مشاعر الجماعات وأخلاقها
بعد أن أجملنا القول في أهم خواص الجماعات ينبغي أن نأتي عليها بالتفصيل.
كثير من الصفات الخاصة بالجماعة كقابلية الاندفاع والغضب وعدم القدرة على التعقل، وفقدان الإدراك وملكة النقد والتطرف في المشاعر وغير ذلك، يشاهد أيضًا في الأفراد الذين لم يكمل تكوينهم كالمرأة والمتوحش والطفل، ولكني لا أذكر هذه المشابهات إلا عرضًا؛ إذ الدليل عليها يخرج عن دائرة هذا الكتاب على أن ذلك غير محتاج إليه لدى من عرف أحوال النفس عند الأقوام الذين لا يزالون على فطرتهم الأولى، ثم هو لا يقنع من الإلمام له بتلك الأحوال إقناعًا تامًا.
ولنشرع في شرح كل صفة من الصفات التي توجد في أغلب الجماعات.
(١) قابلية الجماعة للاندفاع والتقلب والغضب
قدمنا عند الكلام في صفات الجماعة الأولية أنها منقادة عادة إلى العمل من دون أن تشعر بالدافع إليه، فتأثير المجموع العصبي في أفعالها أكبر جدًّا من تأثير المخ، وهي بذلك تشبه كثيرًا الرجل الفطري. وقد تكون الأفعال التي تصدر عنها كاملة من حيث التنفيذ، إلا أن العقل لم يكن رائدها فيها، بل إن الفرد في الجماعة يعمل طوعًا للمؤثرات التي تدفعه إلى الفعل، فالجماعة ألعوبة في يد المهيجات الخارجية، وهي تمثل تقلباتها المستمرة وحينئذٍ هي مسخرة للمؤثرات التي تقع عليها، نعم قد يقع الرجل منفردًا تحت تلك المؤثرات عينها، لكن عقله يرشده إلى مضارها فلا ينقاد لحكمها، وذلك ما قد يعبر عنه علماء وظائف الأعضاء بأن في الرجل وحده قدرة يتمكن بها من ضبط أعصابه دون الجماعة إذ ليس لها شيء من ذلك.
تتبع الدوافع المختلفة التي تبعث الجماعة إلى الفعل طبيعة المؤثرات التي ترجع إليها، فتكون رحيمة أو قاسية عليها مسحة الإقدام أو الخمول، لكنها تكون على الدوام شديدة فلا تثنيها المنافع الذاتية حتى منفعة حفظ الذات نفسها.
وعلى ذلك لا يوجد من أفعال الجماعة ما هو صادر عن قصد ورويَّة، فهي تنتقل من شعور إلى شعور، وهي على الدوام خاضعة لتأثير الشعور المستحوذ عليها وقت الفعل مثلُها في ذلك مثل أوراق الشجر تحملها العاصفة وتبددها شذر مذر ثم تسكن فتهبط. وسنأتي بأمثلة على تقلبات الجماعة عند الكلام على بعض الجماعات الثورية.
وشدة تقلب الجماعة تجعل قيادها صعبًا على من يزاوله خصوصًا إذا وقع في يدها فسقط من السلطة العامة، ولولا أن مقتضيات الحياة اليومية تفعل في الأمور كمنظم خفي لتعسر جدًّا البقاء على الديمقراطية (الحكومات النيابية)، إلا أنه بقدر ما تتطرف الجماعة في إدارة الشيء تسرع بالعدول عن تلك الإرادة، فإنها لا قدرة لها على الإرادة المستمرة، كما أنها لا تقدر على إطالة النظر والتفكير.
