيقي، الذي بدأ بمخاطبة فيتلوورث.
«هذا أمر مثير جدًّا للقلق والحيرة يا سيدي. إذ يبدو أن صديقنا سيمبسون قد تلاشى تمامًا.»
أجاب فيتلوورث: «نعم، والأمر الأكثر إثارة للدهشة، الذي لا أستطيع تخيله هو لماذا خرج من النافذة.»
سأله الموسيقي: «هل أنت متأكد تمامًا من أنه فعل ذلك؟»
أجابه فيتلوورث: «حسنًا، إنه ليس هنا، كما ترى، ولم يكن بإمكانه الخروجُ من الباب بعد أن أغلقه من الداخل، لذلك لا بد أنه غادر القاعة عبر النافذة، إلا إذا كان قد صعد عبر المدخنة».
وهنا تلقى فيتلوورث نظرة عاتبة من كاثرين، بينما واصل الموسيقيُّ، الذي تم تقديمه على أنه السيد فيرس، حديثه مرة أخرى: «لا يسَعُني إلا التفكيرُ في أنه يجب أن يكون في مكان ما في المبنى. هل تُمانع لو بحثنا عنه؟»
فكر فيتلوورث للحظة وفي النهاية قرر أن يُغامر ويغتنم الفرصة، فقال: «أعتقد، ربما، قد تكون على حق يا سيد وارين …»
حدَّق الرجلان وقد فُوجِئا بشكل واضح، فقاطعه الموسيقي: «اسمي فيرس يا سيدي.»
قال فيتلوورث: «حسنًا، سيد فيرس، إذن أعتقد أنه من الأفضل أن يكون لدينا تفسير، إذ إن أنشطتنا تتداخل إلى حد ما. وأنا أتصرف بالنيابة عن الآنسة هايد، مالكة هذا المنزل.»
سأله السيد فيرس: «ولكن ما علاقة ذلك بنا؟»
«أعتقد أنك ستفهم عندما أشرح لك عملي، الذي يرتبط بممتلكات معينة للآنسة هايد، وهي على وجه التحديد، صندوق ذهبي صغير، يحتوي على وثائق معينة، ذات صلة ببعض ممتلكاتها الأخرى.»
لبضع ثوانٍ، حدَّق الرجلان في فيتلوورث بدهشة صامتة؛ ثم سأل فيرس بتردد: «ولكن ما علاقة هذا بنا؟»
قال فيتلوورث بنفاد صبر: «أوه، دعك من المراوغة يا سيدي، لا فائدة من مواصلة هذا التظاهر. نحن نعلم أنك أخذت الصندوق وأنه بحوزتك في هذه اللحظة.»
نظر الرجلان، اللذان بدا عليهما الذهول التام، إلى بعضهما البعض بسرعة، وسأل فيرس: «هل أفهم من كلامك أن هذا الصندوق، الذي تتحدث عنه، هو ملك لهذه السيدة؟»
أجاب فيتلوورث: «بلا أدنى شك، إن هذه هي الآنسة كاثرين هايد، الوريثة الوحيدة الباقية على قيد الحياة من نسل السير أندرياس هايد، والتي أعتقد أن اسمها مألوف لديك.»
صاح السيد فيرس: «لا تقل هذا! لم يكن لدي أيُّ معلومات عن وجود أحفاد على قيد الحياة. ربما تسمحون لي وصديقي بالتشاور معًا بشأن هذه المسألة.»
كان فيتلوورث مستعدًّا تمامًا للموافقة على ذلك، لكنه لم يكن ينوي تركهما وحدهما في القاعة. لذا، اقترح عليهما حديقة المستشار كمكان منعزل حيث يُمكنهما التحدث بشكل مريح، وشرع في إخراجهما من الباب الجانبي. وعند عودته إلى القاعة، وجد كاثرين وقد فتحت باب الخزانة، ووقفَت تستمع باهتمام لأي أصوات قد تأتي عبر الأرضية.
ثم صاحت: «يا لك من بائس متحجر المشاعر يا جو! كيف تجلس هناك بهدوء لتُناقش أمر ذلك الصندوق التافه، في حين أن السيد سيمبسون المسكين ربما يموت في قاع ذتلك البئر الرهيبة.»
احتجَّ فيتلوورث قائلًا: «عزيزتي كيت، نحن لم نضعه هناك. سوف يُنتشَل في أسرع وقت ممكن، ولكن، في الوقت نفسه، يُعَد هذا مساعدة قيِّمة لتدعيم مفاوضاتنا.»
صُدِمت كاثرين من قسوته وحثته على إنقاذ الرجل على الفور، لكن فيتلوورث لم يتأثر بعتابها، وراح يُراقب الرجلَين من خلال النافذة بهدوء، بينما كانا يسيران على عشب الحديقة الصغيرة، إذ كان من الواضح أنهما قد انخرطا في نقاش قلق. كانت المناقشة، مع ذلك، قصيرة إلى حد ما، حيث استدارا في غضون دقيقتَين تقريبًا، وقد بدا عليهما أنهما قد حسما أمرهما، ثم سارا بسرعة نحو الباب الجانبي.
قال فيتلوورث حين غابا عن ناظرَيه، ثم سمع الباب الجانبي يُفتَح: «لم يُمضيا وقتًا طويلًا، أتساءل ما الذي قررا القيام به؟ لا يُمكنهم الآن على الإطلاق إنكار أنهما قد حصلا على الصندوق.»
كان فيتلوورث على حق. إذ بمجرد أن دخل الرجلان إلى القاعة، بدأ السيد فيرس مناقشة الأمر بطريقة صريحة وعملية.
حيث قال: «نود منك أن تُخبرنا يا سيدي، بما تعرفه بالضبط عن هذا الأمر، وماذا تُريد منا أن نفعل.»
قال فيتلوورث: «بالنسبة إلى ما نعرفه، أقول إننا نعرف كل شيء. فقد حصلتم على الصندوق، المختوم بختم الملك جيمس الذي يحتوي على وثيقة مهمة، بمهارة شديدة — يجب أن أعترف لكم بذلك — من المعرض الوطني قبل سبعة عشر يومًا، وقد أتيتم إلى هنا للبحث عن الملكية التي أُودِعت لدى السير أندرياس هايد. وبالنسبة إلى ما نُريد، فنحن ببساطة نرغب في إعادة الصندوق إلى مالكته.»
جلس السيد فيرس على كرسي كبير ذي مسند وقد لامست أطراف أصابعه بعضها بعضًا، ووجَّه انتباهه نحو فيتلوورث.
