وكيل بيرسيفال بلاند
الجزء الأول
كان السيد بيرسيفال بلاند مجرمًا من نوع غير معتاد إلى حدٍّ ما؛ إذ كان لديه في المقام الأول قدرٌ لا بأس به حقًّا من الفطرة السليمة. ولو أن لديه المزيد منها، لما أصبح مجرمًا على الإطلاق. ومِن ثَم، أصبح لديه ما يكفي من الوعي لإدراك أن عواقب الأفعال غير القانونية تتراكم مع تَكرارها؛ وفهم أن موقف المجرم يجب أن يُصبح، على المدى البعيد، غير مقبول؛ كما فهم أن عليه اتخاذَ ما يعتبره احتياطاتٍ مناسبةً لمنع حدوث الكارثة المحتومة.
ولكن على الرغم من هذه السمات المميزة للشخصية والاحتياطات المذكورة سابقًا، وجد السيد بلاند نفسه في موقف صعب إلى حد ما وقد يزداد صعوبة بمرور الوقت. ونحن لا تُهمنا أسباب هذا التوتر غيرِ المريح الذي أصابه، ويُمكن التوقف عن التفكير فيها لو ذكرنا أنه إذا وزَّع المرء أوراق بنك إنجلترا المزيفة بشكل مثابر على مكاتب الصرافة عبر القارة الأوروبية، فسيأتي يوم تصفية الحساب عندما تُقدم هذه الأوراق النقدية للسيدة العجوز الخبيرة التي تعيش في شارع ثريدنيدل.
أخذ السيد بلاند يُفكر بتوتر في العاصفة التي تُوشك أن تهب عليه، بينما كان يُلقي نظرة خاطفة على «المعروضات المتنوِّعة» في صالة مزادات السادة بليمبتون. حيث إنه مشارك دائم في المزادات، وهذا أمر طبيعي؛ لأن المجرم هو مقامرٌ في الأساس. كما يتَّسم المجرم والمقامر بصفةٍ واحدة مشتركة؛ إذ يأمُل كلٌّ منهما في الحصول على شيء ذي قيمة دون دفع سعر السوق العادل مقابلَ ذلك.
وهكذا استعرض بيرسيفال التحفَ المتربة، وفي الوقت نفسه، استمر يُفكر في الصعوبات التي يُواجهها. وقد كانت الأسئلة الحيوية التي تُطارد فكرَه هي: متى تنفجر العاصفة؟ وهل ستعصف بميناء اللجوء الذي كان يبذل جهدًا كبيرًا في بنائه؟ والآن؛ دعونا نستكشف أمر ميناء اللجوء هذا.
كان عبارة عن شقة هادئة في حي باترسي المبهِج تحمل لوحةً كُتب عليها اسم السيد روبرت ليندساي؛ وكان المستأجر معروفًا لدى البوَّاب والخادمة التي تُنظف الشقة، كرجل نبيل أشقرَ يعمل في مجال حجز تذاكر السياحة كوَكيل سفر، ومِن ثَم فهو يغيب عن المنزل كثيرًا. وتتشابه ملامح السيد روبرت ليندساي مع السيد بيرسيفال بلاند تشابُهًا واضحًا؛ وهو أمر غيرُ مفاجئ نظرًا لكونهما أبناءَ عمومة (أو، على أي حال، لقد قالا إنهما كذلك؛ وقد نفترض أنهما على حق). لكنهما لم يكونا متشابِهَين إلى حد كبير. حيث إن شعر السيد ليندساي أشقر؛ بينما شعر السيد بلاند أسود. لدى السيد بلاند شامة تحت عينه اليسرى. وليس لدى السيد ليندساي شامة تحت عينه، لكنه يحمل واحدةً في صندوق صغير في جيب الصديري.
في مرات نادرة إلى حدٍّ ما، زار ابنا العمومة أحدُهما الآخر؛ لكن حظهما كان سيئًا للغاية، إذ لم يُصادف أنْ وجَد أيٌّ منهما الآخر في منزله. والشيء الأكثر غرابة هو أنه كلما أمضى السيد بلاند أمسية في مسكنه فوق متجر الزيوت في بلومزبيري، تُصبح شقة السيد ليندساي خالية؛ وعندما يكون السيد ليندساي في شقته، فمن المؤكد أن مسكن السيد بلاند يُصبح خاليًا في الوقت نفسه. كانت مصادفةً غريبة، إذا لُوحِظت. لكن أبدًا؛ لم يُلاحظها أحد.
ومع ذلك، إذا كان بيرسيفال لا يتقابل مع ابن عمه، فهو لم يكن يتعامل معه وفقًا للمثل القائل: «البعيد عن العين، بعيد عن القلب.» بل على العكس تمامًا؛ لقد كان اهتمامه برفاهية ابن عمه كبيرًا لدرجة أنه وضع وصية تُعيِّنه منفذًا للوصية وكذلك الوريثَ الوحيد، كما أمَّن على حياته (حياة بيرسيفال) بمبلغ لا يقل عن ثلاثة آلاف جنيه؛ وقد وضع تلك الوصية، بالإضافة إلى بوليصة التأمين والأوراق المالية الاستثمارية وغيرها من الوثائق الضرورية، في عُهدة محامٍ محترم للغاية. ومنحه كل ذلك فضلًا كبيرًا وكان مدعاة لفخره؛ إذ ليس كل امرئ على استعداد لتحمل هذا الكم من المتاعب من أجل مجرد ابن عم.
واصل السيد بلاند تجواله، وهو يتحسَّس معروضاتِ المزاد المتنوعةَ بحكم العادة، وهو يُفكر في الأزمة القادمة التي ستُواجه أعماله الخاصة، وفي التدابير التي وضعها لابن عمه روبرت. أما بالنسبة إلى تلك التدابير، فقد كانت ممتازة إلى حدٍّ بعيد، لكنها تفتقر إلى الدقة والكمال التام. لقد كان هناك احتماليةُ «امتداد»، على سبيل المثال؛ لنقل أربع عشرة سنةً من الأشغال الشاقة. وبوليصة التأمين لم تُغطِّ هذا. وفي غضون ذلك، ما الذي سيحدث لروبرت المحترم؟
في ذلك الوقت جُرح إبهامه جرحًا شديدًا إلى حد ما في مخرطة قطع لولبية، وأدار، وهو شاردُ الذهن، مقبضَ بيانولا صغيرةٍ إلى أن طلب منه أحد الموظفين بأدب أن يكفَّ عن ذلك، وبعد هذا وجد مجموعة من الصناديق تحتوي، وفقًا للكتالوج، على «مجموعة من الأدوات الجراحية مملوكة لطبيب ممارس متوفًّى حديثًا.» ووفقًا لمظهر الأدوات، يجب أن يكون الممارس قد بدأ الممارسة في شبابه المبكر وتُوفِّي في سنٍّ كبيرة جدًّا.
لقد كانت مجموعة أدوات مقززة، لا قيمة لها مطلقًا باستثناء أنها شاهدة على المثابرة المذهلة في حياة أسلافنا؛ لكن بيرسيفال راح يتحسسها وفقًا لعاداته، وضغط على مقبض حقنة نُحاسية معقَّدة، فألقى قطرة من سائل أخضر على قميص رجل عبري متأنِّق (حيث طلب منه «توجيه تلك الحقنة اللعينة بعيدًا عنه وأن يحترس أكثر من ذلك في المرة القادمة»، وقد دلَّت طريقته في الكلام على أنه ألثغُ؛ إذ استبدل حرف الثاء بحرف السين)، ثم فتح الحقائب الجلدية المتعفنة، ونقر على المباضع النابضة، وتحسس حواف السكاكين الغريبة والمعوجَّة. ثم وجد صندوقًا ضخمًا أسود اللون، وعندما رفع غطاءه، استنشق رائحة عتيقة تُشبه رائحة السمك واستعرض مجموعة من العظام كانت مصفرَّة، ومدهنة ومبقعة في الأماكن التي بها عفن. وصفها الكتالوج بأنها «مجموعة كاملة من العظام البشرية لدراسة علم تراكيب العظام»، لكنها لم تكن «مجموعة خاصة بالطلاب» عادية؛ لأن عظام اليدَين والقدمَين، بدلًا من أن يتم ربطها معًا بخيوط من أحشاء القطط، كانت محتفظة بأربطتها البشرية وكانت ذات لون بنيٍّ كريه.
قال العبري محتجًا وبلثغة واضحة: «اسمع أيها السيد؛ عليك أن تُغلق هذا الصندوق، إن رائحته كريهة للغاية.»