ليست قابلية الاندفاع والتقلب كل ما تمتاز به الجماعة، بل هي مع ذلك كالهمجي لا تطيق وجوده حائلًا بينها وما تريد، والذي يساعدها على أن لا تعقل الحيلولة أن الكثرة تُحدث فيها شعورًا بقوة لا حد لها، فتصور المستحيل بعيد عن الفرد في الجماعة. يشعر الرجل منفردًا بعجزه عن إحراق قصر أو سلب حانوت، فإن دفعه دافع قاوم وامتنع، فإذا دخل الجماعة أحس بقوة لم تكن له من قبل وتشجع بكثرة العدد، وكفى أن يشار إليه بقتل أو سلب لينساب انسيابًا لا يثنيه عنه شيء، فإن كان في طريقه عقبة اقتحمها بعنف وشدة، ولو احتمل تركيب الإنسان دوام الغضب لقلنا إن الحالة الطبيعية للجماعة التي خولفت في مقصدها هي الغضب الدائم.
(٢) قابلية الجماعة للتأثر والتصديق
قلنا في تعريف الجماعات إن من أخص صفاتها قابليتها الشديدة للتأثر، وبينا كيف أن التأثر معد في كل مجمتع إنساني، وفي ذلك إيضاح لسرعة توجه المشاعر كلها نحو غرض محدود.
ثم إن سرعة تصديق الجماعة ليس هو السبب الوحيد في اختراع الأقاصيص التي تنشر بسرعة بين الناس، بل لذلك سبب آخر وهو التشويه الذي يعتور الحوادث في مخيلة المجتمعين؛ إذ تكون الواقعة بسيطة للغاية فتنقلب صورتها في خيال الجماعة بلا إبطاء لأن الجماعة تفكر بواسطة التخيلات، وكل تخيل يجر إلى تخيلات ليس بينها وبينه أدنى علاقة معقولة، وإنا لندرك هذه الحال إذا ذكرنا ما قد يتوارد علينا من الأفكار الغريبة لمجرد تخيلنا واقعة من الوقائع، والفرق بيننا وبين الجماعة أن العقل يرشدنا إلى ما بين هذه التخيلات وبعضها من التنافر والتباين، وأنه ليس في قدرتها أن تصل إلى مثل هذا التمييز وأن كل ما أحدثه خيالها من التشويش تضيفه إلى أصل الحادثة، فهي لا تفرق بين الشيء وما يرمي إليه، بل هي تقبل جميع الخيالات التي تعرض لها، ولا نسبة في الغالب بين تلك الخيالات وما وقع تحت الحس أولًا.
هكذا وقعت جميع التخيلات الاجماعية الكثيرة التي رواها التاريخ، وعليها كلها مسحة الحقيقة لمشاهدتها من الألوف المؤلفة من الناس.
ولا ينبغي في رد ما تقدم الاحتجاج بمن كان بين تلك الجماعات من أهل العقل الراجح والذكاء الوافر؛ لأنه لا تأثير لتلك الصفة في موضوعنا، إذ العالم والجاهل سواء في عدم القدرة على النظر والتمييز ما داموا في الجماعة. ورب معترض يقول: إن تلك سفسطة، لأن الواقع غير ذلك، إلا أن بيانه يستلزم سرد عدد عظيم من الحوادث التاريخية، ولا يكفي لهذا العمل عدة مجلدات، غير أني لا أريد أن أترك القارئ أمام قضايا لا دليل عليها، ولذلك سآتي ببعض الحوادث أنقلها بلا انتقاء من بين ألوف الحوادث التي يمكن سردها.
كانت المدرعة (لابيل پول) تبحث في البحر على الباخرة (بيرسو) حيث كانت قد انفصلت عنها بعاصفة شديدة، وكان النهار والشمس صافية، وبينما هي سائرة إذا بالرائد يشير إلى زورق يساوره الغرق، فشَخَص رجال السفينة إلى الجهة التي أشير إليها ورأوا جميعًا من عساكر وضباط جليًّا زورقًا مشحونًا بالقوم تجره سفن تخفق عليها أعلام البأس والشدة … كل ذلك كان خيالًا، فقد أنفذ الربان زورقًا صار ينهب البحر إنجادًا للبائسين، فلما اقترب منهم رأى من فيه من العساكر والضباط أكداسًا من الناس يموجون ويمدون أيديهم، وسمعوا ضجيجًا مبهمًا يخرج من أفواه عدة حتى إذا وصلوا المرئى وجدوه أغصان أشجار مغطاة بأوراق قطعت من الشاطئ القريب، وإذ تجلت الحقيقة غاب الخيال.
