ضمير المحامي
أظن أنني لو كنت رجلًا حساسًا لما كتبت هذه الوقائع؛ أو، على أي حال، لما فكرت في عرضها للفحص من قبل الغرباء. لأنه لا أحد يُبالي بأن يُعتبَر كاذبًا؛ كما يُفضل الكثيرون إخفاء حقيقة صعبة التصديق بدلًا من المجازفة بإعلانها. ومع ذلك، فأنا لست واحدًا من هؤلاء الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة. وأنا أعمل محاميًا منذ سنوات عديدة، وإذا لم تُقدم هذه الحقيقة أي ضمان على صدقي الذي لا شك فيه، فإنها على الأقل تُقدم دليلًا افتراضيًّا على وجود قشرة أخلاقية قوية إلى حد ما. قد لا يُصدقني أحد؛ لكن الشك الواضح لن يُزعجني أو يُخجلني.
لقد بَدأَت علاقتي بالأحداث المدهشة التي أنا على وشك تسجيلها، في لحظة دخولي إلى متجر السيد روبن سولومون في مجمع متاجر بائعي الكتب. وقد أزال مجلس المقاطعة التقدمي ذلك المجمع منذ سنوات، وقد ينظر دافعو الضرائب الحزانى من خلال الأسوار ويرون أزهارًا برية باهظة الثمن تتفتح — ولكنها لا تدفع ضرائب — على موقع ذلك المجمع المزال. لكن في تلك الأيام كان لا يزال قائمًا، كمكان ممتع يجذب عشاق الكتب ويُسعد الفنانين المتمدنين؛ وكان متجر السيد سولومون لا يزال يُسعد العين المحبة للكتب بأوراق ضخمة ذات أحرف سوداء، ومجلدات عتيقة ذات كعوب صدئة، وكتيبات إلزفيرس الصغيرة.
وقد وجدت السيد سولومون وحيدًا في الجزء الخلفي من المتجر يُزيل الغبار عن مجموعة من الرفوف بفرشاة من الريش، ولاحظت على الفور تغيرًا في طريقته المعتادة المرحة والرائعة؛ حيث بدا بائع الكتب المحترم في حالة معنوية منخفضة بلا ريب.
فقلت بمرح: «صباح الخير يا سيد سولومون، أتمنى أن تكون بخير في هذا الطقس الجميل.»
فأجاب بطريقة فظة: «لا، لست بخير.»
«حقًّا! يُؤسفني سماع ذلك. ما الأمر؟»
وضع فرشاة الريش ونظر إليَّ بحزن.
ثم قال: «مضطرب.»
كررت الكلمة متسائلًا: «مضطرب؟»
أجاب: «نعم يا سيدي.» وبعد ذلك، عندما حدقت فيه بدهشة، أضاف على سبيل التوضيح: «في رأسي.»
فاندهشت للغاية. لأن سولومون رجل مثقف — بل يُمكنني أن أقول إنه رجل عالم — ولم يكن معتادًا على استخدام هذا الأسلوب. لكن، بالطبع، لم آخُذه على محمل الجِد. عادة لا يتم تشخيص الاضطراب العقلي من قِبَل المجنون نفسه.
قلت: «إن معنوياتك منخفضة للغاية هذا الصباح يا سيد سولومون.»
قال: «إن معنوياتي في الحضيض! إذا لم تنفجر رأسي، فسوف … ولكن مهلًا! هذا أمر لا يُهمك يا سيد ميتشل. لقد أتيت لرؤية تلك الكتب التي أرسلت لك عنها. لقد وضعتها في طرد، حيث اعتقدتُ أنك سترغب في أخذها معك للمنزل لإلقاء نظرة عليها في وقت فراغك. وهي خمسة كتب …»
ثم توقف فجأة عن الكلام، ولدهشتي، بدأ في التراجع إلى مؤخرة المتجر بأسلوب فريد ومتسلل، ملتصقًا بالجدار كما لو كان يتخطى بعض العوائق الضخمة، ويُراقب بشكل مريب النطاق المقابل من رفوف الكتب. وعندما وصل إلى منتصف المتجر، استدار وخرج من المتجر وكأنما يهرب من شيء؛ وبعد أن تتبعته إلى الشارع، وجدته يفحص بجدية كتبَ بائع كتبٍ آخر على بُعد ثلاثة متاجر.
فاستأنفت الحوار: «لقد كنت تقول يا سيد سولومون …»
«نعم، بخصوص هذا الطرد من الكتب. إنه على الرف فوق المدفأة. واسمك مكتوب عليه. ربما لا تُمانع في الدخول لأخذه. فالمتجر خانقٌ إلى حد ما في الوقت الحالي.»
كان هذا بالتأكيد تصرفًا غريبًا للغاية، وعلى عكس السلوك المعتاد من سولومون، الذي كان بشكل عام شديد التأدب. كنت في حيرة كبيرة. ولكن، بما أنني كنت مضغوطًا إلى حدٍّ ما من حيث الوقتُ، دخلت المتجر، ووجدت طردي وأخذته وانطلقت بعد تبادل بضع كلمات سريعة مع بائع الكتب.
وحيث إنني كنت مضطرًّا إلى المرور على مكتب محامٍ آخر، انتهزت الفرصة وذهبت مسرعًا إلى مكتبي لكي أترك الطرد هناك؛ وبما أن الكتب كانت ذات قيمة ولم تكن ملكي في الوقت الحالي، فقد وضعتها في الجزء العلوي من مكتبي، ووفقًا لعادتي الثابتة، أغلقت الباب بالمفتاح. ثم ذهبت لمتابعة شئوني.
ذهبت من مكتب صديقي إلى محكمة الاستئناف، حيث كنت أترافع في قضية هناك في ذلك اليوم. ثم تناولت الغداء مع مستشار الملكة الذي كنت على موعد معه، وعندما رُفِعت المحكمة، ذهبت معه إلى المنزل لتناول العشاء والتحدث في القضية.
بقيت معه لما بعد الساعة الحادية عشرة. وعندما خرجت من منزله في بيبر بيلدنجز، رأيت ثلاثة أشخاص — رجلَين وامرأةً — يتجولون ببطء حول مبنى كراون أوفيس رو، وينظرون حولهم كما لو كانوا يُشاهدون المعالم السياحية. ويبدو أن أحد الرجلَين، والذي كان يحمل حقيبة آلة كمان، كان يتصرف كرجل استعراض، وعندما اقتربت منهم، ميزت أنه صديق لي، فهو طالب قانون يُدعى ليلاند. كنت سأُحييه بلفتةٍ من القبعة وأواصل طريقي، لكنه دعاني للتوقف.
«مرحبًا يا ميتشل، هل يُمكنك أن تُخبرنا أين عاش لامب مع أخته؟ ألم يكن مبنى كراون أوفيس رو؟»
«لا، لقد وُلِد في مبنى كراون أوفيس رو، لكن المقر الذي عاش فيه هو وماري لامب كان في مبنى ميتر كورت بيلدنجز.»
قال ليلاند، مخاطبًا السيدة: «إذن، عليك أن تأتي لترى المكان في وضح النهار. فالبوابة مغلقة الآن. يجب أن نجعل السيد ميتشل يُرينا المكان العتيق يومًا ما؛ إنه يعرف كل حجر فيه والذين عاشوا في كل منزل منذ زمن فرسان الهيكل وما بعده. لن تُمانع يا ميتشل، أليس كذلك؟ إن الآنسة بونينجتون شغوفة بشأن المجمعات التاريخية.»
قلت: «يُسعدني ذلك.»
قالت الآنسة بونينجتون: «إنه مكان عتيق ومميز، به طمأنينة وروحانية. كم أحبُّ أن أعيش هنا! لكني أعتقد أنه لا تُوجد حواء في هذه الجنة.»
أجبت: «بالفعل؛ إنها مخصصة لآدم والثعبان؛ وخاصة الثعبان.»
ضحكت الآنسة بونينجتون، وكانت ضحكتها كأنغام الموسيقى التي تُبهج النفس. وفي الواقع، لقد أثارت إعجابي كسيدة شابة فاتنة للغاية؛ ذات وجه جميل وحديث رقيق، على الرغم من اعتدادها بنفسها.