لكن بدا أن محتويات الصندوق الأسود قد أعجبت بيرسيفال للغاية. حيث نظر إلى تلك البقايا الدهنية الميتة، إلى اليدَين والقدمَين البنيتَين المتعفنتَين والجمجمة التي كانت تُطل بشكل مخيف من ثنايا القماش الذي يُغلفها؛ فوجدها تنفث شيئًا أكثر من تلك الرائحة الكريهة والعفن. فقد أوحت إليه بفكرة — غامضة وعامة في البداية، ولكنها تتبلور بسرعة إلى شكل متميز — بدت كأنها تتسلَّل من الصندوق الأسود إلى عقله؛ فكرة بدت بطريقة ما أنها تربط نفسها مع ابن عمه المحترم روبرت.
وقف بلا حَراك لما يزيد عن دقيقة واحدة، كمن غرق في أحلام اليقظة، بينما يُمسك الغطاء في يده وعينُه الحالمة مثبتة على نصف الجمجمة. ثم أيقظته ضجة في القاعة. حيث كان المزاد على وشك البدء. فجلس المزايدون وغيرهم من رواد المزاد على مقاعد حول طاولة خضراء طويلة؛ حيث استعرض الحاضرون أول المعروضات وفتحوا نسخهم من الكتالوج الذي يُوضح تفاصيلها كما لو كانوا على وشك غناء لحن تمهيدي؛ وصعد رجل ذو شارب ممدودٍ ومثبت بمادة شمعية ويُشبه بشكل مذهل جلالة الملك الراحل، نابليون الثالث، إلى المنصة وطلب من الجميع الانتباه عبر طرقة تمهيدية بمطرقته.
كم هي غريبة بعض آثار الضمير المذنب! وبأي وعي ذاتي عبثي نقرأ في أذهان الآخرين نوايانا غير المعلنة، عندما تكون تلك النوايا غير مشروعة! لو أراد بيرسيفال بلاند مجموعة من العظام البشرية لأي غرض مشروع — مثل الدراسة التشريحية — لكان قد اشتراها علانية ودون حرج. لكن الآن، وجد نفسه يُفكر بجدية حول ما إذا كان لا ينبغي له تقديم مزايدة لشراء بعض الأدوات الجراحية، فقط من أجل المظاهر؛ ولم يكن هناك سوى القليل من الوقت لاتخاذ قراره — لأن أدوات الممارس المتوفَّى جاءت أولًا في الكتالوج — وقد كانت بالفعل أدوات متميزة وتضمُّ مجموعة من أكواب الحجامة ومفتاح خلع الأسنان وأداة غير معروفة الاستخدام شيطانية المظهر، لذا يجب عليه حسمُ أمره قبل النداء على تلك الأدوات المشئومة.
وبعد فترة وُضِع الصندوق الأسود على المنضدة، ليُصبح مادة للسخرية الفاحشة بين المزايدين، وقرأ بائع المزاد بيانات المعروضات قائلًا: «مجموعة المزايدة رقم ١٧؛ مجموعة كاملة من العظام البشرية الخاصة بعلم دراسة العظام. مجموعة عينات مفيدة وقيمة للغاية، أيها السادة.»
نظر حوله إلى المجلس بفخامة، متجاهلًا الاستفسارات المتنوعة حول هُوية المتوفَّى وقرار هيئة الطب الشرعي، واقترح أخيرًا خمسة شلنات.
قال بيرسيفال: «ستة».
فتح أحد الموظفين الصندوق، وهو يهتف بالكلمة الغامضة «لودلمن!» (التي تعني «هذه هي المجموعة المطروحة للمزايدة، أيها السادة») ثم وضعها تحت الأنف المنتفخ للعبري المتأنق؛ الذي قال إنها «قد اقتربت منه للغاية وستُلوثه» ودفعها بعيدًا.
قال بائع المزاد بخيبة أمل: «بِيعَت مقابل ستة شلنات.» وبما أنه لم يُزايد أحد على هذا السعر، فقد ضرب المنصة بمطرقته وسلم الصندوق لبيرسيفال نظير هذا المبلغ المتواضع.
بعد حشر كئوس الحجامة، ومفتاح خلع الأسنان والأداة المجهولة في الصندوق، حصل بيرسيفال من أحد الموظفين على حبل طويل، ربط به الغطاء جيدًا. ثم حمل كنزه إلى الشارع، واستأجر عربة بأربع عجلات، وأمر السائق بالتوجه إلى محطة تشارينج كروس. وفي المحطة حجز الصندوق في غرفة إيداع المتعلقات (باسم سيمبسون) وتركه لبضع ساعات؛ وعند انتهاء مدة الحجز عاد مع حمَّال مختلف، ونقل الصندوق في عربة تجرها الخيول إلى مسكنه فوق متجر الزيوت في بلومزبيري. وهناك، حمله بنفسه، دون أن يُلاحظه أحد، وصعد على السلم، ووضعه في دولاب كبير، وأغلق الباب ووضع المفتاح في جيبه.
وهكذا أُسدل الستار على الفصل الأول. ثم افتتح الفصل الثاني بعد يومَين فقط (إذا أردنا أن نستمر في نفس التشبيه حتى نصل إلى النهاية المريرة) حيث تولى مهمة عامل خشبة المسرح ضابط شرطة بلجيكي خرج لتوِّه من المدخل الرئيسي لبنك إنجلترا. ويُمكننا القول إن السبب الذي دفع بيرسيفال بلاند إلى الاقتراب من نطاق مبنى بنك إنجلترا، الذي هو نطاق غير آمن بالنسبة إلى مجرم مثله؛ هو سبب يصعب تخيله، إلا إذا كان السبب هو هذا الافتتان الغريب الذي يبدو بحكم العادة أنه يجذب المجرم إلى الأماكن المرتبطة بجريمته. على أي حال؛ كان بيرسيفال هناك على بُعد عشر خطوات من المدخل عندما خرج الضابط منه، وقد عرَف كلٌّ منهما الآخر على الفور. وعلى الفور أيضًا اتخذ بيرسيفال قرارًا بعبور الطريق.
وهو ليس طريقًا هادئًا يُمكن عبوره بسهولة. فالخيول التي تجر العربات القديمة قد تتعطف وتصهل محذرةً عابر الطريق المتهور. لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى السائق في هذه الأيام، الذي ينظر أمامه بثبات دون أن يُحذرك ويتركك تبتعد عن طريق الطاغوت أو لا تبتعد فهذا أمر لا يُهمه. إنه يعرف تمامًا هيئة المحلَّفين التي ستُعطيه «البراءة». ولكن في هذه اللحظة، كان موكب الطواغيت متوقِّفًا. لكن بيرسيفال رأى الضابط يستدير ليبتعد فاندفع عبر مقدمات المركبات حتى وهي تبدأ في التحرك. وتبعه الضابط الأجنبي، ولكن في تلك اللحظة انطلق الموكب بأكمله. حيث رعدت الحافلة العامة أمامه؛ بينما حاصرَته أخرى بلا هوادة. فتردَّد وتراجع. وعندئذٍ اندفعت سيارة أجرة من الخلف ونطحته بشدة، فجعلته يتمدد على الطريق، ثم سارع بالعودة إلى الرصيف بأقصى سرعة ممكنة.
بينما قفز بيرسيفال بخفة، في هذه الأثناء، على مسند قدم أول حافلة عامة وهي تستجمع سرعتها. وبعد ثوانٍ أصبح آمنًا في مانشن هاوس، وبعد بضع ثوانٍ أخرى، وصل شارع الملكة فيكتوريا. كان الخطر قد انتهى عمليًّا، ومع ذلك اتخذ الاحتياطات اللازمة للنزول في سانت بول، وعبور شارع نيوجيت، ثم استقلال حافلة أخرى متجهة إلى الغرب.
في تلك الليلة جلس في مسكنه يتدارس هذه الواقعة. لقد كان قاب قوسَين أو أدنى من حافة الخطر، ويجب ألا يحدث مثل هذا الشيء مرة أخرى. في الواقع، نظرًا لأن القانون كان بلا شك على وشك أن يأخذ مجراه، فقد حان الوقت لبعض خططه الصغيرة أن تأخذ مجراها أيضًا. فقط، كانت هناك صعوبة. صعوبة خطيرة. وبينما كان بيرسيفال يُفكر في هذه الصعوبة، عبس وجهه وأخذ يُدندن بصوت خفيض.
«إذن لقد حان وقت الاختفاء،
خذ غطسًا، واذهب للعمق.»