ثم قال: «الآن، انتبه لما أقول، إن هذا الصندوق لم يكن أبدًا في حوزة الآنسة هايد، وأعتقد أن لا أحد كان يعلم بوجوده، أو بوجود الملكية الأخرى التي ذكرتَها أنت؛ والتي أظن أنك لا تعرف، حتى هذه اللحظة، ما هي هذه الملكية وأين أُخفِيَت.»
قال فيتلوورث بسفسطة نوعًا ما: «أنت مخطئ في ظنك؛ فنحن نعرف بالتحديد أين أُخفِيَت، بل أكثر مما تعرف أنت حسبما أعتقد؛ لكن بالتأكيد، كل هذا غير ذي صلة بجوهر الموضوع. فالملكية تخص الآنسة هايد وهذا هو جوهر الموضوع. وأنت لا تُشكِّك في لقبها، أليس كذلك؟»
«لا يا سيدي، نحن لا نفعل. وكي أكون صريحًا معك تمامًا، فإن موقفنا هو: لقد اكتشفنا أثر هذه الملكية بالصدفة، وقد تكوَّن لدينا انطباعٌ أنها بدون مالك، لذا بذلنا كل جهودنا للعثور عليها، ويُمكنني أن أُخبرك بأننا قد أنفقنا الكثير من الوقت والمال والمشقة في سبيل تحديد مكانها. والآن، اتضح أن هذا ليس كنزًا مجهولَ الملكية على الإطلاق؛ وأن هناك مالكًا شرعيًّا على قيد الحياة؛ وقد ناقشت الأمر مع صديقي تانر، وقررنا أننا، شخصيًّا، مستعدان للتنازل عن مطالبتنا بشروط معينة، لكن بالطبع لا يُمكننا اتخاذ قرار فيما يخص السيد سيمبسون، ولا يُمكننا التصرف دون موافقته.»
سأله فيتلوورث: «وما هي شروطك؟»
«يجب أن نستردَّ ما أنفقنا، كما نريد إذنًا للبحث عن صديقنا في هذا المبنى.»
قال فيتلوورث: «إنها شروط منطقية، وفيما يخص ممتلكات السير أندرياس، فأنا على استعداد للموافقة؛ لكن يجب أن أشترط أن تُسلِّمنا الصندوق ومحتوياته على الفور. أظن أنها معك على الأرجح.»
قال فيرس: «لا، ليست معنا، بإمكاننا أن نُحضرها، ولكن، أولًا وقبل كل شيء، نُريد البحث عن سيمبسون. إن أمر العثور عليه عاجل وضروري، لأن الاحتمال الأقرب هو أنه قد حُبِس في غرفة سرية مزعجة ولا يُمكنه الخروج.»
قال فيتلوورث: «أنت محق تمامًا، وأنا أعرف مكانه بالتحديد، وسأعقد معك صفقة تبادلية. أنت تُحضر الصندوق ومحتوياته، وأنا أُحضر السيد سيمبسون.»
سأله فيرس: «وإذا افترضنا أننا غير موافقين؟»
«عندها أخشى أننا سنُضطر إلى الاحتفاظ بالسيد سيمبسون كضمان.»
تجعَّد الوجه الطويل المضحك للسيد فيرس بابتسامة قاتمة، وهو ينظر باستفسار إلى رفيقه.
وهو يسأله: «ما رأيك في ذلك؟»
رفع السيد تانر حاجبَيه وقال: «يبدو لي يا وارين، أن هذا السيد قد وضعنا في موقف حرج. وأظن أنه يجب علينا الموافقة.»
نهض السيد فيرس ونظر إلى ساعته.
ثم قال: «سوف يستغرق الأمر منا أكثر من ساعة لإحضار هذا الصندوق. فماذا ستفعل إذا عدنا إلى هنا بعد ساعة ونصف؟»
قال فيتلوورث: «عندئذٍ، أعتقد أنه يُمكننا أن نعد بأنك ستجد السيد سيمبسون هنا عند عودتك.»
بعد الاتفاق على هذه الصفقة التبادلية، غادر السيدان، حيث اصطحبهما فيتلوورث وكاثرين إلى الباب الأمامي.
وبعد أن اختفيا في الطريق، التفت فيتلوورث إلى كاثرين:
«والآن يا عزيزتي، إلى أعمال الإنقاذ. أعتقد أنه سيتعيَّن علينا أن نثق في راتشيل؛ لأننا نحتاج إلى مساعدتها.»
وفي الواقع، كانت راشيل كامنة في الخلفية، بعد أن اشتمَّت نوعًا من الغموض، فأخبرها فيتلوورث على الفور عن الظروف التي كان من الضروري لها أن تعرفها؛ حيث شعرت بسعادة غامرة وامتنانٍ شديد.
قالت: «وهكذا، الآن، هذه عاقبة التطفل والعبث في منازل الآخرين. لكن كيف ستنتشله يا سيدي؟»
قال فيتلوورث: «يجب أن يتم سحبُه برافعة، على ما أعتقد، هل لديك هنا حبل متين وطويل؟»
لقد طرح السؤال وهو ليس لديه أي أمل في وجود الحبل، فالحبل المتين ليس من الأدوات المنزلية الشائعة؛ لكن راتشيل أجابت على الفور: «هناك حبل جيد يا سيدي، إذا أمكنك إزالته من الرافعة.»
قال فيتلوورث: «أعتقد أننا سنتمكَّن من ذلك، ومِن ثَم نُريد بعض الأوزان، نحو قنطارَين إجمالًا.»
مثَّل هذا الأمر صعوبة أكبر، إلى أن جاءت إلى كاثرين الفكرة المضيئة المتمثلة في ملء كيسَين من الأكياس الصغيرة بالتراب، وهكذا حلَّت المشكلة تمامًا.
في غضون بضع دقائق، جمعوا هذه الأدوات مع مصباح، وحملوها إلى قاعة المستشار، ثم أغلقوا الباب، وشرعوا في العمل على الفور. أولًا، فتح باب الخزانة بشكل دائم حيث دُعِّم بواسطة كرسي؛ ثم وضع فيتلوورث كيسَين صغيرَين، لكنهما ثقيلان وممتلئان بالتراب على الرف السفلي، وهكذا أصبحت الخزانة فيها ثقل الآن، فوضع سن عصا المشي الخاصة به على اللوح المتحرك في الخلف، ثم دفع دفعة قوية. وعلى الفور تصاعد الصوت المجلجل وهبطت الخزانة في البئر، مثل المصعد البدائي، ومع نزول السلسلة البرونزية الضخمة بكامل طولها، ارتفع ثقل التوازن الحجري الضخم على الجانب. وكما حدث في المرة الأولى، توقفت الخزانة على عمق عشرة أقدام، وسقطت أرضيتها مثل فخ المشنقة. كان الإجراء التالي هو إضاءة المصباح وربطه في أحد طرفَيِ الحبل — وتثبيت الطرف الآخر، كما حدث من قبل، بربطه في ساق المائدة — حيث أنزله فيتلوورث بعناية داخل البئر حتى عمق حوالي خمس وعشرين قدمًا. وبعد ذلك، ونظرًا لأن ضوءه ما زال لا يُظهر شيئًا سوى جدران البئر، وكان المنظر محجوبًا إلى حد ما من قبل الخزانة، فقد قرر فيتلوورث النزول والاستكشاف.
