باودر بلو وهوثورن
الجزء الأول
ألقى السيد هنري بالمر نظرة فاحصة على الطبيب ماكماليجان من طَرْف خفي. إذ بلغَته معلومة تُفيد بأنه في ليلة الجمعة سيجد الطبيبَ مخمورًا على الأرجح. وقد تبين أنه كذلك بالفعل. لكن السؤال الذي أثار قلق السيد بالمر كان: إلى أيِّ مدًى كان مخمورًا، وبالأحرى، هل هو مخمور بالدرجة الكافية؟
إنه سؤال دقيق وصعب؛ فالأشخاص ذَوو الحالات الخاصة يُفاجئوننا في بعض الأحيان؛ فقد يُفاجئنا الرجل قصير النظر والمصاب بحول أيضًا، والذي من المفترض أن يكون أعمى مثل خفاش، بأنه يرى أحيانًا بحدَّة رؤية محيرة؛ وقد يُذهلنا رجل أعرجُ بمهارات رشاقة مذهلة؛ كما أن عدم اليقين لدى الصُّم هو أمر نُلاحظه يوميًّا؛ أما بالنسبة إلى الشخص المخمور، فإن الفلسفة المثلى قد ابتكرت لهم في الواقع عناية إلهية خاصة؛ لذلك راقب السيد بالمر تصرفات الطبيب بقلق عن قرب.
سأله الطبيب بصوت أجش مع لكنة أيرلندية خفيفة: «متى أُصيب صديقك بالمرض؟»
أجابه السيد بالمر: «منذ أسبوع أو أسبوعَين؛ على هيئة نوبات متقطعة، لكن النوبة الأخيرة هاجمته هذا الصباح.»
قال الدكتور ماكماليجان بأسلوب فظٍّ: «وأظن أنك تُريدني أن أذهب معك على الفور؟»
فأجابه بالمر: «إن كان بمقدورك هذا؛ فهو في حالة حرجة للغاية.»
تمتم ماكماليجان قائلًا: «أعلم هذا. إنها نفس القصة العتيقة. تأجيل استدعاء الطبيب حتى يُصبح المريض في لحظاته الأخيرة، ثم نُزعج الطبيب أثناء تناوله العشاء أو نُقلق نومه.»
قال بالمر: «أنا آسف. ولكن هل أفهم من كلامك أنك ستأتي معي؟»
أجابه الطبيب: «نعم سآتي؛ فالواجب يقتضي مني أن أفعل، رغم أنه أمر مزعج للغاية. أعطني الاسم والعنوان، وسأكون معك في لمح البصر.»
ومِن ثَم فتح دفتر التسجيل، وهو يغمس قلمه في برطمان مفتوح يحتوي على أقراص مستحلبات السعال، ويُحدق في السيد بالمر مستجوبًا. لاحظ بالمر ذلك برضا، وقرر أن الطبيب ماكماليجان سيفي بالغرض!
لم يكن ميناء شيرنس، المصبُّ الواسع لنهر ميدواي، في الساعة التاسعة مساءً من إحدى ليالي الخريف، مكانًا مثاليًّا للإبحار، لا سيما مع رياح ساويستر العاتية والأمطار الغزيرة. لذا جلس الدكتور ماكماليجان، في مؤخرة القارب وقد ضم أطرافه الأربعة، وهو يسبُّ ويلعن باستمرار، بينما يصفع الرذاذُ وجهه ويتناثر على ياقة معطفه الواقي من المطر.
قال بالمر معتذرًا: «إنها رحلة صعبة تلك التي اصطحبتك فيها، كما أنها شديدة البرودة أيضًا؛ لذا اسمح لي أن أقدم لك مشروبًا يبث الدفء في أوصالك؟» ثم أخرج من الخزانة زجاجة كبيرة مسطحة وكوبًا.
أجاب الطبيب مبتهجًا: «بكل سرور، فالجو بارد بما يكفي لتجميد قرد نحاسي.» ومِن ثَم أخذ الزجاجة المسطحة، وبثبات غير متوقع، سكب نصف كوب، وبعد أن تشمم رائحتها برضا، أخذ جرعة سريعة وتنفَّس نفسًا عميقًا. ثم قال وهو يرتشف جرعة أخرى للتأكد: «إنه مشروب جيد، أودُّ أن أعرف تاجر المشروب الخاص بك يا سيدي.»
ضحك بالمر وهو يقول: «أظن أن مفتشي الجمارك يُريدون معرفته أيضًا؛ فهو مشروب مهرَّب من الخارج.»
ضحك الطبيب من تلك الجملة وعاد يمتدح تاجر المشروب من جديد؛ وفي الواقع، بحلول الوقت الذي رسا فيه القارب على جزيرة جراين، كانت الزجاجة المسطحة قد أصبحت فارغة من المشروب وممتلئة بذكريات مبهجة. ومع ذلك، بينما كانوا يشقُّون طريقهم وسط الرياح والأمطار، أصاب الثبات النسبي لخطوات الطبيب رفيقه بالدهشة مع عدم ارتياح خفي. لكن كان لا بد من استكمال المهمة الآن، ولتجهيز نفسه من أجل المشهد الأخير، طرق بهدوء على باب منزل منعزل بجوار المستنقعات.
