قصة تطوُّر مُعلِّم
وصل المُعلِّم ويليام هورنر إلى قريتِنا، للعمل في المدرسة، عندما كان في الثامنة عشرة من عمره تقريبًا، وقد كان طويلَ القامة، نحيف الجسد، مُستقيم البِنية بلا أي انحناءاتٍ، مُسترسِل الشعر، ذا شفتَين مَزمومتَين، يرتسم عليهما تعبيرٌ صارم. وكان في تكوينه وحركاته مثل دُميةٍ مصنوعة من الخشب، تتحرَّك بخيوط؛ وكانت طريقتُه في الحديث تتناسَب مع مظهره تمامًا. فلم يسبق لهاتَين الشفتَين المزمومتَين أن أفسحتا الطريق لضحكة. كان أقصى انحرافٍ لهما عن طبيعتِهما الصارمة يتمثَّل في ضحكةٍ باهتة شاحبة، والتي كانت تُخلِّف تجاعيد صغيرة على وجنتَيه المُسطَّحتَين النحيلتَين، كما يُحدِث الحجَر تموجاتٍ في سطح البحيرة عند سقوطه فيها. كان المُعلِّم هورنر يعرف السِّمات المُفترَض توفُّرها في شخصية المُعلِّم حقَّ المعرفة، وأدرك أن صرامة الوجه تحتلُّ الصدارة في قائمة السِّمات التي لا غِنَى عنها في تلك المِهنة. وكان قد رسم في ذهنه، قبل أن يُغادر منزل والده، الهيئة التي سيبدو عليها طَوال الفصل الدراسي. فلم يكن قد خطَّط لأي ابتساماتٍ (إذ كان يعلَم أنه سيتنقِل للعيش بين المنازل بالتناوُب)، وما كان لأحداث الحياة العادية أن تُغيِّر ترتيباته؛ ولذا عندما كانت عضلاته تسترخي على غفلةٍ منه، كان يفعل ذلك «بحِرصٍ شديد»، كأنه يضع لقمةَ عيشِه على المحك.
وفي الحقيقة، قضى المُعلِّم وقتًا عصيبًا في أول شتاءٍ له في القرية. فقد كان حديث العهد باستخدام سُلطته، وشعَر أنَّ مِن «واجبه» استخدام عصاه بكثرة، ربما أكثر ممَّا عَدَّه أولئك الذين اعتادوا استخدامها ضروريًّا. وكانت الدموع والوجوه العابسة والقبضات العاجزة المضمومة بقوة، عندما يُدير ظهره، هي المكافآت التي نالَها بسبب صرامته، وقد سُرَّ الأولاد — والبنات أيضًا — عندما انتهت الدراسة، وعاد إلى بيتِه ليُساعد أباه في المزرعة.
ولكن بحلول الخريف عاد المُعلم هورنر مرةً أخرى، واستقرَّ بيننا بهدوءٍ مثلما تستقرُّ أوراق الخريف المُصفرَّة على الأرض، وأثار حضورُه التساؤلات كما حدَث في السابق. أسيكون مُتفانيًا كسابق عهده، يُضحِّي بسعادته وراحته من أجل الجميع، أم سيكون أكثرَ هدوءًا وأقلَّ ميلًا إلى التجوُّل في أنحاء الفصل بعصاه على كتفه؟ وأشدُّ ما تمنَّاه الطلاب لو أنه تعلَّم التدخين في أثناء الصيف؛ إذ قد يُخفِّف من عنفوانه بالقدْر الذي ليس بالقليل، ويجعله يُفضِّل الدَّعَة على العمل. لكن ها هو يقِف أمامهم، عريضَ المَنكِبَين، مفتولَ الذراعَين، من كثرة عمله في الحصاد.
لا تظن، يا عزيزي القارئ، أن المُعلم هورنر كان قاسيًا ومتوحشًا، فهو ليس غولًا يلتهِم الأطفال، أو طاغية مثل الملك هيرودس أو شخصًا يتلذَّذ بتعذيب الضعفاء. فمِثل هذه الطبائع قد تجِدها حاضرة بين أولئك المَفطورين على سُوء استخدام السُّلطة، لكنها نادرة الوجود في تلك المناطق الطبيعية البسيطة التي أصِفُها لك. فبحسب اعتقادي، ستجد القسوة والغِلظة مُنتشرتَين أكثر في المدارس الصارمة التي تُعِدُّ الشباب الصغار بقوة لدخول الجامعة. مع ذلك، فالمجتمعات غير المُتعلمة تُعلي من شأن القوة البدنية، مما يستلزِم أن يُظهِر المعلمُ — قبل كلِّ شيء — امتلاكَه لهذه الصفة الضرورية لذلك المنصب. أما بقية الصفات فوجودها أمرٌ مفروغ منه. أن يكون المُعلِّم ذكيًّا فهو جائزٌ، لكن أن يكون قويًّا فهذا واجب، والواجب مُقدَّم على الجائز كما هو معروف. ولذا يجب أن نعذر هورنر؛ إذ لا يمكن أن يُتوقَّع منه، وهو مُعلِّم جديد، أن يفهم الفلسفة الحقيقية للتدريس منذ البداية.
ولسوء الحظ، تعرَّض المُعلم هورنر للإهانة في فصله الدراسي الأول، من قِبل شابٍّ مُشاغب ضخم الجثة عريض المنكبين، في الثامنة عشرة من عمره أو ما شابَه، كان يعتقد أنه في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التعليم، لكنه في الوقت نفسه كان مغرورًا بما يكفي ليُملي عليه المنهجية التي يُريدها، ويُحدد له القدْر الذي يحتاج إليه.
قال المُعلم هورنر لذلك الشاب: «يجب أن تبدأ بتعلُّم الكتابة باستخدام أحرُف كبيرة يا جوشوا.»