قطع أغنيته نقر على الباب. كانت مالكة منزله، السيدة براتل. وهي امرأة مهذبة في العادة، وكانت مهذبة بشكل خاص في هذه اللحظة؛ إذ جاءت لتطلب منه طلبًا صغيرًا.
قالت السيدة براتل: «بخصوص ليلة عيد الميلاد يا سيد بلاند؛ لقد فكَّرت أنا وزوجي في قضاء الأمسية مع شقيقه في هورنسي، كما سنسمح للخادمة بالعودة إلى منزل والدتها طوال الليل، إذا لم يُسبب لك ذلك إرباكًا.»
قال بيرسيفال: «لن يُسبب لي إرباكًا على الإطلاق يا سيدة براتل.»
تابعت السيدة براتل: «لا داعي لانتظار عودتنا، كما تعرف، إذا تركت الباب الجانبي بدون قفل المزلاج. فنحن لن نعود إلى المنزل قبل الساعة الثانية أو الثالثة؛ لكننا سندخل بهدوء حتى لا نُزعجك.»
أجاب بيرسيفال بضحكة لطيفة: «لن تُزعجوني، فأنا لا أثمل بشكل عام، ولكن «عيد الميلاد يأتي مرة واحدة في السنة.» وعندما أستلقي على السرير لأنام في ليلة عيد الميلاد، فسوف تحتاجون لبذل مزيدٍ من الجهد لإيقاظي مرة أخرى.»
ابتسمت السيدة براتل ببهجة وقالت: «ولكن ألن تشعر بالوحدة، وأنت بمفردك في المنزل؟»
صاح بيرسيفال: «الوحدة! مع مدفأة متقدة، وكتاب مرح، وعلبة سيجار فاخر، وزجاجة شراب جيد. آه، وزجاجة ثانية إذا لزم الأمر. لن أشعر بالوحدة بالتأكيد.»
هزت السيدة براتل رأسها، وقالت: «آه، يا لك من رجل عازب سعيد! حسنًا، حسنًا. إنه لأمر جيد أن تكون مستقلًّا.» ابتسمت وهي تقول هذا التعليق العميق وخرجت من الغرفة ونزلت على السلم.
عندما تلاشت خطواتها بعيدًا، قفز بيرسيفال من كرسيِّه وبدأ يذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا بحماس. حيث لمعت عيناه وعلَت الابتسامةُ وجهه. ثم توقف أمام المدفأة وضحك بصوت عالٍ وهو يُحدق في الجمر.
ومِن ثَم قال: «مرح للغاية! غني للغاية! أنيق! أنيق جدًّا! ها! ها!» وهنا استأنف أغنيته المقطوعة: «عندما تكون السماء صافية، عندما تكون السماء صافية، اصعد بهدوء، اصعد بهدوء، اصعد بهدوء من الأسفل!» التي يُمكن اعتبارها ختامَ المشهد الأول من الفصل الثاني.
خلال الأيام القليلة التي سبقت عيد الميلاد، لم يخرج بيرسيفال إلا مرات قليلة؛ ومع ذلك كان مشغولًا جدًّا. حيث ذهب للتسوق خفية، وغامر بالخروج حتى تشارينج كروس رود؛ وكانت مشترياته متنوعة بشكل متعمَّد. فهي تبدو تشكيلة غريبة إلى حدٍّ ما، بين إناء لصنع العصيدة، ونسخة مستعملة من كتاب «تشريح جرايز»، وفراء أرنب، وكمية كبيرة من الصمغ، وما يزيد عن عشرة أرطال من اللحم البقري من موزة الساق؛ وكان من حسن حظه أن الطقس بارد جدًّا، وإلا فإن غرفة نومه، التي وضعت فيها هذه الأطعمة القابلة للتلف بدون ظروف تخزين مناسبة، كانت ستنبعث منها روائحُ تفضح ما بداخلها.
ولكن في الأمسيات الطويلة كان عمله لافتًا للانتباه للغاية. وبعد ذلك، بدأ الدولاب الكبير ذو القفل الممتاز، الذي ثبَّته بنفسه، يمتلئ بنتاج عمله. ففي تلك الأمسيات، كان يضع كمية كبيرة من صمغ سكوتش الجيد في إناء العصيدة ويتركه على نار هادئة، ويسحب الصندوق الأسود للطبيب المتوفَّى من مكان اختبائه، ويضع كتاب «تشريح جرايز» ذا الصفحات المتهالكة أمامه على الطاولة.
لقد كان عملًا شاقًّا بالرغم من ذلك؛ ومهمة أصعب مما توقع. كانت العظام اليمنى واليسرى متشابهة بشكل مربك، وكان من الصعب جدًّا أن تتلاءم العظام الملتصقة معًا. ومع ذلك، وحيث إن لوحات كتاب «جراي» كبيرة وواضحة جدًّا، فإن الأمر يتطلب فقط بذل الجهد الكافي.
كانت طريقة عمله بسيطة وعملية. بعد أن يُخرج عظمة من الصندوق، كان يُقارنها بالرسوم التوضيحية في الكتاب حتى يتعرف عليها بما لا يدع مجالًا للشك، ثم يربط عليها ملصقًا ورقيًّا باسمها والجانب الذي تنتمي إليه، هل هو اليمين أم اليسار. ثم يبحث عن العظمة المجاورة، ويُركب الاثنَين معًا، ويُثبتهما بطبقة مناسبة من الصمغ ويضعهما في حاجز المدفأة حتى تجفَّا. كانت طريقة بدائية وفظيعة للتجميع من شأنها أن تجعل حتى أمينَ المتحف المخضرم يرتجف. ولكن يبدو أنها تُحقق هدف بيرسيفال — أيًّا كان ذلك الهدف — لأن «العظام» المفككة أصبحت مجمعة تدريجيًّا كأعضاء يُمكن التعرف عليها مثل الذراعَين والساقَين، والفقرات — التي كانت، لحسن الحظ، معلقة بترتيبها الصحيح على سلك سميك — وتجمعت لتُكوِّن عمودًا فقريًّا متماسكًا، وحتى الضلوع، التي كانت أصعب مهمة على الإطلاق، استطاع تجميعها لتُكوِّن القفص الصدري. كان التجميع رديئًا. حيث لصقت العظام بنقاط من الصمغ ومع ذلك كان من الممكن أن تتفكك بلمسة واحدة. ولكن، كما قلنا، بدا بيرسيفال راضيًا، ولأنه كان الشخص الوحيد المعنيَّ بالأمر، لم يكن هناك ما يُقال.
وجاء يوم عيد الميلاد. وتناول بيرسيفال الغداء مع آل براتل في الساعة الثانية، ثم غمره النُّعاس بعده، ثم استيقظ لتناول الشاي، وبعد ذلك، حملت السيدة براتل، وهي ترتدي ثيابًا أرجوانية فاخرة، صينية الشاي لتُعيدها إلى المطبخ، ومِن ثَم بسَط على الطاولة المواد اللازمة ليستكمل عمله في الليل. وبعد ربع ساعة، فتح النافذة ورأى صاحب المتجر وزوجته يُهرَعان بعيدًا في الشارع المضاء بلمبات الغاز باتجاه أقرب محطة للحافلة العامة.
وعندئذٍ بدأ السيد بيرسيفال بلاند أمسيته الترفيهية. وقد كان ترفيهًا مميزًا للغاية، حتى بالنسبة إلى عازب وحيد، تُرك وحده في منزل خلال ليلة عيد الميلاد. في البداية، خلع ملابسه وارتدى بدلة جديدة. ثم أخرج من الدولاب «مجموعة العظام» المعاد تشكيلها، ووضع الأعضاء المختلفة على الطاولة، وعاد إلى غرفة النوم، ثم ظهر مرة أخرى مع طرد كبير تفوح رائحته كان قد استخرجه من صندوق. وبداخله مشترياته المتراكمة من قطع لحم البقر.
وباستخدام سكين كبيرة، شحذَها بعناية قبل العمل، قطَّع اللحم البقري إلى شرائح رفيعة وكبيرة، ثم شرع في لفها حول العظام المختلفة التي شكلت «الهيكل العظمي الكامل»؛ فأصبحت العظام مغطاة باللحم ولكنها لم تزدد جاذبية بأي حال من الأحوال. وبعد أن انتهى من «كسوة العظام الجافة»، جمع البقايا، لتُوضَع مؤقتًا داخل الصندوق. لقد كان تصرفًا غريبًا، لكنَّ التصرف التاليَ كان أكثرَ غرابة.