وبعد لحظات انفتح الباب، وظهر أمامهما رجل يحمل شمعة في إحدى يدَيه، وفي الأخرى منديلًا يمسح به عينَيه. ثم رمَقهما في فضول، وسأل بإحباط: «هل هذا هو الطبيب يا هنري؟»
أجابه بالمر: «نعم، آمُل أن …»
ثم توقف عن الكلام، بينما هز الآخر رأسه بحزن وهو يقول: «تفضَّلا.» وعندما تبعاه إلى الغرفة الكئيبة، التي وُضِعت على الطاولة بداخلها زجاجة مشروب أخرى وثلاثة أكواب، تابع حديثه قائلًا: «لقد حدث الأمر بعد أقل من ساعة من مغادرتك يا هنري. أظن أن الطبيب ربما يُلقي عليه نظرة؟»
قال الطبيب: «وما الداعي لذلك؟» مضيفًا بغموض بعض الشيء: «هل تتوقَّع مني أن أُعيد الحياة إليه مثلما أعاد السيد المسيح الحياة إلى لازاروس؟»
لم يردَّ الرجل المحبط على هذا، ولكنه حمل الشمعة، وانسل من الغرفة على أطراف أصابعه وبدأ في صعود السلم، فتبعه بالمر والطبيب المحتج. حيث صعدوا بهدوء وفي صمت — لكن الطبيب تعثَّر على درجة في منتصف الطريق، وعلَّق بصوت أجشَّ على الموقف — حتى وصلوا إلى بابٍ في الطابق الأول، ففتحه مرشدهما برفقٍ وطلب منهما الدخول.
حدَّق بالمر وصديقُه محاوِلَين تحسس خطواتهما، إذ كانت الغرفة غارقة في ظلام دامس باستثناء ضوء الشمعة، التي أظهرت سريرًا كبيرًا بجانب الحائط يرقد عليه، على الجانب الأبعد، جسدٌ بلا حَراك مغطًّى بملاءة. تحرك الرجل ذو الشمعة على أطراف أصابعه نحو السرير، وسحب الملاءة بوقار، وترك الضوء المهتز يسقط على الوجه المكشوف. وكان وجهًا مروعًا بجلده الأبيض الميت، وفكه المغطَّى بالضمادات، والبنسَين اللذَين وُضِعا على الجفنَين، وهما يبدوان، في الضوء الخافت، مثل الظلال الداكنة للمحْجرَين الفارغَين.
حدَّق بالمر وصديقه بحزن في الجسد الساكن وتنهدا بعمق. لكن الطبيب كان أقل تأثرًا. وبعد نظرة واحدة على السرير، التفت مبتعدًا وهو يُزمجر، ثم قال: «لقد قطعنا رحلتنا تحت الأمطار من أجل لا شيء، كان يجب أن تستدعيا متعهد دفن الموتى وليس طبيبًا.» ومِن ثَم شرع بحذر في نزول السلم إلى الغرفة الأكثر بهجة في الأسفل، حيث تبعه الرجلان الآخران بعد قليل.
قال بالمر، وهو يخلط للطبيب كوبًا من المشروب: «أفترض أننا بحاجة إلى شهادة وفاة؟»
هز ماكماليجان رأسه موافقًا.
«ألا يُمكنك أن تكتبها الآن وتُجنبني عناء الرحلة؟»
أجاب الطبيب: «لا، أنا لا أحمل معي نموذج شهادة الوفاة.» مضيفًا بلمحة مضطربة من أثر المشروب: «إن مرضاي عادة ما يكونون على قيد الحياة، في البداية على أي حال، لكن عليك أن تُعيدني في القارب، ومِن ثَم تأتي معي إلى عيادتي كي تحصل على الشهادة. كما يُمكنك استدعاء متعهد دفن الموتى والتجهيز للجنازة أيضًا؛ إذ من الأفضل إتمامُ هذه الأمور بسرعة. ليس من الجيد إبقاءُ جثة في المنزل لفترة طويلة.»
بعد تقديم هذه النصيحة دون مقابل، تجرع الطبيب كوبه ونهض. وثبت بالمر أزرار معطفه الواقي من المطر، وتوجَّه الرجال الثلاثة إلى الباب. لقد توقف المطر الآن، ولكن مع تأخر الوقت على المسافرين في الليل، هبَّت رياحٌ باردة عبر المستنقعات بينما تناهى لمسامعهما صوتُ الأمواج المتكسرة على الشاطئ. شاهدهما الرجل الذي تركاه خلفهما في المنزل وهما يبتعدان عبر الطريق الوعر، وعندما اختفيا، ذهب إلى غرفة الجلوس، وأخذ منظارًا بحريًّا من فوق أحد الرفوف، ثم خرج ليُراقبهما في الطريق خِلسة. حيث شاهدهما عبر المنظار وهما يدخلان القارب، ورآهما ينطلقان بالقارب ويرفعان الشراع، وبعد ذلك، عندما تلاشى القارب في الظلام، عاد إلى المنزل وأغلق الباب.