قال الطالب بازدراءٍ كبير: «وما حاجتي إلى تلك الكتابة البسيطة؟ لن تعود عليَّ بالنفع. أريد أن أتعلَّم أُسس الكتابة المحترفة.»
نظر المُعلم إلى الصبي الضخم، وامتثل لرغبته، لكننا لن نُفصِح عن القرارات السِّريَّة التي اتخذها آنذاك.
وفي مناسبةٍ أخرى، اقترح المُعلم هورنر — بناءً على نصيحة غير مباشرة من مُعلِّم أكثر خبرة منه — على طلابه الأكبر سنًّا التمرُّن على الإملاء، وأسهب بكلماتٍ مُنمَّقة — مستندًا إلى أفكار ذلك الصديق الخبير — في الحديث عن المنافع، التي قد تنشأ عن هذه الممارسة، وقال على سبيل المثال لا الحصر:
«إنها ستُساعدكم، عند كتابة الخطابات، في كتابة الكلمات بشكلٍ صحيح.»
ردَّ جوشوا: «هُراء! لا فائدة من تعلُّم تهجئة الكلمات؛ على مَن يجد الأخطاء أن يُصحِّحها. أرى أن يكتب كلُّ شخص بالطريقة التي تحلو له.»
سأل أحد الفتيان جوشوا بعد المدرسة: «كيف تجرؤ على التطاول على المُعلم؟»
ردَّ جوشوا المغرور، الذي كان يعلَم جيدًا سبب تسامُح المُعلم معه، قائلًا: «لأنني يُمكنني هزيمته بكل سهولة.»
هل فهمنا الآن لماذا صمَّم المُعلم هورنر على فرض سيطرته؟
وقد سأل مُمتحِن، ذات مرة، في حضرتنا: «ما المقصود بالأورثوجرافيا؟»
فارتبك المُمتحَن كثيرًا، وحملق إلى عوارض السقف، ثم جال بصرُه إلى الدجاج خارج النافذة، قبل أن يُجيب في نهاية المطاف.
قال: «لقد مضى وقتٌ طويلٌ منذ تعلَّمت الجزء الأول من كتاب التهجئة؛ لذا لا يُمكنني الإجابة عن السؤال بشكلٍ صحيح. لكن إن سمحتَ لي بالرجوع إلى الكتاب، فقد أستطيع الإجابة عن سؤالك.»
وهكذا بدأ مُعلمنا الفصل الدراسي الثاني بثقةٍ متجدِّدة وسُلطة أكبر. فمَن ذا يجرؤ على التشكيك في كفاءته وقد حصل على الاعتماد مرتَين؟ وحتى جوشوا هذَّب سلوكه نحوه، وتبِعه الطلاب الأقل شغبًا بطبيعة الحال؛ لكنَّ الفتيات تصرَّفن بجرأة كبيرة؛ إذ شعرنَ، رغم حداثة سنِّهن، أن الذكاء الاجتماعي والجمال أكثر فاعلية من القوة الجسدية.
فهل سيُقدِم مُعلم شاب على أن يقرع بعصاه فتاةً تُرسِل شعرها في جدائل، وتضع خاتمًا ذهبيًّا في إصبعها؟ هذا مستحيل؛ وبالتالي، امتدَّت هذه الحصانة إلى الصغريات وقريباتهن؛ والحق أنه كان في المدرسة ما يكفي من الفتيات الأكبر سنًّا لحماية المجتمع الأنثوي بأكملِه في المدرسة. وفي المقابل، كان على المعلم هورنر خَوض معارك كثيرة مع الفتيان، وربما لهذا السبب — أو كتدبيرٍ اقتصادي — لم يرتدِ معطفه في المدرسة قَطُّ، وتعلَّل بحرارة الجو. وقد يكون فعل ذلك عملًا مقصودًا من جانبه للتوافُق مع توقُّعات رؤسائه في العمل الذين يقدِّرون العمل الشاق. فعدم ارتداء معطف فوق القميص يوحي، بشكلٍ ما، أن المدرسة تُعلي من شأن الجهد البدني. وإذا كان من الواضح أن المعلم يكدح في عمله، فإن الطلاب يكدحون أيضًا.
كان نجاح المُعلم هورنر مُنقطع النظير في ذلك الشتاء. فقد غيَّرت هذه السنة من النمو الجسدي مظهره الخارجي بشكلٍ كبير، فاشتدَّ عوده، ولم يعُد يُشبه الفتيان الصغار، وامتلأت وجنتاه شحمًا ولحمًا، حتى عوَّضتا عن غياب الشارب. وأمدَّته الخبرة بالثقة، والثقة بالسُّلطة. باختصارٍ، لقد وصل إلى درجةٍ كبيرة من النضج، وكان هذا هو الواقع بالفعل. ولقد عزم المُعلم على القراءة لزيادة معارفه؛ ومع أنه بنهاية الفصل الدراسي لم يستطع تحديد الجانب الذي كان يُحارب حنبعل فيه، من قراءاته في التاريخ، فإنه كان له كل العُذر في ذلك بسبب تنقُّله بين المنازل، واضطراره إلى القراءة في معظم الوقت على ضوء الموقد، وسط الأطفال المُشاغبين الأشقياء.
