الببغاء البرونزي
جلَس القَسُّ ديوداتس جولي على المنضدة القابلة للطيِّ التي وُضِع عليها الغداء، حيث ارتطمت رُكبته، وفقًا لعادته الثابتة، في الزاوية الحادة للساق السابعة من المنضدة.
فقالت زوجة رئيس الكنيسة: «أتمنى أن تبذل المزيد من الجهد لتُصبح أكثر حذرًا يا سيد جولي، لقد كدتَ أن تقلب برطمان الخردل وهذه البرطمانات تُسبب ضررًا كبيرًا للساق.»
قال القس، الذي يعمل مساعدًا لرئيس الكنيسة، مبتسمًا: «أوه، إن الأمر بسيط يا سيدة بودلي.»
فردت عليه بحدة: «أنا لا أتفق معك على الإطلاق.»
واصل السيد جولي كلامه مع ابتسامة تملُّق: «الأمر لا يُثير القلق ما دام جلد ساقي لم يُخدَش.»
قالت السيدة بودلي ببرود: «أنا أقصد ساق المنضدة.»
قال المساعد: «أوه، أستميحُكِ عذرًا يا سيدتي!» ثم استسلم في صمت، وقد احمرَّ وجهه خجلًا مثل جمبري خليج دبلن، وهو يُفكر في النصيب الذي قد يحصل عليه عند توزيع قطع لحم الضأن الخمس الموضوعة على المنضدة؛ نظرًا إلى وجود ثلاثة أفراد فقط هم مَن سيتناولون الغذاء. وقد مثلت هذه المشكلةُ موضعَ اهتمام عميق للسيد جولي، الذي يتمتع بشهية كبيرة بشكل ملحوظ بالنسبة إلى رجل مثله ضئيلِ الحجم للغاية، وكان ينتظر حلَّها بينما تُساوره شكوكٌ ناتجة عن خيبات أمل سابقة.
قالت زوجة الرئيس: «أتمنى ألا تكون جائعًا جدًّا يا سيد جولي.»
أجابها بعفوية ودماثة: «لا، ليس بشكل غير معتاد.» والحقيقة أنه جائع على الدوام، باستثناء فترات ما بعد اجتماعات الشاي الشهرية.
تابعت السيدة بودلي قائلة: «لأنني أرى أن ووكر قد طهى خمس قطع فقط، وتبدو قطعتك صغيرة إلى حد ما.»
فسارع السيد جولي قائلًا: «أوه، ستكون كافية تمامًا، شكرًا.» ثم أضاف ربما لسوء حظه: «إنها أكثر من كافية لأي شخص معتدل وقَنوع.»
أزاح القس أوجستس بودلي جريدة تشيرش تايمز من أمام وجهه ثم نظر نظرة متشككة إلى مُساعده؛ الذي أدرك فجأة غموض ملاحظته الأخيرة، فاحمرَّ وجهه خجلًا وقطع لنفسه شريحةً ضخمة من الخبز. ثم ساد صمت غير مريح استمر لبضع دقائق، وكسرته السيدة بودلي في النهاية وهي تقول:
«أريدك أن تذهب إلى ديلبري بعد ظهر اليوم يا سيد جولي، وتُؤديَ بعض المهام الصغيرة من أجلي.»
قال المساعد: «طبعًا يا سيدة بودلي. بكل سرور.»
«أريدك أن تتصل وترى ما إذا كانت الآنسة جوس قد أنهت العمل في قبعتي. وإذا كانت قد أنهتها، فمن الأفضل أن تُحضِرَها معك؛ إذ لا يُمكنني الاعتماد عليها مطلقًا، وأنا أُريد أن أرتديَ القبعة في حفلة حديقة هاولي جونز غدًا. وإذا لم تكن قد انتهت فعليك الانتظار حتى تنتهي. لا تُغادر بدونها.»
«لن أفعل يا سيدة بودلي، وسأكون حازمًا للغاية.»
«نعم كن حازمًا معها. ثم أُريدك أن تذهب إلى متجر مينيكين وتُحضر بَكرتَين من الخيط البُني الفاتح، وأربعَ كُرات من قطن الكروشيه وثمانيةَ ياردات من الدانتيل، من نفس النوع الذي اشتريته الأسبوع الماضي. وقد أخبرتني ووكر أن الجرافيت الأسود لديها قد نَفِد. لذا عليك أن تُحضر عبوتَين؛ وتذكَّر ألا تضَعهما في الجيب نفسِه مع الدانتيل. أوه، وحيث إنك ذاهبٌ إلى متجر الزيت، يُمكنك أيضًا إحضارُ برطمان من المخللات المشكَّلة. وبعد ذلك عليك الذَّهابُ إلى متجر دمسول وشراء بعضٍ من سمك الحدوق الطازج — ربما يُمكنك إحضاره معك أيضًا — ثم اذهب إلى متجر باركر واطلب منهم إرسال أربعة أرطال من الكمثرى، وتأكد من أنها طازَجة وليست ذابلة. ومن الأفضل أن تختارها بنفسك وتراها تُوزَن.»
قال المساعد: «سأفعل، وسأختارها بعناية.» وقد عقد العزم في قرارة نفسه على عدم الثقة في مجرد المظاهر الخارجية، التي غالبًا ما تكون خادعة.