بعد أن أعاد المنظار إلى مكانه، أخذ الشمعة مرة أخرى وصعد السلَّم. لكن ليس على إصبع القدم هذه المرة. بل صعد قافزًا درجتَين في كل خطوة، وسار بحيوية إلى حجرة الموت، ووضع الشمعة على خِزانة ذات أدراج.
ثم قال: «إن المكان خالٍ يا جو؛ لقد رأيتُهما يُغادران في القارب.»
ومِن ثَم أزاح صاحبُ الجسد الراقد على السرير الملاءة عن وجهه وجلس، وبعد أن أمسك البنسَين ببراعة أثناء سقوطهما، رماهما في الهواء، وبدأ في فك ضمادة الوجه.
صاح جو وهو يهز ذقنه لأعلى ولأسفل: «ياه! يا له من شعور بالارتياح بعد التخلص من هذا الشيء الفظيع! ناولني الروب يا توم، ومنشفة لمسح هذا المسحوق.»
نهض جو مادًّا جسده، وارتدى الروب ومسح وجهه بخفة، ثم نزل مع رفيقه إلى الغرفة السفلية.
وقال وهو يسكب لنفسه كمية قليلة من المشروب: «لقد نجحت الخطوة الأولى، وتمكنَّا من الحصول على الشهادة، أليس كذلك يا بارات؟»
أجابه بارات: «نعم، وفيما يتعلق بأمر الدفن؛ لقد تجاوزنا الصعوبة الرئيسية. كل ما تبقى هو مجرد خطوات يسيرة.»
قال جو: «قد تكون كذلك، لكنها خطة معقدة للغاية. راجعها معي مرة أخرى فحسب؛ لعلي أتمكَّن من إدخالها في رأسي الغليظ.»
اتخذ بارات، بمظهر المعلم الذي يشرح درسًا لطالب، موقعًا على بِساط الحماية الموضوع أمام المدفأة، وشرع في التوضيح. فقال: «فيما يتعلق بالحصول على الأغراض، الأمر بسيط حقًّا. كانت الصعوبة تكمن في العثور على مكان آمن لإخفائها حتى انتهاء محاولات ملاحقتنا، وقد تغلَّبنا عليها. والخطة الآن هي: أولًا، علينا أن نجعل متعهد دفن الموتى المحلِّي يصنع تابوتًا بالقياسات التي سيُقدمها له بالمر، ثم يُسلمه إلى بالمر، الذي سيُحضره في القارب؛ ويجب أن يكون بداخله تابوت من معدن الرَّصاص، الذي سيتعين عليه أن يتركه لنا مفتوحًا حتى نلحمه. أعتقد أن بالمر سيتمكن من فعل ذلك. ثم، عندما نحصل على التابوت، يأخذ بالمر القارب إلى إيست هيفن كريك بجوار جزيرة كانفي، ويتركه هناك. بعد ذلك، نزور أنا وهو المبنى — متخفيَّين، بالطبع — ومعنا نسخة المفاتيح التي أعطيتنا إياها، وبعض العينات الوهمية في حقائب ونطلب من الموظف المختص إيصالًا لها.
وأثناء قيامه بتفريغ الحقائب، سننقضُّ عليه من الخلف ونقتاده إلى الغرفة الحصينة ونحبسه فيها. ثم نفتح لك الباب لتدلَّنا أين يتم الاحتفاظ بأكثر الأشياء قيمة. وبينما نقوم بتعبئتها في الحقائب، تذهب وتُعطي إشارة لجيم بيكر كي يجلب سيارته على مقربة، بعد أن يُثبت عليها لوحة أرقام مزورة. ثم نحمل الحقائب — ستكون صغيرة جدًّا — ونُخبئها في السيارة، ونركبها ونفر بعيدًا. إنها خطة بسيطة جدًّا ومباشرة، وفي وضح النهار، ولا يوجد بها شيء مريب، إذ إن الحقائب دائمًا ما تدخل وتخرج. ومِن ثَم؛ يُوصلنا جيمي بالقرب من النهر. سيكون الظلام قد حلَّ عندئذٍ. فنخرج ونحمل الحقيبة عبر المستنقعات إلى القارب، وننزل مع المد ونُبحر إلى هنا. في هذه الأثناء، يفر جيمي بعيدًا، وعندما يصل إلى مكان هادئ على مسافة آمنة، يُغير لوحة أرقام السيارة. ثم يُسارع إلى نورويتش. يُمكنهم أن يشكوا فيه كما يرغبون، لكنهم لن يجدوا معه أيًّا من المسروقات، لأنها ستُدفَن بأمان في تابوت الراحل ويليام برونتون.»