ومِن ثَم قلت وأنا أُلقي نظرة سريعة على حقيبة الآلة الموسيقية في يده: «لم أكن أعلم أنك تعزف الكمان يا ليلاند.»
أجابني: «أنا لا أفعل، إنها تخص الآنسة بونينجتون. أنا أعزف على آلة التشيلو، والسيد بونينجتون يعزف مقطوعة لباخ، ولقد عقدنا اجتماعًا صغيرًا في منزلي.»
وهكذا تجاذبنا أطراف الحديث بينما كنا نسير بهدوء في الممشى غير الممهَّد. ويبدو أن تعييني دليلًا سياحيًّا مستقبليًّا كان بمثابة مقدمة غير رسمية، وعندما وصلنا إلى زاوية مبنى فيج تري كورت، توقفنا قليلًا لنتحدث معًا لبعض الوقت قبل أن ننصرف.
قالت الآنسة بونينجتون فجأة: «يا له من رجل عجوز استثنائي! إنه ينظر إلينا بفضول.»
فاستدرنا جميعًا إلى حيث تنظر، لكن الرجل العجوز كان قد مر وابتعد في ظلمة الطريق الضيق ولم نرَ منه سوى ظل ضخم.
قال ليلاند: «إنه ضخم الحجم؛ يبدو مثل سلحفاة تمشي منتصبة.»
قالت الآنسة بونينجتون: «نعم، لكن هل رأيت كيف كان يرتدي ملابس غريبة؟ لقد بدا كأنه يرتدي قبعة مرفوعة الحواف وجواربَ حماية مثل أسقف. هل من الممكن أنه قاضٍ، هل تعتقد ذلك؟»
ضحكت من فكرة أن أحد قضاة صاحبة الجلالة يخرج مرتديًا قبعة مرفوعة الحواف وجوارب حماية، وفسرت ذلك بلطف بأنه وهم بصري.
قال ليلاند: «حسنًا، ستتمكن من التأكد بنفسك قريبًا. لقد ذهب باتجاه منزلك. وأتوقع أنه جاء ليُقدِّم لك موجزًا.»
قلت: «إذن، يجب ألا أُبقيه منتظرًا. وتذكر، أنه عندما تكون مستعدًّا لجولة تاريخية حول المجمع، فأنا في خدمتك.»
صافحت أصدقائي الجدد وكذلك ليلاند وذهبت إلى المبنى رقم ٢١، فيج تري كورت، في الطابق الثاني حيث تقع شقتي. ثم صعدت السلم الحجري ببطء، ورُحت أخمن من هو الزائر المجهول ذو المظهر الغريب، حتى وصلت على مهلٍ إلى مسكني. لكن لم يكن هناك أحد ينتظرني. من الواضح أن ليلاند قد أخطأ في ملاحظة المدخل؛ لأن شقتي كانت الوحدة السكنية الوحيدة في المبنى.
فتحت بمفتاحي باب الشقة الثقيلَ المصنوع من خشب «البلوط»، ودخلت ثم أغلقته، وكنت على وشك خلع معطفي عندما استولى على انتباهي أمر غريب جدًّا.
كان هناك ضوءٌ في غرفة جلوسي.
كان الأمر غريبًا جدًّا ومزعجًا للغاية. فوقفت في الصالة الصغيرة محدقًا في خط الضوء — حيث الباب كان مواربًا قليلًا — وأنا أتساءل عمَّا إذا كان من الممكن أن يكون لصًّا، على الرغم من أن السطو لم يكن وارد الحدوث عمليًّا في المجمع، وأصغيت السمع باهتمام. لم يكن هناك صوت حركة، أو في الواقع، أي صوت باستثناء صرير خافت مستمر، يُشبه بشكل غريب صريرَ قلم الريشة. فتقدمت على أطراف أصابع قدمَيَّ، وفتحت الباب برفق، ونظرت داخل الغرفة.
وكان ما رأيته مذهلًا إلى حد يصعب وصفه بالكلمات. إذ جلس رجل أظنه غريبًا لا أعرفه على مكتبي المفتوح، وهو يكتب بسرعة بأحد أقلام الريشة التي ما زلت أستخدمها، كمحامٍ محافظ عتيق الطراز. ونظرًا لأن ظهره هو ما يُواجهني، لم أستطع رؤية شيء من ملامحه، باستثناء أنه كان ضخمًا للغاية، وأنه كان يرتدي شعرًا مستعارًا رمادي اللون. وهذه الحقيقة الأخيرة حيَّرتني كثيرا. فليس من المعتاد أن يرتديَ المحامي شعرًا مستعارًا في المنزل عند منتصف الليل، وعلاوة على ذلك، هو لم يكن مرتديًا عباءته. كان أمرًا مثيرًا للاهتمام.
رحت أُراقبه لبعض الوقت في دهشة صامتة، حيث بدا ظله الضخم الخيالي في مواجهة ضوء الشمعة الوحيدة التي أحتفظ بها دائمًا في الشمعدان الفِضِّي العتيق على مكتبي. واستمر يكتب بثبات مع صوت صرير عالٍ من الريشة، وقلب الورقة وأكمل الكتابة في الجانب الآخر، وأخيرًا وقَّع اسمه بزخرفة متقنة، حسبما استنتجت من صوت الصرير المتتابع. ثم وضع القلم في الرف، واستنشق كمية ضئيلة من النشوق.
وفي هذه اللحظة، اعتقدت أنه من المناسب جذب انتباهه، ولهذه الغاية، سعلت برفق، لكنه لم ينتبه. فسعلت مرة أخرى بصوت أعلى قليلًا، لكنه لا زال يبدو غيرَ مدرك لوجودي. ثم فجأة خطر على ذهني احتمال أنني قد دخلت إلى الشقة الخطأ. لا أعرف لماذا فكرت في ذلك، على الرغم من وجود مكتبي الخاص وفوقه الشمعدان الخاص بي، وطرد الكتب موضوع بجوار مرفق الرجل الغريب، وكان هناك كرسيُّ الملكة آن ذو الظهر العالي وقد انسدل عليه ذيل الشعر المستعار الذي يرتديه الرجل. لكن الشك كان قويًّا لدرجة أنني وجدت نفسي بحاجة إلى أن أعود إلى الصالة وأفتح باب الشقة بهدوء كي أُبعد هذا الشك عن نفسي.
لا؛ لم يكن هناك أي خطأ. إذ كان اسمي «السيد جيمس ميتشل» مكتوبًا بوضوح على الباب. وبعد أن تأكدت من ذلك، دخلت مرة أخرى، وأغلقت الباب بصوت عالٍ وسرت عبر الصالة. ولكن الآن وجدت مفاجأة أخرى في انتظاري.
كانت الغرفة مظلمة.
توقفت قليلًا وانتظرت خروج الزائر منها. لكنه لم يفعل؛ ولم يكن هناك صوت لأي حركة تأتي من الداخل. فأشعلت عود ثقاب بعصبية ودخلت مرة أخرى. وبينما كنت أنظر داخل الغرفة أطلقت شهقة ذهول.
كانت الغرفة خالية.
وقفت لبضع ثوانٍ فاغرًا فمي ومحدقًا في الفراغ المظلم حتى أحرق عودُ الثقاب إصبعي؛ فألقيته وأشعلت آخر بسرعة شديدة؛ حيث خطرت في ذهني فجأة فكرة أن هذا الغريب الثقيل ربما يكون مجنونًا، وربما كان في هذه اللحظة مختبئًا تحت المنضدة. ومِن ثَم أشعلت مصباحًا بسرعة كبيرة وتراجعت نحو باب الغرفة. لكن بعد تفحُّص المكان تبينت أنه لا يُوجَد أحد يختبئ. كانت الغرفة خالية بلا شك. ومع ذلك لم يكن هناك مخرج إلا من الباب الذي دخلت منه. كان الأمر غير مفهوم ولا يُصدَّق. حيث لم تكن الغرفة خالية فحسب، ولكن لم يكن هناك ما يُشير إلى أن أحدًا قد دخلها. كان المكتب مغلقًا، وعندما اقتربت منه جرَّبت فتحه، فوجدته مغلقًا بالمفتاح كما تركته قبل أن أُغادر إلى المحكمة.