قال رئيس الكنيسة: «أوه، وبالمناسبة، يا جولي، بما أنك ذاهب إلى المدينة، يُمكنك أيضًا أن تأخذ حذاء الرماية الخاصَّ بي معك، وتطلب من كروميل وضع رقعة صغيرة على النعل وإصلاح الكعب. لن يستغرق الأمرُ وقتًا طويلًا. ربما يُمكنه إنجازُها في الوقت المناسب بحيث تُحضرها معك. اطلب منه المحاولة.»
قال المساعد: «سأفعل يا سيد بودلي، سأحثُّه على بذل قصارى جهده.»
قالت السيدة بودلي: «وما دمتَ ستذهب إلى ورشة كروميل، فسأُعطيك حذائي كي يُصلِحه، إنه بحاجةٍ إلى نعل وكعب؛ واطلب منه أن يَستخدم نوعًا من الجلد أفضلَ من المرة السابقة.»
وبعد مرور نصف الساعة مر السيد جولي عبر الملعب التابع للأكاديمية الداخلية للصفوة التي يُديرها القسُّ أوجستس بودلي. كان يحمل طردًا كبيرًا غيرَ متناسق وملفوفًا في ورق الجرائد، وبرغم ذلك سار بنشاطٍ كطالب مدرسة فرح بنهاية اليوم الدراسي. وبينما كان يرقص عبر الملعب الفارغ، جذب انتباهَه حشدٌ صغير من التلاميذ الذين تجمَّعوا بشكل ملحوظ حول صبيَّين أكبر سنًّا تُوحي تصرفاتُهما بأنهما على وشك العِراك. وبالفعل، عندما توقف لملاحظتهم، وجَّه أحدهم ضربة قوية أخطأَت هدفها على بُعد قدمٍ من أنف الصبي الآخر.
صاح المساعد المصدوم: «أوه! يا لك من ولد شقي! يا جوبلت! أنت يا جوبلت! هل تُدرك أنك كِدتَ أن تُصيب بايلز؟ وأنك ربما كنت ستُؤذيه بالفعل؟»
قال جوبلت: «لقد قصدتُ أن أُؤذيَه.»
«قصدت! أوه، يا لك من مخطئ! يا لك من شقي! إني أتوسَّل إليك، وأرجوك بجدِّية أن تكفَّ عن أعمال العنف الشائنة هذه.»
وقف لحظة ينظر بتعبيرٍ ينمُّ عن الرفض والتألُّم نحو الصبيَّين اللذَين رمَقاه بنظَرات استياءٍ وغضب. ومِن ثَم، حيث بدا أن الأعمال العدائية معلَّقة — مؤقتًا — سار ببطءٍ إلى البوابة. وبينما يضع المِفتاح في جيبه اصطدمَت ثمرةُ كُمَّثرى فاسدةٌ بعمود البوابة فتناثرَت عليه أجزاءٌ منها. فاستدار، ومسح معطفه بمنديله، وخاطب جمْعَ التلاميذ، والغريب أنهم جميعًا كانوا ينظرون في الاتجاه المعاكس.
«إن هذا سلوك سيئ. سيئ للغاية. لا بد أن أحدَكم قد ألقى تلك الكمَّثرى. إذا سألتُكم عمن فعلها؛ فبهذا سأُغريكم كي تلجَئوا إلى المراوغة! لكن الكمَّثرى لا تطير من تلقاء نفسها، خاصة الفاسد منها.»
ومِن ثَم خرج من البوابة، فتبعَته قهقهةٌ مسموعة تبجَّحَت وهو يبتعد حتى صارت صيحةَ انتصار.
تعثرَت قدما المساعد وهو يسير بلا مبالاة في شارع القرية، وهو يتشبَّث بالطرد الخاص به ويُوزع ابتساماتٍ تنم عن اللطف تجاه سكان القرية. وعندما اقترب من سلم عبور الجدار الذي يَحدُّ الطريق إلى ديلبري، اشتدت ابتسامته من مجرد لطف إلى عاطفة إيجابية. إذ وقفَت سيدة صغيرة الحجم — صغيرة الحجم للغاية، في الواقع — بجانب السلَّم لتستريح وقد وضعَت سلة ضخمة لا تتناسب مع حجمها على الدرجة السفلى؛ ويُمكننا أن نُقِر أيضًا، وعلى الفور ودون إطناب، أن هذه السيدة لم تكن سوى الآنسة دوركاس شيبتون؛ والسيدة جولي في المستقبل.
أمسك المساعدُ الطرد بيد واحدة ومدَّ يده الأخرى بالتحية.
ثم صاح: «دوركاس يا عزيزتي! يا له من حظ سعيد أن تقودكِ الصدفة لِتَسيري في هذا الطريق!»
أجابت السيدة الصغيرة: «إنها ليست صدفة، لقد سمعت السيدة بودلي تقول إنها ستطلب منك الذَّهاب إلى ديلبري؛ لذلك قررت أن آتيَ وأُساعدك في رحلتك» (المسافة إلى ديلبري حوالي ثلاثة أميال ونصف) «وأرى ما إذا كنت قد جهزت نفسك للرحلة. لماذا لم تُحضر مظلتك؟»
فأوضح لها السيد جولي أنه سيَحمل بكِلتا يدَيه القبعةَ، والحذاء الطويل، وسمك الحدوق الطازج، والمخللات المتنوعة؛ لذا فلن يتمكَّنَ من الإمساك بالمظلة على النحو الصحيح.
قالت دوركاس: «هذا صحيح، لكن آمُل أن تكون قد ارتديت واقيَ صدرك ونعلَي الفلِّين التي أعطيتها لك.»