قالت كاثرين: «أفترض أن السلم بحالة جيدة؟»
أجاب: «يبدو أن الأمر كذلك، إن الدرجات صَدِئة، لكنها تبدو صلبة وقوية تمامًا، وثقي بأني سأكون حذرًا للغاية.»
وهكذا، وقف على حافة الهاوية وبدأ ينزل ببطء، بينما تُراقبه المرأتان بقلق من الأعلى، وهو يختبر كل درجة بحذر بقدمه قبل أن يُلقي بثقله عليها. وأثناء مروره بالخزانة المعلقة، جاءه صوت سيمبسون من الأسفل متسائلًا:
«هل هذا أنت يا وارين؟»
أجابه فيتلوورث: «لا.» واستمر في النزول.
فسأل سيمبسون: «هل أنت بيل؟»
أجاب فيتلوورث مرة أخرى بالنفي، لكنه سجل الاسم في ذاكرته. وأثناء مروره بالمصباح، رأى أنه قد توقف على ارتفاع ستة أقدام أو سبعة من قاع البئر، الذي كان مغطًّى بكومة كبيرة من الخِرَق القديمة والقش والأغصان المتعفنة، التي أُلقِيَت على ما يبدو من قِبل شخص يتسم بالإنسانية للتخفيف من حدة آثار السقوط العرَضي. وفي أحد الجوانب كان هناك مدخل ضيق، منحوت في الحجر الجيري، ينفتح على درجات سلم، وعلى الدرجة العلوية جلس رجل يُحاول معالجة إصابة قدمه العارية.
كان لقاءً غريبًا. حيث انعكس ضوء المصباح على جدران التجويف الضيق، مما جعل الرجلَين مرئيَّين بوضوح لبعضهما البعض، وقد عرَفه فيتلوورث على الفور. و«ميَّزه» دون صعوبة، لكن من الواضح أن الآخر كان في حيرة.
قال الرجل وهو ينظر إلى فيتلوورث متفحصًا: «أظن أني قد رأيتك من قبل، ولكن ترى؛ أين التقيت بك؟»
أجاب فيتلوورث: «في المعرض الوطني.» وبينما ارتسم على وجه الرجل تعبيرٌ لا لبس فيه ينم عن التحفز، أضاف: «لم آتِ بنوايا معادية. سنتحدث عن أعمالنا الصغيرة لاحقًا؛ في الوقت الحاضر علينا التفكير في كيفية إخراجك من هذه البئر.»
قال سيمبسون: «أخشى أنني لا أستطيع تسلق السلم.»
أجاب فيتلوورث: «بالطبع لا يُمكنك ذلك، علينا أن نسحبك لأعلى. ولكن إذا ربطتك في طرف الحبل، يُمكنك مساعدتُنا في ذلك عن طريق سحب نفسك بيدَيك. ما رأيك؟»
اعتقد سيمبسون أن الخطة ستنجح على نحو جيد، فشرع فيتلوورث على الفور في تنفيذها. أولًا، نادى على كاثرين لإنزال الحبل أكثر من هذا بمقدار اثنتَي عشرة قدمًا. وبعد ذلك، قام بفك المصباح من طرف الحبل، وصنع به عقدة مقوسة جيدة الحجم، وثبَّتها حول فخِذَي سيمبسون.
ثم قال: «وهكذا، سأصعد الآن وأُساعدهم على الرفع، وعندما أُنادي عليك، أمسك بالسلم واجلس في حلقة الحبل. وأثناء قيامنا بالسحب، يجب أن ترفع نفسك على السلم، وكن حذرًا حتى لا تُصدَم قدمك المصابة، التي يجب أن نُعالجها بمجرد أن ننتشلك من هنا.»
قال سيمبسون: «هذا نبلٌ منك.» لكن فيتلوورث، اعتبر أن هذا لم يكن وقتًا مناسبًا للمجاملات، فبدأ في الصعود مرة أخرى على السلم. وعندما صعد إلى أرضية القاعة، شرح الترتيبات بإيجاز لمساعِدتَيه، وبعد ذلك، صاح ليُنبه الرجل المحتجز داخل البئر، ثم بدأ الثلاثة في سحب الحبل بثبات. ربما هي تجرِبة غير مريحة لسيمبسون، لكن الخطة كانت فعَّالة للغاية، وفي غضون دقيقة أو نحو ذلك ظهر الأسير في الجزء العلوي من البئر، وتم مساعدته برفق على الحافة الخطرة.
وبينما كان يقف على قدم واحدة بمساعدة فيتلوورث، حدَّق في الغرفة بارتباك، وسأل:
«أين الآخرون؟ أعني وارن وبيل.»
أجاب فيتلوورث: «لقد ذهبا إلى مارجيت، لكنهم سيعودون قريبًا. في غضون ذلك، إذا استطاعت السيدة راتشيل أن تُوفر لنا غرفة نوم، فستتمكَّن من الحصول على بعض الراحة بينما نستدعي طبيبًا.»
قالت راتشيل: «هناك غرفة نوم إضافية فوق هذه القاعة، ولأنها مرتبة على نحو جيد، يُمكننا اصطحاب السيد سيمبسون إلى هناك في الحال، وبعد ذلك يُمكن للصبي أن ينطلق على دراجته ويُحضر الدكتور فينلي.»
قال سيمبسون: «بالطبع، إنه لأمر ينم عن نبل شديد منكم جميعًا أن تتحملوا الكثير من المتاعب من أجلي. إنه أكثر مما أستحق، بعد …» ثم توقف لينظر بريبة إلى راتشيل، التي، من جانبها، بدَت بلا تعبير كلوحة منحوتة تنم عن النبل والعطاء، بينما تقف صامتة.
قال فيتلوورث: «في الوقت الحاضر، سنقصر اهتمامنا على قدمك. وبعد العناية بها، ووصول أصدقائك، يُمكننا مناقشة الأمور الأخرى.»
وبمجرد أن استقر سيمبسون بشكل مريح في غرفة النوم المريحة ذات الطراز القديم، مع وضع منديل مبلل على كاحله، عاد الجمع إلى قاعة المستشار.