أخذ بيرسيفال الأعضاء التي كساها باللحم واحدًا تلو الآخر، وبدأ بعناية فائقة في وضعها داخل الملابس التي كان يرتديها قبل البدلة الجديدة. لقد كان عملًا بالغ التعقيد؛ لأن المفاصل الملصقة كانت هشة مثل الزجاج. وبحذر شديد، أدخل الأرجل بشكل منفصل، أولًا في الملابس الداخلية ثم في البنطلون، ثم ركَّب أقدام الهيكل العظمي وأدخلها في الجوارب القديمة ووضعها بحرصٍ بالغ داخل الحذاء. وبالحرصِ نفسه وضع الذراعَين في الأكمام المختلفة من خلال فتحات الذراع في الصديري؛ ثم جاءت أصعب مهمة على الإطلاق، وهي ملاءمة الملابس على الجذع. لأن الجمجمة والأضلاع المثبتة على العمود الفقري بواسطة نقاط من الصمغ، كانت ستسقط عند أي اهتزاز؛ ومع ذلك، كان لا بد من شد الملابس فوق الجذع بعد أن وضعت الأذرع داخل الأكمام. لكن بيرسيفال نجح في ذلك أخيرًا من خلال إراحة «الهيكل العظمي المعاد تجميعه» على كرسيٍّ كبير مبطَّن ذي ذراعَين ثم إدخاله في الملابس ببطء شديد.
يتبقى الآن فقط وضعُ اللمسة الأخيرة؛ التي تمت عن طريق قطع جلد الأرنب بالشكل المطلوب ولصقه على الجمجمة بطبقة رقيقة من الصمغ القوي؛ وعندما انتهى من تجهيز الجمجمة بهذا الشعر المستعار المؤقت البدائي، كان مظهرها مروعًا لدرجة أنها تسببت في إزعاج أعصاب بيرسيفال الذي كان شخصية عملية جدًّا. على أي حال، لم تكن هذه مناسبة لمراعاة المشاعر. قد تكون الجمجمة وعليها هذا الشعر المستعار البدائي أو فروة الرأس المزيفة شيئًا مزعجًا للغاية؛ ولكن كذلك كان ضابط الشرطة البلجيكي.
بعد الانتهاء من عملية «التجميع»، أحضر بيرسيفال إبريق الماء من غرفة نومه، ونزل إلى المتجر الذي ترك بابه مفتوحًا، وجرب صنابير البراميل المختلفة حتى وصل إلى ذلك الذي يحتوي على الكحول الميثيلي؛ حيث ملأ إبريقه وعاد إلى غرفة النوم. وسكب الكحول في الحوض، ووضع منشفة حول رقبته وملأ إسفنجة بالكحول وشرع بقوة في غسل شعره وحاجبَيه بالكحول؛ وبينما أصبح الكحول الموجود في الحوض، بالتدريج داكنًا وعكرًا، كذلك أصبح شعره وحاجبيه أفتح في اللون إلى أن اكتسبوا، بعد فركهم بقوة بمنشفة، لونًا ذهبيًّا أو رمليًّا لا يُمكن تمييزه عن لون شعر ابن عمه روبرت. حتى الشامة الموجودة تحت عينه كانت عرضة لظروف التغيير، لأنه عندما بللها جيدًا بالكحول، تمكَّن بشفرة سكين رفيع من تقشيرها بدقة كما لو كانت ملصقة بصمغ العلكة. وبعد أن فعل ذلك، وضعها في صندوق صغير كان يحمله في جيب الصديري.
كانت الإجراءات التي تلت ذلك واضحة الغرض تمامًا. أولًا حمل حوض الكحول إلى غرفة الجلوس وسكب محتوياته عمدًا على الأرض بجانب الكرسي ذي الذراعَين. وبعد أن أعاد الحوض إلى غرفة النوم، نزل مرة أخرى إلى المتجر، حيث اختار دلوَين مجلفنَين من المخزون، وملأهما بزيت البارافين من أحد البراميل الكبيرة وحملهما إلى الطابق العلوي. ثم سكب الزيت من أحدهما على الكرسي ذي الذراعَين وعلى الهيكل المنفر الموضوع عليه؛ أما الدلو الآخر فقد سكبه ببساطة على السجادة، ثم نزل إلى المتجر للحصول على كميات أخرى.
وعندما تكرَّر هذا الإجراء مرةً أو مرتَين، أصبحت الأرضية والأثاث بأكملها مشبعة، وملأت رائحة البارافين هواء الغرفة لدرجة أن بيرسيفال اعتقد أنه من الحكمة إطفاءُ الغاز. وعند العودة إلى المتجر، سكب دلوًا من الزيت فوق كومة من حُزَم الحطب، وآخر فوق طاولة البيع والأرضية، وثالثًا فوق الأشياء المتفرقة على الجدران والمتدلية من السقف. وعند النظر إلى السقف، يُمكن الآن رؤية عدد من البقع الدهنية التي نشع فيها الزيت من أرضية الطابق العلوي، التي بدأ بعضها في التنقيط على أرضية المتجر.
لقد أتم الآن استعداداته النهائية؛ لذا أخذ حُزمة من ثقاب «العجلة»، وصنع كومة صغيرة مقابل كومة الحطب. وفي وسط الثقاب، وضع كرة من الخيط مشبعة بالبارافين؛ وفي الفتحة المركزية للكرة، وضع نصف دستة من شموع عيد الميلاد الصغيرة. وهكذا أصبح هذا اللغم جاهزًا الآن للتفجير. بعد ذلك زود نفسه بكمية من الثقاب، وبضع كرات من الخيط المشبع بالبارافين ونحو عشر شموع صغيرة، وصعد إلى غرفة الجلوس، التي كانت أعلى المتجر مباشرة. هنا، وعلى وهج نار المدفأة، صنع كومة أو اثنتَين من الثقاب حول وتحت الكرسي ذي الذراعَين، ووضع كرات الخيط على الأكوام وعلق حُزمتَين أو ثلاثًا في كل كرة. فأصبح كلُّ شيء جاهزًا الآن. ثم دخل إلى غرفة النوم وأخذ من الدولاب معطفًا احتياطيًا وقبعة جديدة ومظلة جديدة، لأنه يجب أن يترك قبعاته القديمة ومعطفه ومظلته في الغرفة. ثم لبس المعطف والقبعة وعاد إلى غرفة الجلوس وهو يحمل المظلة في يده.
وأمام الكرسيِّ ذي الذراعَين وقف لحظة، مترددًا، وسرَت في أوصاله رجفةٌ من الرعب. فما سيفعله كان شيئًا فظيعًا؛ شيء لا يُمكن لأحد أن يتوقع عواقبه. ثم ألقى، خِلسةً، نظرةً على الهيكل الفظيع الذي جلس على الكرسي، ورأسُه الرهيب مائلٌ بالكامل وأطرافه المتيبسة ممددة في تشوُّه متنافر بشع. لم تكن سوى دمية، مجرد فزاعة؛ لكن مع ذلك، في ضوء النار الخافت، بدا الوجه المروع تحت الشعر المستعار الرهيب وكأنه يتأرجح بذكاء، ليُراقبه بخبث خفي من تجويفَي عينَيه الغامضتَين، فنظر بعيدًا وقد تعرق جلده، بينما سرت في بدنه قُشَعريرة من الرعب شبه الخرافي.
لكن هذا لن ينفع أبدًا. لقد أوشك الليل على الانقضاء، استهلكته هذه الأعمال الشاقة؛ وقد قاربت الساعة الحادية عشرة، وحان وقت رحيله. لأنه إذا عاد آل براتل مبكرًا قبل موعدهم فسينكشف أمره. فاستجمع شتات نفسه جاهدًا، وأشعل عود ثقاب وأضاء الشموع الصغيرة واحدة تلو الأخرى. حيث، في غضون ربع الساعة أو نحو ذلك، ستحترق وتنتقل نارها إلى كرات الخيط، وبعد ذلك … سار بسرعة خارجًا من الغرفة؛ ولكن، عند الباب، توقَّف للحظةٍ لينظرَ إلى الوراء إلى الهيكل المروع الذي يجلس متيبسًا على الكرسي والشموعُ مضاءة عند قدمَيه، مثل شيطان كريه يُتقرَّب إليه ويُسترضَى بنيران النذور. وقد ألقت ألسِنةُ اللهب المتراقصةُ بظلالها الخافتة على وجهه ما جعله يبدو كأنه يبتسم في استهزاء بكل حرصه وعنايته. لذا استدار بيرسيفال وركض مرتجفًا على السلم، وفتح نافذة السلم وهو يُغادر. ثم ركض إلى المتجر، وأضاء الشموع هناك وركض مرة أخرى، وأغلق الباب من ورائه.