فأكد لها السيد جولي أنه قد اتخذ هذه الاحتياطاتِ اللازمة.
«وهل دلكت كعبَي الحذاء جيدًا بالصابون قبل أن ترتديَه؟»
أجابها المساعد: «نعم، تمامًا؛ تمامًا. إنهما يلتصقان قليلًا في الوقت الحالي، لكنني سأشعر بالفائدة مع الوقت. لقد امتثلت لتعليماتك حرفيًّا.»
قالت الآنسة دوركاس: «حسنًا يا ديوداتس، وبما أنك كنت مطيعًا للغاية، فستحصل على مكافأة صغيرة.»
ثم رفعَت غِطاء السلة وأخذت كيسًا ورقيًّا صغيرًا وأعطته له مع ابتسامة إعجاب. ففتح المساعد الكيس وتفحصه مترقبًا.
وصاح: «ها! حلوى عين الثور! هذا لطيف! هذا لطفٌ منكِ يا دوركاس! ويا له من ذوق!» (كانت حلوى عين الثور تُمثل أفضل متعة له) «ألن تأخذي واحدة؟»
أجابت دوركاس: «لا، شكرًا لك، لا ينبغي أن أدخل أكواخ الفقراء بينما تنبعث مني رائحة النَّعناع.»
قال ديوداتس: «لِمَ لا؟ أنا أفعل. وأعتقد أن المساكين يستمتعون بالرائحة، وخاصة الأطفال.»
لكن دوركاس كانت مصرة. وبعد المزيد من الزقزقة والتغريد، تبادلَ الشخصان الضئيلان وداعًا حَنونًا؛ ثم سار المساعد مبتعِدًا عبر الطريق، وهو يمضَغ قطعة الحلوى في فمه ويمَصها في سعادة.
لسنا في حاجة للقول إن قبعة السيدة بودلي لم تكن قد انتهت بعد. وقد نفَّذ المساعد، بشكل غير حكيم، جميعَ مهامه الأخرى قبل الاتصال بصانعة القبعات؛ حيث طلب الكمَّثرى، وتذوق ثمرةً أو اثنتَين كي يختبر جودتها؛ وطلب من الإسكافي إرسال حذاء رئيس الكنيسة إلى متجر القبعات؛ ثم اشترى الدانتيل والجرافيت والقطن، والمخللات وسمك الحدوق الطازَج، وحملها بزهوٍ إلى مقرِّ الآنسة جوس. حيث تبيَّن له أن القبعة لن تُصبح جاهزة قبل الساعة السابعة مساءً. لكن يبدو أيضًا أن الشاي سيُصبح جاهزًا في غضون بضع دقائق. وبِناءً على ذلك، انتظر المساعد ليتشارك تلك الوجبة في غرفة العمل، بصحبة الآنسة جوس و«يدَيها»؛ وبعد أن أكل حتى التُّخمة من اللفائف الفرنسية والكعك، ترك مشترياته المختلفةَ وخرج ليُضيع بعض الوقت ويستمتع بمعالم مدينة ديلبري، ولكنه لم يكن ينوي الإغراق في الاستمتاع!
بعد ساعة أو نحو ذلك من التَّجوال في أرجاء المدينة، قادته خُطاه إلى رصيف الميناء، حيث كان مسرورًا بمشهد سفينة عسكرية عائدة من غرب أفريقيا، وهي تُفرغ ركابها. وقد احتشد الجنود الذين يرتدون ملابس الكاكي على سلَّم السفينة وألقَوُا التحية عليه مبتهِجين بينما جلس على مربط الحبال وهو يُراقبهم. وقد سأله أحدهم عمَّا إذا كانت أمه — أم السيد جولي — تعرف أنه قد خرج من البيت؛ وهو ما اعتقده المساعد منتهى اللطف والاهتمام من الرجل. لكن أكثر ما أثار إعجابَه هو مظهر القس الملحَق بتلك القوات. فقد بدا رجل كنيسة مميزًا ووقورًا ذا أنفٍ نُحاسي مهيب، شعر بسعادة غامرة عند عودته لوطنه لدرجة أنه غنَّى بصوت عالٍ؛ وفي الواقع، بدا أن عواطفه قد أثرت بالفعل على ساقَيه، لأن مشيته كانت غير مستقرة تمامًا. وقد أثر ذلك في السيد جولي بعمق.
وبعد أن غادر الجنود الميناء، اتجه جولي ببطء نحو البوابات؛ لكنه لم يكد يقطع مسافة عشرين ياردة عندما انجذبت عينُه نحو جسم صغير مُلقًى على العُشب الكثيف الذي نما بين أحجار الرصف غير المنتظمة للرصيف. فانحنى لالتقاطه، وعندئذٍ أطلق صيحة ابتهاج. فقد وجد تمثالًا صغيرًا لببغاء، مصنوعًا بشكل جذاب من البرونز ولا يزيد ارتفاعُه عن بوصتَين ونصف بما في ذلك القاعدة التي يقف عليها. كان من الواضح أن التمثال يعلق من خلال ثقب في العينَين، حيث يمر عبره خيطٌ من الحرير؛ يُظهِر طرفاه الباليان كيف ضاع الكنز.