عقب ذلك، أصبح المعلم هورنر في وضعٍ يسمح له بإملاء شروطه الخاصة. فعندما جاء الفصل الدراسي الجديد بحلول فصل الخريف، وحضر لخَوض الاختبار الثالث، أعلن المُمتحِنون أنه لم يعُد في حاجة إلى مزيدٍ من الاختبارات؛ كما وافقت المقاطعة على تعيينه براتبٍ شهري مُجزٍ، قدرُه ستة عشر دولارًا، مع توفير مسكنٍ ثابت، بشرط أن يدفع دولارًا واحدًا في الأسبوع. حينئذٍ، تذكَّر المُعلم هورنر «أوقات ذبح الحيوانات» المُتتالية، والكعك المُحلَّى الذي كان يحصل عليه من العشرين عائلة التي أقام معها بصفةٍ مؤقتة في السنوات الماضية، فقَبِل بهذا الشرط.
وهكذا، وصل صديقنا إلى أعلى مكانةٍ يمكن أن يطمح إليها مُعلِّم مقاطعة: مؤهلاته الأكاديمية راسخة ليست في حاجة إلى إثباتها بالاختبارات، ومسكنه دائمٌ ليس في حاجة إلى تغييره بين الحين والآخر، واحترامه مكفول من الجميع؛ إذ علِموا أنه بلغ سنَّ الرشد، ولدَيه مزرعة يُمكنه الاعتماد عليها إذا ما شعر بالاستياء، وأراد التقاعُد.
وعلى الفور، أصبح المُعلم هورنر الشاب الذي لا يُضاهيه أحدٌ في الجاذبية في المنطقة، على الرغم من تشكُّك أهل القرية في المُتعلِّمين. وكان يُسدِل شعره على ناصيته، ويرتدي شريطًا أزرقَ فاتحًا لحماية ساعته الفضية، ويسير بخطواتٍ حذِرة، كأن كعب حذائه المتين العالي مصنوعٌ من مادة قابلة للكسر لا من الجلد. ومع ذلك، لم يكن المُعلِّم يُهمِل واجبات منصبه على الإطلاق. كان شابًّا متأنقًا فقط في أيام الأحد والعطلات، ومُعلمًا كما يقول الكتاب في بقية الأيام.
وفي مسابقة للتهجئة، التقى المعلم هورنر بالآنسة هارييت بانجل المُتأنِّقة أول مرة، والتي كانت تزور عائلة إنجلهارت في منطقتنا. كانت الآنسة من إحدى مدن غرب نيويورك، وقد جلبت معها مجموعةً متنوعة من أجواء وسلوكيات أبناء المدن، بشكلٍ مُبالغٍ فيه، ساهم في إبرازها الأزياء الفرنسية التي ترتديها والتي تعود لصيحة السنة الماضية. ولا ندري هل أُرسلَت الآنسة هارييت إلى قريتنا، لمحاولة العثور على زوجٍ قروي تبني معه حياة جديدة، مع أنها متأخِّرة في ذلك بعض الشيء، أم أن صُحبتها في عائلتها كانت لا تُطاق فأبعدوها إلى هُنا. وفي المقابل، كانت الصورة التي حاولت الآنسة جاهدةً نقلَها، هي أن أصدقاءها اتَّخذوا هذا الإجراء، لحمايتها من تودُّد عاشقٍ بائس لا يجدونه لائقًا بها.
وإذ بدا لك أن من الغريب أن ينزل زائر من الطبقة الراقية البريَّة، فلا تنسَ أن كثيرًا من الإنجليز المشهورين، وعددًا ليس بالقليل من الأمريكيين المرموقين، لدَيهم أقارب مزارعون في القُرى الغربية، يلبسون ثيابًا خشنة، ويعيشون حياة بسيطة، مثل جيرانهم تمامًا. وعندما يزور هؤلاء البارزون أقاربهم القرويين، نحظى — نحن أبناء البريَّة — بقبسٍ من ذلك العالَم البهيج، أو هذا ما نعتقِده.
يجعل الكثير من جوانب الحياة الريفية البسيطة أكثر جاذبية، حتى عند الحكماء.
كان سلوك الآنسة بانجل يعكس المكانة الرفيعة التي شعرت أنها تستحقُّها. ومع ذلك، تفضَّلت ورضِيَت بالاستمتاع مع القرويين ومحاولاتهم الخرقاء في الانبساط والتأنُّق؛ والحق أنها لم تفُتها أيٌّ من المناسبات السَّارة التي كانت تعقدها القرية، وإن كانت تحضرها بهالة من الفوقية المُتعالية.
كانت مسابقات التهجئة إحدى وسائل الترفيه التقليدية في فصل الشتاء. وكانت تُعقَد مرةً واحدة كل أسبوعَين تقريبًا، وتجذب جميع الشباب من على بُعد أميالٍ إلى القرية، فيأتون بأحسن الثياب، ويتعاملون بروحٍ احتفالية. وبعد انتهاء التجهيزات، واختيار هيئة التحكيم التي تجلس في مقدمة الغرفة — المُخصَّصة للمُعلمين عادة — ينتقي الطلاب الصغار أفضل طالبَين لرئاسة الفريقَين المتنافسَين. ويصطفي الرئيسان أتباعهما من بين الحضور، ويناديان عليهم بالتناوب، فيتَّخذون أماكنهم في هذا الفريق أو ذاك، ويصطفُّون على جانبَي الغرفة واقفين. ويتناول مُعلم المدرسة — واقفًا أيضًا — كتاب التهجئة الخاص به، ويُلقي نظرةً هادئة لكنها مَهيبة على الصفَّين، في إشارة إلى عدم نيَّته للانحياز إلى أحدِهما على حساب الآخر، وأنه لن يستخدِم إلا الكلمات الموجودة في كتاب التهجئة. وفي أول نصف ساعة تقريبًا، يختار المُعلم كلماتٍ شائعة وسهلة، حتى لا تسُود روح الإحباط بين الحاضرين عند استبعاد الكثيرين في بداية المسابقة. إذ عندما يُخفق متسابق في تهجئة كلمة، يجلس في أحد المقاعد، ويكتفي بالمشاهدة فيما تبقَّى من الأمسية. وفي فتراتٍ محدَّدة، يصعد أفضل الخطباء إلى المنصة، و«يلقون خطابًا» رنَّانًا عادةً.
