أفكار الجماعات وتعقلها وتخيلاتها
(١) أفكار الجماعات
بحثنا في كتابنا السابق عن تأثير الأفكار في تطور الأمم، وبينا أن كل مدنية تقوم على أفكار أساسية محدودة قلما تتجدد، وشرحنا كيف تتمكن تلك الأفكار من نفوس الجماعات، وكيف أنها لا تدخل عليها إلا بالصعوبة، وما هي القوة التي تكون لها متى احتلتها، ثم أوضحنا كيف أن التقلبات السياسية الكبرى تحدث غالبًا مما يطرأ على هذه الأفكار الأساسية من التغيير، وذلك كله بالإسهاب والشرح الوافي، وعليه لا نعود إلى بسط الكلام في هذا الموضوع مرة أخرى، وإنما نوجز القول في الأفكار التي هي من مقدور الجماعات والصورة التي تتناولها عليها.
تنقسم هذه الأفكار إلى قسمين: الأول الأفكار العرضية الوقتية التي تولدها بعض الحوادث لساعتها كولوع بفرد من الأفراد أو مذهب من المذاهب، والثاني الأفكار الأساسية التي تكتسب من البيئة والوراثة والرأي ثباتًا. مثال ذلك العقائد الدينية في الماضي والأفكار الدمقراطية والاجتماعية في الزمن الحالي.
فالأفكار الأساسية أشبه بالماء الذي يجري الهوينا في النهر، والأفكار العرضية تشبه الأمواج الصغيرة المتغيرة على الدوام التي تضرب وجه ذلك الماء، وهي مع قلة أهميتها أظهر أمام العين من سير النهر نفسه.
وقد أخذت الآن الأفكار الأساسية التي عاش بها آباؤنا في الاضمحلال شيئًا فشيئًا، ففقدت ما كان لها من المتانة والرسوخ وتزعزعت من أجل ذلك النظامات التي كانت تقوم عليها، وفي كل يوم تظهر أفكار وقتية كثيرة مما ذكرنا، إلا أن القليل منها هو الذي ينمو وهو الذي يكون له في المستقبل تأثير كبير.
وكيفما كانت الأفكار التي تلقى في نفوس الجماعات، فإنها لا تسود ولا تتمكن إلا إذا وضعت في شكل قواعد مطلقة بسيطة لتبدو لها في هيئة صورة تحسنها، وهو الشرط اللازم لأن نحل من نفوسها محلًّا كبيرًا. وليس بين هذه الأفكار المصورة أقل رابطة عقلية من التشابه أو التلازم، فيجوز أن يحل بعضها محل بعض، كالزجاجات السحرية التي يستخرجها العامل واحدة فواحدة من صندوقها، ذلك هو السبب في قيام الأفكار المتناقضة بجانب بعضها عند الجماعات. وعلى حسب الأحوال تكون الجماعة تحت تأثير أحد هذه الأفكار التي اجتمعت في مدركتها، فتأتي بأشد الأعمال تناقضًا وتضاربًا.
هذه حال ليست خاصة بالجماعات وحدها، بل هي تشاهد أيضًا في الأفراد لا فرق في ذلك بين من لا يزال على الفطرة ومن أشبههم بناحية من نواحي العقل، كالذين غلت ثورة الدين في رؤوسهم، بل إني شاهدت ذلك بدرجة توجب الاستغراب عند بعض مستنيري الهندستان الذين تربوا في مدارسنا الأوروبية ونالوا جميع شهاداتها، فرأيت أنه ارتكز على مجموع معتقداتهم الدينية المستديم أو أفكارهم الاجتماعية الوراثية. مجموع أفكار غريبة لا علاقة بينها وبين الأولى وذلك من دون أن تؤثر فيها، وكانت هذه أو تلك تظهر في الخارج طبقًا لمقتضى الحال بجميع مشخصاتها من أعمال وأقوال، فيبدو الفرد منهم مناقضًا لنفسه كل التناقض على أنه تناقض في الواقع ظاهر أكثر مما هو حقيقي؛ لأن الأفكار الموروثة هي المعول عليه، إنما هو الأثر الذي ينتج عنه، ألا ترى أن الأفكار الدينية في القرون الوسطى والأفكار الديمقراطية في القرن الماضي والاجتماعية في زماننا هذا، ليست رفيعة بمقدار ما قد يظهر، فإن الفلسفة لا تعتبرها إلا أغاليط صغيرة، ومع ذلك فإنه لا حد لأثرها فيما مضى، وستكون ولا حد له فيما يأتي ستبقى هي العوامل الأساسية في حياة الدول والممالك زمنًا طويلًا.