فُتِن السيد جولي بالتمثال. فقد كان بالنسبة إليه ببغاءً صغيرًا عزيزًا؛ وجذابًا جدًّا؛ ونقيًّا جدًّا. كان رجلًا بسيطًا؛ ومِن ثَم كانت الأشياء الصغيرة تُسعده. وهذا الشيء الصغير على وجه الخصوص قد أسعده للغاية. ولكي يفحص اكتشافه على نحو جيد، جلس على مقعد أبيض لطيف ونظيف وشرع في تلميع التمثال الصغير بمنديله، بعد أن قام بترطيبه بلسانه. حسَّن التلميعُ مظهره بشكل رائع، وكان يتفحَّصه برضًا عندما وقعَت عيناه على عبارة مكتوبه أمامه على الرصيف بواسطة الطبشور الأبيض. كانت الكتابة مقلوبة بالنسبة إليه وهو جالس، لكنه لم يجد صعوبة في فك رموز الكلمات «احترس! طلاء المقعد ما زال رطبًا.»
انتفض واقفًا وفحص سطح المقعد. وبالطبع ليست هناك حاجةٌ إلى الخوض في التفاصيل. يكفي أن نقول إن أيَّ شخص ينظر إلى هذا المقعد يُمكن أن يرى أن شخصًا ما قد جلس عليه. فابتعد السيد جولي وهو يصيح بغضب. كان أمرًا مزعجًا للغاية. لكن هذا لا يُبرر التعبيرات التي استخدمها، والتي لم تكن فقط تتنافى مع طبيعته وسلوكه المعتاد الذي يتَّسم بالاعتدال، ولكنها أيضًا غير مناسبة لزيه الكنسي، حتى لو تصادف أن زيَّه هذا قد اتسخ، ولكننا نقول مرة أخرى إنه لا داعي للخوض في تفاصيل. فخرج عبر بوابات الرصيف وهو ما يزال عابسًا ومنفعلًا، وسلك الشارع الرئيسي في طريقه إلى متجر الآنسة جوس. وبينما كان يمرُّ من أمام متجر الفاكهة، نادى عليه السيد باربر، مالك المتجر.
«مساء الخير يا سيد جولي، بخصوص تلك الكمثرى التي طلبتها من العامل. من الأفضل ألا تشتريَ هذا النوع يا سيدي. دعني أُرسل لك نوعًا آخر.»
سأله المساعد: «لماذا؟»
«حسنًا يا سيدي، هذه الكمثرى، كي أكون صريحًا معك، ليست جيدة.»
قاطعه السيد جولي قائلًا: «لا يُهمني ما إذا كانت جيدة أم سيئة، أنا لن آكلها.» واندفع بعيدًا في الشارع الرئيسي، تاركًا تاجر الفاكهة في حالة من الذهول. لكنه لم يتوجه مباشرة إلى متجر القبعات. إذ دفعَته رغبته في التَّجوال إلى التوجُّه نحو شارع جانبي؛ فشق طريقه نحو الجزء المجاور للمياه من المدينة، وفي الواقع، كانت الساعة نحو الثامنة تقريبًا عندما اقترب من متجر الآنسة جوس (الذي هو مغلق الآن طوال الليل) ودق الجرس. وعلى أي حال، لم تخلُ الجولة من الأحداث المثيرة. فالعلامة الزرقاء تحت العين اليسرى وحالة القبعة والملابس المغبرة والتالفة تبدو كتَذْكار للتجارِب الحديثة والمثيرة، كما تُشير الابتسامة الراضية التي منحها للحارس المذهول إلى أن هذه التجارِب، وإن كانت شاقة، إلا أنها لم تخلُ من البهجة.
سقطت ظلالُ الليل على قرية بوبهام عندما ظهر السيد جولي في الشارع الوحيد بها. كان يحمل على رأسه صندوقًا كرتونيًّا كبيرًا؛ وكان الصندوق متوازنًا، ولكنه لم يكن مستقرًّا نوعًا ما، وفي الوقت نفسِه لم يكن ثقيلًا للغاية. كان الصندوق في بداية رحلة العودة على شكل مكعب، لكن حوافه الآن أصبحت غيرَ منتظمة إلى حدٍّ ما، بينما يسيل من إحدى الزوايا سائل رقيق يقطر على كتف السيد جولي، تنبعث منه رائحة الخل والبصل، كما تُصاحبها رائحة السمك. سار المساعد بخطوات عسكرية واسعة عبر الشارع الخالي، وبعد أن التقط الصندوق — للمرة الثالثة عشرة — خارج البوابة مباشرة، دخل بيت القَس، ووضع حمله على أريكة غرفة المعيشة، وصعد إلى غرفته. ولم يطلب العشاء. إذ لم يكن جائعًا؛ وهو أمر نادرُ الحدوث. في واقع الأمر، لقد تناول وجبة خفيفة في المدينة؛ والجندوفلي هو غذاءٌ مُرضٍ للغاية، فقط إذا تناولت منه ما يكفي.
رقد المساعد في سريره الضيق غير المستوي، وظل مستيقظًا وملفوفًا بتأملات مبهجة. ثم قادته أفكارُه نحو الببغاء البرونزي الصغير، الذي وضعه، بعد تلميع نهائي، على رف المدفأة؛ والآن، راح يسترجع مبتهجًا أحداث رحلته القصيرة. كان هناك، على سبيل المثال، البحَّار المخمور قليلًا الذي استمتع معه بمقابلة مرحة في شارع ميرميد. ثم استمرت بهجته وهو يُعيد تكوين صورة ذلك المحارب كما رآه آخرَ مرة، جالسًا في قناة الصرف يعتني بملامحه بمنديلٍ أحمر. وكان هناك كشك الجندوفلي واثنان من جنود البحرية في ملابسهما الزرقاء خارج «رأس البابا». فابتسم ابتسامة عريضة وهو يستمتع بتلك الذكريات. ورغم كل تلك الأحداث المثيرة، كان هناك متذمِّرون يشتكون بالفعل من أن حياة رجال الدين تتسم بالضجر!