سألت كاثرين: «حسنًا، ما هو الشيء التالي الذي يجب عمله؟»
قال فيتلوورث: «الشيء التالي هو القيام ببعض الاستكشاف لحسابنا الخاص. من الواضح أن هناك غرفة أو نفقًا في أسفل البئر، وأنا أقترح النزول لمعرفة ما بداخلها.»
قالت كاثرين: «إذن سأنزل معك أنا أيضًا.»
احتجت راتشيل بشدة على هذا. وصاحت قائلة: «من الأفضل ألا تفعلي هذا يا آنستي، لنفترض أنك سقطت عن السلم!»
أضافت كاثرين وهي تحاول إقناع فيتلوورث: «لن أفترض أيَّ شيء من هذا القبيل يا راتشيل. ستدعني أنزل، أليس كذلك يا جو؟»
أجاب فيتلوورث: «ليس لديَّ مانع، إنه سلم سهل للغاية. لكننا نُريد من راتشيل أن تحرس مدخل الخزانة، لأننا لا نريد إزعاجًا من هذَين السيدَين الطيبَين؛ لذا فإنه يجب إبلاغ الخادمة بأن عليها، إذا وصلا قبل أن ننتهي من استكشافاتنا، أن تصطحبهما إلى غرفة السيد سيمبسون، وتُبلغهما بأنَّ عليهما أن ينتظرانا هناك.»
تلقت راتشيل — التي كانت رافضة، لكنها مطيعة — التعليماتِ بالموافقة على مضض، وبعد أن نفذتها وأغلقت الباب من الداخل، أخذت مكانها على حافة البئر مع تعبير ينم عن تشاؤم عميق. أولًا، أُنزِل الحبل إلى موضعه السابق، وعندما ثبت فيتلوورث نفسه به، أمسك السلم ونزل بضع درجات؛ ثم أمسكت كاثرين بالحبل أيضًا بينما أمسكتها راتشيل بقلق، وتقدمت الخطوات الأولى المحفوفة بالمخاطر.
قالت كاثرين: «إنها حقًّا آمنة وسهلة يا راتشيل.» بينما تتشبث بعناد بالقضبان الصدئة وتهبط بحذر درجة تلو الأخرى؛ ومع هذا الحرص، شعرت الخادمة الوفية بالارتياح إلى حد ما، رغم أنها استمرت في مشاهدة اختفاء سيدتها الشابة في أعماق البئر بوجه علَته أمارات الخوف.
استغرق نزول السلم أكثر من دقيقة بقليل، وبعد أن وصلت كاثرين إلى قاع البئر أبلغت راتشيل بذلك حتى يطمئن قلبها.
قالت كاثرين، بينما كان فيتلوورث يحمل المصباح: «أفترض أنك لم ترَ شيئًا يدل على «الشيء» الغامض الذي نبحث عنه عندما كنت هنا من قبل؟»
أجابها: «لا، لكننا سنجده معًا يا كاتي؛ على الأقل، آمُل ذلك. احذري من درجات السلم تلك.»
ثم نزلا على درجات السلم شديدة الانحدار، المحاطة بفطريات رطبة ولزجة، ودخلا ممرًّا ضيقًا، يلفُّه الظلام، وتنحدر أرضيته بزاوية حادة. فرفع فيتلوورث المصباح لأعلى، وألقى بضوئه على الجدران المخضرَّة الرطبة والسقف المقبَّب الخشن. كان هناك شيء مثير للإعجاب بشكل غريب في منظر هذا النفق القديم، الذي ربما لم يدخله الضوء لعدة قرون، لكنه يلمع الآن من ضوء المصباح الخافت. لم تكن النباتات المخيفة التي تكسو الجدران هي فقط ما يدل على مرور زمن طويل منذ أن وطئت قدمُ إنسان هذا الممر، بل كان هناك بعض الأقماع الكلسية المتدلية من نتوءات على السقف، والكتل المخروطية المتلألئة التي بدأت تنبثق من الأرض. ولم يكن هناك أي آثار للزوار، باستثناء أنه في مكان واحد، تحت عباءة النباتات التي تُغطي أحد الجدران، يُمكن رؤية بعض الأحرف الأولى غير الواضحة مع رسمة قلب وتاريخ يُشير إلى عام ١٥٩٤. تقدم المستكشفان ببطء وهما يهبطان النفق المنحدر، ونزلا على درجات السلم التي تفصل بينها من آنٍ لآخر مساطبُ والتي وُضِعت عند نقاط يتغير فيها اتجاه النفق، وحتى الآن لم يعثرا على أي دليل يُشير لوجود شيء مخفي أو مكان للإخفاء. وبعد مسافة طويلة، وأثناء نزولهم على درجات سلم آخر، وصلا إلى جزء من النفق طويل ومستقيم دون التواءات، وظهرت في نهايته بقعة لامعة من الضوء البارد الأزرق مقارنة بالضوء الأصفر للمصباح، بما يدل على أنه ضوء النهار. فسارعا إلى الأمام، وعبرا بوابة خشبية ضخمة سقطت من الخلف على مفصلاتها المهترئة، ووصلا إلى جدار مبني بغير حِرفية من الحجر الجيري ليسد النفق. كانت بقعة الضوء تنبعث من فتحةٍ سقط منها أحد الأحجار أو تناثر، ولم يجد فيتلوورث صعوبة في التسلق والنظر عبر الفتحة.
سألته كاثرين، عندما ظهرت ابتسامة باهتة على وجهه: «لماذا تبتسم يا جو؟»
كان رده هو النزول ومساعدتها على أن تحل محله. كان مشهدًا غريبًا للغاية رأته وهي تُطِل من خلال الفتحة؛ وسر غرابته هو التناقض مع جوِّ هذا النفق القديم الكئيب، الذي يلفه ظلام القبور والمفعم بالغموض وذكريات جيل مات ونُسِي منذ زمن طويل. لقد رأت كهفًا بحريًّا مع أرضية من الرمال تتناثر عليها الأعشاب، والشاطئ اللامع في الخلفية، وبالقرب من مدخله، وقف اثنان من العشاق العصريِّين؛ حيث ينحت الرجل الأحرف الأولى من اسمَيهما بجدية داخل قلب واضح للغاية، بينما وقفت المرأة بجانبه وهي تُشجعه بصيحات الإعجاب.
قال فيتلوورث، بينما نزلت كاثرين من أعلى الحائط: «إذن، إن العالم ما زال لعوبًا في أيامنا كما كان في عام ١٥٩٤. ولكن، مع ذلك، يبدو أننا قد وصلنا لنهاية استكشافاتنا، وما زال «الشيء» الغامض غير معروف. الآن، أتمنى لو أنني لم أتعامل مع وارن بكل هذا الصلف.»