وبينما يُحاصره الشعور بالذنب تسلل عبر القاعة، وفتح الباب لبضع بوصات واسترق النظر. فهبت رياح جليدية مصحوبة بنثرات خفيفة من الثلج الجاف. ومَن ثَم فتح مظلته، وفتح الباب على مِصراعَيه، لينظر عبر الشارع الفارغ، وبعد ذلك خرج، وأغلق الباب بهدوء، ثم سار مبتعدًا فوق الرصيف المغطى بالثلج.
الجزء الثاني (رواه الطبيب كريستوفر جيرفيز)
تنصُّ إحدى قواعد ممارسة الطب الجنائي التي وضعها زميلي، جون ثورندايك، على أن المحقق يجب أن يكون دائمًا على حذر من تأثير الإيحاء. إذ يجب تجنبُ جميع الأحكام المسبقة والأفكار المسبقة، وكذلك عند تلقِّي المعلومات من طرف خارجي، يجب غربلة الحقائق الفعلية التي لا يُمكن إنكارها بعناية بعيدًا عن الاستنتاجات التي تُصاحبها عادةً. ومِن ثَم؛ قدَّم التحقيق الذي قمنا به في حادث حريق متجر الزيت الخاص بالسيد براتل مثالًا ممتازًا لضرورة تنفيذ هذه القاعدة.
حيث طلب منا السيد ستوكر؛ وهو الموظف المسئول بشركة جريفين للتأمين، أن نُحقق في القضية بعد أيام قليلة من عيد الميلاد. لقد جاء إلى مكتبنا، ظاهريًّا ليتمنَّى لنا عامًا جديدًا سعيدًا، لكن التوقف المتحفظ أثناء محادثته مع ثورندايك كشف عن غرض آخر للزيارة.
إذ سأل السيد ستوكر: «هل قرأت قصة الحريق الذي اندلع في بلومزبيري؟»
«متجر الزيوت؟ نعم. لكنني لم ألحظ أي تفاصيل باستثناء أن رجلًا على ما يبدو قد احترق حتى الموت، وأن الحادث قد وقع في الخامس والعشرين من ديسمبر.»
قال السيد ستوكر: «نعم، أعرف، ويبدو الأمر قاسيًا، لكن لا يسع المرءَ إلا أن ينظر بعين الشك إلى الحرائق التي تحدث في أيام استحقاق سداد الأقساط هذه. والتاريخ ليس الأمرَ الوحيد المشكوك فيه؛ حيث أخبرني ضابط بقوات الإطفاء، الذي عاين الأنقاض، أن هناك بعض المظاهر التي تُشير إلى أن الحريق قد اندلع في مكانَين مختلفَين؛ المتجر، وغرفة الطابق الأول فوقه. ولكن ضَع في اعتبارك أنه يُخمن ولا يُؤكد. فالمكان مدمَّر تمامًا لدرجة أنه لا يُمكن الاستدلال منه على الكثير من المعلومات؛ لكن هذا هو انطباعه. وخطر لي أنه إذا ألقيت أنت نظرة على الأنقاض، فقد تكتشف عينُك الفاحصة شيئًا قد أغفله.»
قال ثورندايك: «إنه أمر ليس محتملًا جدًّا؛ فكل رجل لديه خبرة في مجال مهنته. حيث يفحص ضابط الإطفاء المنزل المحترق بعيون خبيرة، وأنا ليس لديَّ نفس خبرته. ولن يُصبح لشهادتي وزنٌ كبير إذا كنت ستطعن على المطالبة.»
أجاب السيد ستوكر: «ربما الأمر كذلك، ونحن لسنا متحمسين للطعن ما لم يكن هناك احتيالٌ واضح. والإحراق المتعمد هو أمر خطير.»
علَّق ثورندايك قائلًا: «إنه قتل متعمَّد في هذه القضية.»
قال ستوكر: «أنا أعلم، وهذا يُذكِّرني بأن الرجل الذي احترق تصادف أنه مؤمَّن على حياته في شركتنا أيضًا. لذلك نحن نتحمل خَسارة مضاعفة.»
فسأله ثورندايك: «كم تبلغ قيمة بوليصة التأمين على حياته؟»
«لقد أمَّن القتيل، بيرسيفال بلاند، على حياته مقابل ثلاثة آلاف جنيه إسترليني.»
ازداد اهتمام ثورندايك بالقضية بعد هذه المعلومة الأخيرة التي تركت لديه انطباعًا أكثر من المعلومات السابقة.
قال: «إذا كنت تُريد مني أن أُحقق في القضية من أجلك، فمن الأفضل أن تُزودني بجميع الأوراق المرتبطة بها، وفي ذلك استمارات التقديم.»
ابتسم السيد ستوكر قائلًا: «اعتقدت أنك ستقول ذلك — فأنا أعرفك منذ زمن بعيد، كما تعلم — لذا وضعت الأوراق في جيبي قبل مجيئي إلى هنا.»
ثم وضع الوثائق على الطاولة وسأل: «هل هناك أي شيء تُريد معرفته عن القضية؟»
أجاب ثورندايك: «نعم، أريد أن أعرف كل ما يُمكنك أن تُخبرني به.»
قال ستوكر: «إن ما لديَّ من معلومات قليل للغاية؛ ولكني سأُخبرك بها.»
«إن اسم صاحب متجر الزيوت هو براتل، والرجل المتوفَّى، بلاند، كان يستأجر غرفة في بيته. ويبدو أن بلاند كان رجلًا ثابتًا تمامًا ورصينًا بشكل عام ولا يثمل؛ ولكنه أعلن عن نيته في الاستمتاع بليلة عيد الميلاد المبهجة ومنح نفسه القليل من التدليل الإضافي. وقد شُوهِد لآخرِ مرة من قبل السيدة براتل في حوالي الساعة السادسة والنصف، جالسًا بجوار المدفأة، مع زجاجتَين غير مفتوحتَين من الشراب على الطاولة وصندوق سيجار. وكان في يده كتاب وبجوار كرسيِّه صحيفتان أو ثلاثٌ ملقاة على الأرض. وبعد ذلك بوقت قصير، خرج السيد والسيدة براتل في زيارة إلى هورنسي، وتركاه وحده في المنزل.»
سأله ثورندايك: «ألم يكن هناك خادمة؟»
«لقد حصلَت الخادمة على إجازة من العمل للذَّهاب إلى منزل والدتها. وبالمناسبة، إن ذلك يدعو إلى قليلٍ من الريبة. ومع ذلك، لِنَعُد لآل براتل، الذين أمضَوا المساء في هورنسي ولم يعودوا إلى المنزل إلا بعد الثالثة صباحًا، وفي ذلك الوقت أصبح منزلهم عبارة عن كومة من الأنقاض المحترقة. وتظن السيدة براتل أن بلاند قد أفرط في الشرب حتى داهمه النوم، وألقى إحدى الصحف داخل حاجز المدفأة، وربما أمسكت بها جمرةٌ فبدأت الحريق. وهو تفسير ربما يكون حقيقيًّا وربما لا. فبالطبع، يُمكن لرجل عادي أن يفقد السيطرة مع زجاجتَين من الشراب.»
سأله ثورندايك: «في أي وقت شبَّ الحريق؟»
«لقد لُوحِظ في الساعة الحادية عشرة والنصف أن اللهب ينبعث من إحدى المداخن، وتم إطلاق الإنذار على الفور. فوصلت سيارة الإطفاء الأولى بعد عشر دقائق، ولكن بحلول ذلك الوقت، كان المكان يهدر مثل الفرن. ووجد رجال الإطفاء منافذ المياه وقد جمدتها الثلوج بشدة، مما تسبب في بعض التأخير، وفي الواقع؛ قبل أن تتمكن معدات الإطفاء من العمل، أسقطت النيران السقف، وأصبح المكان مجرد كتلة من اللهب. أنت تُدرك سهولة اشتعال ودمار متجر الزيوت، إذا اقتربت منه شرارة لهب صغيرة.»
«وعثروا على جثة السيد بلاند في الأنقاض، أليس كذلك؟»
صاح السيد ستوكر: «الجثة! لم يتبقَّ الكثير منها! فقط عدد قليل من العظام المتفحمة، التي استخرجوها من الرماد في اليوم التالي.»