ولا يقِل هذا المشهد إثارة عن أي عرضٍ مسرحي في المدينة؛ وبحلول نهاية الأمسية؛ حيث يختار المُعلم الكلمات الصعبة وغير الشائعة لإرباك العدد القليل المُتبقي من المتسابقين، تزداد حدة المسابقة. وعندما لا يتبقَّى سوى واحدٍ أو اثنَين من المُتسابقين، يحاول المعلم — الذي تعب أخيرًا من تلك المهمة المُرهِقة والمُحبَّبة إلى قلبه — استخدام المكر والخديعة لإنزال الهزيمة بهؤلاء الذين لا سبيل للتغلُّب عليهم في نزالٍ شريف. وإذا لم يجد المُعلم بين كل الكلمات الغريبة وغير المُستخدَمة وغير الشائعة في كتاب التهجئة كلمةً غفل عنها المتسابقون، يُوقِع المتسابِق الأخير باستخدام الحيلة والخديعة. فيختار كلمةً تُنطق بطريقةٍ معينة، وتُكتَب بأشكالٍ مختلفة؛ إذ إنه بهذا الشكل لم يخترق القاعدة التي تقول إنه لن يخرج عن كلمات كتاب التهجئة.
وفي إحدى تلك المُسابقات — كما ذكرنا سابقًا — حضرت الآنسة بانجل بهدف العثور على مادةٍ لخطابٍ تريد إرساله إلى إحدى صديقاتها، ووقعت عيناها على السيد هورنر أول مرة. فسحرها سلوكه الرصين وشفتاه المزمومتان، وقرَّرت استهدافه. لكنها لم تستطع منع نفسها من الإعجاب بعض الشيء بمسابقة التهجئة، وعندما انتهت المسابقة، وجدَت أنها لم تُسجِّل الكثير من صفات المُعلم كما كانت تنوي، كي تقصَّها على مسامِع مراسلتها.
وفي مسابقة تلك الأمسية، كانت فتاة صغيرة السن، تسكن على بُعد بضعة أميال من القرية، وتُدعى إيلين كينجزبيري، وتُعَد الطفلة الوحيدة لمزارعٍ ثري، آخِر مَن خرج مِن المسابقة، بعد جهدٍ جهيد من جانب السيد هورنر لإرباكها لصالح مدرسته. احمرَّ وجه الفتاة خجلًا وابتسمت، ثم احمرَّ وجهها خجلًا من جديد، وواصلت الإجابة، حتى استحالت وجنتا السيد هورنر للَّون القرمزي من الإثارة المشُوبة بالإحراج؛ إذ انقلب السحر على الساحر. وفي نهاية المَطاف، أخطأت إيلين في تهجئة كلمة، إما بقصدٍ وإما عن غير قصد، وغاصت في مقعدها مع ثلة الخاسرين.
وفي أثناء الأحاديث والضحكات التي تلت المسابقة (إذ تختفي كل المظاهر الرسمية للمحفل العام بانتهاء المسابقة)، أسهب مُعلمنا في مدح عدوَّته الجميلة، وبدا مُفعمًا بالحيوية من أجواء الإثارة التي أحدثتها المسابقة، حتى بدأت الآنسة بانجل تنظر إليه بانبهارٍ أكبر، وشعرت ببعض الاستياء أن فتاة بسيطة مثل إيلين تستحوذ على اهتمام الشابِّ الجذاب الوحيد. ولذا تسلَّحت بجاذبيتها، واختلطت بالحاضرين، وحرصت على التعرُّف على المُعلم، وبذلت أقصى ما في وسعها لإثارة إعجابه، من خلال أسلوبها المُهذَّب والمُنمَّق، وهو ما شهدت نجاحَه في الأماكن الأخرى. فهل هناك فرصة ولو ضئيلة، تتركها المرأة اللعوب تفلت من قبضتها، دون أن تستخدِم أسلحتها الساحرة؟
لم يترك السيد هورنر إيلين الجميلة، حتى أوصلها إلى عربة والدها، ثم مضى في طريقه عائدًا إلى منزله، ولم يخطُر بباله أن يرافِق الآنسة بانجل إلى عربة عمِّها، رغم أنها انتظرت بعض الوقت عودته إليها.
ولا داعي إلى الخوض في تفاصيل المحادثات اللاحقة بين مُعلمنا والشابَّة الحضرية. ما يُهمنا هو نتيجة مخططاتها للاستيلاء على قلبه. لقد حاولت بكل قوة معرفة نقطة ضعفه، لإعداده لما قد يحدُث له في المستقبل، ولشدَّ ما كانت صدمتها عندما رأت جهودها تذهب سُدًى. وخلصت من ذلك إلى أن السيد هورنر لا بدَّ أنه قد حصل على الترياق من سُمِّها، ولم تلبث أن خمَّنت مصدره. فلقد لاحظت تلألؤ عينَيه في حضور إيلين كينجزبيري، وفكرت في خطة تُسلِّي بها نفسها على حساب هذين الساذجين الوقحَين، لكنها تختلف بعض الشيء عن خطتها الأصلية الطبيعية التي تنطوي على المُغازلة البسيطة.