وغنيٌّ عن القول أنني قد فتشت «الشقة» بأكملها. حيث أضأت مصابيح الغاز في الصالة وغرفة النوم والمكتب والمطبخ الصغير. ونظرت تحت السرير، وفي دولاب الملابس الذي يصعب أن يُخفي طفلًا، ناهيك عن ذلك العملاق شبيه ليفياثان الذي تلاشى بشكل مذهل. وعندما تأكدت بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا يوجد أحد في الشقة سواي، عُدت إلى غرفة الجلوس وأخذت أُحدق في المكتب بانزعاج. بالطبع كان من الممكن أن يكون هناك تفسير واحد فقط. وهو أن الرجل الضخم ما هو إلا وهم من نسج خيالي. وأنه لم يكن هناك أي شخص في المكان على الإطلاق.
كان هذا تفسيرًا وجيهًا للغاية، لكنه لم يكن مرضيًا لي بشكل خاص. فالهلوسة أمر محرج. والعقل الذي يتخيل وجود رجل ضخم ليس عقلًا سليمًا. وظرفية الوهم زادت الأمر سوءًا. لأني أستطيع أن أتذكَّر الرجل الضخم تمامًا وهو يجلس بينما ضوء الشمعة ينساب من خلال حافة شعره المستعار؛ وعلى ذكر ذلك الشعر؛ لقد كان غريبًا جدًّا. إذ لم يكن يُشبه شعرًا مستعارًا لمحامٍ على الإطلاق، ولا لقاضٍ، في الواقع لم يكن شعرًا مستعارًا مصنوعًا من شعر الخيول على الإطلاق، بل كان أكثرَ نعومة وبدا كما لو كان مصنوعًا من شعر بشري حقيقي.
كان التفكير في الموضوع مزعجًا للغاية لدرجة أنني قررتُ استبعاده من ذهني؛ وتحقيقًا لهذه الغاية، شرعت في كتابة خطاب كان عليَّ أن أُرسله إلى محامي إجراءات في الصباح. فجلست على المكتب، وأشعلت الشمعة، وأخذتُ ورقة من درج الأدوات المكتبية وقلمًا من الرف. ومِن ثَم حددت الفقرة الافتتاحية من رسالتي المقترحة، وقبل أن أرفع غطاء دَواة الحبر، جربت سنَّ القلم، كما هي عادتي، على ظفر إبهامي. وعندئذٍ؛ كيف يُمكنني أن أُعبر عن مدى دهشتي عندما ألقيت نظرة خاطفة على ظفري بعد القيام بذلك، إذ رأيت عليه بقعة صغيرة من الحبر الرطب!
لقد صُعِقت. كان هذا، بكل المقاييس، دليلًا ملموسًا؛ وما جعله أكثرَ حسمًا هو أنني، في ذلك الصباح بالذات، وضعت قلمًا جديدًا في الرف وتخلصت من القلم القديم؛ لذلك، فإن هذا القلم، المليء الآن بالحبر الرطب، لم أستخدمه مطلقًا. لقد كان أمرًا يُثير الذهول. فجلست وأمضيت وقتًا طويلًا وأنا أُفكر فيه، وربما كنت لأُفكر فيه لفترة أطول، لكن عندما ألقيت نظرة خاطفة على القلم في يدي، وجدت أنه نظيف تمامًا وغيرُ مستخدم. ولم يكن عليه أيُّ أثر للحبر، لا رطب ولا جاف. بشكل غريزي رفعت ظفر إبهامي ونظرت إليه. فوجدت بقعة الحبر قد تلاشت. أو على الأقل، لم يكن هناك بقعة، وبالطبع لم يحدث أن كانت هناك أيُّ بقعة من الأساس. فالحبر الرطب؛ مثله مثل الرجل الضخم، كان وهمًا. نتاجٌ لحالة من الاضطراب في عقلي.
كان الأمر مزعجًا للغاية، لكن من غير المجدي التفكيرُ فيه والقلق بشأنه. لا شك أن الحالة ستزول، وفي هذه الأثناء كان من الحكمة تجاهلُها والاهتمام بصحتي في هدوء. وهكذا، ركزت تفكيري على رسالتي، وغمست قلمي، وكتبت «سيدي العزيز»، وانخرطت في الكتابة على الفور. تابعت الكتابة بطلاقةِ رجل يلتزم بنقل ما هو موجود بالفعل في ذهنه، وعندما وصلت إلى أسفل الصفحة، قلبتُها، وأنهيت الخطاب بعد سطرَين آخَرَين، ووقَّعت باسمي. ثم نهضت وأحضرت دفتر الرسائل من مكبس النسخ.
فتحت الدفتر، وكنت على وشك أخذ الفرشاة من وعاء الماء عندما تصادف أنْ مرَّت عيني على الرسالة التي كتبتُها للتو؛ فصرخت وأنا في قمة الذهول. لأن الاسم الذي وقعته عليها لم يكن اسمي، ولم يكن حتى بخط يدي؛ وإذا كان هناك أي شيء يُمكن أن يجعل الأمر أكثر إثارة للدهشة، فهو أني قد كتبت اسمًا غريبًا تمامًا بالنسبة إليَّ؛ فاينيس ديسبورو. يا للعجب؛ من هو فاينيس ديسبورو؟ وماذا كان اسمه المزعج يفعل عند خاتمة رسالتي؟
١٦، فيلد كورت، جرايز إن
١١ أبريل ١٧٨٥
سيدتي، لقد تلقيتُ بسرور تام رسالتك الموقرة بتاريخ ٢٠ من الشهر المنصرم. فضلًا اسمحي لي باحترام أن أعترف بتباسطك اللطيف في أسلوبك تجاه الشخص الذي تسبب في الكثير من الأذى والذي يُقدم تعويضًا الآن بعد أن أوشك على الموت. كان من الأفضل، حسبما أتصور، بما أن وصيَّك يجب ألا يكون على معرفة بلقائنا مطلقًا، ألا يراك أحدٌ تدخلين إلى مكتبي. وقد أخبرتِني بأنك ستصلين إلى لندن مساءَ يوم ٢٢ من الشهر الحالي، وستُصبحين بعيدة عن رقابة وصيك في عصر اليوم التالي. ولما كان الأمر كذلك، أود أن أُعطيَكِ الإرشادات التالية: سيري من مكان إقامتك في ساراسين حتى فليت ستريت على الجانب الجنوبي، ومِن ثَم عبر قوس تيمبل بار المتاخم لبنك السيد تشايلد. تحت هذا القوس، سأنتظرك عند الساعة الثالثة في الموعد المحدد، وبما أن القوس لا تحتوي إلا على ممر مضيق، وحيث إني (بسبب طبيعة جسدي ومرض الاستسقاء الذي ابتلاني به الله) سأشغل الجزء الأكبر منه فستُضطَرين إلى المرور بالقرب مني جدًّا بحيث يُمكنني بسهولة وضعُ الكتاب بين يدَيكِ دون أن يُلاحظ أحد.
احرصي على إخفاء الكتاب بعناية (وهو كتيب صغير)، وعندما تُصبحين وحدك تمامًا وغير مراقبة، استخدمي سكينًا رفيعة حادة حول الخط الذي حددته داخل الغلاف حتى تقطعي البطانة بشكل جيد.
لن أقول المزيد، باستثناء أنني قد تركت ممتلكاتي بالكامل عن طريق الوصية لأخيك جوناثان، وإنني أتوسل إليك أن تُخبريني عندما تُنفذين إرشاداتي وتحتفظي بالكتاب بأمان في عهدتك.
قلبت الصفحة ونظرت إلى توقيعي «جيمس ميتشل» الذي كان حبره لا يزال رطبًا وأرجوانيًّا. لذا كانت رسالة فاينيس ديسبورو، مثل بقعة الحبر والرجل الضخم، مجرد وهم.