ثم إن الفكر وإن تغير حتى صار تناوله في مقدور الجماعات لا يظهر أثره إلا إذا دخل في عداد الغرائز وامتزج بالنفس، فصار من المشاعر، وهو ما يقتضي زمنًا طويلًا، ولذلك وسائل سنأتي على بيانها في موضع آخر.
فلا يتوهمن القارئ أن أثر الفكر يظهر متى تبينت صحته حتى عند ذوي العقول النيرة. يتضح ذلك لمن عرف ضعف تأثير صحة الفكر في السواد الأعظم من الناس بعد ظهورها جليًّا. نعم إذا تم الوضوح جاز الاعتراف من السامعين إن كانوا من المستنيرين، غير أنهم لقرب عهدهم بالإيمان لا يلبثون أن ترجعهم فطرتهم إلى معتقدهم القديم، فإذا لاقيتهم بعد قليل من الأيام رأيتهم يسوقون إليك حجتهم الأولى في ثيابها الأولى بلا تغيير؛ لأنهم خاضعون لسلطان أفكار أصبحت بحكم الزمان ملكات فطرية، وهي وحدها الفعالة في موجبات أعمالنا وأقوالنا والجماعات لا تشذ عن هذه القاعدة.
لكن متى توفرت الوسائل العديدة وتمكن بها الفكر من نفس جماعة كان له قوة لا تعارضها قوة، وأنتج آثارًا متعددة لا بد من الرضوخ لحكمها. قطعت الأفكار الفلسفية التي أدت إلى الثورة الفرنساوية في سيرها نحو نفوس الجماعات ما يقرب من مئة عام، وكل يعلم مقدار قوتها الجارفة بعد أن تمكنت منها. هبت أمة بتمامها لنيل المساواة الاجتماعية وتحقيق الحقوق المعنوية وإقامة صرح الحريات التي تنتهي إليها الآمال، فزعزعت التيجان وجعلت عالي الغرب سافله إذ تساجلت الأمم بالحروب عشرين عامًا وشهدت القارة الأوروبية من سفك الدماء وقتل النفوس ما ينخلع له قلب تيمورلنك وجنكيزخان، مشهد لم ير البشر قبله إلى أي حد يصل هول الفكر إذا انبثق.
وكما أن وصول الأفكار إلى نفوس الجماعات يقتضي زمنًا طويلًا كذلك خروجها منها، لهذا كانت الجماعات دائمًا متأخرة في أفكارها عدة أجيال عن الفلاسفة والعلماء، وكل رجال السياسة يعلمون اليوم ما في الأفكار السياسية المتقدم ذكرها من الخطأ، ولكنهم يعلمون أن سلطانها لا يزال متمكنًا، لذلك هم مضطرون في قيادة الأمم إلى مراعات مقتضياتها، ولما يعتقدوا بشيء من صحتها.
(٢) تعقل الجماعات
لا يمكن القول مطلقًا بأن الجماعات لا تتعقل ولا تتأثر بالمعقول، غير أن طبقة الأدلة التي تقيمها هي تأييدًا لأمر من الأمور أو التي تؤثر عليها منحطة جدًّا من الجهة المنطقية، فلا يصدق عليها اسم الدليل إلا من باب التشبيه.
وتلك الأدلة المنحطة مبينة على قاعدة الأساس كالأدلة الراقية، إلا أن رابطة الأفكار التي تقرنها الجماعات ببعضها من حيث المشابهة أو التلازم ظاهرية لا حقيقة، فهي تتسلسل عندها كما تتسلسل الأدلة في ذهن الرجل الإسكيماوي الذي عرف بالتجربة أن الثلج وهو جسم شفاف يذوب في الفم، فاستنتج من ذلك أن الزجاج وهو شفاف أيضًا يجب أن يذوب في الفم، وكالمتوحش الذي يتصور أن أكل قلب العدو الشجاع ينقل شجاعته إلى الآكل أو كالأجير الذي هضم المعلم حقه فقال بأن جميع المعلمين هضامون للحقوق.