كُتب خطابٌ للسيد هورنر، كأنه مُوجَّه من إيلين كينجزبيري، وصِيغت كلماته بذكاءٍ شديد، ففهم على الفور أن الهدف الحقيقي من كتابته هو الرغبة في التواصُل بشكلٍ سري، رغم ظاهره الذي يُوحي بالاستفسار حول أحد الأمور العادية. ووُضِع الخطاب داخل مكتبه، قبل وصوله إلى المدرسة، مع اقتراح أن يضع الرد في مكانٍ مُعيَّن، في صباح اليوم التالي. وانطلت الخدعة على الفور على المُعلم — ذلك الشاب الطيب الصادق الولهان بإيلين الجميلة — إذ تخلَّى عن حذرِه من شدَّة فرحه. وهكذا، وُضِع الخطاب في المكان المُحدَّد، وُحمِل للآنسة بانجل بالشكل المناسب، من خلال شريكها في الجريمة جو إنجلهارت، الشقي التعيس الذي «كان يُلاحق الشرَّ أكثر من ملاحقته للخير دائمًا»، والذي لم يجد أي صعوبةٍ في الوصول إلى الخطاب دون أن يراه أحد؛ إذ كان يتعيَّن على المُعلم الحضور إلى المدرسة في التاسعة صباحًا وبدء العمل على الفور، أما هو فكان في وسعه التلكُّؤ في المدرسة بضع دقائق. وبعدما فُتح الخطاب، وضحكت الآنسة بانجل على ما جاء به، لم يكن أمامها سوى الردِّ عليه بنبرة أكثر خصوصية من السابق، مما شجَّع المُعلم السعيد مرة أخرى، فبدأ يُعرِب عن عاطفته باستخدام «عبارات مُنمقة وكلمات مُنتقاة بعناية رقيقة»، للحديث عن التلال والوديان والجداول ومسرَّات الصداقة، واختتم حديثه بالتوسُّل إليها كي لا تتوقف عن مراسلته.
وتوالت الخطابات، كل واحدٍ منها يفيض بكلمات الغزل والتشجيع أكثر من سابقه، حتى كادت أن تذهب بهيبة المُعلم، وأحدثت عظيم الأثر في قلبه، حتى لم يعُد يستطيع إعطاء عمله سوى النَّزر اليسير من اهتمامه. ومع ذلك، ظلَّت مسابقات التهجئة حاضرة في ذهنه، وأضفت إيلين كينجزبيري عليها البهجة بحضورها؛ لكن لم ينسَ الخطاب الأخير أن يُحذِّر السيد هورنر من الكشف عن علاقتهما الحميمية؛ فانحصرت عاطفته، بذلك الوعد، في لغة الأعين على الرغم من صعوبة كبح تلك الهمسة الوحيدة، التي ودَّ لو أنه يمنحها قاموسه الشخصي للإعراب عنها. وهكذا، مرَّ لقاؤهما دون أن يحدُث شيءٌ يعجِّل بانتهاء تسلية الآنسة بانجل البيضاء قبل أوانها.
واستُؤنفت الخطابات بروحٍ جديدة، واستمرت حتى بدأت الآنسة بانجل، رغم عدم شعورها بتأنيب الضمير، تخشى عواقب مُزاحها الخبيث. وأدركت أنها استحالت مُعلِّمة، والمُعلم هورنر تلميذًا بدلًا من أداة تلعب بها بإصبعها؛ فقد تحسَّن أسلوب خطاباته بالتدريج، كما أن النغمة الصادقة والواثقة التي تسلَّح بها، أنذرت أنه لن يتلقَّى الإساءة والإهانة، بهدوءٍ وسلبية مثلما توقَّعت في البداية. والحق أن ثمَّة ما هو أعمق من الغرور، لاح في مشاعر المُعلم هورنر تجاه إيلين كينجزبيري. فقد هدم التشجيع المُستمَد من الخطابات، الحاجز العالي الذي كان سيفرضه خجلُه الشديد، بينه وبين أي امرأةٍ ذات جاذبية ساحرة؛ ولا بد أن نعذره في عدم انتقاده لتشجيع إيلين له — في الموقف الذي بين أيدينا — وقبوله لمشاعرها الطيبة التي قدَّمتها إليه بحماسة ومن دون تردُّد، أو عدم انتقاده لأخلاقية تصرُّفها رغم تحفُّظاته في قرارة نفسه. باختصارٍ، كان المعلم مغرمًا بإيلين بجنونٍ كأي رجل، وأثَّرت مشاعره الحقيقية العميقة في أسلوبه، الذي كان مرتبكًا في البداية، فصار أكثر بهاءً وسموًّا.
وضع تصميم السيد هورنر الواضح على التقدُّم إلى والد الفتاة الآنسة بانجل في حرجٍ شديد. كانت تتوقَّع العودة إلى بيتها قبل تطوُّر المسألة إلى هذا الحد، لكن مع اضطرارها إلى البقاء بعض الوقت، شعرت بالخوف من الاستمرار أو التوقُّف؛ حيث ستُحَلُّ عقدة الحبكة في كلتا الحالتَين حتمًا. وظل الوضع على حاله، في حين بدأت الاستعدادات للعرض الفني الكبير، الذي يؤذِن بنهاية فصل الشتاء الدراسي.