لكن يا له من وهم! حتى عندما ألقيت نظرة خاطفة على رسالتي الخاصة، التي صِيغَت في عبارات اليوم الخاليةِ من السمات، فإن الفترات الأكثر اكتمالًا من الرسالة العتيقة كانت حاضرة ومثالية الكلمات في ذاكرتي. كان هناك شيء خارج عن المألوف هنا. فإما أن جهةً خارجية قد تمكَّنَت بطريقة ما من الدخول إلى عقلي، أو أنني (على حد تعبير السيد سولومون) «مضطرب في رأسي». ولم يكن أيٌّ من البدائل خيارًا مقبولًا للتفكير فيه.
وضعت رسالتي في ظرف، وكتبتُ عليه العنوان ولكني تركته مفتوحًا حتى أتمكَّن من فحص الرسالة في الصباح والتأكد من أنها لم تمرَّ بأي تحولات جديدة. ثم ذهبتُ إلى الفراش لأستلقيَ مستيقظًا لمدة ساعة كاملة أُفكر في فاينيس ديسبورو والسيدة سوزان بييربوينت وأتساءل عما إذا كان هناك وجودٌ لهؤلاء الأشخاص أم أنهم مجرد نتاج لعقل مضطرب.
كان من بين معارفي في المجمع في هذه الفترة، كما ذكرتُ سابقًا، طالب قانون يُدعى فرانك ليلاند. وكنت أُقدره كثيرًا. في المقام الأول، كان شابًّا رائعًا وسيمًا، وأنا متحيز للأشخاص ذوي المظهر الحسن. ثم إنه كان يتمتع بصحة ومعنويات مرتفعة، وهي صفات أُقدرها أيضًا؛ لأن الرجل السعيد يُحسِن لبني جنسه. فمثلما يُمكن للمرء أن يطلب المعرفة من الحكماء، كذلك، فإن التواصل مع السعداء، يرفع الروح المعنوية للإنسان؛ وهي حقيقة تستحق أن يأخذها بعين الاعتبار من هم في منتصف العمر.
في ليلة الأحد التالية، قابلت ليلاند، وهو يخرج مع المصلين الآخرين من كنيسة المجمع، ويؤسفني أن أقول إنه كان يتثاءب بشكل غير طبيعي.
فسألته: «لماذا تذهب إلى الكنيسة إذا كان ذلك يجعلك تتثاءب؟»
أجاب: «درس مجاني في الخطابة؛ إن القس الكفء هو أفضلُ مَن يُعلمك الخطابة. فالممثل لا يصلح نموذجًا؛ إذ إنه مبالغ للغاية. والمحامي مُمل للغاية. لكن القس هو الوسيلة المناسبة؛ فأسلوبه راقٍ لا تُعيقه المادة. والآن هل ستذهب إلى المنزل؟»
«نعم، كنت ذاهبًا إلى المنزل؛ إلى فيج تري كورت، على وجه الدقة.»
فدعاه ليلاند قائلًا: «لماذا لا تأتي وتُدخن معي سيجارًا؟»
«لِمَ لا؟ عمومًا لم أكن أتوق إلى العزلة التي من المحتمل أن تُزعجها ذكريات الراحل (أو الذي لم يرحل أبدًا) فاينيس ديسبورو وشكوك الخلل العقلي.»
قال ليلاند: «لقد اشتريت للتوِّ كتاب «ببيس» للمؤلف ويتلي.» وبهذا حُسِم الأمر. بعد دقيقة، كنا في شقته الفخمة في تانفيلد كورت مع كومة من كتبه المشتراة حديثًا على المنضدة.
ومِن ثَم فحصنا تلك الكنوز واحدًا تلو الآخر، وانغمسنا فيها وأخذنا عيناتٍ من المقاطع، وانتقدنا الرسوم التوضيحية وقيَّمنا الأغلفة، حتى وصلنا في أسفل الكومة إلى كتاب «الملكية العقارية» للمؤلف جوديف.
فقلت: «أنا سعيد لأنك لا تُهمل دراساتك.» بينما كنت منهمكًا في مطالعة المجلد المعقد، لكنني لم أُحاول أخْذَ عينات من محتوياته.
قال ليلاند: «أوه، إنه ليس الحماس المهني، لكن لديَّ مسألة شخصية ذاتُ صلة بقانون الملكية في الوقت الحاليِّ. لهذا السبب اشتريت كتاب المؤلف جوديف؛ ولكن الآن بما أنك هنا، فلماذا لا آخذ رأي محامٍ مخضرم في حلِّ المسألة بدلًا من عناء استخراجه من الكتاب بنفسي.»
«وأنا طوع بَنانك؛ فهذا على الأرجح سيُوفر الوقت. ناولني علبة التبغ واعرض عليَّ مسألتك.»
ناولَني العلبة وصندوق السيجار. ثم قال: «السؤال هو؛ ما هو موقف الرجل الذي يُهدد بحرمان ابنه الوحيد من الميراث؟»
فأجبته: «حسنًا، من واقع تَجرِبتي المحدودة كهاوٍ للمسرح، يكون موقفه عادةً عند منتصف سجادة الموقد، فارجًا ساقَيه، ويداه تحت ذيل معطفه.»
ابتسم ليلاند بمرح. قال: «أعني موقفه القانوني؛ أيُمكنه فعل ذلك؟»
«هذا سؤال غامض للغاية يطرحه محامٍ مبتدئ. ويعتمد الردُّ على الطريقة التي يحوز بها الممتلكات. فإذا حاز الرجل ممتلكاته حيازة مطلقة، فإنه يستطيع التصرف فيها بشكل مطلق؛ وإذا كان يحوزها وفق شروط، فلن يستطيع التصرف فيها إلا وفق تلك الشروط. ولكن لماذا تُريد أن تعرف؟»
«لأن والدي المحترم أعرب عن نيته في فعل ذلك بي، إذا أقدمت على أمرٍ هو لا يُوافق عليه …»
«حقًّا! هل من غير اللائق أن أسأل ما هو ذلك الأمر؟»
«أوه، الشيء المعتاد. هو غير موافق على مشروع زواجي.»
«أتقصد أن والدك غير موافق على الفتاة؟»
«لا، فهو لم يرَها من قبل. لكنه يعترض على والدها. سأُوضح لك الأمر؛ إن والدي رجل ريفي قديم الطراز وهو شديد الفخر بعائلته لدرجة الجنون. الله أعلم لماذا. لكن يبدو أنه كانت هناك أجيالٌ لا حصر لها من الرجال الريفيين الذين يحملون اسم عائلتنا، ولسبب ما، فهو فخور بهذه الحقيقة، ويعتبرنا مِلحَ الأرض. أما والد الفتاة فهو موسيقيٌّ، يعزف على البيانو ويُعلم الموسيقى. كما أنه ليس مليونيرًا. لكن البيانو هو المشكلة الحقيقية؛ فوالدي يقول إنه لن يقبل بزواج ابنه من ابنة مشغل بيانولا ملعون. ها قد أوضحت لك المشكلة.»
قلت له: «ليس بالدقة الكافية.»
«إن والدي رجل عجوز وقح عندما ينزعج، لكن ما يقوله محض هراء محيِّر، فالموسيقيُّ مهنته نبيلة، وبالنسبة إلى البيانو، فهو سيد الآلات الموسيقية مثلما أن زيوس هو سيد سادة الأوليمب. فكِّر في كل الرجال العظماء الذين عزفوا على البيانو؛ هناك موتسارت وباخ وهاندل بنفسه …»
قلتُ مقاطعًا: «وجوني مورجان.» لكن مع ابتسامة ليلاند الباهتة، استنتجتُ أنه لم يسمع الأغنية القديمة من قبل، ولذلك فاته المغزى من المزحة.
واختتم ليلاند حديثه قائلًا: «حسنًا، إن النتيجة النهائية هي أن والدي يرفض منحي موافقته. ويقول إنه إذا تزوجت من ابنة الموسيقي؛ يُمكنني أن أتدرَّب عند والدها، وسوف يُورثني شلنًا إسترلينيًّا واحدًا، وثمن شراء قرد.»
فسألته: «لماذا قرد؟»
«أوه، يبدو أنه يظن أن القرد هو مساعد لا غنى عنه لعازف البيانو. إنه ليس موسيقيًّا، كما تعلم.»