«ومسألة تحديد هوية الجثة؟»
«سوف نترك ذلك للطبيب الشرعي. لكن في الحقيقة ليس هناك أدنى شك. أولًا، لم يكن هناك أيُّ شخص آخر في المنزل، وقد عُثِر على البقايا مختلطة بزنبركات وعجلات الكرسي الذي كان بلاند جالسًا عليه عندما شُوهِد لآخر مرة. علاوة على ذلك، عثر على العظام، وسكين جيب، ومجموعة مفاتيح ومجموعة من أزرار الصديري المعدنية، حددتها السيدة براتل جميعًا على أنها تخص بلاند. وكانت قد لاحظت الأزرار المزخرفة على الصديري عندما تمنت له ليلة سعيدة.»
قال ثورندايك: «بالمناسبة، هل كان بلاند يقرأ على ضوء مصباح زيت؟»
أجاب ستوكر: «لا، ولكن توجد بالغرفة ثريا ذات فرعَين تعمل باستخدام الغاز وهي مزوَّدة بغطاء من البورسلين على فرع واحد، وكان هذا الفرع مُضاء عندما غادرت السيدة براتل.»
التقط ثورندايك نموذج التقديم وهو يُفكِّر، وبعد إلقاء نظرة خاطفة عليه، قال: «إن النموذج يُشير إلى أن بلاند كان غيرَ متزوج. هل تعرف لماذا أمَّن على حياته بهذا المبلغ الضخم؟»
«لا؛ لقد افترضنا أن للأمر صلةً بقرض حصل عليه، كما علمت من المحامي الذي أخطرنا بوفاته، أن ممتلكات بلاند بأكملها تُرِكَت لابن عمه، السيد ليندساي، على ما أعتقد. لذا فالاحتمال هو أن ابن العم قد أقرضه المال. لكن ما يُثير اهتمامنا ليس المطالبة ببوليصة التأمين على الحياة. إذ يجب أن ندفعها على أي حال. إن المطالبة بقيمة التعويض عن الحريق هي ما نُريدك أن تُحقق فيها.»
قال ثورندايك: «حسنًا، سوف أذهب لموقع الحريق وألقي نظرة على الأنقاض، وأرى ما إذا كان بإمكاني اكتشاف أي دليل مادي على الاحتيال.»
قال السيد ستوكر، وهو ينهض مستعدًّا للمغادرة: «ولكن رجاء يجب أن نكون ملتزمين للغاية. إذ لا يعني إجراؤك للتحقيق أننا ربما نعارض المطالبة على أي حال.»
وعندما غادر، تفحصت الأوراق أنا وزميلي، وغامرت بالملاحظة قائلًا: «يبدو لي أن ستوكر لا يُقدِّر تمامًا احتمالات هذه القضية.»
قال ثورندايك موافقًا: «بالفعل.» ثم أضاف مبتسمًا: «لكن، بالطبع، إن مهمة شركة التأمين هي أن تدفع قيمة المطالبة، وليس التملُّص لأي سبب لا يدل على احتيال واضح. ونحن كمتخصصين أيضًا، يجب أن نحذر من التشكُّك الزائد عن الحد. وأفترض أنه، بالنسبة إلى طبيب الأنف، لا يكاد يوجد شيء اسمه أنف بحالة صحية سليمة تمامًا — إلا إذا كان أنفه هو — وكذلك طبيب الكُلَى ميال جدًّا إلى الاعتقاد بأن هناك دائمًا حصواتٍ في الكلى. ولكن في نهاية الأمر، يجب ألا ننسى أن هناك حوادثَ طبيعية تقع بالفعل.»
فقلت: «هذا صحيح، ولكن، من ناحية أخرى، فإن عمل طبيب الأنف هو مع الأنف المصاب بأمراض، ونحن في عملنا نتفحَّص غالبًا القضايا الغامضة والمريبة.»
ضحك ثورندايك وقال: «جاء دانيال للحكم، لكنك محقٌّ تمامًا يا صديقي الخبير. إن وظيفتنا هي العثور على الثغرات. لذا دعنا نحزم الوثائق ونتجه إلى بلومزبيري. ويُمكننا مناقشة القضية في طريقنا إلى هناك.»
مشينا بخُطًى متمهلة، حيث لم نكن في عجلة من أمرنا، ثم إن القليل من التفكير المبدئي سيُفيدنا بالتأكيد. وبعد فترة، وبينما لم يُبدِ ثورندايك أي ملاحظة، أعدت فتح الموضوع.
وسألته: «كيف ترى هذه القضية؟»
فأجابني: «كما تراها أنت، على ما أظن. فظروفها تستدعي التحقيق، ولا يُمكنني إيجاد صلة بينها وبين صاحب المتجر؛ كي نشكَّ في تورطه بالاحتيال. فصحيحٌ أن الحريق وقع في يوم استحقاق سداد الأقساط. ولكن لا يوجد ما يدل على أن التأمين سيفعل أكثر من تغطية خَسارة المخزون والمنقولات وأرباح التجارة. لكن الظروف الأخرى موحية أكثر بكثير. فهناك منزل احترق ورجل قُتِل. وذلك الرجل القتيل كان مؤمَّنًا عليه بثلاثة آلاف جنيه، وبالتالي، فإنَّ شخصًا ما سيكسب بوفاته هذا المبلغ. ومِن ثَم؛ فالظروف كلها تصبُّ في صالح فكرة القتل؛ إذ كان الرجل وحده في البيت عندما مات، ويبدو أن الدمار الكامل للجسد ومحيطه يجعل التحقيق مستحيلًا. لذا يُمكن فقط استنتاجُ سبب الوفاة؛ ولا يُمكن إثباته، كما قد اختفَت تمامًا كل الأدلة الواضحة على حدوث جريمة ما. وأعتقد أن هناك شكًّا بديهيًّا قويًّا يُشير إلى وقوع جريمة قتل. وفي ظل هذه الظروف المعروفة، يُعَد ارتكاب جريمة قتل أمرًا سهلًا، وفي مأمنٍ من الانكشاف، وهناك دافع كافٍ.
ومن ناحية أخرى، فإن الانتحار ليس احتمالًا مستحيلًا. فربما يكون الرجل قد أشعل النار في المنزل ثم قتل نفسه بالسم أو بأيِّ طريقة أخرى. ولكن من المستبعَد أن يقتل الرجل نفسه لمصلحة شخص آخَر؛ إذ من المعتاد أن يقتل رجلًا آخر لمصلحته الشخصية.
وفي النهاية، هناك احتمال أن يكون الحريق وموت الرجل نتيجةً لحادث عارض؛ وهو ما ينفيه رأي ضابط الإطفاء بأن الحريق قد اندلع في مكانَين. وإذا كان هذا الرأي صحيحًا، فإنه يُثبت من وجهة نظري افتراضًا قويًّا بحدوث جريمة قتل بواسطة شخص ربما تمكَّن من اقتحام المنزل.»
عند هذه النقطة من النقاش كنا قد وصلنا إلى المنزل المحترق، الذي يقع عند زاوية شارعَين صغيرَين. حيث سمح لنا أحد رجال الإطفاء المسئولين، عندما أظهرنا أوراق تفويضنا، بالدخول من خلال باب مؤقَّت ونزلنا على سُلَّم إلى القبو، حيث وجدنا عددًا من الرجال يسيرون بحذر شديد، وقد غاصت أحذيتهم في الرماد الأبيض، بين ركام من الخشب المتفحم، والزجاج المصهور، والخزف الصيني المشوه والمكسور، والأشياء المعدنية التي يُمكن التعرف على بعضها بينما طمست معالم بعضها الآخر.
قال رجل الإطفاء: «هذا هو الطبيب الشرعي ومعه أعضاء هيئة المحلَّفين، تعاليا لمشاهدة مكان الكارثة.» ثم عرَّفنا على الطبيب الذي انحنى لتحيتنا وواصل تحقيقاته.
قال رجل إطفاء آخر: «هذه هي زنبركات الكرسي التي كان المتوفَّى يجلس عليه. لقد وجدنا الجثة — أو على وجه الدقة العظام — مُلقاة بينهم تحت كومة من الرماد الساخن؛ ووجدنا أزرار ملابسه وأشياءَ أخرى من جيوبه بين الرماد أيضًا. ستراها في المشرحة مع بقايا الجثة.»
قال أحد أعضاء هيئة المحلفين: «لا بد أنه كان حريقًا مروِّعًا؛ فقط انظر إلى هذا يا سيدي.» وسلم إلى ثورندايك ما بدا وكأنه جزءٌ من تركيبات الغاز، التي صُهِر الجزء الأكبر منها إلى كتل عديمة الشكل والباقي مغطًّى بالبورسلين المصهور.