مرة أخرى، استعادت ذاكرتُه رحلة عودته المبهجة إلى المنزل عبر الحقول المظلمة؛ والراحة الممتعة على جانب الطريق (وهو يجلس على صندوق المشترَيات الكرتوني)، والمزحات التي تبادلها مع اثنَين من العشاق القرويِّين، أخبراه أنه «يجب أن يخجل من نفسه؛ رجلٌ نبيل وقَس، في الوقت نفسه!» فضحك بصوت عالٍ وهو يُفكر في انزعاجهم الريفي وحضوره اللامع.
لكن في هذه اللحظة قُطِعَت تأملاتُه بمقاطعة فريدة للغاية؛ إذ صدر صوتٌ من أعلى رف المدفأة، صوت غريب للغاية، عميق، طنَّان، يتردد صداه، وهو يُردد جملة قصيرة، تحمل كلماتٍ أكثرَ غرابة وغير مألوفة:
«دونكوه إي ديدي ما تيرن. أون إيسي؟»
رنَّت هذه العبارة المثيرة للدهشة في الغرفة الصغيرة بتركيز عميق ومدهش على كلمة «تيرن»، ونغمة استفهامية في الكلمتَين الأخيرتَين، أعقب ذلك فترةٌ من الصمت الشديد، ثم تصاعد قرعُ الطبول كما لو كان يأتي من بعيد، مقلدًا بطريقة تُثير الفضول صوت الكلمات ولُكْنتها، فكلمة «تيرن»، على سبيل المثال، تُصدِرها طبلة كبيرة ذات نغمة كهفية عميقة.
استمع السيد جولي لتلك الأصوات بابتسامة سعيدة ومهتمة.
بعد فترة قصيرة، تكررَت الترنيمة. ومرةً أخرى، مثل صدًى بعيد، قامت الطبول بتقليدها الغريب للكلام. كان السيد جولي مهتمًّا للغاية. وبعد ما يُقارب اثنتَي عشْرة مرةً من التَّكرار، وجد نفسه قادرًا على تَكرار الجملة الغامضة بلُكْنة جيدة، وحتى تقليد قرع الطبول ودويِّها.
ولكن في نهاية المطاف سيشعر المرء بالملل إنْ أكثرَ من الشيء الجيد؛ وعندما استمرت الترنيمة في التَّكرار، على فترات من حوالي عشر ثوانٍ، لمدة ربع الساعة، بدأ السيد جولي يشعر بالملل.
فقال: «إلى هنا، سأكتفي بهذا القدر.» وعاد إلى النوم. لكن المترنم غير المرئي، تجاهل ملاحظته، واستمر في الترنُّم (دا كابو وآد ليب) — في الواقع، إلى حد الغثيان — ومِن ثَم انزعج السيد جولي. وفي البداية جلس في السرير، وأبدى ما اعتبره تعليقاتٍ مناسبةً على الأداء، مع بعض الإشارات الشخصية إلى المؤدي؛ وبعد ذلك، مع استمرار الترنيمة بمثابرة لا هوادة فيها مثل جرس الكنيسة، قفز وأسرع بشراسة نحو التمثال الموضوع على رف المدفأة.
وصاح مزمجرًا وهو يهز قبضته في وجه الببغاء غير المرئي: «اخرس!» ومن الغريب أن نقول إن كلًّا من الترنيم وقرع الطبول قد توقفا على الفور. إذ يبدو أن هناك بعضَ أشكال الكلام التي لا تتطلب مترجمًا.
عندما دخل السيد جولي غرفة الإفطار في صباح اليوم التالي، كانت زوجة رئيس الكنيسة تُقدِّم لزوجها طبقًا من كلاوي الضأن المتبَّلة، لكنها توقفت مؤقتًا عما تفعله لتُحيي المساعد بنظرة جامدة. جلس السيد جولي وارتطمت ركبته كالمعتاد في ساق المنضدة، لكنه علَّق على الأمر بعبارات غير معتادة على الإطلاق. فحدَّق رئيس الكنيسة مندهشًا، وصاحت السيدة بودلي بلهجة شديدة:
«سيد جولي، كيف تجرؤ …»
توقفَت عند هذا الحد، بعد أن لفتَت انتباه المساعد. تلا ذلك صمتٌ مميت، حدق خلاله السيد جولي في بيضة واحدة مسلوقة. وفجأة انتزع سكينًا، وببراعة خارقة قطع رأس البيضة بضربة واحدة. ثم أطل بفضول في التجويف المكشوف. وإذا كان هناك شيء واحد يكرهه السيد جولي أكثر من أي شيء آخر، فهو بيضة مسلوقة لم يكتمل نضجها؛ وعندما واجهت عينه كُرة صفراء تطفو في سائل صافٍ، عبس في تشاؤم.
صاح بصوت أجش: «نِيئة، يا إلهي!» وانتزع البيضة من كأسها، وقذفها عبر الغرفة. لعدة ثوانٍ، حدَّق رئيس الكنيسة في مساعده، صامتًا فاغرًا فاه، ثم تتبَّع نظرة زوجته، فحدق في الحائط، على ورق الأقحوان الذي ظهر عليه شكل جديد لم يُفكر فيه المصمم. وفي غضون ذلك، مد السيد جولي يده عبر الطاولة وغرس شوكته في طبق كلاوي الضأن المتبلة.