هذا المثال يوضح لنا عمل الخيال الذي يتولد في الجماعة بحال لا تحمل الشك ولا الإبهام كما قررناه من قبل، فهنا جماعة في حالة الانتظار والاستعداد، وهناك رائد يشير إلى وجود مركب حفها الخطر وسط الماء مؤثر سرت عدواه فتلقاه كل من في الباخرة عساكر وضباطًا.
ليس من الضروري أن تتألف الجماعة من عدد كبير حتى تنعدم فيها حاسة إبصار الأشياء على حقيقتها، وتبدل الحقائق بخيالات لا ارتباط بينها وبينها، بل متى اجتمع بعض أفراد تألفت منهم جماعة لها ما لكل الجماعات من الصفات وإن كانوا من أكابر العلماء، وليست هذه الصفات كل واحد منهم فيما هو بعيد عن اختصاصه العلمي، وفي الحال تنزوي ملكة التمييز وتنطفئ روح النقد في كل واحد منهم، ومن الأمثلة الغريبة على ذلك ما رواه لنا موسيو (دافي) وهو أحد علماء النفس المحققين، وقد نشرته حديثًا مجلة (أعصر العلوم النفسية)، ويحسن بنا إيراده. دعا إليه موسيو (دافي) عددًا من كبار أهل النظر وفيهم عالم من أشهر علماء إنكلتره هو المستر (ولاس)، وقدم لهم أشياء لمسوها بأيديهم ووضعوا عليها ختومًا كما شاءوا، ثم أجرى أمامهم جميع ظواهر فن استخدام الأرواح من تجسيم الأرواح والكتابة على (الإردواز) وهكذا، وكتبوا له شهادات قالوا فيها إن المشاهدات التي وقعت أمامهم لا تنال إلا بقوة فوق قوة البشر، فلما صارت الشهادات في يده أعرب لهم أن ما كان إنما هو شعوذة ما أبسطها. قال راوي الحادثة: والذي يوجب الدهش والاستغراب في بحث مسيو (دافي) ليس إبداعه ومهارته في الحركات التي قام بها، بل ضعف الشهادات التي كتبها أولئك الشهود الذين كانوا يجهلونها، وأن الشهود قد يذكرون روايات كثيرة واقعية كلها خطأ، وأنه لو صح وصفهم الحوادث التي يرونها لتعذر تفسيرها بالشعوذة، على أن الطريقة التي استنبطها موسيو (دافي) بسيطة يندهش الإنسان لبساطتها من جراءته على استعمالها، ولقد كان له من التأثير في أفكار جماعته ما جعلها ترى ما لم تكن ترى.
ذلك هو تأثير المنوم في المنوم دائمًا، وإذا تبين أن هذا التأثير جائز في عقول سامية بعد أن أنذرت، فكم يكون من السهل التأثير في عقول الجماعة العادية.
والأمثلة التي من هذا القبيل لا تحصى. أنا أكتب هذه السطور والجرائد ملأى بذكر غرق ابنتين صغيرتين وانتشالهما من نهر (السين).
عرضت الجثتان فعرفهما بضعة عشر شخصًا معرفة أكيدة واتفقت أقوالهم اتفاقًا لم يبق معه شك في ذهن قاضي التحقيق، فرخص بدفنهما، وبينما الناس يتهيأون لذلك ساق القدر البنتين اللتين عرفهما أولئك الشهود بالإجماع، وبان أنهما باقيتان ولم يكن بينهما وبين الفقيدتين إلا شبه بعيد جدًّا. والذي وقع هنا هو بذاته ما وقع في الأمثلة التي سردناها، تخيل الشاهد الأول أن الغريقتين هما فلانة وفلانة، فقال ذلك وأكده، فسرت عدوى التأثير إلى البقية.