والحاصل أن تعقل الجماعات عبارة عن الجمع بين أشياء متخالفة لا رابطة بينها إلا في الظاهر والانتقال الفجائي من الجزئي إلى الكلي، ومن التخصيص إلى التعميم بلا تروٍ، والأدلة التي يقدمها إليها أولئك الذين عرفوا كيف يقودونها كلها من هذا الطراز؛ لأنها هي الأدلة التي تؤثر فيها، بخلاف سلسلة من الأدلة المنطقية فإنها لا تدركها بحال، لذلك صح القول بأنها لا تتعقل أو هي تتعقل خطأ، وأنها لا تتأثر بالمعقول. وكثيرًا ما يعجب الإنسان عند مطالعة بعض الخطب من التأثير العظيم الذي أحدثته في سامعيها على ما بها من الضعف والركاكة، وكأني بالمتعجب وقد نسي أن تلك الخطب إنما صيغت لتؤثر في الجموع لا ليقرأها العلماء، فالخطيب الخبير بأحوال جماعته يعرف طريقة استحضار الصور التي تجذبها، فإذا نجح فذلك ما أراد، ولو ألقيت خطب في عشرين مجلد بعد ذلك ما كان لها من التأثير ما أحدثته تلك الكليمات التي دخلت في الرؤوس المراد إقناعها.
وغني عن البيان أن عدم قدرة الجماعات على التعقل الصحيح يذهب منها بملكة النقد، أي يجعلها غير قادرة على تمييز الخطأ من الصواب، وأن تحكم حكمًا صحيحًا في أمر ما. أما الأفكار التي تقبلها هي، فهي التي تلقى إليها لا التي يناقش فيها. والذين لا فرق بينهم وبين الجماعات في هذا الباب كثيرون، وسهولة انتشار بعض الأفكار وصيرورتها عامة آتية على الأخص من عدم قدرة السواد الأعظم على اكتساب الرأي من طريق النظر الذاتي.
(٣) تخيل الجماعات
الجماعات كالذوات التي لا تتعقل في حدة التخيل وفعله الدائم، وفي قابليتها للتأثر الشديد، فالصورة التي تحضرها من إنسان أو واقعة أو رزء تكاد تؤثر فيها كما لو كانت الحقيقة بعينها، وحال الجماعات أشبه بالمنوم الذي تقف فيه حركة العقل هنيهة فتحضر في ذهنه صور مؤثرة جدًّا، لكنها تزول بمجرد التأمل فيها. ولما كانت الجماعات لا تعرف التعقل ولا التأمل كانت كذلك لا تعرف أن شيئًا ما غير معقول، وغير المعقول هو الأشد فعلًا في النفس غالبًا.
لهذا كانت الجهة الغريبة والقصصية مما يقع تحت حواس الجماعة أكبر مؤثر فيها، وإذا دققنا النظر في حضارة ما وجدناها إنما تقوم على الغريب والقصص، كذلك التاريخ للظاهر فيه شأن أكبر من الواقع والوهمي سائد على الحقيقي.
لا تتعقل الجماعات إلا بالتخيل ولا تتأثر إلا به، فالصور هي التي تفزعها وهي التي تجذبها وتكون سببًا لأفعالها.
لذلك كان التشخيص في الملاهي من أكبر المؤثرات في الجماعات دائمًا؛ لأنه يمثل لها الأشياء في أجلى صورها، فكانت عامة الرومانيين ترى السعادة كل السعادة في العيش والملهى ولا تبتغي بعد ذلك شيئًا، وقد مرت القرون وتعاقبت الدهور ولم يتغير هذا الخيال إلا قليلًا. ولا يزال التمثيل أكبر مؤثر في الجماعات من كل الطبقات، فجميع الحاضرين يتأثرون بمؤثر واحد وإن كانوا لا ينتقلون على الفور من الشعور إلى العقل، فذلك لأن الفرد منهم وإن بلغ منه عدم الالتفات للواقع ما بلغ لا ينسى أنه في عالم الخيال، وأنه إنما ضحك أو بكى متأثرًا بحوادث تصورية، على أنه قد يقع أن الصورة تفعل في النفس فعل المؤثرات الحقيقية فتدفعها إلى العمل؛ إذ كثيرًا ما سمعنا عن ملهى كان يكثر من تمثيل الروايات المحزنة، فكان الحرس يحيط دائمًا بممثل الخائن الأثيم عند خروجه خوفًا عليه من هياج المتفرجين الذين ثارت نفوسهم للانتقام منه لأنه ارتكب تلك الجرائم الوهمية. وهذا فيما أرى من أكبر الأدلة على حالة الجماعات العقلية وبالأخص على سهولة التأثير فيها، فللوهمي عليها من ذلك ما للحقيقي تقريبًا وهي ميالة ميلًا ظاهرًا إلى عدم التمييز بينهما.