قالت كاثرين: «لكن من المؤكد أنه مخبَّأ هنا، في مكان ما من هذا النفق.»
«هذا ليس منطقيًّا على الإطلاق. إن الغرض من هذه الأعمال واضح جدًّا، لا سيما عندما نعتبر أن النفق قد حُفِر على الأقل في وقت مبكر من حكم الملكة إليزابيث. إنه يُشكل نفق هروب ومصيدة موت في الوقت نفسه. أترين أننا ننظر بالقرب من سقف الكهف، ومن المحتمل أن يكون هذا الجدار مبنيًّا على مجموعة من درجات سلم. لقد كانت الفكرة بوضوح أن كاثوليكيًّا، أو بروتستانتيًّا، كما قد تكون الحالة، يُمكنه الهروب عبر البئر والخروج من الكهف إلى قارب. وإذا اكتشف المطاردون سر الخزانة، فمن المحتمل أن يتم إطلاق النار عليهم وقتلهم أسفل البئر؛ وحتى لو نزلوا عبر السلم، يُمكن أن يتعرضوا لكمين عند أيٍّ من هذه المنعطفات الحادة في النفق.»
قالت كاثرين بنبرة محبطة: «إذن، هل تعتقد أن «الشيء» الغامض قد يكون مخفيًّا في جزء آخر من المنزل؟»
أجاب فيتلوورث: «أخشى أن يكون هذا ما يبدو عليه الأمر، وبما أننا لا نعرف ما هو «الشيء» الغامض أو ما قد يكون حجمه، فإن العثور عليه ليس مفعمًا بالأمل.»
ومِن ثَم التفَّا وعادا أدراجَهما ببطء عبر النفق المتعرج، وبينما هما عائدان، تحدثا قليلًا وفكَّرا كثيرًا. وعنما وصلا إلى قاع البئر، وبينما غرق فيتلوورث في التفكير، ربط المصباح في طرف الحبل، ونادى على راتشيل كي تسحبه إلى مستوى الخزانة. ثم قررا الصعود، وصعدت كاثرين أولًا.
عندما وصلا إلى مستوى الخزانة، توقف فيتلوورث ونظر حوله.
قال: «انتظري لحظة يا كاتي؛ سأقوم بتجربة صغيرة.»
توقفت كاثرين في صعودها ونظرت إليه بفضول، فرأته يمد يده ويُمسك بأحد كيسَي التراب. وسحبه بقوة من على الرف فسقط إلى أسفل وارتطم بصوت مكتوم.
صاحت كاثرين: «كن حذرًا يا جو! إنك بذلك ستجعل الخزانة ترتفع وتُغلَق علينا.»
أجابها: «إنني أريدها أن ترتفع قليلًا.» ثم نزل بضع درجات، ووضع يده في أسفل الخزانة ودفعها بثبات إلى أعلى؛ وحيث إن الخزانة قد تحررت من جزء من وزنها، لذا ارتفعت بمقدار ثلاث أقدام أو أربع لأعلى ثم استقرت مرة أخرى.
صاح فيتلوورث بحماس: «يوريكا! إنني على حق. اعتقدت أن أصدقاءنا الكتومين لن يُضيعوا مثل هذه الفرصة الممتازة.»
تتبَّع الخزانة وصعد بضع خطوات، وأعطاها دفعة أخرى، ورفعها على ارتفاع ست أقدام. فأطلقت كاثرين صرخة فرح صغيرة. إذ في جانب البئر، في الموضع الذي كان مختفيًا وراء الخزانة المعلقة، كان هناك تجويف عميق، مزود بمقابض حديدية، وله مدخل ضيق. فأمسك فيتلوورث بأحد المقابض، وصعد على حافة التجويف ودخل المدخل.
أمرته كاثرين قائلة: «لن تدخل بدوني.» ونزلت بضع درجات بسرعة كبيرة.
قال فيتلوورث: «حسنًا، ناوليني المصباح، وتمسَّكي جيدًا بهذا المقبض قبل أن تقفي على الحافة.»
أخذ منها المصباح، وتراجع إلى المدخل، ثم راقبها بقلق وهي تعبر إلى الحافة. فعبرت بسلام، ودخل عبر المدخل حاملًا المصباح، فتبعته إلى ممر قصير، ومنه إلى غرفة صغيرة مربعة. وبينما كان يستدير ويحمل المصباح عاليًا، أطلق كلاهما صيحة فرح؛ لأن نظرة واحدة داخل الحجيرة الصغيرة، أظهرت أنهما قد وجدا الشيء الذي يبحثان عنه. فهناك على أرضية الحجيرة، بالقرب من أحد الجدران، وفوق قطع من الحجر الجيري وبعيدًا عن سطح الأرضية الرطبة، وُضِعت ثلاثة صناديق رديئة الصنع، مثبتة بأشرطة حديدية ومغلقة بأقفال ضخمة. فسلَّط فيتلوورث ضوء المصباح على كلٍّ منها على التوالي. كان لها جميعًا نفس الصناعة الرديئة، كما لو أن نجارَ سفينة هو من صنعها، وقد نُقِش على غطاء كلٍّ منهم، نفس النقش: «شيب، جيمس وماري. ستو في لازاريت»؛ ثم بحروف منقطة، كأنها وضعت بخرامة أو مسمار ثقب، «حصة جلالة الملك، دبليو. بي.»
قال فيتلوورث متأملًا: «دبليو. بي.» «إنها الأحرف الأولى من اسم السير ويليام فيبس، أيًّا كان. والآن، السؤال هو، لمن هذه الممتلكات؟ إنها حصة جلالة الملك، لكن هل سلمها الملك إلى السير أندرياس كهدية، أم فقط ليحفظها في عهدته؟»
تساءلت كاثرين، مع التجاهل الأنثوي لهذه التفاصيل الدقيقة: «هل يُهمنا ذلك؟»
أجاب فيتلوورث: «نعم، يُهمنا، إذا كانت مِلكًا للسير أندرياس، فستُصبح مِلكية خاصة بك، ولكن إذا كانت ملكًا للملك، فهي كنز دفين.»
صاحت كاثرين: «هذا سخف، إذ إن عائلة الملك جيمس قد اندثرت، لذلك ليس هناك شك حول ورثته؛ ومن يعثر على الكنز يحق له الاحتفاظ به. علاوة على ذلك، إنه في منزلي وقد وضعه جدي الأكبر هنا.»