والذي تجب ملاحظته هو أن هذه المعرفة تقع غالبًا من النساء أو الصبيان، أعني من الأشخاص شديدي التأثر أكثر من غيرهم، وذلك يدلنا على مقدار قيمة مثل هذه الشهادات أمام القضاء. فالواجب أن لا يلتفت إلى قول الصبي بحال من الأحوال. يقول القضاة مجمعين إن الإنسان في هذا السن لا يكذب. ولو أنهم ارتقوا في معرفة أحوال النفس درجة لعلموا أنه فيه يكذب على الدوام. نعم إنهم غير آثمين فيما يكذبون، ولكنهم على كل حال يكذبون وإلا لكان الأولى أن تبنى العقوبات على أحد وجهي الدينار (طره ولّا ياز) من أن تبنى على شهادة صبي.
هذه الحوادث تدلنا على قيمة شهادة الجماعات. نعم إن كتب المنطق تعد إجماع العدد الكثير على الشهادة من أقطع الأدلة التي يمكن إقامتها لإثبات أمر من الأمور، ولكن الذي نعرفه من علم أحوال النفس يرشدنا إلى أنه يجب أن تؤلَّف كتب المنطق في هذا الموضوع من جديد، فالشك كل الشك في الوقائع التي رواها الجم الغفير، والقول بأن الأمر شوهد في الزمن الواحد من ألوف من الشهود هو في الغالب قول بأن الواقع يخالف كثيرًا ما اتفق أولئك الشهود عليه.
نتج من هذا أنه ينبغي النظر إلى كتب التاريخ كأنها كتب أملاها الخيال لاحتوائها على روايات وهمية لحوادث اصطحب بالشك وقوعها تحت الحواس وأُردفت بشروح متأخرة عنها، وعليه فإن عمل أي عمل كيفما كان رديئًا أولى من قتل الوقت في وضع مثل تلك التآليف.
ومن سوء الحظ أنه لا ثبات للأقاصيص وإن سجلت في بطون كتب التاريخ؛ لأن خيال الجماعات لا ينفك بغيرها وبحرفها مدى الزمن، بدليل ما نعرفه الآن من الفرق العظيم بين يهوذا ذلك الوحش الكاسر الذي جاء ذكره في الإنجيل ويهوذا إله الحب الذي ذكره القديس (تيريز)، وبدليل أن (بوذا) الذي تعبده الصين لم يبق بينه وبين (بوذا) المعبود في اليابان وجه شبه ما.
بل إنه لا يلزم أن تتعاقب الأجيال لتتغير صور عظماء الرجال في خيال الجماعات، فإن هذا الانقلاب قد يحصل في بضع سنين أنَّا شاهدنا قصة أعظم رجال التاريخ تقلبت عدة مرات في أقل من خمسين عامًا. ففي عهد آل (بوربون) كان نابليون رجلًا يحب الإنسانية، حر الأفكار صديقًا للضعفاء، ولو صدق الشعراء لبقي ذكره في أكواخهم (الفقراء) زمنًا مديدًا. وبعد ثلاثين سنة صار البطل الكريم مستبدًّا سفاكًا استلب الحكم والحرية، وأهلك ثلاثة آلاف ألف من النفوس في سبيل أطماعه. واليوم نحن نشهد صورة جديدة لنابليون، فإذا انقضى عليه بضع عشرات من القرون داخل الريب علماء ذاك الزمان أمام هذه الروايات المتناقضة في وجود هذا البطل، كما يشك بعضهم الآن في وجود بوذا، وقد لا يرون فيه إلا خرافة أو صورة مكبَّرة من صورة (هرقل) اليوناني، غير أنه سيكون لهم من معرفة روح الاجتماع ما يُسري الحزن عنهم لقاء هذا الشك وخفاء الحقيقة، إذ يعلمون التاريخ إنما يقلد الخرافة والأقاصيص.