«ألا تعتقد أنه سوف يتنازل عن عناده إذا حاولتَ إقناعه بحكمة؟»
«لا، لا أعتقد. إنه عنيد مثل البغل. والأسوأ من ذلك أنه وضعني في مأزق حاليًّا؛ حيث شرح نواياه في رسالة إلى والد زوجتي المفترضة. والنتيجة هي أنني في الوقت الحاليِّ خاطبٌ مرفوض.»
«ولكن إذا رفضك والدها بالفعل، فإن تحديد موقفك القانوني لا طائل من ورائه.»
قال ليلاند: «أوه، كلا بالطبع، يا إلهي! أتظن أنني سأرضى بهذا الرفض؟ لا أنت مخطئ. أُؤكد لك يا ميتشل، أنني سوف أتزوج كيت بونينجتون.» ورفع ليلاند ذقنه مثلما يفعل والده عندما تظهر عليه علامات العناد.
«لقد استنتجت ذلك من طريقتك عندما قابلتكم في تلك الأمسية؛ ولا يُمكنني التظاهر بعدم تأييد رأيك بعدما رأيت الآنسة بونينجتون. لكنك تقول إن العلاقات بينكما مقطوعة في الوقت الحاضر.»
قال ليلاند: «أوه، لا، ليست كذلك، فما زلنا أصدقاء جيدين تمامًا. فأنا أتلقَّى دروسًا في العزف على البيانو من بابا بونينجتون.»
«هذا لؤمٌ منك. لكن استمر.»
«حسنًا، إن بونينجتون يرغب تمامًا، بشكل عام، في زواجي من ابنته، والآنسة كيت موافقة أيضًا — بشكل عام — لكنَّ كلَيهما يرفض أن يكون سببًا لحرماني من الميراث.»
ومِن ثَم أضفت: «وبالطبع، لا يُمكنك كرجل متزوج أن تُؤسس بيتًا بالاعتماد على شلن إسترليني واحد وسعر القرد.»
«بالضبط. لكن إذا كان والدي لا يستطيع أن يحرمني من الميراث، أعتقد أنه يُمكن ترتيب الأمور؛ إذ يُمكنني، على سبيل المثال، أن أقترض ما يكفي من المال لأبدأ مشروعًا تِجاريًّا. ولهذا السبب أريد معرفة كل المعلومات الممكنة عن سلطات الأب في موضوع الميراث.»
«وهو ما يُعيدنا إلى السؤال الأصلي؛ هل يحوز والدك ممتلكاته حيازةً مطلقة أم مشروطة؟»
قال ليلاند: «لا أعلم مطلقًا، وأفترض أنني يجب أن أُحاول معرفة حقيقة ذلك الأمر. لكن ما أعرفه هو أنه يبدو أن هناك شكًّا قويًّا في وجود مشكلة في سند الملكية.»
«حقًّا! يبدو هذا غيرَ سار، لكنه أيضًا غامض إلى حد ما.»
قال ليلاند: «الأمر غامض للغاية، ولكن من الأفضل أن أُخبرك بما أعرفه عن تلك المشكلة، وهي معلومات قليلة للغاية. ترتبط القصة بأحد أجدادي واسمه أنتوني ليلاند، الذي عاش في زمن جورج الثاني. ويبدو أن أنتوني قد تورَّط في تمرد اليعاقبة، وعندما انتهى ذلك التمرُّد بعد عام ١٧٤٥، هرب إلى خارج البلاد. وكان الرجل الذي احتفظ بممتلكات عائلة ليلاند بعد ذلك مؤيدًا ومخلصًا لسلطة البرلمان، لذلك، أفترض أن أنتوني اعتقد أنه إذا ظل بعيدًا عن الأنظار، فسوف يتم نسيان حماقته بحلول الوقت الذي كان من المقرَّر فيه أن يرث الممتلكات. ولكن، في واقع الأمر، لم يَرِثها مطلقًا. لقد عاش في لوفان ببلجيكا، وتُوفي هناك قبل أن يَحين موعد استحقاقه للميراث. ويبدو أنه في لوفان، قد أنشأ مشروعًا تِجاريًّا بالشَّراكة مع رجل يُدعى بونينجتون.»
صحت قائلًا: «بونينجتون!»
ضحك ليلاند وهو يقول: «نعم بونينجتون. هذا هو جوهر المزحة، وهذا ما أعتقد أنه يجعل والدي يشعر بالمرارة. وستعرف لماذا، حالًا.
حسنًا، في وقت وفاته، كان أنتوني أرملًا ولديه طفلان؛ ابنة تُدعَى سوزان، تبلغ من العمر عشر سنوات، وتعيش في إنجلترا مع خالتها، وابنٌ يُدعَى جوناثان، وُلِد في لوفان، يبلغ من العمر عامَين فقط. وقد جعل بونينجتون وصيًّا على الابن وكذلك الابنة؛ ولكن يبدو أنه قام أيضًا ببعض الترتيبات مع محامي الأسرة؛ لأن هذا الرجل — الذي نسيت اسمه — زار لوفان لبضعة أيام قبل وفاة أنتوني، وأجرى مقابلة معه، ومن المعروف أيضًا أن ذلك المحاميَ قد عمل لاحقًا وكيلًا لابن أنتوني.
وبعد ستة أشهر من وفاة أنتوني، سُرِقت الممتلكات، وتمكَّن بونينجتون، بمساعدة المحامي، من وضع جوناثان ليلاند تحت سيطرته، وإدارة الشئون التي آلت إليه (إلى بونينجتون) أثناء طفولة جوناثان. حسنًا، كان كل شيء يسير بسلاسة حتى تلك اللحظة. فقد وُضِع جوناثان تحت السيطرة على النحو الواجب، وبمرور الوقت دخل الطفل في مرحلة الرجولة أو، على الأقل، إلى مرحلة البلوغ، لأنه لم يكن أكثرَ من نصف رجل.»
فسألته: «ماذا تقصد بذلك؟»
«حسنًا، في المقام الأول؛ لأنه كان قزَمًا، وثانيًا، توقفت ذراعه اليسرى وساقه عن النمو على ما يبدو منذ طفولته. هناك لوحة له في المنزل تُظهر عفريتًا صغيرًا بشعًا بوجه غير متناسب وعكاز كبير. يبدو أنه كان شخصًا ضئيلًا مزعجًا، ومرعبًا للحي كله على نحو دائم، وكانت لديه عادةٌ ممتعة لإيقاظ الخدم بطرف عكازه. لقد كان شيطانًا صغيرًا خبيثًا وسيِّئَ الطباع اعتاد أن يضرب زوجته ويُهاجم أخته، وعمومًا عاث فسادًا في المنزل. وكان الشخص الوحيد الذي يُمكن أن يتعامل معه هو بونينجتون؛ لكن يبدو أن والتر ابن بونينجتون، الذي كان في نفس عمره، كان يُثير حقد جوناثان؛ ولذلك عندما بلغ سن الرشد، طرد والتر سيئَ الحظ ليُكافح ويعول نفسه.»
فسألته: «كيف عرَفت كل هذا؟»
«لقد احتفظَت شقيقته سوزان بنوع من المذكرات والسجلات العائلية، وهي موجودة لدينا في المنزل مع عدد من الرسائل القديمة. لقد تزوجَت في سنٍّ صغيرة، لكنها أصبحت أرملة بعد عامَين، وعادت لتعيش في كنف أخيها. ويبدو أنها مرَّت بوقت مبهج.»
سألت: «ولكن ماذا عن مشكلة سند الملكية؟»
«سأُخبرك حالًا. يبدو أنه في يوم من الأيام، تلقت السيدة سوزان خطابًا غريبًا جدًّا من المحامي — لا أستطيع تذكر اسمه، لكن لا يهم — يُوضح لها فيه أن هناك بعضَ الخداع حول سند الملكية، وأنه هو وبونينجتون قلقان بشأن إمكانية حدوث احتيال، أيًّا كان نوعه. لقد رأيت الرسالة، ووجدتها غامضة؛ لكنه استمر في القول إنه أودعَ هذه الحقائق في مكان آمن داخل كتاب للمؤلف هوراس أو فيرجيل أو كاتب لاتيني آخر — نسيت اسمه — في حوزته، وأنه يُريد تسليم الكتاب إليها لاستخدامه كدليل بعد وفاته. وتم تظهير هذه الرسالة من قبل السيدة سوزان كما يلي: أنها كتبت إلى السيد — أيًّا كان اسمه — تقترح المجيء إلى لندن والاتصال به، لكنه لم يرد أبدًا، أو أنه قد رد عليها، وهذا ما أعتقده، وتم اعتراض رسالته من قبل الوصي (كما أُسميه) السيد بونينجتون. وهكذا ينتهي الأمر. إذن هناك شيء غريب، لكننا لا نعرف ما هو. نحن نعلم فقط أن بونينجتون كان متورطًا فيه. وهذا ما يجعل والدي غاضبًا للغاية. إنه يُعاني بشكل مخيف من وهم أن سند ملكيته مشكوك في صحته، كما أنه يكره اسم بونينجتون بشدة.»