«إذن، هل سترسل التابوت إلى جريفيلهام بالقطار؟»
«لا، هذا يستلزم الكثير من الجلَبة والكثيرَ من الأوراق والسجلات في دفاتر الشركة. سوف أُرسل أمر الدفن إلى ألن، متعهد دفن الموتى، وأُخبره أن التابوت قادم بالمركب. ثم سيتسلمه ويتخذ جميع الترتيبات اللازمة للجنازة؛ وسأشترط أن يتم إيداع الرفات في سراديب الموتى، وليس في قبر أو قبو. لهذا السبب يجب أن يكون لدينا تابوت من معدن الرصاص.»
«أنت تقول إن لديك مفتاحَ سراديب الموتى؟»
«ليس مفتاحًا؛ بل نسخة. حصلت عليه في الوقت الذي فكرت فيه لأول مرة في هذه الخطة، عندما كنت تأخذ نسخة من مفاتيح صاحب العمل الراحل، مثل سكرتير خاص مخلص جدير بالثقة …»
قاطعه الآخر بانفعال: «أوه، دعك من هذا! لست بحاجة إلى السخرية بعد أرغمتني على القيام بذلك.»
قال بارات بابتسامة ساخرة: «حسنًا، موراي، اهدأ أيها العجوز، دعنا نعُد إلى العمل. سيُرتب السيد ألن جنازة لطيفة وهادئة، وبعدما نتبع أخانا العزيز الراحل إلى مثواه الأخير — في الوقت الحاضر — يُمكننا أن نأخذ إجازة صغيرة ونترك الأمور حتى تهدأ. هل فهمت الخطة؟»
أجاب موراي: «أعتقد ذلك، ويبدو أنها خطة منظمة.»
صاح بارات: «منظمة! إنها خطة عبقرية. فقط افهم! لدينا هنا غنيمة ضخمة لا يُمكننا تذويبها ولا يُمكننا تفكيكها، وهذه، إذا ظلت مجمَّعة كما هي، فسوف تفضح أمرنا على الفور؛ ومع ذلك، كل قطعة منها قابلة للبيع على حدة. كل ما نُريده هو مكان آمن لتخبئتها، وبطريقة جَهنمية وجدناه. إن سراديب الموتى تلك أفضلُ من أي بنك أو خِزانة إيداع. وكلما احتجنا للمال، كان كل ما علينا القيام به هو زيارة الفقيد، واستخراج قطعة أو قطعتَين. ومِن ثَم نبيعها لتاجر التحف الأمريكي.»
«ولكن هل يُمكن الوصول إلى سراديب الموتى بسهولة؟»
ضحك بارات قائلًا: «بارك الله فيك! يبدو أنها بُنِيت لهذا الغرض. فالمقبرة خارج المدينة، وكل ما عليك فعله هو تجاوز الجدار؛ يُمكنك إحضار سلم إذا أردت، لا يوجد أحد ليعترض. أُؤكِّد لك يا موراي أن هذا الاستثمار الصغير سيُحقق لنا دخلًا وافرًا لسنوات.»
زمجر موراي: «يجب أن يكون الأمر كذلك، يلزمني حافز كبير لتعويضي عن كل ما مررت به.»
ابتسم بارات مرة أخرى، وقطع طرف سيجار.
الجزء الثاني
وقف السيد إدوارد ألن، صاحب مكتب فرش الجنازات ومتعهِّد دفن الموتى، في مكتبه الصغير، يفرك يدَيه برفق وتعاطُف، حين دخل إليه أربعة من السادة الذين بدا عليهم الحزن، وهم في حالة حِداد واضح، ولكن غير زائد. وقد عرَّفوه بأنفسهم مستخدِمين أسماءً مستعارة، لكن بالنسبة إلينا هم معروفون بأسمائهم الحقيقية؛ وهي بالترتيب توماس بارات وهنري بالمر وجوزيف موراي وجيمي بيكر.
قال السيد ألن وهو يواصل فرك يدَيه: «أنا محرج للغاية، أيها السادة، لإبلاغكم أن التابوت لم يصل بعد. لقد كان الطقس، كما تعلمون، عاصفًا إلى حد ما، ولا شك أن المركب تأخرت بسبب مقتضيات الملاحة.»
نظر الرجال الأربعة بعضهم إلى بعض بقلق، وتابع السيد ألن: «لكني أنتظر وصوله في أي لحظة. وعامل النقل عند رصيف الميناء، وعربة الجنازة جاهزة للبدء بمجرد وصول التابوت.»
في ظل هذه الأخبار السيئة، اكتسَت ملامح وجوه المكلومين الأربعة بتعبير متقَن يتماشى مع الحزن الذي يتصنَّعون الشعور به، على الرغم من أنهم، أثناء الغياب المؤقت لمتعهد دفن الموتى، تبادلوا الملاحظات التي ربما بدَت غير متناسبة قليلًا مع ذلك الحزن المتكلف. ومع ذلك، لم يكن هناك شيء ليفعلوه سوى انتظار تقلبات الرياح والمد. فانتظروا بهدوء خارجي واضطراب روح داخلي.
ومع مرور نحو ثلاثة أرباع الساعة، زاد التوتر العصبي لديهم تدريجيًّا. ثم جاءت الصدمة الدراماتيكية. حيث عاد متعهد دفن الموتى في حالة من الانفعال الواضح، برفقة بحار يعرفه بارات جيدًا وهو قبطان المركب.