(٣) غلو مشاعر الجماعة وبساطتها
كيفما كانت مشاعر الجماعة، أي سواء كانت طيبة أو رديئة، فإن لها صفتين: بساطة للغاية، وغلوًّا للنهاية. ومن هذه الجهة يقل الفرق بين الفرد مجتمعًا والرجل الفطري، كما يحصل ذلك أيضًا في أحوال أخرى. فهو يفقد ملكة التمييز الدقيق، ويرى الأشياء في جملتها ولا يعرف ضرورة الانتقال من طور إلى آخر. ومما يزيد في غلو مشاعر الجماعة أن كل إحساس يبدو، فسرعان ما ينتشر بعامل التأثر والعدوى، وإجماع الكل على قبوله يزيد في قوته زيادة كبيرة.
غلو مشاعر الجماعة وبساطتها يجعلانها لا تعرف الشك ولا التردد، فهي كالنساء تذهب فورًا إلى الحد الأقصى. فالشبهة متى بدت تتقلب إلى بديهي لا يقبل البحث، والرجل منفرد قد لا يقر على أمر أو ينفر منه نفورًا لا يتعدى مجرد الرغبة عنه، وأما الرجل في الجماعة فإنه متى نفر انقلب نفوره حقدًا شديدًا.
وتزداد شدة المشاعر غلوًّا على الأخص في الجماعة المؤلفة من أفراد غير متشابهين لفقدان تبعة الأعمال من بينهم، فيتولد عندها من المشاعر وتأتي من الأعمال ما يستحيل صدوره عن الفرد الواحد لتحقق كل من عدم وقوعه في العقاب. وكلما كان العدد كبيرًا قوي فيه هذا الاعتقاد وشعر بقوة حاضرة عظيمة، هنالك ينسى الجبان والجاهل والحسود درجة انحطاطهم وضعفهم ويحل محلها خيال قوة وحشية وقتية لكنها هائلة.
ومن نكد الطالع أن غلو مشاعر الجماعات يظهر غالبًا في الشر، وتلك بقية مما ورث أهل هذا الزمان عن آبائهم الأولين، وهي مشاعر يرد جماحها الرجل المنفرد المسئول عن عمله مسوقًا بعامل الخوف من العقاب. وهذا هو السبب في سهولة قيادة الجماعة إلى أقبح درجات التطرف.
ومع ذلك ليست الجماعات غير قابلة للقيام بأكرم الأعمال والإخلاص وأرفع الفضائل إذا حسن التأثير فيها، بل هي أشد قبولًا لذلك من الرجل المنفرد. وسنعود إلى هذا الموضوع عند الكلام في أخلاق الجماعات.
وكما أن الجماعة تغالي في مشاعرها فلا يؤثر فيها إلا المشاعر المغالى فيها، فالخطيب الذي يريد اجتذاب قلوبها يلزمه الإكثار من التوكيدات الحادة؛ لأن المبالغة والتوكيد والتكرار وعدم التعرض أبدًا إلى إقامة البرهان على أي قضية، كلها وسائل خطابية يعرفها خطباء الاجتماعات العمومية حق معرفتها.
تطلب الجماعة من أبطالها الغلو أيضًا في مشاعرهم، فمما ينبغي لهم من أجلها أن يُفخِّموا في ألقابهم ويعظموا من فضائلهم الصورية. وقد شوهد أن الجماعة تطلب من أبطال الروايات في مراسح الملاهي شجاعة وأخلاقًا وفضائل ليست لأحد في الوجود الحقيقي.
لست في حاجة إلى القول بأن مغالاة الجماعات تكون على الدوام في مشاعرها، ولا تتعدى إلى قوتها العاقلة أبدًا. فقد سبق لي بيان أن مدارك الرجل في الجماعة تنحط سريعًا انحطاطًا عظيمًا، ذلك هو ما شاهده أيضًا أحد أفاضل القضاة مسيو (شارد) في مباحثه عن جرائم الجماعات، وعليه فالجماعة إنما ترتقي أو تنحط في دائرة المشاعر.