كان هذا الحدث ضخمًا، بما تعجز المساحة المُتبقية الصغيرة في هذا السرد الصادق عن وصفه. فلا مفرَّ من «تناوله على عُجالة»، وترك التجهيزات المُهمة لخيال القارئ الجامد، مما قد يُهدِّد بتبدُّد روحه المُرهَفة لافتقارها إلى الكلمات. كل ما يُمكننا قوله إن مُعلِّمنا، التي قاربت مهامه المدرسية على الانتهاء بانتهاء الفصل الدراسي، بذل جهدًا لم يبذله أحدٌ قبله في هذا الصدد، كأنه عزم على ترك سجلٍّ حافل من المَجد خلفه عند رحيله عن مدرستنا. فلم يتبقَّ شمعدان أو ستارة، يمكن الحصول عليه بالإقناع أو الرشوة، في القرية؛ حتى البيانو الوحيد الذي كان يتطلَّب عناية بالغة، احتيل لنقله ووضعه في زاوية المسرح الآيل للسقوط. واختيرت لهذه المناسبة أفضل الخُطَب في كتاب «الخطيب الكولومبي» و«المتحدث الأمريكي»، و… — لكن لا يُمكننا سرد أسماء الجميع — باختصارٍ، أبلغ الخطب المؤثِّرة التي يعرفها كلٌّ مِن المُعلمين والطلاب؛ ووافق العديد من السيدات والسادة، الذين أنهوا مسارهم الأكاديمي بنجاحٍ في وقتٍ سابقٍ في مدرستنا أو غيرها، على المشاركة في العرض، وتوفير الإكسسوارات والأزياء اللازمة لأداء الأدوار الدرامية في ذلك الحدث الترفيهي.
مع غطاء الرأس الطويل، والشفقة الجلية على الملامح والنابعة من تلبُّس ماري للشخصية، بالغ الأثر في نفس المُعلِّم هورنر فأذهبت حذرَه المفروض عليه. وبعد انتهاء البروفة، وجاء موعد عودة الأبطال والبطلات إلى منازلهم، اكتُشف — بحيلة ذكية غير غريبة على المكان — أنه حدث تمزُّق لطقم الخيول المملوك للسيد كينجزبيري في عدة مواضع، واختفى السوط، وتبعثر جلد الجاموس في الأرجاء وفوقه العربة مقلوبة رأسًا على عقب. وجد السيد هورنر في ذلك العُذر لاقتراض حصان وعربة، وأعطى لنفسه الحق في إيصال الآنسة إيلين إلى المنزل، في حين عاد أبوها برفقة العمَّة سالي وكيس كبير من النخالة من المطحنة، وهما رفيقان لا يُضاهيهما شيء في التسلية!
وهكذا جاءت اللحظة التي طال انتظارها! وحانت فرصة التأكُّد بشكلٍ حاسمٍ مما لا سبيل للتأكُّد منه مطلقًا إلا بسماعه من الشفتَين الدافئتَين النابضتَين بالحياة، والذي يعضِّده نظرات كاشفة — أو شِبه كاشفة — عما يجُول في الصدر من مشاعر. ولم يكن هناك الكثير من الوقت؛ إذ انسابت العربة إلى وجهتها بسرعة، وكان الأب كينجزبيري يسير على مقربة منهما، بعدما ثبَّت طقم الخيول، وجمع أدواته المتناثرة، فكان التأخُّر ولو لحظة واحدة مستحيلًا. ومع ذلك، ضاعت لحظاتٌ كثيرة قبل أن يجد السيد هورنر — الصادق غير الخبير بهذه المسائل — الكلمات المناسبة لصياغة مشاعره التي اكتشفها حديثًا. بدا أن الحصان يطير بسرعة البرق — إذ لم يتبقَّ سوى القليل — وفي نهاية المَطاف، ومن شدة اليأس من العثور على الكلمات المناسبة، خان السيد هورنر التعبير، وتحدَّث عمَّا قد عزم سابقًا على تجنُّب الحديث عنه، وهي مسألة الخطابات.
وتلا ذلك حوار سادَه سوء الفهم؛ واستهلكت صيحات التعجُّب والتفسيرات، والاستنكارات والاعتذارات، الوقت الذي كان من المُفترَض أن يملأ السيد هورنر بالسعادة. كانت العربة قد اقتربت من المنزل؛ إذ أضاء النور المُتسلِّل من نوافذ المنزل الطريق، ونجم عن اللقاء الذي طال انتظاره أن بكت إيلين التي كانت تشعر بحيرةٍ شديدة وبحرجٍ كبير، وانسلَّت هاربة من بين يدَي السيد هورنر الذي حاول منعها من الذهاب، وركضت إلى المنزل دون أن تتكرَّم عليه بكلمة وداع، وظلَّ هو واقفًا في مكانه، في تجسيدٍ مثالي للبطل الإغريقي أورفيوس بعدما رحلت عنه حبيبته يوريديس إلى الأبد، وبلا أملٍ للقاء من جديد.
سأل السيد كينجزبيري: «ألن تنزل من العربة أيها السيد؟»
تلعثم المعلِّم هورنر المسكين: «أجل … لا … أشكرك … مساؤك سعيد»، وكان في حالة ذهولٍ شديدة فنعتته العمة سالي ﺑ «الغبي».
دخل الحصان وهو عائد إلى المنزل في السياج، مُلقيًا بالسيد هورنر على الأرض، لكن لم تعلق الحادثة بذاكرته؛ في حين تسبَّبت مسألة الجولة التعيسة في حرمان إيلين من النوم في الليل، وإصابتها بحُمَّى شديدة في الصباح، مما استلزم استدعاء طبيب القرية إلى منزل السيد كينجزبيري قبل الإفطار.
ولا يمكن تصوُّر مدى حزن السيد هورنر المسكين. فلم يسعه — وسط إحباطه وحيرته ومشاعره المجروحة وغرامه الذي لم ينقص بمقدار ذرة — سوى أن يقلِّب في ذهنه، إشكالية حلمه العزيز، في صمتٍ مرير؛ وأقنع نفسه أن إنكار إيلين إنما هو بسبب خجلِها الذي أخذها على حين غِرة، وانتقد بشدة تقلُّبات جنس النساء، كما هي عادة جميع الرجال عندما يشعرون بالغضب من امرأةٍ واحدة بعينها. لكن لا بد أن يواصِل عرضه الفني على الرغم من تعاسته، فراح يتجوَّل في الأنحاء بشكلٍ آلي، ويناقش مسائل الستائر والشموع والموسيقى والوضعيات والوقفات والتشديدات وهو يبدو كالسائر في أثناء النوم الذي تكون «عيناه مفتوحتَين لكن عقله غائب عن الوعي»، وكثيرًا ما كان يرد على أسئلة الآخرين بإجاباتٍ صادمة غير مناسبة للسياق تمامًا.