قال متعهد دفن الموتى بنبرة مؤثرة: «أيها السادة، يُؤسفني بشدة أن أُبلغكم بحدوث أمر فظيع. يبدو أن التابوت قد … ﻓ… فُقِد مؤقتًا.»
انتفضَ الرجال الأربعة واقفين في اللحظة نفسِها.
وصاحوا بصوت واحد: «فُقد!» ثم أضاف جيمي بيكر: «اللعنة؛ ما الذي تعنيه بكلمة «فُقِد»؟»
أشار متعهد دفن الموتى إلى القبطان بإشارة صامتة من يده، وحدَّق القبطان عابسًا في قبعة المطر التي يحملها.
ثم قال ببلادة: «في البحر.»
صرخ بارات: «ماذا؟»
قال القبطان بإصرار: «لقد فُقِد في البحر.»
سأله بالمر: «ولكن كيف حدث ذلك؟»
فأجاب القبطان بنبرة صوت فاترة: «إنه أمر عجيب! لقد حدث كالتالي: وضعنا ذلك التابوت هناك على جانب السطح، ليكون بعيدًا عن الطريق لأن رفيقي لم يُعجبه وجوده على متن المركب. حيث قال إنه سيُسبب لنا المشاكل؛ وكان محقًّا، نعم محقًّا تمامًا. لم نكد نخرج من جنكين حتى بدأت المتاعب. حيث اقتربت منا ناقلةُ فحم مسرعة وهي تُطلق نفيرها وكادت أن تصدمنا؛ وبينما نُحاول تفاديَها اصطدمنا بمركب يانتلت بوي، وأظن أن هذا قد حرك التابوت. على الرغم من أننا لم نلحظ ذلك. ثم هبت عاصفة قوية من الغرب، مما تسبب في تحريك التابوت مرة أخرى. لكننا لم نُلاحظ أبدًا أي شيء، لأنه عندئذٍ، وجدنا أمامنا سفينة بخارية وناقلة فحم وقاربًا خشبيًّا روشيان في الوقت نفسه؛ وهي تناور مثل ثيران باشان. فظننت أنا ورفيقي أننا على وشك الموت. لكننا تمكَّنا من تفادي الاصطدام بالقارب الخشبي في آخر لحظة، وبعد ذلك لطمَت الأمواجُ سطح الباخرة مباشرة. وأظن أنها قد تسببت في وقوع التابوت في البحر، لكننا لم نكتشف الأمر، لعلك تتفهَّم هذا. حسنًا، وعندما هدأ التلاطم، قلت لرفيقي: «بيل، أسرِع للأمام واربِط التابوت بحبل.» فذهب ليفعل، لكنه نادى عليَّ وهو يقول: «جو لا يوجد أي تابوت هنا، لقد سقط في البحر.» هكذا حدث الأمر. فأدرت الدفة وعُدت لأبحث عنه لكن لم أجد أي علامة تدل عليه. وكدنا نغرق ثلاثَ مرات، وكنا على وشك الاصطدام بباخرة أخرى، ثم فقدنا قوة دفع المد. وكان من الضروري أن نعود إلى المرفأ. وهذا كل ما حدث.»
عندما أنهى القبطان روايته، حدَّق في مستمعيه بنظرة متحدية، وقد أدهشه الذعر البادي على وجوه المكلومين الأربعة. بالنسبة إلى عقليته البحرية، بدا أن مراسم الدفن قد تمت على نحو مُرضٍ للغاية، وأن النفقات غير الضرورية من أجل جنازة الشاطئ قد اقتصدَت. حتى إن متعهد دفن الموتى كان ينظر إلى مشاعر عملائه بعجب خفي، وظن أنهم كانوا مرتبطين إلى حد بعيد بالمتوفى.
قال بارات بحزن بعدما غادر القبطان: «حسنًا يا سيد ألن، ما الذي سيحدث، وما العمل؟»
كان السيد ألن متشككًا، لكنه ارتأى أن التابوت ربما يظهر في مكانٍ ما. وأضاف: «لكني لا أعتقد أنك تريد تحقيقًا.»
لم يكن عملاؤه يريدون تحقيقًا، وأكَّدوا ذلك تمامًا. ثم طرح السيد ألن فكرة جيدة؛ وهي طباعة بعض الإعلانات الورقية أو الإعلان في الصحف عن فقدان التابوت، وبدأ بصياغة إعلان: «مفقود، تابوت به محتويات.» عندما قاطعه بارات قائلًا:
«لقد كان التابوت يحمل عنوانك يا سيد ألن؛ من أجل تأمين وصوله، حيث كتبتَه على الخشب بقطران ستوكهولم، لذلك لن تمحوَه المياه المالحة.»
صُدم السيد ألن في داخله، لكنه أعلن استحسان الفكرة ظاهريًّا.