فقلت: «لكن، أعتقد أن هذا ليس سوى احتمال تشابه في الاسم؟»
قال ليلاند: «أتظن ذلك؟ يا إلهي! بالقطع أنت مخطئ؛ لأن والد كيت هو الحفيد المباشر لوالتر الذي تعرض لسوء المعاملة كثيرًا. نحن نعلم ذلك؛ لأن العائلات ظلت دائمًا على اتصال بشكل أو بآخر. إن العداوة هي هواية والدي الشخصية.»
قلت بعد تفكير عميق: «حسنًا يا ليلاند، يبدو لي أن عليك تقليدَ حكمة الراحلة سوزان، فلتنحنِ للريح ولا تقف أمامها متيبسًا. إنك بالتأكيد لا تُريد أن تُثير أمر سند ملكية أملاكك.»
ظهر عنادٌ واضح على وجه ليلاند ورثه عن أجداده، بينما يقول: «أنا متأكد أنك على حق، ولكن على الرغم من ذلك، أود أن أعرف ما الذي قاله ذلك المحامي العتيق. وبالمناسبة، ماذا تظن أنه كان يقصد بقوله أن «يُودِع الحقائق» في كتاب مطبوع؟»
«من يدري؟ ربما يكون قد كتب بيانًا على حاشية الكتاب، أو، على الأرجح، أرفقَ ترميزًا مرتبطًا بالنص. ومع ذلك، كما قلت لك، من الأفضل تركُ سند الملكية على حاله وتجرِبةُ أساليبَ أكثر إقناعًا مع والدك. على سبيل المثال؛ رتِّب مقابلة بينه وبين الآنسة بونينجتون. من المحتمل جدًّا أن يقتنع بأنها الفتاة المناسبة لك.»
ابتهج وجه ليلاند عند تقديري للفتاة التي اختارها، وصرف النظر عن المسألة القانونية، ومِن ثَم قال: «بالحديث عن كيت، لقد وعدَتنا باصطحابها هي ووالدها في جولة تعريفية حول المجمع. متى يُمكنني أن أدعوهما؟ ولكن، كما تعلم، فإن يوم الأحد ليس مناسبًا لعازف البيانو فهو يعزف في الكنيسة.»
فكرت في ارتباطاتي خلال هذا الأسبوع، ثم أجبت: «الأربعاء سيكون مناسبًا لي. دعهما يأتيا مبكرًا، وبعد الانتهاء من الجولة وتتبُّع الروابط التاريخية منذ آدم إلى الآن، سأدعوكم جميعًا لتناول الشاي في منزلي. ما رأيك في ذلك؟»
اعتقد ليلاند أن ذلك الترتيب مناسب للغاية، ووافق عليه، شريطة أن يُوافق أصدقاؤه.
هل أنا بحاجةٍ إلى التردُّد في الاعتراف بأن شقتي في فيج تري كورت قد امتلأت، في هذا الوقت، بحيوية غير معتادة؟ أو في توضيح كيف أنَّ الحقيبة الصغيرة التي أحضرتها إلى المنزل يوم الأربعاء كانت ممتلئة بالمخبوزات؟ أو كيف هُرِّبَت كعكة مثلجة إلى المجمع في صندوق شعر مستعار؟ أو كيف صُقِل إبريق الشاي الفِضي القديم سرًّا بمنديل من الحرير؛ وخرجت «تحف» متنوعة من الخزانة لتزيين مائدة الشاي؟ ولِمَ لا؟ فأنا لست سوى عازب عتيق الطراز تُصبح زيارات الفتيات الحسناوات لعرينه كزيارات الملائكة. والملائكة لا بد أن يُستقبَلوا استقبالًا يليق بهم. ويجب أن أقول إن الجميلة كيت بونينجتون، قد نالت إعجابي على الفور، وإن قصة صديقي ليلاند الرومانسية قد أثارت تعاطفي الحار. وربما كانت هذه القصة الرومانسية ستكون قصتي لولا … ومع ذلك، تلك مسألة أخرى.
التقينا بالزوار عند المدخل الرئيسي واصطحبناهم عبر مباني المجمع العتيقة. حيث تحدثنا عن حروب الورود وفرسان الهيكل والليلة الثانية عشرة. كما ناقشنا ظلال جونسون وجولد سميث وبورك وشيريدان. وفي ميتر كورت بيلدنجز، رأينا تشارلز المسكين وماري لامب يذهبان وهما يبكيان، يدًا بيد، إلى مستشفى المجانين، وانتظرناهما «يأتيان مرة أخرى بفرح». كما ألقينا الفُتات للعصافير بجوار النافورة وتحدثنا عن مارتن تشزلويت وروث بينش (وهنا اعتقدت أن كيت الجميلة تبدو وكأنها روحٌ شاعرية)، وتفحَّصنا الكنيسة ولسعادة السيد بونينجتون استمعنا إلى عزف الأب سميث على البيانو. كان كل شيء ممتع للغاية. فالسماء مشمسة، وأشجار الدلب ذهبية، وعندما اتجهنا نحو فيج تري كورت، كانت الروح والجاذبية ممتنَّين للغاية.
تحت تأثير الشاي، استعَدْنا الذكريات التاريخية والأدبية. وبعد ذلك، تفقَّد ليلاند، الذي كان من عشاق الكتب، رفوف كتبي، وهو يحمل كوب الشاي في يده، ليتصفَّح كتبي بيد واحدة ويُخيفني على سلامة طقم بورسلين ويدجوود الثمين. ثم استدار فجأة، وكاد يُوقع الكوب.
وقال: «لقد رأيت سولومون هذا الصباح، بائع الكتب، أعني، ليس الرجل الآخر. وقد سألني عنك. وقال إنه أرسل لك بعض الكتب لتراها.»
صحتُ قائلًا: «ليُباركْني الرب! نعم بالفعل، ولكني لم أفتح الطرد مطلقًا.»
قال ليلاند: «دعنا نفتحه الآن ونرى محتوياته.»
أخرجت الطرد، وقطعت الخيط، وعرَضت الكنوز: «الكتاب المقدس الترياق»، دراسة قديمة عن الخيمياء والسحر، واثنَين من الأعمال التاريخية الحديثة، وكتابًا ممتلئًا ومغلفًا بورق برشمان فاخر من القطع الصغير.
صاحت الآنسة بونينجتون وهي تنقضُّ على الكتاب، لتسليتنا الواضحة: «يا له من كتاب صغير حبيب! إنه أنيق جدًّا وصغير ولطيف. أوه، لماذا لا يستطيع الناس طباعة وتغليف كتب كهذه الآن؟»
مر سؤالها دون إجابة؛ لأن ليلاند كان بالفعل قد تعمق في «الكتاب المقدس الترياق» — وهو كتاب لم يكن لديَّ بالتأكيد نيةٌ للاحتفاظ به — وشرح خصائصه للسيد بونينجتون. وبعد الكتاب المقدس استعرضنا كتاب السحر الذي ناقشنا فيه المعتقدات الغريبة لأجدادنا. وفجأة نظر السيد بالكتاب الصغير بكلتا يدَيها، وقد وضعته على حجرها. بينما عيناها مفتوحتان على بونينجتون إلى ابنته وسأل: «ما الأمر يا كيت؟»
وعندئذٍ، نظرت إليها من فوق الكتاب. كانت الآنسة بونينجتون تجلس ثابتة ومتصلبة وهي تُمسك مصراعَيهما ومثبتتان، على ما يبدو، على الحائط المقابل.