كان الظلام قد غلَّف الأنحاء تقريبًا، عندما اكتشف السيد كينجزبيري بمساعدة الدكتور والعمَّة سالي سبب كرب إيلين، وظهر أمام المعلم هورنر الحزين بكل غضبه وصرامته وحزمه، وأخذه جانبًا، وطلب منه توضيح سببَ معاملته لابنته على هذا النحو. وما كان من العاشق الحائر، إلا أن يتوسَّل إلى الأب أن يُعطِيَه فرصة للدفاع عن نفسه، والتعبير عن تقديره للآنسة إيلين، واستعداده لأن يُقدِّم لها كل التوضيحات اللازمة، لكن بلا فائدة؛ فقد رفض الأب الانتظار لحظةً واحدة، ولم يجد المُعلم هورنر مفرًّا من أن يُرِيَه الخطابات التي هي وسيلته الوحيدة لتفسير محادثته الغريبة مع إيلين. ففتح قفل مكتبه ببطءٍ كارهًا، في حين كان استياء الرجل العجوز قد بلغ عنان السماء إلى درجة أن ينتزع الأوراق التي من شأنها حل هذا اللغز المُزعج. ولشدَّ ما كانت دهشة المعلم هورنر وحنق الأب المشُوب بالاحتقار، عند عدم العثور على الخطابات. وغضب الأب غضبًا منعه من الاستماع إلى صوت العقل، أو التفكير ولو لحظة واحدة في سُمعة المُعلم البيضاء التي لا تشُوبها شائبة. وانصرف معميًّا بالغضب، مُهدِّدًا بإنزال كل أنواع العقاب العام والخاص على المُعتدي، الذي اتَّهمه بمحاولة إيقاع ابنته في ورطة لمصلحته الخاصة.
وما أتعس العرض الفني الأخير للمعلم القدير المُعتمَد ثلاث مرات! لقد ساعدته الضرورة الملحَّة والخبرة المتراكمة في الانتهاء من معظم مهامِّه، لكن انطفأ الكبرياء الذي كان يتلألأ في عينَيه في المناسبات الشبيهة السابقة. وجلس، واحدًا من ثلاثة قضاة، في حين ساق مسئولان غليظان، روبرت إيميت المسكين في ملابس مُزرية أمامه؛ لكن كم بدا كبير القضاة (المُتمثِّل في المُعلم) مذنبًا أكثر من المُذنب الحقيقي! كما كان من المفترض أن يؤدي دور عطيل، لكنه اضطرَّ إلى الاعتذار عن تمثيل مشهد «المنديل» الغاضب، متعللًا بإصابته بدور بردٍ شديد، وهو ما كان غريبًا. وكان الجمهور على أحرِّ من الجمر لرؤية ماري ستيوارت، واضطرَّ المعلم بأسفٍ بالِغ، أن يُعلن بنفسه عن حذف ذلك الدور من العرض بسبب مرَض إحدى المُمثلات الشابَّات.
ولم يكَد المعلم هورنر يتلفَّظ بهذه الكلمات، ويُخفي وجهه المُشتعِل حمرةً خلف الستار، حتى وقف السيد كينجزبيري من مكانه بين الجمهور، وبدأ يسرد شكواه على الملأ، وهو أمر غير مُستغرَب في هذه البلدة الحدودية. وتطرَّق إلى صلب الموضوع على الفور؛ وقبل أن يتمكن بعض الأصدقاء الذين رأَوا أن تصرُّفه غير مناسب للمكان أو الزمان، من إقناعه بتأجيل انتقامه، طرح السيد كينجزبيري مشكلته على الجمهور الذي بلغ عدده ثلاثمائة شخص أو ما شابه. بعد ذلك، اقتِيد إلى الخارج، تارةً بالإقناع وتارة بالقوة، في حين ساد الهرج والمرج بين الجمهور الراقي الذي لم يستوعِب بشكلٍ كامل القضية التي أُلقِيَت على مسامعه بهذا الشكل غير المتوقَّع. وبينما طالب بعض الحاضرين بمواصلة العرض، تناوب الآخرون بين التعبير عن آرائهم المختلفة في سلوك المُعلِّم بكلماتٍ لم يحرصوا على انتقائها بعناية، وبين الصياح بين الحين والآخر: «الخطابات! الخطابات! لِمَ لا تحضرون الخطابات؟»
وراح المسئول عن الأمسية، الذي لحُسن الحظ كان «مشهورًا» بين الحاضرين، يطرُق المكتب مراتٍ كثيرة، حتى استعاد النظام جزئيًّا في نهاية المطاف؛ وأُعلِن أن المشهد المُفضَّل من حوار داود وجالوت، للكاتبة الإنجليزية هانا مور، سيكون المشهد الأخير. وكان مشهد الفتى داود بالرداء الطويل الأبيض المُزدان بالشريط الأحمر، وحقيبة الكتف المصنوعة من النسيج القطني الخشن، والمِقلاع البدائي للغاية، وجالوت الضخم الذي كان يتزيَّن بحزامٍ عسكري عريض، وسيف، ورمح في سُمك نول النسَّاجين، ساحرًا خلابًا لأذهان الحاضرين. ولم يعُودوا يتذكَّرون المُعلم الآثم ولا خطاباته المزعومة، بينما كان يُوقِع جالوت العملاق أجزاءً من السقف المُنخفض — في كل مرة يرفع فيها الرمح لينزل به على أرضية المسرح بكل قوته في خضم خطبته الحماسية — وتتناثر بقاياه على شعره الأسود الكثيف الأشعث. وفي النهاية، رفع جالوت الرمح بنبرة وعيدٍ حاسمة، لتوجيه ضربته الساحقة، لكنه أوقع جزءًا كبيرًا من السقف، وانهال سيلٌ من الخطابات على أرضية المسرح.