حيث قال: «إجراء احترازي حكيم جدًّا، ومستحسَن في ظل هذه الظروف.» وهنا استُدعِي بعيدًا، وخلال غيابه، تناقش المتآمرون الأربعة بقلق حول ما إذا كان ينبغي لهم التفرق ومراقبة التطورات من بعيد، وتفويض متعهد الدفن بإجراء الجنازة، أم المجازفة بانتظار أخبار تابوتهم المفقود. ولم يتوصلوا إلى أي نتيجة عندما عاد السيد ألن، وبعد أن قرروا مواصلة المناقشة في وقت لاحق، أجَّلوا الإجراءات رسميًّا واستعدوا للمغادرة.
وبمجرد أن وصلوا إلى الباب الخارجي للمبنى، دخل بحَّار ذو مظهر مشاكس وراح يُحدق حوله؛ وحينما نظروا إلى الخارج، شاهدوا أربعة بحارة آخرين يقتربون من المبنى وهم يحملون شيئًا كبيرًا ممدودًا وملفوفًا في القماش المشمع.
سأل البحار: «هل أنت السيد ألن؟» وهو يُحدق بعينه الزرقاء الشرسة في متعهد دفن الموتى؛ وعندما أجاب متعهد دفن الموتى بهويته، تابع البحار: «أنا قبطان مركب السحب بيكوك، واسمي سويفلز. لقد عثرت على تابوت مرسل لك. التقطته قبالة نهر يانتلت. هل ستتسلمه؟ إذا قلت نعم، عليك أن تدفع مبلغ الإنقاذ؛ وإذا لم يكن كذلك، فسأُسلمها إلى مكتب متلقي الحطام.»
بدأ السيد ألن بحذر في الاستفسار عن مقدار مبلغ الإنقاذ، عندما قاطعه بارات:
«لن نُساوم على جنيه أو نحو ذلك يا سيد ألن. سأُسوي الأمر مع القبطان، بينما تُرتب إجراءات الجنازة دون تأخير.»
انحنى السيد ألن وهو يُحييهم ثم ابتعد مسرعًا، ونفذ تعليماته بأمانة؛ بحيث إنه عندما خرج البحارة الخمسة من بار «ذا برايفيتير»، كان أربعة مكلومين تبدو عليهم البهجة على نحو واضح يتدافعون داخل عربة نقل الموتى.
لن تسمح لنا قواعدُ الاحترام بالمزيد من متابعة الإجراءات. لقد أزعجت آذان موراي الأقل قسوة، تلك الكلمات الوقورة والجميلة لفعالية الدفن، بينما بالنسبة إلى بارات، نشعر بالأسف للاعتراف بأن الإشارات إلى القيامة ارتبطت فقط بالتحرير المتوقَّع للغنيمة. وهكذا أُسدِل الستار على جنازة المرحوم ويليام برونتون، وبعد ذلك أُكِلَت فطائر اللحوم المخبوزة من أجل الجنازة دون دموع أو رثاء — على العكس تمامًا، في الواقع — في ميدان بيكاديللي المبهج.
الجزء الثالث
مرَّ على تلك الأحداث ما يقرب من ستة أشهر. وقد تلاشت ذكرى السرقة الغامضة والناجحة، التي نُهبت من خلالها التحف المنتقاة من مجموعة هارلاند الشهيرة من الخزف الصيني، من أذهان الجميع باستثناء محترفي جمع التحف؛ وقد أصبحت جنازة الراحل ويليام برونتون بالنسبة إلى السيد ألن وأصدقائه حكاية تُروى، وتُروى كثيرًا في الواقع.
وفي إحدى الليالي المظلمة، حين أشارت ساعة الكنيسة الأبرشية إلى الحادية عشرة والنصف تمامًا؛ ووصل قطار البضائع الثقيلة إلى المحطة، بينما راحت البواخر المتأخرة تُطلق أبواقها في النهر، اقترب أربعة رجال من مقبرة جرافيلهام عبر مدق مهجور، وتجمعوا تحت الظل الأسود للجدار.
قال صوت يُشبه صوت السيد جيمي بيكر: «إنها مهمتك يا بارات، سأرفعك حتى تُثبت السلم.»
ومِن ثَم أخرج بارات من جيب معطفه سلمًا صغيرًا مصنوعًا من حبل رفيع متين، مزودًا بخُطَّافَين من الحديد في الأعلى. وبعد أن رفعه جيمي على كتفَيه، قام بتثبيت الخطافات على الحافَة، وتجاوز الحائط، وهبط إلى الداخل. وسرعان ما تبعه الآخرون، ثم أعاد تثبيت السلم من الداخل وتركه معلقًا، بينما تسللوا عبر الطريق المؤدي إلى سراديب الموتى.
زمجر موراي، وهم ينزلون درجات السرداب ويقفون في تجويف يُشبه البئر أمام الأبواب السوداء المخيفة، قائلًا: «إنها مهمة مقززة.» كان بالتأكيد مكانًا غريبًا. حتى في الظلام، كان بإمكانهم رؤيةُ الألواح المتهالكة على الأعمدة التي نمت عليها الطحالب، وهي تفوح برائحة التحلل والتعفن. وانبعثت رائحة متعفنة غريبة حول تلك البوابة القاتمة، وبينما كانوا ينتظرون بارات وهو يضع قطرات من الزيت على المفتاح الكبير المنسوخ، حركت الرياح الأبواب السوداء الكبيرة حتى بدا كأن أحدًا في الداخل كان يتلمسها خِلسة بحثًا عن وسيلة للهروب.