كرَّر والدها السؤال: «ما الأمر يا كيت؟» لكنها ظلت غير واعية للسؤال، فانحنى إلى الأمام ولمس يدها برفق؛ وعندئذٍ انتفضت بعنف وحدَّقت حولها مثل النائم الذي أُوقِظ فجأة.
وصاحت: «يا له من شيء غير عادي!»
فسألها السيد بونينجتون: «ما هو الشيء غير العادي يا عزيزتي؟»
فأجابت متسائلة: «هل من الممكن أن تحلم دون أن تنام؟»
أجاب والدها: «إذا كنت تحلمين ولم تنامي، فلا بد أن الأمر ممكن؛ أليس كذلك؟»
قالت: «إنه أمر مذهل، لا بد أنه كان حلمًا، ومع ذلك بدا حقيقيًّا جدًّا، وحيويًّا للغاية.»
«ماذا كان يا عزيزتي؟ ماذا كان؟ ها؟ ها؟» وبنفاد صبر انحنى السيد بونينجتون إلى الأمام ونقر على أصابعها.
«تحلَّ بالصبر وسأُخبرك. لقد بدأ الحلم فجأة. فاختفى هذا المكان، ووجدت نفسي في شارع؛ شارع مزدحم مليء بالناس في ثياب غريبة مثل تلك التي نراها في النقوش القديمة. ولم يكن هناك رصيف؛ فقط صفٌّ من الأعمدة بين الطريق وممر المشاة الذي كنت أسير عليه. كانت المتاجرُ بها نوافذ صغيرة مضحكة مثل المحلات في قرية ريفية، وكان لكل منها لافتةٌ معلقةٌ فوق النافذة أو الباب. ومشيت بسرعة، بينما لديَّ شعورٌ بالذَّهاب إلى مكانٍ ما لغرض محدَّد، وعلى الفور، عندما ظهرت بوابة مقوَّسة، بدا أنني كنت أتوقع ذلك. تلك البوابة — يبدو أنني، حتى الآن، أعرفها جيدًا؛ ربما لأني قد رأيتها في صورة ما — كان لها ثلاثُ أقواس، واحدة كبيرة فوق الطريق، واثنتان صغيرتان للمشاة، ونافذة كبيرة فوق القوس الوسطى. وعندما اقتربت من البوابة للمرور من خلالها رأيت رجلًا يقف تحت القوس اليُسرى كما لو كان ينتظر شخصًا ما. كان عجوزًا ضخمًا شاحبًا جدًّا والآن بعد أن بدأت أُفكر فيه، فإنه يُذكرني بذلك الرجل العجوز الذي مرَّ بنا تلك الليلة في فيج تري كورت. مشيت نحوه بشعور غريب للغاية بأنني أتوقع أن أجده هناك، وعندما مررت من خلال القوس، اضطُرِرت إلى الاقتراب منه بشدة لأنه شغَل جزءًا كبيرًا من مساحة الممر، ثم وضع شيئًا في يدي. وأتذكر أنني أخذتُ ما أعطاني كما لو كنت أتوقعه؛ وبعد ذلك أيقظتَني أنت.»
سألها السيد بونينجتون: «ألا يُمكنك أن تتذكري ما أعطاكِ إياه؟»
«لديَّ نوع من الإحساس أنه كان كتابًا؛ لكنني أظن أن ذلك فقط لأنني كنتُ أحمل هذا الكتاب عندما استيقظت.» ومن ثَم وضعَتْه على المنضدة.
وبينما كانت كيت بونينجتون تروي قصتها، استمعتُ بدهشة متزايدة، وعندما انتهت، وقعتُ في حلم يقظة حيث بدت لي الاستجوابات المتلهفة لوالدها وفرانك ليلاند كأصوات تنبعث من مسافة لا نهائية. واستيقظت فقط عندما أخذ ليلاند الكتاب الصغير بلا مبالاة من فوق المنضدة، ونظر فيه وهو يُخاطبني.
«تذكر يا ميتشل، لقد أخبرتك عن كتاب نقل فيه هذا المحامي العتيق حقائقَ معينة. كنت أظن أنه كتاب للمؤلف هوراس أو فيرجيل. لكنه لم يكن كذلك، لقد كان للمؤلف سالوست. هذا الكتيب ذكرني.»
ومِن ثَم وجه غلاف الكتاب الصغير نحوي، فقرأت عنوانه «أوبرا سالوستي».
نظرت إلى الكتاب في خَواءٍ لبضع لحظات. ثم بتوقع متلهف أخذتُه من يده وفتحته. وبطريقة ما، لم يكن الأمر غريبًا على الإطلاق، ولكنه طبيعي تمامًا ومنظم، أن وجدت نفسي أبحث في بطانة الكتاب، وأجد فيها كلامًا مكتوبًا بالحبر البني الباهت بخط يدٍ أعرفه، «فاينيس ديسبورو، ١٧٥٦.»
أقول إن الأمر بدا طبيعيًّا تمامًا، لكن لا بد أني، مع ذلك، دُهِشت حقًّا لأنني أدركت في هذه اللحظة أن أصدقائي الثلاثة كانوا ينظرون إليَّ بفضول غير مألوف.
ثم سألني ليلاند: «ما الأمر يا ميتشل؟ تبدو كما لو كنت قد رأيت شبحًا أيضًا.»
فأجبته: «ربما رأيت بالفعل.» وعُدت إلى فحص الكتاب الصغير الغامض. لم تحمل الورقة في بداية الكتاب أيَّ كتابة أخرى بخلاف الاسم والتاريخ، ولكن عندما نظرت إلى الغلاف الخلفي، أدركتُ في الحال — ومرة أخرى بدا الأمر طبيعيًّا ومعقولًا تمامًا — وجودَ خط رفيع شاحب من الحبر البني حول الهامش، وهو ما اكتشفَته عيني المعتادة على قراءة الكتب العتيقة على الفور على أنه ورقة نهاية زائفة. وبدون كلمة، أخرجتُ مُديتي الصغيرة، وفتحتها، ووضعت الكتاب الصغير على المنضدة. وعندما وضعت سنَّ النصل الحاد على الخط الباهت، قفز ليلاند صائحًا:
«يا إلهي! ماذا ستفعل الآن يا رجل؟» لم أجد أي رد، لكنني مرَّرت النصل بثبات على طول الخط حتى قطعت الجوانب الأربعة، وفصَلت لوحةً صغيرة من ورقة النهاية. ورفعتها، ثم قلبت الكتاب، وأخرجت ورقتَين صغيرتَين من الورق المصفرِّ الرقيق للغاية، على كلٍّ منهما كتابة دقيقة جدًّا باللون البني الباهت.
صاح ليلاند: «يا إلهي! أوراق نقدية مخفية، يا للعجب!» والتقط إحدى الأوراق الصغيرة، ونظر إليها، ثم وقف يُحدق في وجهي، كمن ضربَته صاعقة.
قال بصوت منخفض: «يا إلهي! هل ترى هذا يا ميتشل؟»
بيان أنتوني ليلاند، جنت، الذي تلقَّيته من يده في ١٦ أغسطس ١٧٥٣، في ظرف مغلق ومختوم فتحته بعد ذلك.
فقلت: «هذه وثيقة سرية يا ليلاند، إنها تخصك، وقد تحتوي على أسرار عائلية مهمة.»
ردَّ قائلًا: «دعك من الأسرار! لا تُوجد أسرار بيننا. اقرأها. دعونا نسمع ما قاله أنتوني ليلاند عام ١٧٥٣.»