(٤) عدم مسالمة الجماعات وميلها إلى التسلط والإمرة والمحافظة على القديم
قلنا إن الجماعات لا تعرف من المشاعر إلا ما كان متطرفًا بسيطًا، وهي لذلك تقبل ما يلقى إليها من الآراء والأفكار والمعتقدات بجملتها أو ترفضها كذلك، فتأخذها حقائق مطلقة أو ترغب عنها أباطيل مطلقة على أن هذا هو الشأن في المعتقدات التي تتحصل من طريق التلقي لا التي تتصل بالإنسان من طريق النظر والتعقل. وكلٌّ يعرف ما للمعتقدات الدينية من التأثير في عدم احتمال المخالف ومن السلطان على النفوس.
ولما كان باب الشك غير مفتوح أمام الجماعة في كل ما اعتقدت أنه حق أو باطل، وكانت تشعر شعورًا تامًّا بقوتها كانت إمرتها مساوية لعدم احتمالها. يطيق الفرد المناظرة والخلف، أما الجماعة فلا تطيق ذلك أبدًا، وأقل خلف يأتي به الخطيب الذي يتكلم في المجتمعات العمومية يتلقاه السامعون بأصوات الغضب والسباب الشديد، فإن أصر فنصيبه الإهانة والطرد بلا إمهال، ولولا الرهبة من رجال الشرطة الحاضرين لقتلوه أحيانًا.
عدم الاحتمال والإمرة شائعان في الجماعات كلها، غير أنهما يختلفان في كل واحدة منها، وهنا أيضًا يظهر لنا أثر الأخلاق القومية المتسلط على جميع مشاعر الناس وأفكارهم. فأقصى درجات عدم الاحتمال والإمرة توجد في الجماعات اللاتينية، إذ بلغت عندها إلى حد أنها أماتت في الفرد روح الاستقلال التي هي أشد أخلاق الإنكليزي السكسوني، فلا تهتم الجماعات اللاتينية إلا باستقلال المجموع الذي هي منه، وأخص مميزات هذا النوع من الاستقلال شدة الميل إلى التعجيل بإخضاع المخالف في الرأي لمعتقد الجماعة عنوة وقسرًا، ذلك هو نوع الحرية الذي عرفه المتطرفون في كل عصر، ولم يكن في قدرتهم أن يعرفوا سواه.
الإمرة وعدم الاحتمال حاستان من الحواس التي تجيد الجماعات معرفتها، فهي تدركهما بسهولة وتتلقاهما بسهولة وتعمل على مقتضاهما بسهولة عند الطلب، وهي تحترم القوة وتخنع لها ولا تتأثر بالحسنى إلا قليلًا؛ لأنها في نظرها صورة من صور الضعف ليس إلا، لذلك لم تمل إلى رؤسائها الذين عرفوا بالرفق واللين، بل إلى الطغاة المستبدين سحقوها. لمثل هؤلاء تقيم الجماعة التماثيل في كل عصر وأوان، وإذا تخطت بالأقدام فوق غشوم سقط من عليائه، فذلك لأنه فقد سلطانه واندرج في عداد الضعفاء الذين يحقرون لكونهم لا يخشون. فأعز الأبطال لدى نفوس الجماعة من كان شبيهًا بقيصر يخلبهم جلبابه ويرهبهم سلطانه ويخيفهم صولجانه.
الجماعة في استعداد دائم للانتفاض على السلطان إذا ضعف، وهي تحني الرأس أمام الوازع المنيع، فإن تناوبه الضعف والقوة عاملته بمقتضى مشاهرها المتطرفة وانتقلت من الخنوع إلى الفوضى، وثابَت من الثورة إلى الخنوع.