وأخيرًا، وضع بارات المفتاح، وفتح المزلاج بقرقعة جوفاء، وتأرجح الباب الكئيب إلى الداخل مُحدثًا صريرًا تردد صداه مطولًا داخل القبر.
فصاح موراي وهو يتنفس الهواء العفن باشمئزاز: «يا لها من رائحة مقززة، أشعل الضوء يا بارات، من أجل خاطر الله!»
قال بارات: «انتظر حتى أغلق الباب وأسد فتحة المفتاح.» وسمع موراي بانفعال مزعج صوت دفع الباب الثقيل وغلق المفتاح من الداخل. ثم أخرج بارات فانوسًا صغيرًا، وبعد أن أشعل الشمعة، ألقى بضوئه على رف ضخم وعلى الأطراف المربعة لصف النعوش.
قال بالمر: «إنه التابوت الرابع من النهاية، على ما أعتقد، لكن من الأفضل أن أصعد وأُدقق النظر.»
وأثناء صعوده، سأل موراي:
«كم ستأخذ يا بارات؟»
أجابه: «ثلاثًا فقط؛ اثنتَين من باودر بلو وواحدةً من ريد هوثورن. لا فائدة من أخذ أكثر مما تفاوضنا عليه. هل عثرت عليه يا بالمر؟»
أجاب بالمر: «نعم، كل شيء على ما يُرام. كن مستعدًّا لتلقِّيه عندما أدفعه إليك.» وانحنى لالتقاط مقبض الطرف، وجذب التابوت إلى خارج حافة الرف. فأمسكه رفاقه، وبصعوبة وضعوه على الأرض. ثم أخرج بارات من جيبه مفكَّ مسامير حديثًا، وبدأ بمهارة في فك المسامير.
ثم قال وهو يفك الأخير، بينما أخرج كلٌّ من رفاقه عتلة من جيبه: «والآن؛ استعدوا لنرفع الغطاء معًا.»
فوضع كلٌّ منهم عتلته في الموضع المناسب؛ وعد بارات: «واحد، اثنان، ثلاثة.» وبينما كان ينطق بكلمة «ثلاثة»، صدر صوت قرقعة، ومال الغطاء ثم انزلق، وتراجع الرجال الأربعة إلى الوراء مصدِرين شهقات مندهشة. فانتزع بارات الفانوس وألقى بضوئه داخل التابوت، وانطلقت من الرجال الأربعة في الوقت نفسه صيحاتٌ مكتومة من الذهول.
ساد الصمت لفترة قصيرة، وقف خلالها المتآمرون بلا حراك مثل التماثيل، وهم يُحدقون برعب هائل في التابوت. ثم قال بارات:
«أيها الأحمق، بالمر؛ لقد أنزلت التابوت الخطأ!»
التف بالمر حول التابوت ورفع الغطاء أمام ضوء الفانوس، الذي أنار بوضوح لوحة اسم ويليام برونتون الوهمي، والعنوان المكتوب بالقطران الذي أدهش متعهد دفن الموتى.
قال بالمر: «إنه التابوت الخاص بنا، ليس هناك شك في ذلك.»
صاح بيكر بغضب: «ليس هناك شك! إذن أخبرني كيف دخلَت تلك المرأة العجوز فيه، وماذا حدث للغنيمة؟»
قال بارات، وهو يُحدق في التابوت عابسًا، ويضع منديله على أنفه: «هذا ما يجب أن نعرفه، لقد تدخل شخص ما في شئوننا وسطا على غنيمتنا. شخص ما حصل على غنيمتنا وترك لنا جثة مقززة.»
قال موراي: «أنت محق يا بارات.» «مقززة حقًّا. انظر هنا.» وتقدم بحذر إلى التابوت وأشار إلى ثقب ممزق في حلق الجثة المثيرة للاشمئزاز بداخله.
وافقه بارات الرأي قائلًا: «نعم إنه أمر واضح لا لبس فيه؛ لقد قُتِلت تلك المرأة العجوز. لا بد أن تابوتنا كان مفيدًا جدًّا لشخص واقع في ورطة كبيرة، فتخلص منها ووضعنا نحن أنفسنا في ورطة أكبر. لذا كلما أسرعنا في وضع غطاء التابوت مرة أخرى والهروب من هنا، كان ذلك أفضل كي ننجوَ بحياتنا.»