قال رجل الإطفاء: «هذه، كانت ثريا تعمل بالغاز في غرفة الطابق الأول، حيث كان السيد بلاند جالسًا. آه! لقد انصهر مِفتاحها يا سيدي؛ ولا يُمكن تحريكه تمامًا.»
حمل ثورندايك الكتلة النحاسية الملتوية باتجاهي في صمت، وألقى نظرة خاطفة على الجدران السوداء، وعلق قائلًا: «أعتقد أنه سيتعين علينا المجيء إلى هنا مرة أخرى مع ضابط القسم، ولكن في غضون ذلك، من الأفضل أن نفحص بقايا الجثة. فمن الممكن أن نستدلَّ على شيء منها.»
ومِن ثَم، تقدم بطلب إلى الطبيب الشرعي للحصول على التصريح اللازم لإجراء الفحص، وبعد أن حصل على الإذن بصعوبة وعلى مضض لفحص البقايا بعد أن «تراها» هيئة المحلفين، بدأ في صعود السلم.
وقال عندما خرَجنا إلى الشارع: «كان صديقنا الطبيب الشرعي يرغب في رفض منحنا الإذن، لكنه يعلم أنَّ من حقي أن أُصِر عليه وأنني سأفعل بالتأكيد.»
فقلت: «لقد تبينت هذا من طريقته، لكن ما الذي يفعله هنا؟ هذه ليست منطقة عمله.»
«لا، إنه يعمل بالنيابة عن بيتسفورد، الذي اعتذر للتو بسبب مرضه؛ وهو بديل سيئ للغاية. الطبيب الشرعي غير المتخصص هو عبث على أي حال، والطبيب الشرعي الذي يعادي مهنة الطب هو فضيحة عامة. وبالمناسبة، فإن مفتاح الغاز هذا يُمثل مشكلة غريبة. هل لاحظت أنه تم إيقاف تشغيله؟»
«نعم.»
«وبالتالي، كان المتوفَّى جالسًا في الظلام عندما اندلع الحريق. لا أرى للأمر تأثيرًا، لكنه بالتأكيد غريب إلى حدٍّ ما. ها قد وصلنا إلى المشرحة. ولكن من الأفضل أن ننتظر ونترك هيئة المحلفين تدخل أولًا.»
ولم تمر سوى دقائق معدودة؛ حتى ظهر «الاثنا عشر رجلًا صالحًا وصحيحًا» مع حشد صغير من المتسولين. فانتظرنا حتى دخلوا أولًا، ثم تبعناهم. كانت المشرحة عبارة عن غرفة كبيرة الحجم، مضاءة جيدًا بسقف زجاجي، وفي وسطها طاولة طويلة تُوضَع عليها حقيبة الجثث التي تحتوي على الرفات. وكانت هناك أيضًا ورقة وُضِعَت عليها مجموعة من أزرار حديدية سوداء اللون، ومجموعة من المفاتيح وسكين جيب بمقبض فولاذي، وساعة بعلبة فولاذية على سلسلة ذهبية ملفوفة منصهرة جزئيًّا، ومفتاح صغير لزجاجات الشراب. حيث لفتَ الطبيب الشرعي انتباه هيئة المحلفين إلى هذه الأشياء، ثم تحفَّظ عليها، حتى يُمكن التعرفُ عليها من قبل الشهود. وفي هذه الأثناء، اجتمع أعضاء الهيئة حول حقيبة الجثث وحدَّقوا وهم يرتجفون في محتوياتها البشعة.
قال الطبيب الشرعي: «أنا آسف أيها السادة، لاضطراري إلى تعريضكم لهذا الموقف المؤلم. لكن الواجب واجب. يجب أن نأمُل، كما أعتقد، أن يكون هذا المخلوق المسكين لم يُعانِ من الألم على الرغم من تلك الميتة الرهيبة.»
عند هذه النقطة، ألقى ثورندايك، الذي كان قد اقترب من الطاولة، نظرة طويلة وثابتة على حقيبة الجثث؛ وعلى الفور بدا وجهُه الجامد كالمعتاد وكأنه يتجمَّد؛ وقد تلاشت كلُّ التعبيرات منه، تاركةً إياه ثابتًا بلا حَراك أو تواصُل مثل وجه تمثال فرعوني من الجرانيت. وأنا أعرف تلك الأعراض التي تعتريه من قبل، وبدأت أُفكر في دلالتها الحاليَّة.
ثم سأل: «هل عثرت على أي دليل طبي؟»
كرَّر الطبيب الشرعي الكلمة بازدراء: «دليل طبي! بالتأكيد لا يا سيدي! أنا لا أُهدر المال العام من خلال توظيف ما يُسمَّى بالخبراء لإخبار هيئة المحلَّفين بما يُمكن أن يراه كلٌّ منهم بنفسه بوضوح.» ثم أضاف، متجهًا إلى رئيس الهيئة: «أتصور أنك لست بحاجة إلى طبيب خبير كي يشرح لك كيف لقي هذا الرجل المسكين مصرعه؟»
فأجاب رئيس الهيئة، وهو يُلقي نظرة خاطفة بارتياب على الجمجمة، مع ابتسامة شاحبة وواهنة بأنه «ليس بحاجة إلى ذلك.»
تابع الطبيب الشرعي، مع تلويح دراماتيكي من يده باتجاه التابوت البسيط: «وأنت يا سيدي، هل تفترض أننا سنجد صعوبةً في تحديد كيف لقي هذا الرجل مصرعه؟»
أجاب ثورندايك، دون تحريك عضلة واحدة، أو في الواقع، بدا كأنه ليس لديه أي عضلات لتحريكها، وقال: «أنا أتخيل؛ أتخيل أنك لن تجد صعوبة على الإطلاق.»
قال الطبيب الشرعي: «وأنا كذلك.»
فرد ثورندايك بابتسامة خافتة غامضة: «إذن نحن، لمرة واحدة، على توافق كامل.»
عندما انصرف الطبيب الشرعي مع هيئة المحلَّفين، وتركوا زميلي وأنا وحدنا في المشرحة، قال ثورندايك: «أفترض أن هذا النوع من المهازل سيتكرَّر بشكل دوري طالما استمر إجراء هذه التحقيقات الطبية عالية التخصص من قبل أشخاص غير متخصصين.»
لم أجب، لأنني ألقيت نظرة طويلة على حقيبة الجثث، ثم أصبت بدهشة عارمة.
ثم صحت قائلًا: «لكن يا عزيزي ثورندايك! إني أتعجب؛ ما معنى هذا؟ هل علينا أن نفترض أن امرأة يُمكن أن تنتحل صفة رجل كي يفحصها المسئول الطبي لشركة لندن للتأمين على الحياة؟»
هز ثورندايك رأسه وهو يقول: «لا أعتقد ذلك. إن صديقنا السيد بلاند، ربما كان امرأة بيضاء متنكرة في هيئة رجل أبيض، لكنه بالتأكيد لا يُمكن أن يكون امرأة زنجية.»
قلت متعجبًا: «زنجية! يا إلهي! إنها كذلك بالفعل، أنا لم أنظر إلى الجمجمة جيدًا. لكن هذا فقط يجعل القضية أكثر غموضًا. لأنه، كما تتذكر، كانت الجثة ترتدي ملابسَ بلاند بالتأكيد.»
قال ثورندايك بشكل جاف: «نعم، لا يوجد شك في ذلك. وربما لاحظت، كما فعلت أنا، أن أزرار الصديري، وغلاف الساعة، ومقبض السكين، وغيرها من الأشياء التي تُحدد هوية الجثة؛ كلها مقاومة للحريق، كما لو كانت قد اختيرت بعناية لهذا السبب بالتحديد.»
صحت قائلًا: «لكن يا له من أمر مروع! يبدو أن ذلك المتوحش قد خرج وأغوى امرأة زنجية مسكينة واستدرجها إلى المنزل، وقتلها بدم بارد ثم وضع جثتها داخل ملابسه عن عمد! إنه أمر مخيف تمامًا!»
هز ثورندايك رأسه مرة أخرى وقال: «لم يكن الأمر بهذا السوء يا جيرفيز، على الرغم من أنني يجب أن أعترف بأنني أشعر بإغراء شديد لترك فرَضيتك هذه قائمة. سيكون من الممتع للغاية محاكمةُ السيد بلاند بتهمة قتل امرأة زنجية مجهولة، ولندعه يشرح الحقائق بنفسه. لكن سمعتنا ستكون على المحك. انظر إلى العظام مرة أخرى وبشكل أكثر تفحصًا قليلًا. من المحتمل جدًّا أنك بحثت عن جنس الجثة أولًا؛ ثم بحثت عن سماتها العرقية. والآن، خذ فحصك نحو مرحلة أكثر دقة.»