ولقد يخطئ في إدراك حقيقة الاجتماع من يظن أن الروح السائدة على الجماعات دائمًا هي الثورة، والذي يوجب الشبهة في ذلك إنما هو تعسفها وقسوتها. والحقيقة أن انفجار بركان الثورة منها وصدور أعمال التخريب عنها نزعة عرضية تخمد سريعًا، لأن خضوعها لفواعل الوراثة شديد بقوة تأثير الغرائز الفطرية، فهي ميالة كل الميل إلى المحافظة على الحال التي هي، ومتى تركت وشأنها ملت الفوضى وسارت بفطرتها إلى الاستكانة والاستعباد، هكذا كان أشد القوم تهليلًا وترحيبًا بالقائد بونابرت هم أشد رجال الثورة تغطرسًا وتطرفًا لما ألجم جميع الحريات وأثقل بيديه التي من حديد.
ومن الصعب أن نفهم التاريخ لا سيما تاريخ ثورة الأمم إذا لم نكن على علم تام بتأصل علم الجماعات إلى المحافظة. تبغي الجماعات استبدال أسماء نظاماتها، وقد تثور الثورة العنيفة للوصول إلى ذلك التغيير، لكن لب هذه النظامات من حاجات الأمة التي تلقتها عن الآباء والأجداد، فهي ترجع إليه على الدوام. وأما تقلباتها المستمرة فلا تتعلق إلا بالمسائل العرضية، والحاصل أن عاطفة المحافظة في الجماعات قوية كما هي عند أهل النشأة الأولى. يبلغ احترامها للتقاليد حد العبادة، وتبغض أشد البغض بفطرتها كل جديد من شأنه تغيير أحوال معيشتها الحقيقية، ولو أن سلطة الديمقراطية بلغت أيام اختراع الصنائع الميخانيكية واكتشاف البخار والسكك الحديدية ما بلغته الآن لاستحال تحقيق هذه المخترعات، أو لكان ثمنها كثيرًا من الثورات وقتل الألوف من النفوس. فمن حسن حظ الحضارة أن سلطة الجماعات ما بدأت في الظهور إلا بعد أن تم تحقيق الاكتشافات العظيمة العلمية والصناعية.
(٥) أخلاق الجماعات
إذا أردنا من كلمة الأخلاق دوام الاحتفاظ بما اصطلح العموم على مراعاته وقمع النفس عن الاسترسال مع نزعات حب الذات، فليست الجماعة أهلًا لشيء من ذلك لشدة نزقها وعدم ثباتها، لكن إذا أدخلنا ضمن معنى هذا اللفظ التخلُّق مؤقتًا ببعض الصفات كإهمال الذات والإخلاص والتنزُّه عن الغاية وتضحية النفس والميل إلى الإنصاف، جاز لنا أن نقول بأن الجماعات أهل للتجمل بأخلاق عالية.
أما السبب الذي حدَا بالقليل من علماء النفس الذين بحثوا في أحوال الجماعات إلى الحكم عليها بانحطاط الأخلاق، فهو كونهم قصروا بحثهم على جهة الشر فيها فلاحظوا أن أعمالها من هذه الجهة كثيرة.
نعم هذا هو الغالب في الجماعات، وعلته أن العصور الماضية تركت من شرها وخشونتها بقية اطمأنت في قلب كل واحد منا، والفرد لا يجرأ على الاسترسال مع هذه البقية حذر الوبال الذي تجره عليه. أما الجماعة فغير مسئولة عن أعمالها، فإذا هو انخرط فيها أمن العقاب ونشط من عقاله فاتبع هواه. لا ترى أنه لما لم يجرأ على الشر مع أمثاله مال به إلى الحيوان فواصله بالأذى. فشهوة الإيذاء عند الجماعة من طبيعة شهوة الصيد عند المغرمين به، فهي تفترس الرجل إذا غضبت فلا تأخذها شفقة ولا يثنيها حنان، وهم يجتمعون زمرًا زمرًا ليشهدوا بقلوب قاسية كلابهم تمزق بأنيابها الوعل الضعيف، والكل في نظر الحكيم وحش مفترس.