كانت وجاهة هذه الملاحظات واضحة. ومِن ثَم أعادت الأيدي الراغبة والمرتعشة الغطاءَ إلى مكانه. وثبتت المسامير بسرعة في فتحاتها، وأُعيد التابوت إلى الرف. ومرة أخرى تحرك المزلاج، وفُتِح الباب الكئيب بنفس الصوت المزعج ثم أُغلِق إلى الأبد على مأساة الراحل ويليام برونتون. وبعد دقيقتَين، سار أربعة رجال مكتئبين عبر المدق المظلم على طريق ملتوٍ نحو المحطة، ولم يتحدث أيٌّ منهم لفترة. لكن السيد جيمي بيكر هو من كسر الصمت حين صاح بنبرة ساخطة:
«حسنًا، أنتم مجموعة من التعساء! فقط انظروا إلى ما فعلتم. لقد أضَعتم حوالي ثلاثمائة جنيه من المال الحلال، وما الذي حصلتم عليه مقابل ذلك؟ لقد قدمتم مجانًا جنازة لامرأة عجوز غير مرغوب فيها، كما منَحتم أحد رفاقها هدية بقيمة خمسين ألف جنيه. وإلى أين سأصل أنا في نهاية المطاف!»
قال بارات مزمجرًا: «أنت لن تصل إلى أي مكان على الإطلاق؛ بل ستُغادر، مع بقيتنا، ويجب أن تكون شاكرًا للغاية أننا نجونا وانتهى الأمر على هذا النحو!»
الجزء الرابع
اكتشاف غريب لكنوز هارلاند
أخيرًا كُشِف غموض اللغز الذي يكتنف عملية السرقة الصادمة لبعض قطع مجموعة السيد هارلاند من الخزف الصيني التي لا تُقدَّر بثمن؛ ليُسفِر الكشف عن لغز أكبر. إذ حدث في صباح أمس أن ذهب رئيس كنيسة ستوك، في هندرد أوف هو، إلى شاطئ بلايث ساند للاستحمام، ونظر حوله لمعاينة آثار العاصفة الأخيرة، ولاحظ بدهشة رقاب عدد من الجرار الزرقاء تبرز خارج الرمال. وعندما التقط واحدة منها، اكتشف على الفور أنها جرة خزفية رائعة الجمال، وشرع بحذر شديد في استخراج بقية الجرار. ونظرًا لأن لديه بعضَ المعرفة بالخزف، تعرف على القطع على الفور على أنها مِزهريَّات وجِرار من الخزَف الصيني من النوع المعروف باسم باودر بلو وهوثورن؛ ولأنه كان قد قرأ ما نشرته الصحف عن عملية السرقة الأخيرة، نقلها بعناية إلى منزله ثم اتصل بالشرطة. وقد تعرف السيد هارلاند على تلك المفقودات وأوضح أنها تخصه، وينبغي تهنئته على حقيقة أن هذا الاكتشاف قد حدث بواسطة شخص مثقف وواعٍ.
لقد قرأ الخبر أعلاه قراء مختلفون بمشاعر مختلفة. فبالنسبة إلى المتآمرين الأربعة، وللجمهور بشكل عام، أصبح الغموض أكثر عمقًا. بينما وجد فيه رجل واحد؛ الختام الأخير لفصل مؤلم من حياته. حيث وضع ذلك الرجل الصحيفة جانبًا — وهو بحَّار بسيط ذو شعر أبيض — ثم أغلق عينَيه، وتذكر الأحداث المأساوية في ليلة عاصفة قبل حوالي سبعة أشهر. فرأى نفسه على مركبه الصغير، وهو يشق مياه المصب المظلم ومعه زوجته المضطربة المخمورة. رآها، وقد انتابتها نوبة غضب جامح، فهُرِعت إلى المقصورة لتُحضر مسدس الخدمة القديم الذي احتفظ به هناك بحماقة. ورآها تُحاول الخروج بصعوبة من الكوة الصغيرة، وهي تُثرثر وتُهدد. كما رأى الوميض وسمع صوت الطلقة الهادر وفي اللحظة نفسها سقطت ممددة على سطح المركب، وتذكَّر رعبه الذي أصابه بالتيبس وهو يقف مشدوهًا أمام جثتها. وبعدئذٍ، حدث ذلك التدخل الرائع للعناية الإلهية! بارتطام غامض ونقرٍ على جانب المركب من التابوت العائم، الذي جاء بغرابة في وقته المناسب تمامًا؛ ثم تلك الدهشة الكبيرة، بعد أن رفعه بعناء مؤلم إلى سطح المركب وفك الغطاء، حيث لم تكشف سكينه، التي مزقت العلبة الرصاصية، عن أي جثة، بل مجرد مجموعة من الجرار الفخارية! كما تذكر عملية التبديل المروع، والطرطشة الهائلة للماء بينما يرتطم التابوت به مرة أخرى وتتقاذفه الأمواج؛ ثم الرسو السري على شاطئ بلايث ساند؛ ودفن الجرار الخزفية بعناية عند علامة المياه العالية. والخبر المزيف، رغم أنه صحيح من الناحية الجدلية، الذي عممه في اليوم التالي بأن امرأته العجوز قد انزلقت وغرقت في البحر وسط الظلام. لقد تذكر كل تلك الأحداث بوضوح؛ مع تنهيدة يشوبها قليلٌ من الأسى، ثم فتح عينَيه، وطوى الصحيفة، وأغلق هذا الفصل إلى الأبد.