ضحك فيتلوورث قائلًا: «أنت فتاة صغيرة غير أمينة!» إذ كانت آراؤه الخاصة حول الجوانب الأخلاقية بخصوص قواعد العثور على كنز دفين مماثلة إلى حد كبير لتلك الخاصة بمعظم الرجال الراشدين الآخرين، ثم أضاف: «ولكن ربما تُعطينا الوثيقة بعض المعلومات الإضافية. وعلى أي حال، إنه أمر جيد أن نجد «الشيء» الغامض بأنفسنا. والآن من الأفضل لنا أن نذهب ونرى ما إذا كان بدلاؤنا قد وصلوا أم لا.»
ومِن ثَم ساعد كاثرين على الوصول إلى السلم، وعندما خرجا من البئر، شعرت راتشيل براحة لا تُوصَف؛ إذ إن جرس الباب الأمامي قد رن.
فقالت: «لا بد أن هذا هو السيد فيرس وصديقه، فقد جاء الطبيب ثم غادر مرة أخرى.»
قال فيتلوورث: «إذن، من الأفضل اصطحابهما إلى غرفة السيد سيمبسون، وعندما يُصبحون مستعدين لرؤيتنا، ربما تتفضلين بإبلاغنا.»
ثم أغلق باب الخزانة، وعندما غادرت راتشيل لتفعل ما قاله لها، سحب كرسيَّين إلى المائدة.
فقالت كاثرين: «هناك شيء واحد أريد أن أقوله لك، بالطبع لقد وجدنا هذه الملكية، أيًّا كانت، بأنفسنا، لكن لم نكن سنعثر عليها مطلقًا لولا وجودُ هؤلاء الرجال الثلاثة؛ فهم المكتشفون الحقيقيون.»
وافقها فيتلوورث الرأي بشكل جاف إلى حد ما، فاستطردت كاثرين: «لقد واجَهوا الكثير من المتاعب يا جو، وكانوا في غاية المهارة والذكاء، وعندما تدخَّلنا في الأمر كانوا على وشك الفوز بالمكافأة على كل عملهم.»
اعترض فيتلوورث قائلًا: «لكنهم لم يستطيعوا العثور على المخبأ.»
«هذا صحيح، لكنني متأكدة من أنهم كانوا سيعثرون عليه. من الواضح أنهم رجال أذكياء للغاية، تقريبًا في مثل ذكائك يا جو.»
ضحك فيتلوورث: «وأكثر ذكاءً مني، عليَّ أن أُقر بذلك، لقد تمكنوا من خداعي بمهارة فائقة في المعرض.»
قالت كاثرين متجاهلة ذلك: «حسنًا، على أي حال، لقد اكتشفوا الكنز بمهارة مطلقة، وواجهوا مشاكل لا حصر لها، وستكون خيبة أمل مروعة لهؤلاء المساكين أن يتم انتزاعه منهم في اللحظة الأخيرة.»
قال فيتلوورث: «حسنًا؟» كما توقفت كاثرين وهي تسأله بحزم:
«حسنًا؟ ألا تعتقد أننا يجب أن نسمح لهم على الأقل بنصيب معقول من محتوى الصناديق، أيًّا كان؟»
ابتسم فيتلوورث على مضض وهو يقول: «إنه أكثر عمل مخالفٍ للقواعد تمامًا يا كاتي. ففي المقام الأول، أنا، كموظف مسئول في المعرض، أعتقد أن استلام الممتلكات المسروقة، والتي أتخيل أننا لن نُعيدها إلى مالك اللوحة، يُعتبَر جناية.»
قالت كاثرين: «بالتأكيد لن نُعيدها؛ إنها ليست ملكه. إنها ملكي.»
ثم تابع فيتلوورث: «ثم نقترح إجراء اتفاق غير قانوني تمامًا مع اللصوص للتنازل عن ملكية كنز معين هو في الأساس ملك للأسرة الحاكمة.»
صاحت كاثرين: «أوه، توقف عن هذا الكلام يا جو! إنها ممتلكاتي، أو على الأقل ممتلكاتنا، وسوف نحتفظ بها، أنت تعلم أننا سنفعل ذلك. والآن، كم سنمنح هؤلاء البؤساء؟»
قال فيتلوورث بابتسامة: «إنها ملكيتك يا كيت؛ على الأقل، أنت تقولين إنها كذلك، لذلك يجب أن تُقرري أنت.»
قالت: «حسنًا، لنُفكر. هناك ثلاثة صناديق، واحد لك، وواحد لي والآخر لهم. ما رأيك في ذلك؟»
كان فيتلوورث، على الرغم من موافقته سرًّا، على استعداد لتبني الموقف الجدالي كما لو كان وصيًّا أو مستشارًا. لكن كاثرين استشفَّت موافقته على الفور.
فقالت متجاهلة احتجاجاته: «أنا سعيدة لأنك تُوافقني الرأي، سنستمتع بمكاسبنا المفاجئة أكثر بكثير إذا لم نكن جشعين. لذلك لقد تمت تسوية الأمر. وأعتقد أنني أسمع راتشيل قادمة.»
بعد لحظة دخلت الخادمة لتُعلن أن السيد فيرس وأصدقاءه مستعدون لرؤيتهم، فانتقلا على الفور إلى غرفة النوم بالطابق العلوي.
قالت كاثرين بينما يدخلان إلى الغرفة: «آمُل أن يكون الطبيب قد قدَّم تقريرًا إيجابيًّا عن حالة ساقك، وأنك تشعر بألم أقل الآن يا سيد سيمبسون.»
أجابها: «شكرًا لك، أنا مرتاح تمامًا الآن. يبدو أنه كان في نهاية الأمر مجرد التواء شديد.»
هنَّأته كاثرين على نجاته، ثم افتتح السيد فيرس — أو وارن — الحديث حول أمر الكنز بحماس واضح قائلًا:
«والآن يا سيدي فإن صديقي، بيدلي، سيمبسون سابقًا، موافق تمامًا على أن يُعطيكما الصندوق ومحتوياته وفقًا للشروط المذكورة، والتي، مع ذلك، يجب أن تتضمَّن حصانة من أي إجراءات ذات صلة باللوحة.»
قال فيتلوورث: «فيما يتعلق بي أنا، أنا أوافق، على الرغم من أن مثل هذا الاتفاق غير قانوني تمامًا، كما تعلمون. لكن التسوية تمت بيننا بسرية ولا داعي للذهاب إلى أبعدَ من ذلك.»
قال وارن: «هذا صحيح، ولكن هل يعرف أي شخص غير الآنسة هايد أنكما كنتما تتعقَّبان مسارنا؟»
«لا، لقد تصرفنا في سرية تامة، وبما أن اللوحة قد أُعيدت للمعرض، فمن غير المحتمل أن تتخذ السلطات أي إجراء.»
قال وارن: «إذن في هذه الحالة، وحيث إنكما قد وافقتما على شروطنا، سأُسلم الملكية إلى الآنسة هايد، وسأُرسل لك كشف حساب بما أنفقناه لاحقًا.»