عندما نظر رئيس الكنيسة حوله واكتشف خسارته، حاول متلعثمًا أن يحصل من المساعد على تفسيرٍ لما حدث. ولكن بما أن أعضاء الكلام مرتبطة بفعل المضغ، لم يكن المساعد في وضع يسمح له بالإجابة عليه. ومع ذلك، كانت عيناه في تلك اللحظة متحررتَين، وقد أدت النظرة المتجبرة فيهما إلى قيام رئيس الكنيسة وزوجته من فوق كرسييهما والعودة بحذر نحو الباب. نظر إليهما السيد جولي بعدم اكتراث، واستحوذ على الطعام كله، حيث شرع في مَلء كوبٍ من الشاي وآخرَ من القهوة، وأكل كل ما في الطبق، وأفرغ رف الخبز المحمص، وبعد أن أكل هذه الأشياء البسيطة، ختم المأدبة العملاقة بقرقشة محتويات إناء السكر. لم يستمتع أبدًا بإفطار مثلما استمتع بهذا الإفطار، ولم يشعر أبدًا بالرضا والسعادة كما فعل هذه المرة.
بعد أن مسح شفتَيه المبتسمتَين بمفرش المائدة، سار خارجًا إلى الملعب، حيث كان الأولاد ينتظرون أن يتم توجيههم إلى الدروس. وفي لحظة ظهوره، كان السادة جوبليت وبايلز يشرعان في استئناف الأعمال العدائية المؤجَّلة. فسار المساعد عبر حلقة المشاهِدين وابتسم للمتعارِكَين بإحسانٍ شرس. أدى وصوله إلى هدنة قصيرة، ولكن نظرًا لأنه لم يتفوَّه بأي احتجاجات، فقد استُؤنِفَت المعركة بضربة أولية من جانب جوبلت.
ابتسم المساعد ابتسامة وحشية وهو يصيح: «ليس هكذا يا جوبلت، اركله يا رجل. اركله في معدته.»
قال جوبلت وهو ينظر إلى معلمه بذهول: «أستميحك عذرًا يا سيدي؛ هل قلت اركله؟»
زمجر المساعد: «نعم، في المعدة. هكذا!»
تراجع بضع خطوات، وثبَّت عينه اللامعة على بطن بايلز، واندفع إلى الأمام، وألقى بقدمه اليمنى إلى الخلف حتى أصبحت تقريبًا مرئية من فوق كتفه، وأطلق ركلة هائلة. لكن معدة بايلز لم تكن في مكانها؛ وكذلك بايلز ذاته بالطبع. وكانت النتيجة أن قدم السيد جولي، التي لم تُقابل أي مقاومة، طارت في الهواء حاملة معها مركز ثقل السيد جولي.
عندما وقف المساعد على قدَميه ونظر حوله متوعدًا، وجد الملعب خاليًا. حيث اندفع حشد مذعور من التلاميذ عبر باب المدرسة المفتوح، بينما تسلق بقيتهم الجدران بسرعة.
فضحك السيد جولي بصوت أجش. كان الوقت قد حان لفتح المدرسة، لكنه في الوقت الحالي لم يكن يميل إلى الدراسة. فخرج من البوابة، ومشى إلى القرية، وتجول في الشارع. وأمام دكان الجزار الصغير، قابل ملحد القرية. ذلك الفيلسوف، الذي لا داعي للقول إنه يعمل كإسكافي، وكانت لديه مزحة ثابتة ودائمة لتحية المساعد بالكلمات:
«كيف حال جولي!» ومِن ثَم يرد عليه جولي بأدب: «صباح الخير يا سيد بيج.» مع لمسة مهذبة للقبعة. فشرع هذا الصباح في النطق بالصيغة الثابتة، ووجَّه عينَيه نحو الجزار المترقِّب. لكن الاستجابة المتوقعة لم تأتِ. وبدلًا من ذلك، انقلب عليه المساعد فجأة وصاح:
«قُل «يا سيدي»، أيُّها الحشرة، عندما تتحدث إلى أسيادك.»
كان الإسكافي المذهول عاجزًا عن الكلام للحظة؛ لكن فقط للحظة.
إذ صاح قائلًا: «ماذا! أنا أقول «يا سيدي» لقَسٍّ ضئيل حقير، ماذا …»
هنا استدار السيد جولي وتوجه بخفة إلى المتجر. ودخل عبر الواجهة المفتوحة، ورفع ساطورًا كان معلقًا على مسمار، وأرجحه عاليًا فوق رأسه، واندفع بصرخة عالية نحو الإسكافي الذي أهانه. لكن السيد بيج كان حاضر الذهن، الأمر الذي جعله غائب الجسد. فاندفع هاربًا على الفور إلى منزله، وأغلق مزلاج الباب، وراح يسترق النظر بعينَين جاحظتَين مذهولتَين من نافذة الطابق الأول على تاج قبعة المساعد. وفي هذه الأثناء، خرج الجزار غاضبًا من متجره، واقترب نحو المساعد من الخلف.
وصاح بصوت أجش: «تعالَ هنا، ماذا تفعل بهذا الساطور …» لكنه توقف فجأة عندما أدار السيد جولي رأسه، وتابع بأدب جم:
«هل يُمكنك يا سيدي أن تترك ذلك الساطور؟ إذا تكرمت من فضلك.»