يقوم سلطان الفاتحين وتبني قوة الممالك على تخيل الأمم، ولا تنجر الجماعات إلا بالتأثير في ذلك التخيل، وكل حوادث التاريخ العظيمة كإيجاد البوذية وتشييد أركان المسيحية والإسلام وقيام البروتستانتية، والثورة فيما مضى، وكإغارة الأفكار الاشتراكية المزعجة في هذه الأيام … إنما هي نتائج قريبة أو بعيدة لتأثرات شديدة في تخيل الجماعات.
ذلك هو العلة في أن جميع أقطاب السياسة في كل عصر، وفي كل أمة حتى أشدهم استبدادًا اعتبروا تخيل أممهم أساسًا تقوم عليها قوتهم، وما فكروا يومًا في أن يحكموا الناس بدونه.
قال نابليون في مجلس شورى الحكومة: (إنني أتممت حرب الفندائيين لما تكثلكت واستولت على مصر؛ إذ استلمت وتوجت بالظفر في حرب إيتاليا لأني قلت بعصمة البابا، ولو كنت أحكم شعبًا يهوديًّا لأعدت معبد سليمان). ويظهر لي أنه لم يقم منذ الإسكندر الأكبر وقيصر بين عظماء الرجال من عرف كيف يكون التأثير في تخيل الجماعات مثل نابليون، فقد كان ذلك التأثير همه الدائم ما نسيه في انتصاراته وخطبه وأحاديثه، ولا في عمل من أعماله، وكان يفكر فيه وهو على سرير موته.
أما كيفية التأثير في تخيل الجماعات، فسنذكرها، وإنما نكتفي هنا بالإشارة إلى أن ذلك لا يكون أبدًا بمخاطبة الإدراك والعقل، أعني بطريقة البحث والتقرير، بدليل أن (أنطوان) لم يهيج نفوس الأمة على قاتل قيصر بقوة البديع وعلم البيان، بل أثارها لما قرأ وصية المقتول وأشار بالقوم إلى جثته.
الذي يؤثر في خيال الجماعات هو ما يتمثل لها في صورة أخاذة جلية مجردة عن الشرح والذيول غير مصحوبة إلا بما فيه غرابة أو سر مكنون، كانتصار باهر، أو معجزة بالغة، أو جرم فظيع، أو أمل دونه الأمل، فينبغي أن ترمي الأشياء جملة على علاتها وأن لا يوضح كنهها أبدًا؛ لأن مائة جرم صغير أو مائة رزء صغير لا تؤثر أقل تأثير في تصور الجماعات، لكن جرمًا واحدًا كبيرًا أو رزءًا كبيرًا واحدًا يؤثر فيه أثرًا شديدًا وإن قل ضرره كثيرًا عن ضرر مائة الرزء كلها، وبرهانه أن القوم كادوا لا يشعرون بضرر النزلة الوافدة التي أخنت على باريس منذ بضع سنين فأماتت من سكانها خمسة آلاف نسمة في بضع أسابيع؛ لأن هذه المقتلة لم تبد أمام الجمهور في صورة بينة، بل علموها من الإحصاءات اليومية التي كانت تنشر في حينها، ولو أن حادثًا واحدًا قتل بسببه خمسمائة بدل تلك الآلاف الخمسة وكان ذلك في يوم واحد في الطريق العام، كما لو سقط برج إيفل، لتأثروا منه تأثرًا عظيمًا.
انقطعت أخبار إحدى بواخر الأطلانطيق فظن أنها غرقت، وكان لذلك في خيال الجماعات تأثير كبير دام ثمانية أيام، ودل الإحصاء الرسمي على غرق ٨٥٠ مركبًا شراعيًّا و٢٠٣ مركب تجاري في سنة ١٨٩٤ وحدها، ضاع معها من الأرواح والأرزاق ما لا تقدر قيمته وما هو أكبر من قيمة تلك الباخرة بما فيها لو فقدت، ومع ذلك لم يشتغل الناس بهذه الخسارة لحظة واحدة.
نتج من هذا أن الحوادث ليست هي التي تؤثر بذاتها في تخيل الجماعات، بل المؤثر هو كيفية وقوعها وكيفية تمثيلها، أعني أنه يجب أن يتكون من مجموعها صورة أخاذة تملأ الفكر وتضيق عليه، ومن عرف كيف يؤثر في تخيل الجماعات عرف كيف يقودها.