وفي ختام حديثه أخرج من جيبه علبة ورقية صغيرة، وفتحها، ليُخرج منها صندوقًا ذهبيًّا صغيرًا عاديًّا، يُشبه إلى حدٍّ ما علبة سيجار مسطحة للغاية، وسلمها إلى كاثرين.
ثم قال: «إن الوثيقة موجودة في الداخل؛ ويُمكنني القول يا سيدتي، إنني أعتقد أنك ستجدينها وثيقة شيقة للغاية.»
بعد أن شكرته كاثرين، فتحت الصندوق الصغير وأخذت منه ورقة رقيقة جدًّا، مطوية مرتَين، ومغطاة بكتابات قديمة الطراز وباهتة للغاية. ففتحت الورقة، ومرَّت عيناها على الكتابة بسرعة، ثم سلمت الوثيقة إلى فيتلوورث وهي تقول: «ربما من الأفضل أن تقرأها بصوت عالٍ.» أخذ فيتلوورث الورقة وفحصها بفضول. حيث وجد على جانب منها ما يبدو أنه قائمة أو جدول زمني؛ بينما كُتِبت الوثيقة على الجانب الآخر، فبدأ فيتلوورث قراءة ذلك الجانب:
من جيمس، بفضل الإله، ملك إنجلترا واسكتلندا وفرنسا وأيرلندا، إلى المخلص والمحبوب أندرياس هايد وجميع الأشخاص الآخرين الذين قد يكونوا معنيِّين بهذه الهدايا. حيث إن السير أندرياس هايد في مناسبات مختلفة قد أسهَم بمبالغ مالية متنوعة لاستخدامنا وخدمتنا؛ الآن ننقل إلى السير أندرياس نصيبنا من الكنز الذي استخرجه الكابتن السير ويليام فيبس حاكم نيو إنجلاند من السفينة الإسبانية الغارقة في هيسبانيولا، حيث بلغت حصة السير أندرياس ثلاثون ألف جنيه إسترليني كما هو منصوص عليه في الجزء الخلفي من هذه الوثيقة ليتم التصرف فيه بالطريقة التالية؛ حيث يجب حفظ هذا الكنز بواسطة السير أندرياس في مكان آمن وسري ليظل سليمًا كي نستخدمه حسب الحاجة أثناء الوقت الحاضر في ظل الاضطرابات المستمرة؛ كما يظل محفوظًا إذا دعت الحاجة خلال حياتنا ثم حياة ابننا جيمس أمير ويلز؛ ليتم إرجاعه بأمانة إلينا أو إلى الأمير جيمس الثاني بناءً على مطلبنا أو مطلبه حسبما تقتضيه ضرورتنا أو ضرورته. ولكن عند موتنا وموت الأمير، فإن الكنز يعود بشكل مطلق وتصبح الملكية منفردة للسير أندرياس هايد أو ورثته.
عندما أنهى فيتلوورث القراءة، نظر إلى كاثرين مليًّا، وأعطى السيد وارين إيماءة بالموافقة. فقال الأخير: «هكذا ترين يا آنسة هايد، أنه ليس هناك نزاع حول الكنز. إنه ملكية منفردة لك، إذا كنت تعرفين مكان العثور عليه. ولست بحاجة للقول إننا إذا كنا قد علمنا بوجودك، لكُنا أبلغناك بمسعانا. لكننا بحماقة نوعًا ما، افترضنا أنه لم يكن هناك ورثة على قيد الحياة، وأن العائلة قد اندثرت، وبالطبع، فإن القوانين القديمة حول البحث عن الكنوز لا تروق كثيرًا للأمريكيين.»
قالت كاثرين: «بالطبع، هل يُمكننا أن نرى ما في الجانب الآخر؟»
قلب فيتلوورث الوثيقة وبدأ في قراءة المكتوب على ظهرها:
ثلاثة صناديق تحتوي على حصة الملك من كنز الكابتن فيبس على النحو التالي:
الصندوق الأول يحتوي على،
واحد وعشرين سبيكةً من الذهب.
حقيبتَين كبيرتَين من قطع الثمانية جرامات.
ستة طرود من غبار الذهب.
ثلاثة أكياس من العملات الذهبية.
كيس واحد به مائتا لؤلؤةٍ كبيرة.
«حقيبتين من الجواهر غير المصقولة (متنوعة)».
عند هذه النقطة، توقف فيتلوورث مؤقتًا، وتساءل: «هل يستحق الأمر أن نقرأ القائمة؟ أعتقد أن علينا التحققَ من محتويات الصناديق على الفور، ونعرف القيمة الإجمالية.»
قال وارن: «نعم، أظن أنك ستجد ما يكفي لدفع نفقاتنا الصغيرة، مع ربح بسيط. وهذا يُذكرني بأنه ينبغي لنا، إن أمكن، الحصولُ على مبلغ — الذي نُقدره بمائتَي جنيه — من المحتويات الفعلية لتلك الصناديق. لقد كانت حلمًا جميلًا صغيرًا بالنسبة إلينا، ونودُّ الحصول على بعض التذكارات منه.»
نظرت كاثرين مليًّا نحو فيتلوورث، الذي قال بعد ذلك: «أعتقد أن الآنسة هايد تتمنى أن تعتبروا أنفسكم شركاءَ في مشروع البحث عن الكنز، وأن تأخذوا نصيبًا معتبرًا منه …»
قالت كاثرين: «الثلث، إذا كنتم ترون أنها قسمة عادلة.»
صاح وارن: «عادلة! إنها أكثر بكثير من كونها عادلة، إنها سخية للغاية؛ لكنني حقًّا لا …»
قاطعته كاثرين: «كما تعلم، فأنتم حقًّا مَن اكتشف الكنز، وستبدو النهاية مروعة لحلمكم الجميل الصغير إذا لم تنالوا سوى نصيب قليل تافه.»
كان وارن على وشك الاحتجاج، لكن كاثرين واصلت قائلة: «سنكون غيرَ سعداء للغاية إذا لم تأخذوا نصيبًا عادلًا. تذكر، لم نكن سنعرف أي شيء عن الكنز لولا مهارتكم، والطريقة الجريئة التي استعرتم بها تلك اللوحة. تعالَ يا سيد وارين، سأشترط عليك شرطًا؛ ستُخبرنا كيف اكتشفت الكنز، ثم تُساعدنا في استخراج الصناديق.»