أطلق السيد جولي هديرًا غاضبًا وقذف الساطور الكبير نحو يدَي مالكه؛ بعد ذلك، عندما ابتعد الجزار، ضحك جولي بصوت عالٍ، على إثر ذلك أخلى التاجر عتبة بابه بقفزة واحدة وضرب نصف الباب خلفه. لكنه نظر للخلف نظرة مرعوبة أظهرت له وجه المساعد وهو يبتسم، كما رأى الآنسة دوركاس شيبتون ذات الجسد الضئيل وهي تقترب من الشارع.
هرول المساعد إلى الأمام لمقابلتها، وهو يبتسم. لكنه لم يكتفِ بالابتسام. على الإطلاق. إذ كان صوت تحياته لها مسموعًا حتى للسيد بيج، الذي انحنى من نافذته وعيناه مذهولتان أكثر من أي وقت مضى.
صاحت الآنسة دوركاس المصدومة: «حقًّا يا ديوداتس! ما الذي دهاك؛ أتصيح هكذا في وسط الشارع …» انقطعت احتجاجاتها عند هذا الحد بتعبير جديد عن الشوق فاجأها به جولي، مما جعل الجزار يمسح فمه بظهر يده، والسيد بيج يشهق في دهشة.
صاحت دوركاس التي احمرت خجلًا: «اهدأ، اهدأ وتمالَكْ نفسك يا ديوداتس!» وهي تُحاول التملُّص من قبضته وهو يُمسك بها في هُيام. ثم أضافت بإلهام استراتيجي مفاجئ: «علاوة على ذلك، من المؤكد أنك يجب أن تكون في المدرسة في هذا الوقت.»
قال جولي وهو يتقدم نحوها بذراعَين مفتوحتَين: «هذا ليس مهمًّا على الإطلاق يا عزيزتي؛ لأن العجوز بود يُمكن أن يعتني بالصبية المشاكسين.»
قالت الآنسة دوركاس وهي لا تزال تتراجع للخلف: «أوه، لكن يجب ألا تتجاهل واجباتك يا ديوداتس، هل يُمكن أن تعود إلى المدرسة، فقط لإرضائي؟»
أجابها جولي وهو ينظر لها بشهوانية: «بالتأكيد يا حبيبتي، إذا كنت ترغبين في ذلك، سأعود على الفور، ولكن يجب أن أحصل على واحدة أخرى.» ومرة أخرى رن شارع القرية بصوت يُشبه طقطقة من فلين زجاجة بيرة الزنجبيل.
وعندما اقترب من المدرسة، أصبح السيد جولي على دراية بالهدير المألوف والمقيت للعديد من الأصوات. حيث سمع السيد بودلي، وهو يقف في المدخل، معلنًا بتأكيد غاضب «أنه لن يسمح بهذا الضجيج المخزي»، ورآه يصفع المكتب بيده المفتوحة؛ بينما لم يستجب لوعيده أيٌّ من التلاميذ، واستمروا في إحداث الضجيج مثل جوقة مكونة من مجموعة عنزات. ثم دخل السيد جولي ونظر حوله. وفي لحظة غرق المكان في صمت مثل مقبرة مصرية.
إن مساحة القصة لا تسمح لنا بذكر تفاصيل ما حدث في الأيام القليلة التالية. ومع ذلك، يُمكننا أن نقول باختصار إنه قد نشأ في قرية بوبهام شعورٌ باحترام عامٍّ للمساعد ضئيل الحجم، يمتزج برهبة خرافية. إذ أصبح أهل القرية، الذين كانوا حتى تلك اللحظة متساهلين في سلوكهم، يُسارعون بخلع قبعاتهم عند اقتراب السيد جولي منهم؛ وأصبح السيد بيج يتجنَّب السير في شارع القرية، ويُفضل المدقات الترابية البعيدة الخالية من الأشجار، واعتاد الجزار إرسال قطع من طحال الضأن كهدية إلى بيت القس، موجَّهة إلى السيد جولي، وحتى الحداد، عندما تعافَت عينُه من اللكمة التي وجَّهها له جولي، تبنَّى سلوكًا دمثًا واسترضائيًّا.
كانت زوجة رئيس الكنيسة، بمفردها، تُضمِر استياءً غير معلن من السيد جولي (على الرغم من أنها كانت منتبهة ظاهريًّا لأمر تقديم وجبات كلاوي الضأن ولحم الخنزير المقدَّد إليه)، وقد حثت رئيس الكنيسة على التخلص من مساعده الشرِه؛ لكن خُططها فشلت فشلًا ذريعًا؛ فصحيح أن رئيس الكنيسة تجرأ مبدئيًّا على فتح الموضوع مع المساعد، الذي استمع عابسًا وهو يشحذ قلمَ رصاص بسكين جيب ضخمة كان قد اشتراها من متجر معدات السفن في ديلبري؛ لكن الرئيس لم يُكمل حديثه مطلقًا. ولأن ذهنه قد تشتَّت وأصبح مرتبكًا، ربما بسبب أسلوب السيد جولي الغامض، وجد نفسه، بشكل أثار دهشته الخاصة، يحثُّ المساعد على قَبول عشرين جنيهًا كراتب إضافي في السنة، وهو عرض أصر السيد جولي على كتابة عقد به على الفور.
الشخص الوحيد الذي لم يُشارك في تلك الرهبة العامة كان الآنسة دوركاس. لأنها كانت، مثل الساعة الشمسية، «تُشير فقط إلى الساعات المشمسة»، لكنها كانت تحترمه أكثرَ من أي شخص آخر. وعلى الرغم من دهشتها واستنكارها لشائعات أفعاله، إلا أنها معجبة في الخفاء بشجاعته.