بقي أن الجماعة كما أنها أهل لارتكاب القتل والتدمير بالنار وكل أنواع الجرائم، هي أهل للإخلاص في العمل ولتضحية المنافع الذاتية والنزاهة بدرجة أرقى مما يقدر الفرد، بل هي أقرب منه إلى تلبية من يناديها باسم الشرف والفخار أو باسم الدين والوطن إلى حد المخاطرة بالأرواح. وأمثلة الصليبيين ومتطوعي سنة ٩٣ كثيرة يخطئها العد في التاريخ، فالجماعة دون الفرد أهل لعظائم الأعمال في باب النزاهة والإخلاص، وكم من جماعة تقدمت إلى الموت في سبيل معتقدات وأفكار وكلمات كانت تكاد لا تفقه شيئًا من معانيها، حتى إن الجماعة التي تقوم بالاعتصاب إنما تعتصب لصدور الإشارة بذلك إليها أكثر من ميلها لنيل الزيادة في الأجر الزهيد الذي اقتنعت به من قبل؛ لأن المصلحة الذاتية قلما تكون سببًا قويًّا لحركات الجموع، وهي على التقريب السبب الوحيد في عمل الفرد، فليست هي التي ساقت الجم الغفير من الجموع إلى الحروب من دون أن يدرك السبب فيها ولا الغرض منها، ولا هي التي جعلتهم يتساقطون على عجل بين يدي الموت كالقبرة يسحرها الصياد بمرآته فتدنو إليه.
حتى الأوغاد كثيرًا ما يكون انضمامهم إلى الجماعة علة في ارتقاء الملكات الفاضلة في نفوسهم وقتًا ما كما لاحظه (تاين) في قتلة شهر سبتمبر الذين كانوا يلتقطون كل ما وجدوه من الأموال ونفيس المتاع ويقدمونه لِلَّجنة مع أنه كان من السهل عليهم إخفاؤه، كذلك الجماعة التي وجهت على قصر (التويلري) في ثورة سنة ١٨٤٨ لم يتناول فرد منها شيئًا من تلك النفائس التي بهرتها، وقد كان يكفيه قوت عدة أيام مع كونها كانت شديدة الغضب عنيفة الصخب مرذولة الأثر. نعم تهذيب الجماعة للفرد ليس هو القاعدة المطردة، ولكنه كثير الوقوع حتى في أحوال أقل شدة من التي تقدم ذكرها، وقد سبق لنا القول بأن جماعة المتفرجين يطلبون من المشخصين أفضل الأخلاق وأرفع الفضائل، ومن السذاجة أن نقول بأن الجماعة وإن تكونت من أفراد منحطي الأخلاق تظهر غالبًا بمظهر الكمال، هكذا المنغمس في الموبقات والديون والوغد يزمجرون غالبًا إذا رأوا منظرًا منافيًا للآداب، أو سمعوا هذرًا يعد تافهًا بجانب حديثهم الذي تعودوه في ندواتهم.
ثبت مما تقدم أن الجماعة كما أنها تميل إلى الدنايا هي أهل للتحلي بأخلاق عالية، وإذا صح أن يكون التنزه في العمل والجلد والإخلاص المطلق لمبدأ وهمي أو صحيح من الفضائل الأدبية جاز القول بأن للجماعة في الغالب من ذلك ما ليس لأعقل الحكماء إلا قليلًا حقًّا، هي تزاول تلك الفضائل لا عن قصد ولكن ما ضرنا من هذا، ونحن لا ينبغي لنا أن نشكو كثيرًا من الأفعال التي تصدر عن الجماعات بمحض غريزتها إلا النادر؛ لأنها لو تعقلت أحيانًا ورجعت إلى منافعها القريبة منها ما قام على وجه البسيطة ركن من أركان الحضارة، ولا كان للإنسانية تاريخ يتلى.