لوفان
٣ أغسطس ١٧٥٣
طفلتي العزيزة، أكتب هذه الكلمات (بقلم ريشة غراب)، مستلقيًا علىالسرير حيث سأُحمَل قريبًا إلى قبر خارج وطني، واثقًا في أنه من خلال المساعدة المسيحية لبعض الغرباء، ستصل رسالتي ليدك بسلام. أنا أُحتَضر في أرض غريبة، بلا صديق بالقرب مني، ولا أحد من أبناء وطني باستثناء شريكي، جيمس بونينجتون؛ الذي سأضع ابني الصغير، أخاك جوناثان، تحت وصايته لكنني أفعل هذا مع الكثير من الشك؛ لأنني لا أثق بالسيد بونينجتون، فهو رجلٌ ماكر ودنيوي؛ وقد كان حريصًا ومتلهفًا على نيل الوصاية، مما يجعلني لا أثق به أبدًا. ولكي أكون واضحًا، أنا أخشى من أنه قد يُمارس بعض الاحتيال، لأنك يجب أن تعرفي أن بونينجتون هذا أرمل (ماتت زوجته بنفس المرض الذي أودى بحياة والدتك العزيزة)، ولديه ابنٌ صغير يَكْبَر أخاكِ بشهر أو شهرَين؛ بائس تعيس معوق الجسد، توقفت ذراعه ورجله عن النمو منذ ولادته، وقد أغدق عليه والده بالتدليل، رغم أنني لا ألومه على ذلك، ولكنني أخشى أن يضع هذا الطفل البائس في مكان أخيك. وهو ما يُمكن أن يفعله بسهولة لأنه وصيٌّ على أخيك، ولا أحد هنا يعرف الطفلَين كي يستطيع التمييز بينهما. ربما أكون قد أخطأت في الحكم عليه؛ ولعل الله يُخيب ظني فيه ويجعله رجلًا صالحًا صائنًا لأمانة الوصاية. ومع ذلك، من أجل السلامة، أقول لكِ هذه الحقيقة؛ إن أخاكِ طفل مفعَم بالحيوية، حسن الشكل وجميل مثل أمه. وإن لديه شامةً على خدِّه الأيسر، وتُوجد على صدره الأيمن وحمةٌ حمراء اللون، في حجم عملة معدنية. بهذه العلامات يُمكنكِ التعرفُ على الطفل. لأن ابن بونينجتون شاحب وأسود، وكما قلت، مشوَّه منذ الولادة.
إذا حدثت عملية الاحتيال هذه التي أخشاها، ووصلت إليك هذه الرسالة بأمان، احتفظي بها حتى تبلغي سن الرشد؛ ثم استشيري رجلًا حكيمًا وصادقًا.
أستودعُكِ أيتها الطفلة العزيزة لدى الله الرحيم، وإلى اللقاء.
ساد صمت عميق لفترة بعد أن أنهيت القراءة. ثم سأل ليلاند:
«ماذا تحوي الورقة الأخرى يا ميتشل؟»
التقطتُ الورقة، ونظرت فيها، ثم أجبت: «إنه بيان ديسبورو. هل أقرؤه؟»
قال ليلاند: «بالتأكيد»، وبِناءً عليه قرأت بصوت عالٍ:
إنني تلقيت البيان المرفق من أنتوني ليلاند، في جنت، داخل ظرف مغلق ومختوم: ومِن ثَم فتحت الظرف وحجبت الرسالة عن سوزان ليلاند التي وعدَت بتسليمها إليها: وقد تآمرت بعد ذلك مع جيمس بونينجتون كي يحل ابنه والتر محل جوناثان ابن أنتوني المذكور أعلاه. وقد تواطأَت وساعدَت المذكور والتر كي يستحوذ على التركة العقارية والشخصية التي كان يحق للمذكور جوناثان أن يرثها؛ وأن المذكور والتر لا يزال ينتحل اسم وصفة جوناثان ليلاند، وأن المذكور جوناثان كان ولا يزال بشكل غير قانوني ونتيجة لعملية احتيال يعتقد بأنَّ اسمه والتر بونينجتون وأنه ابن المذكور جيمس بونينجتون.
تحرَّر هذا البيان بيدي في ٢٩ مارس ١٧٨٥.
وضعتُ الورقة ونظرت إلى أصدقائي الثلاثة، لكن لم يتحدث أحدٌ منا لبعض الوقت. كان ليلاند أولَ من كسر حاجز الصمت. حيث شكلَت كلماته الأولى السؤالَ الحتمي.
«كيف عرَفت أن تلك الأوراق موجودة في ذلك الكتاب يا ميتشل؟»
لم تكن هناك فرصة للسرية أو التكتم. من غير المحتمل ألا يكون جمهوري متشككًا. في بضع كلمات، حكيت قصة زائر منتصف الليل والرسالة الغامضة. وعندما هدأ التعجب قليلًا، جاء السؤال الآخر الذي لا مفرَّ منه.
«في ضوء هذَين البيانَين يا ميتشل، ما رأيك في الموقف الحالي؟ يبدو أن والدي يُمثل دور الأبله.»
قلت: «الموقف هو أنك فرانك بونينجتون وأن الآنسة كيت هنا هي كيت ليلاند.»
«وهل ستكون هذه الأوراق دليلًا دامغًا في المحكمة؟»
فأجبت: «ربما. لكن يجب أن أُشير إلى أنه بعد مرور مائة وخمسين عامًا، قد يكون من الصعب للغاية طردُ الحائز من الملكية. والدك لديه القدرة على خوض هذه المعركة، وسوف يُقاتل حتى آخرِ نفَس.»
قال ليلاند: «الآن أنت مخطئ تمامًا، إذ إن والدي عنيد مثل الشيطان، لكنه رجل أمين، وكريم أيضًا. إذا عرضت عليه تلك الأوراق وأعطيته كل الحقائق، فسأتعهد بأنه سينسحب، مع كل متعلقاته، بدون الحاجة إلى أي إجراء قانوني على الإطلاق.»
هنا قام السيد بونينجتون ومد يده للحصول على الأوراق وهو يقول: «إذا كان الأمر كذلك، أعتقد أنه من الأفضل أن نضع هذَين البيانَين في شبكة المدفأة، ونُحرِقهما بعود ثقاب.» وكاد أن يفعل ذلك، لكنني، مع عادة اعتناء المحامي بحفظ الوثائق، سحبتهما مسرعًا بعيدًا عن متناوله، ووضعتهما في محفظتي، وشبكت أزرار معطفي.
قال ليلاند: «صحيح تمامًا يا ميتشل؛ أنا متأكد من أنك تتفق معي في أنه يجب تحقيق العدالة.»
«نعم. أتفق معك بشكل قاطع. لكن يجب أن أُصِر على أن يتم ذلك بطريقة معقولة.»
«على سبيل المثال …»
«حسنًا، أفهم أن السيد بونينجتون، كما سأظل أُسميه، ليس لديه ابن لكن لديه بنت واحدة فقط. الآن افترض أنه دخل في دعوى ضد والدك، ونجح في الإطاحة به؛ ما هي النتيجة؟ ستُصبح كيت بونينجتون هي الآنسة كيت ليلاند. ولكن بالتأكيد، يا ولدي العزيز، يُمكن الوصول إلى نفس النتيجة من خلال عملية أقصرَ بكثير وأقلَّ تكلفة.»
حدَّق ليلاند في وجهي لبضع لحظات ثم ابتسم ابتسامة تنم عن التقدير وقال: «بحق الله يا ميتشل، يجب أن تُعيَّن في منصب اللورد كبير القضاة. بالطبع، هذه هي الخطة.» ثم وجَّه نظره إلى الآنسة كيت (التي تحوَّل لون بشرتها فجأة إلى لون زهرة البيوني)، وأضاف:
«بمعنًى آخر، أنه إذا تعطفَت الآنسة ليلاند ووافقت على الزواج من شيطان فقير مفلس مثل فرانك بونينجتون؛ فسنصل إلى النتيجة المرجوة.»
وهكذا حاز هذا الحلُّ الوجيه للمسألة على رضاهما المتبادَلِ ورضا الجميع؛ لأن «الوالد» أكَّد قدرة ابنه على فَهم سمات شخصية والده بشكل صحيح من خلال «تنازل سريع» في مثل خفة حركة الأبوسوم. وهكذا، عبر إجراء قصير وغير مكلِّف، أصبحت كيت بونينجتون هي كيت ليلاند — وقد حدث ذلك في اليوم نفسه الذي أصبحت فيه مستشارًا للملكة — ومِن ثَم، بعد قرن ونصف القرن، أعاد فاينيس ديسبورو الأمور إلى نصابها الصحيح.