وهكذا مرت الأيام وازداد وزن السيد جولي بشكل ملحوظ. إلى أن جاء صباحٌ حافل بالأحداث؛ إذ وقعت عيناه، أثناء قراءة الجريدة، على إعلان في الإعلانات المبوبة؛ هذا نصه:
مكافأة قدرها عشرة جنيهات؛ لمن يعثر على تمثال صغير من البرونز لببغاء على قاعدة مربعة؛ يبلغ ارتفاعه بوصتَين ونصف البوصة. تُدفَع المكافأة أعلاه نيابةً عن المالك من قِبَل أمين قسم الأفلام في المتحف البريطاني الذي لديه صورة ووصف التمثال.
لقد أصبح السيد جولي مرتبطًا بشدة بذلك الببغاء. ولكن في نهاية المطاف؛ إنه مجرد غرض جميل، بينما عشرة جنيهات هو مبلغ كبير. وفي عصر ذلك اليوم، وجد أمين المتحف نفسه في مواجهة قَس ضئيل الحجم شرس المظهر، وقد قام على عجل بإعطائه عشرة جنيهات بعد التحقق من الوصف؛ وحتى يومنا هذا، اعتاد أن يحكي، كمثال على سطوة المال، كيف تغير سلوك ومظهر القس، بشكل ملحوظ، إلى الأفضل عندما أعطاه المبلغ.
وبينما شارفت فترة العصر على الانتهاء، ظهر السيد جولي في قرية بوبهام. وهو يحمل طردًا ورقيًّا ضخمًا تحت ذراعه، وكانت جيوبه منتفخة بحيث بدا أنه يُعاني من بعض التشوهات غير المعروفة. وعند سُلَّم عبور الجدار، التقى فجأة بالسيد بيج، الذي استعد للهرب الفوري، لكنه أُصيبَ بالذهول حرفيًّا عندما رفع المساعد قبعته بكل لطف وتمنَّى له «ليلة سعيدة». لكن ذهول السيد بيج اشتد أكثر بعد بضع دقائق، عندما رأى المساعد جالسًا على عتبة الباب والطرد المفتوح على ركبتَيه، وقد تجمع حوله حشد من الأطفال. لأن السيد جولي، مع أكثر الابتسامات عذوبة، كان منخرطًا في توزيع الدمى والألعاب الدوارة وحبال القفز والخيول الخشبية الصغيرة، وأتبع ذلك بتوزيع حلوى عين الثور وكرات البراندي وغيرها من الحلويات الشهية، التي أخرجها من جيوبه التي لا تنضب، حتى إنه قدَّم للسيد بيج نفسه عصا سكَّر، والتي قَبِلها الإسكافي المتفلسف مع انحناءة مهذبة، ثم ألقاها بعد ذلك على الحائط. لكنه تأمل بعمق في هذا الأمر العجيب، وربما ظل يُفكر فيه مع سكان بوبهام الآخرين.
وعلى الرغم من أنه، منذ تلك اللحظة، عاد السيد جولي مرة أخرى ليُصبح أكثر الرجال لطفًا وودًّا، فإن هيبة أفعاله السابقة ظلت حاضرة؛ واستمرت الرهبة المبجَّلة تُحيط بخُطاه خارج المنزل، كما كانت أطباق كلاوي الضأن ولحم الخنزير المقدَّد من نصيبه داخل المنزل؛ إلى أن جاء الوقت الذي تحولَت فيه الآنسة دوركاس شيبتون لتُصبح السيدة ديوداتس جولي؛ زوجة السيد جولي.
إذ منذ تلك اللحظة أصبح يسير، ليس فقط وسط التبجيل والرهبة ولكن أيضًا، وسط الزهور والضياء.
ملاحظة: لمن يدفعه فضولُه ويودُّ معرفة المزيد عن الببغاء، يُمكن أن يجده على الرف المناسب في قسم غرب أفريقيا، ويقرأ اللافتة الوصفية الكبيرة التي تسرد تاريخه:
وزن ذهبي من البرونز على شكل ببغاء. كان هذا التمثال في السابق ملكًا لكبير محاربي الأشانتي، أمانكوا تيا، الذي كانت تميمة عشيرته هي الببغاء. وكان يرتديه حول معصمه، كتعويذة أو سحر، وعندما يخرج في حملة للحرب، كان المنادي الخاص به يحمل نسخة منه، مكبرة ومصنوعة من الخشب المذهب، ويتقدم المسيرة ويردد شعاره الرسمي.
ويُمكن أن نُوضِّح هنا أن لكلٍّ مِن مُحاربي الأشانتي شعارًا مميزًا، يتكون من جملة قصيرة، يُنادي بها المنادي أمامه عندما يبدأ مسيرة الحرب، ويستمر في تَكْرارها، في تقليد معتاد مميز، ثم تتبع بلحن يُحاكيها يعزف بالطبول. وهكذا، عندما كانت القوات المتعددة تتقدَّم عبر الغابة الكثيفة، كانت هُويَّاتهم تتضح لبعضهم البعض من خلال صوت ألحان الطبول. وكان شعار أمانكوا تيا هو: «دونكوه إي ديدي ما تيرن. أون إيسي؟» التي يُمكن ترجمتها إلى «العبيد (الأغراب) يسبونني. لماذا؟» وهي جملة لا معنى لها إلى حد ما، ولكن ربما كان لها مغزًى شرير.