في ظل هذا الشرط البسيط، وافق الأمريكيون الثلاثة بعد مزيد من الاحتجاجات والمشاورات بينهم، ثم سأل سيمبسون، أو على وجه الدقة بيدلي: «أفترض أن الصناديق مخبأة في ذلك المكان في قاع البئر؟»
أجاب فيتلوورث: «لا، ليست كذلك، إنها في مكان يقع على عمقٍ أقلَّ من منتصف البئر؛ ولكن آمُل أن تكون قادرًا على الوجود عند رفعها، وهو الأمر التالي الذي يتعين علينا التفكير فيه، وهو أمر متعب إلى حد ما، كما أتوقع.»
ومع ذلك، تبين أن الأمر أقل إزعاجًا مما توقعه فيتلوورث؛ لأن السادة الأمريكيين الثلاثة المغامرين، بعد أن قرَءوا المخزون، وعرَفوا طبيعة الكنز، زوَّدوا أنفسهم بالفعل بالمعدات اللازمة للتعامل مع الصناديق الثقيلة.
إذ كانوا قد خزنوا تلك المعدات، التي تتكون من نظام رفع قوي، ومجموعة من الرافعات المتسلسلة، وبعض البكرات الخشبية، وواحدة أو اثنتَين من العتلات، في فندقهم، ومن هناك شرع وارين وبيل في إحضارها دون تأخير. ثم نُقِل بيدلي، وقد وُضِعت قدمه في جبيرة، إلى قاعة المستشار، وبعد إغلاق مزلاج الباب، بدأت عمليات الانتشال على الفور. حيث رُبِط نظام الرفع بالسلسلة البرونزية الكبيرة التي تتعلق عليها الخِزانة، وتم سحب الصناديق، واحدًا تلو الآخر، وهي مثبتة في الرافعات، ثم سُحِبت على بكرات إلى الفتحة على جانب البئر، وأخيرًا رُفِعت إلى أرضية القاعة.
لا شك في أن القاعة العريقة قد شهدت العديد من المشاهد الغريبة، ولكن ليس هناك أغرب من ذلك المشهد الذي كشفه ضوء المصباح المعلَّق والشموع التي أُشعِلت في الشمعدانات الفضية القديمة. كانت الصناديق الثلاثة قد فُتِحت عنوةً، على الرغم من أقفالها الضخمة، باستخدام العتلات القوية، ووضعت فارغة في أحد أركان القاعة، بينما المتآمرون الخمسة، الجالسون حول المائدة القديمة، يُحدقون في كنز ضخم جعل حتى أرجله القوية تصرخ احتجاجًا. إذ يحتوي على سبائك من الذهب — باهتة، وملساء — وأكياس من غبار الذهب، وجواهر غير مصقولة وعملات عتيقة، تدعو لابتسامة واسعة، مع أكوام من الخواتم والحُلي والمجوهرات ذات الطابع الكنسي مما يدعو للريبة حول مصدرها. وعلى رأس المائدة جلست كاثرين، وأمامها محتويات الصناديق، تتحقق من العناصر كما سماها فيتلوورث، بطريقة المزادات المثيرة للإعجاب. كان الوقت قد أصبح متأخرًا من الليل قبل اختتام الحفل؛ حيث قُسِمت الغنيمة إلى ثلاثة أجزاء متساوية تقريبًا، ثم أُعيدَت الأجزاء إلى الصناديق، حيث خُصِّص صندوق منها للمغامرين الثلاثة، ووُضِعت عليه علامة تُميزه، ثم أُغلِق بإحكام باستخدام الحبال، وأصبح جاهزًا للنقل.
قال فيتلوورث: «هناك شيء واحد أود أن أعرفه قبل أن نفترق. لقد فهمت جيدًا كيف توصلتم لمسار الكنز، لكني لم أفهم كيف تأكدتم من وجود الصندوق الذهبي داخل تلك الضلع تحديدًا من الإطار الخشبي. لقد لاحظت أنكم قد فككتم إطار قماش اللوحة من ضلع واحدة فقط، لذلك هناك احتمالان؛ إما أنكم كنتم تعلمونه مسبقًا، أو قمتم بتخمين محظوظ.»
ضحك وارن متباهيًا، ثم قال: «نحن الأمريكيين شعب تقدمي، ولدينا طريقة لتطبيق المعرفة العلمية الحديثة لتحقيق غايات مفيدة. ولم نكن نعرف مسبقًا مكان الصندوق الذهبي، ولم يكن علينا أن نُخمن. لقد أخذنا اللوحة، على حالتها، وذهبنا إلى معمل صانع آلات كهربائية، وطلبنا منه تمرير الأشعة السينية من خلالها، بينما نظرنا إليها من خلال شاشة فلورية. لم نتمكَّن من رؤية الكثير من اللوحة، ولكن رأينا الصندوق الذهبي واضحًا بدرجة كافية، لذلك قمنا بوضع علامة بالقلم الرصاص فوق موضعه على الورقة التي تم لف العلبة بها. هل هناك أي شيء آخر تود معرفته؟»
قال فيتلوورث: «إذا لم يكن سؤالي يبدو فضوليًّا، أعتقد أنه ينبغي لنا أن نعرف مع مَن سعدنا بمشاركة الكنز.»
فرك وارن ذقنه، وألقى نظرة فكاهية متسائلة على صديقَيه؛ ثم، بعد أن تلقى موافقة من كلٍّ منهما، أجاب: «نحن نتشارك بالفعل سرًّا أو اثنَين يا سيدي، وإذا ذكرت أن أحدنا هو أستاذ التاريخ في جامعة شهيرة في الولايات المتحدة وأن الاثنَين الآخَرَين هما على التوالي أستاذ الهندسة المعمارية الأوروبية في نفس المؤسسة الأكاديمية، والآخر هو مدير متحف شهير، إذن، سنُصبح قد تشاركنا سرًّا إضافيًّا.»
وبعد مرور ثلاثة أيام وصلَت إلى بناية كابتن ديجبي، حيث كان فيتلوورث يُقيم، رسالةٌ من المدير يطلب منه فيها سحب استقالته. وهو أمر جعله يشعر بالسعادة، فسارع بإبلاغ كاثرين به. ولكن في غضون ذلك، تلقَّت هي أيضًا رسالة — من مستأجرةِ منزلها، السيدة ماثيوز — تطلب السماح لها بإنهاء مدة الإيجار بعد شهر. فقرأت كاثرين رسالتها على مسامع فيتلوورث، وبعد ذلك وضعتها جانبًا، وسألته وهي شاردة الفكر نوعًا ما:
«ألم تقل ذات مرة يا جو إنك كنت تتمنى العيش في هذا المنزل العريق؟»
فأجاب: «أجل لقد قلت ذلك، وأنا أُكرره بشكل قاطع.»
قالت كاثرين: «إذن، سيتعين على السير جون قَبولُ استقالتك.»