فقلت أنا: «هناك ملاحظة حول طول القامة، لكنها ليست مهمة؛ لأن هذه ليست عظامَ بلاند. النقطة الأخرى الوحيدة التي لاحظتها هي أن النار على ما يبدو قد أحرقت عظام الجسم بشكل غير متساوٍ.»
قال ثورندايك موافقًا: «نعم، وهذه هي النقطة. إذ إن بعض الأجزاء محترقة أكثرَ من غيرها؛ والأجزاء التي احترقت أكثر هي أجزاء كان يجب أن تكون أقل احتراقًا. انظر إلى العمود الفقري، على سبيل المثال. إن الفقرات بيضاء مثل الطباشير. وهي مجرد كتل من رماد العظام. ولكن من بين جميع أجزاء الهيكل العظمي، لا تُوجَد عظام محميَّة تمامًا من الحريق مثل العمود الفقري، نظرًا لوجود عضلات ظهر كبيرة في الخلف وكتلة الأحشاء بالكامل في المقدمة. ثم انظر إلى الجمجمة. إن مظهرها غيرُ متوافق تمامًا مع الحقائق المقترَحة. فعظام الوجه غير مكسوَّة باللحم وهي متكلسة كما أنَّ محجرَي العينَين لا يحتويان على أي أثر للعينَين أو التراكيب الهيكلية الأخرى؛ ومع ذلك، هناك كتلة متفحمة لما يُمكن أن يكون وقد لا يكون فروةَ رأس ملتصقةً بتاج الجمجمة. لكن فروة الرأس، باعتبارها الأكثرَ تعرضًا وانكشافًا والأكثرَ نحافة من حيث التغطيةُ، ستكون أولَ ما يُدمَّر، في حين أن آخِرَ ما يُدمَّر هو التراكيب الهيكلية حول الفكَّين وقاعدتهما، التي كما ترى، لم يتبقَّ منها أي أثر.»
وهنا رفع الجمجمة بعناية من حقيبة الجثث، ونظر إلى داخلها من خلال الفتحة الكبيرة في القاعدة؛ ثم ناولها لي.
وقال: «انظر إلى الداخل، من خلال الفتحة الكبيرة — سترى بشكل أفضلَ إذا كنت تُمسك المدارات باتجاه الضوء — ولاحِظ التناقض الشديد مع الظروف المفترضة. لقد اختفى المخ والأغشية دون ترك أي أثر. كما أن الجزء الداخلي من الجمجمة نظيف كأنه قد تعرض للنقع. لكن هذا أمر مستحيل. إن المخ ليس فقط محميًّا من النار؛ لكنه محميٌّ أيضًا من ملامسة الهواء. ولكن بدون تعرضه للأكسجين، من الممكن أن يُصبح مكربَنًا، ولكنه يستحيل أن يتلاشى تمامًا. لا يا جيرفيز، هذا مستحيل.»
فأعدَّت الجمجمة إلى الحقيبة ونظرت إليه بدهشة؛ ثم سألته: «وما هو تفسيرك للأمر؟»
«إن تفسيري هو أن هذه لم تكن جثة على الإطلاق، ولكنها مجرد هيكل عظمي جاف.»
فقلت معترضًا: «لكن، ماذا عن تلك الكتل التي تبدو وكأنها عضلات متفحمة ملتصقة بالعظام؟»
أجاب: «نعم، لقد لاحظتها. إنها، كما قلت، تشبه كتل العضلات المتفحمة. لكن ليس لها شكل أو بِنية هيكلية مماثلة لعضلات الإنسان. فأنا لا أستطيع تحديد عضلة واحدة أو مجموعة عضلية؛ ولا يُوجَد أثر لأي من الأوتار. علاوة على ذلك، فإن توزيعها خاطئ. على سبيل المثال، هل يُمكنك أن تُخبرني ما هي هذه العضلة؟»
وأشار إلى كتلة سميكة متفحمة على السطح الداخلي للساق اليسرى أو عظْمة الساق. «إن هذا الجزء من العظم — كما يعلم أغلب لاعبي الهوكي — ليس له غطاء عضلي على الإطلاق. إنه يقع مباشرة تحت الجلد، ويُطلِق عليه العامة مصطلحَ قصبة الساق.»
فقلت: «أعتقد أنك على صواب يا ثورندايك، إن هذه الكتلة العضلية الموضوعة في المكان الخطأ تُثبت وقوع عملية احتيال. لكنها حقًّا مراوغة ذكية للغاية. لا بد أن ذلك الرجل بلاند محتال عبقري.»
قال ثورندايك: «نعم؛ لكنه شرير عديم الضمير أيضًا. لقد كان من الممكن أن يحرق نصف الشارع ويقتل عددًا كبيرًا من الأشخاص. لكن عليه أن يدفع ثمن فعلته الشنعاء.»
«ماذا ستفعل الآن؟ هل ستُخطر الطبيب الشرعي؟»
«لا، إن هذا ليس من شأني. أعتقد أن علينا أن نتحقق من استنتاجاتنا ثم نُبلغ موكلنا وكذلك الشرطة. يجب أن نقيس حجم الجمجمة قدر الإمكان بدون أدوات قياس، لكنها، لحسن الحظ، نموذجيَّة تمامًا؛ إذ إن عظام الأنف قصيرة وعريضة ومسطحة، مع «أخدود سيميان» والأسنان الضخمة القوية، المتآكلة بفعل الطعام القاسي والجاف، كلها سمات مميزة وواضحة. ثم رفع الجمجمة مرة أخرى، وأجرى بعض القياسات باستخدام شريط زنبركي، بينما كتبت أنا أطوال العظام الطويلة الرئيسية والعرض بين الفخذَين.»
ثم قال وهو يضع الجمجمة: «إن مؤشر الجمجمة والأنف ٥٥، ومؤشر الجمجمة حوالي ٧٢، وهي أرقام نموذجية تمامًا؛ كما أرى أن ملاحظاتك تُظهر الطول المعتاد غير المتناسب للذراع ومنحنى عظمة الساق المميز، وهكذا قد أصبحنا متأكدين تمامًا. فمن حسن الحظ أن العينة نموذجية للغاية. وبالنسبة إلى العين الخبيرة، فإن الأنواع العرقية لها ملامح واضحة لا لبس فيها بمجرد الفحص. لكن ليس الجميع يتمتعون بهذه العين الخبيرة. يُمكنك فقط التعبير عن قناعتك الشخصية ودعمها بالقياسات.
والآن سنذهب ونبحث عن ستوكر، ونُبلغه أن شركته قد وفرت ثلاثة آلاف جنيه من خلال توظيفنا. وبعد ذلك سيُصبح الأمر كشفًا لعالم جديد كما في رواية ويستوارد هو؛ وذلك بالنسبة إلى رجال الشرطة في سكوتلاند يارد، الذين، بالتأكيد، سيُعِدون مفاجأة صغيرة غير سارة للسيد بيرسيفال بلاند.»
في اليوم التالي كان الصحفيون غاية في السعادة؛ حيث خصصت كلُّ الصحف الصباحية عمودًا كاملًا لسرد تفصيلي بشكل غير عادي للتحقيق الذي أُجري على الراحل بيرسيفال بلاند — الذي، على ما يبدو، لقي مصرعه نتيجة حادث مروع — وتقرير حَرفي لأقوال الطبيب الشرعي البليغة حول خطر البقاء منفردًا بجانب النار وأنت مخمور، وآثار الخمر التي تذهب العقل. بينما احتوى العمود المجاور على وصف تفصيلي مماثل لظهور المتوفَّى أمام محققي الشرطة في بو ستريت للرد على التهم المعقَّدة بخصوص الحرق العمد والاحتيال والتزوير؛ وجمع عمود ثالث بين الخبرَين مع تعليقات مرحة.
إن السيد بيرسيفال بلاند، ذا الاسم المستعار روبرت ليندساي، يُقيم الآن في سجن مرتفعات دارتمور ذي النسيم العليل، حيث يأسف بلا شك، في أوقات فراغه الوفيرة، على براعته التي وُجِّهت في الاتجاه الخاطئ. لكن جهده لم يذهب سدًى؛ حيث قدمت هذه الحادثة للنائب العام توضيحًا رائعًا لخطر تعيين أطباء شرعيين غير متخصصين؛ وبالنسبة إليَّ؛ قدمت تحذيرًا لا يُنسى من آثار الإيحاء.