تلا ذلك فوضى عارمة لا يمكن وصفُها. وعمَّ الهرج والمرج المكان، وسرعان ما انخرط الكثيرون في الكلمات الجارحة التي انهالت على السيد هورنر مثل السَّيل. قبل ذلك، كانت الآنسة بانجل تجلس في مكانها في ذُعر، رغم اعتقادها أنها قد اتخذت التدابير اللازمة، حتى لا ينكشف أمرُها. فلم تكن في حاجة إلى معرفة ما سينجم عن المحادثة الخاصة بين السيد هورنر وإيلين؛ وفور أن رأتهما يرحلان معًا، أقنعت شريكها بانتهاز الفرصة وسرقة الخطابات من مكتب السيد هورنر؛ وهو ما فعله شريكها بمهارة اللصوص الفطرية؛ وفتح قفل المكتب بمسمارٍ معقوف، دون أن يُثير الشكوك، كأنه ترعرع في أحضان سجن «المقابر» في مانهاتن.
لكن السَّحرة يُعانون أشد المعاناة، في بعض الأحيان، من رِفاقهم الذين تعلَّموا الشر على أيديهم. وهكذا، فكَّر جو إنجلهارت — الذي استغلَّته الآنسة بانجل لتحقيق مآربها الخاصة — أنه قد حان الوقت لتعذيبها قليلًا؛ ولذا بعدما سرق الخطابات بناءً على طلبها، أخفاها في مكانٍ لا يعرفه أحد سواه، ولم تفلح كل محاولتها في إقناعه بالكشف عن هذا السر الخطير، الذي قرَّر أن يستخدِمه كورقة ضغط، إذا رفضت أن تشفع له عند أبيه، أو تقدِّم له بعض المساعدة، وهو ما لا غِنَى عنه نظرًا إلى عاداته المشاغبة.
كان قد أخفى جو الطرود الثمينة في العلية — التي لا تحتوي على أرضية — فوق غرفة الدراسة مباشرة؛ ولم يكن من الممكن الوصول إليها إلا من خلال باب صغير في السقف لا يمكن بلوغه بسُلَّم، دائم أو متحرك؛ وكانت نيَّته أن يحتفظ بها هناك حتى تنتهي حاجتُه منها، لولا تدخُّل الرمح في ذلك التوقيت الحرج.
طيلة ذلك الوقت، كما ذكرنا سابقًا، كانت الآنسة بانجل تجلس وهي تعتقد أن الخطابات في مكانٍ آمن، وتُخطط للانتقام من شريكها، الذي لم يسمح لها بحرقها والتخلُّص منها للأبد؛ وظلَّت على هذه الحال لا تنتبِه إلى خطورة الموقف، حتى سمعت اسمها يتردَّد بين الجمهور في همس. هؤلاء البسطاء، الذين طالما كرهتهم، هَدَتْهم فراستهم على الفور إلى أنها صاحبة الخطابات؛ إذ كانت شخصيتها واضحة بين الأسطُر لا تُخطئها الأعيُن الحاذقة، وكان خطُّها متقنًا على غير ما هو معهود، بين بنات جنسِها في القرية. في البداية ظن الجميع أن هذا هو التفسير الصحيح، وبعد ذلك تحوَّل إلى حقيقة لا يتطرق إليها الشك.
وعلى إِثر ذلك، ماج الحاضرون كما يموج البحر المتلاطم. وشعروا أنهم يتشاركون المسئولية في هذه المسألة. وكثرت المطالبات بطردِها من المكان بنبراتٍ خشنة من أناسٍ يقفون بالقُرب من باب المسرح، تجاوبت معها همهمات غاضبة صاخبة من الداخل.
أسرع السيد إنجلهارت، الذي لم يشأ الاستفسار عن حقيقة الموقف وسط ذلك المشهد الفوضوي، إلى إخراج قريبته، بهدوءٍ شديدٍ وبأسرع طريقةٍ مُمكنة، لكن أصوات الاحتقار والازدراء لاحقت ابنة أخيه، وتعلقت هي بذراعه شِبه غائبة عن الوعي، مرتعدة الفرائص من غضب العامة البسطاء الغريزي. وفور أن فقدت الوعي، تردَّدت صرخة بين الفتيان الغِلاظ عند الباب، وحُملت إلى إحدى العربات، فاقدة الإحساس من شدة الرُّعب. واختفت من تلك الأمسية، دون أن يعلم أحد بالوقت الذي رحلت فيه إلى الشرق إلى الأبد.
أما السيد كينجزبيري، الذي يتَّسِم بالإنصاف عندما لا يتملَّكه غضب، فقد بذل أقصى ما في وسعه لتعويض المُعلم عن معاملته القاسية غير المدروسة؛ ونعتقد أن ذلك الموظف الحكومي لم يُكِن له أي ضغينة. وفي غضون أيام قليلة، شُوهد وهو يتناول الشاي مع السيد كينجزبيري، والعمة سالي، والآنسة إيلين في طمأنينة وراحة بال؛ ومنذ ذلك الحين عاد المعلم إلى وطنه لبناء منزلٍ في مزرعته. وتردَّدت الأقاويل أنه في غضون بضعة أشهر، لم تكن الآنسة إيلين في حاجة إلى تدخُّل الآنسة بانجل إذا رغبت في مراسَلته.