الصبغة الدينية التي تتكيف بها اعتقادات الجماعات
بينا أن الجماعات لا تتعقل، وأنها تقبل الأفكار أو ترفضها جملة، وأنها لا تطيق المعارضة ولا تحتمل المناظرة، وأن المؤثرات التي تفعل فيها تحتل منها دائرة الإدراك كلها، وسرعان ما تنتقل من التأثر إلى الفعل، وأنها إذا حسن التأثير فيها تضحي نفوسها فداء للمقصد التي وجهت إليه. وكذلك عرفنا أن مشاعرها شديدة متطرفة، فالميل عندها لا يلبث أن ينقلب عبادة، والنفور لا يكاد يدخل عليها حتى يصير سخيمة، وتلك البيانات العامة تشعر بكنه اعتقاداتها.
إذا دققنا النظر في اعتقاد الجماعات أيام سيادة الأديان، أو في أزمنة الثورات السياسية الكبرى كالتي حصلت في القرن الماضي رأينا أنها تتصبغ دائمًا بصبغة مخصوصة لا يسعني التعبير عنها بأحسن من تسميتها بالشعور الديني.
ولهذا الشعور مميزات بسيطة للغاية: كعبادة ذاتٍ يتوهم أنها فوق الذوات، والخوف من القوة الخفية التي تظن لها، والخضوع الأعمى لأوامرها، واستحالة البحث في تعاليمها، والرغبة في نشرها، والنزوع إلى معاداة من لا يقول بها. ومتى تكيف الشعور بهذه الصفة، فهو من طبيعة الشعور الديني سواء كان محله إلهًا لا يرى أو معبودًا من الحجر أو من الشجر أو بطلًا من الشجعان أو رأيًا سياسيًّا، فكله شعور تدخل فيه المعجزات وخوارق العادات، والجماعات ترى أن في كل ما خلب لبها واسترعى قلبها قوة دونها قوة البشر.
وليس المتدين هو الذي يعبد إلهًا، بل متى أسلم الإنسان عقله وإرادته وما فيه من حماسة وتعصب لخدمة مبدأ أو ذات جعلها غاية مقصوده ومرمى أفكاره وأقواله، فهو دائن بما توجه إليه.
ومن المعلوم أن التعصب وعدم الاحتمال يصاحبان على الدوام كل شعور ديني، ويلازمان كل من اعتقد أنه ملك ناصية السعادة في الحياة الدنيا أو في الآخرة، وهاتان الصفتان توجدان في كل جماعة تحركت بأحد المعتقدات، فقد كان اليعاقبة زمن (الهول) متدينين كما كان أهل الاضطهاد متدينين، ومنبع حماسة الفريقين في القسوة واحد.
كذلك تظهر معتقدات الجماعات بالخضوع الأعمى والتعصب الوحشي والإكراه في الدعوة، وكلها صفات من لوازم الشعور الديني، وما البطل الذي تهلل الجماعة له إلا إله في نظرها. هكذا كان نابليون مدى خمسة عشر عامًا، ولم يكن لمعبود سواه عباد أشد إخلاصًا من الذين عبدوه ولم يسهل على معبود قيادة النفوس إلى حتفها أكثر منه، وما كان لآلهة الوثنية والنصرانية سلطان على القلوب أعز من سلطانه.
إن جميع موجدي الديانات ومؤسسي المذاهب السياسية لم يقيموها إلا لأنهم تمكنوا من إحداث التعصب الذي يجعل الإنسان يرى سعادته في العبادة والطاعة، ويهيئه لأن يهب حياته لمعبوده. هكذا كان الحال في كل وقت وزمان، ولقد أصاب موسيو (فوستان دي كولنج) حيث قال في كتابه على بلاد الغلوا الرومانية إن الدولة الرومانية لم تدم بالقهر والقوة، ولكن بما وجد في النفوس من الإعجاب بها إعجابًا دينيًّا قال: (ولم يرو لنا التاريخ أن دولة مكروهة من شعوبها دامت خمسة قرون، وإلا لتعذر أن نفهم كيف أن ثلاثين كوكبة من جند الإمبراطورية تمكنوا من قهر مائة مليون على الطاعة)، إنما أطاع القوم لأن الإمبراطور الذي كان يمثل عظمة الرومان كان يُعبد عبادة الآلهة باتفاق، فكان له في كل قرية حتى الحقيرة محراب، وقد سرى في المملكة من أولها إلى آخرها دين جديد، مناسكه عبادة القياصرة. وقبل ظهور المسيحية ببضع سنين أقامت بلاد الغلوا كلها، وكانت ستين مدينة، هيكلًا للإمبراطور (أوغسطس) بالقرب من مدينة (ليون)، وكان لقسوس هذا الهيكل المقام الأول في نفوس سكان تلك البلاد، ومحال أن يكون الباعث على ذلك كله الخوف أو الخنوع، فإن الخنوع لا يوجد في أمة بتمامها، ثم هو لا يدوم ثلاثة قرون، وما كانت البطانة التي هي تعبد الأمير وحدها، بل روما جميعًا، بل الغلوا كلها، بل بلاد الأندلس واليونان وآسيا.
ليس لفاتحي النفوس في هذا الزمان معابد وهياكل، لكن لهم صور وتماثيل، والعبادة التي يعبدون بها لا تخالف كثيرًا ما كانوا به يعبدون ومعرفة فلسفة التاريخ تتوقف على إجادة معرفة هذا المبحث في علم روح الجماعات. من لم يكن إلهًا لها فليس شيئًا مذكورًا.
لا يقولن قائل تلك أوهام كانت في الأعصر الماضية فبددها العقل في هذه الأيام؛ لأن العقل لم يكن لينتصر في محاربة الشعور أبدًا، نعم لم تعد الجماعات تطيق اسم الألوهية، والدين الذي دانت لحكمه ذلك الزمن المديد، ولكن معبوداتها لم تكثر كثرتها منذ مائة عام، وهي لم تقم للآلهة السابقين من التماثيل والمحاريب مقدار ما أقامت لآلهة هذه الأيام، والذين نقبوا عن الحركة العمومية المسماة (بولنجية) التي حصلت في السنين الأخيرة يعلمون سهولة ظهور الشعور الديني في الجماعات، فلم يكن من فندق أو قهوة في قرية إلا وفيها صورة البطل، وكانوا ينسبون إليه القدرة على رد المظالم كلها ومداواة الآلام كلها. وكان الألوف من الناس على استعداد لتضحية حياتهم من أجله، ولو كان في أخلاقه مقوم لشهرته ولو قليلًا لنال المكان الأرفع في التاريخ.
لذلك نرى من الفضلة تكرار أنه لا بد للجماعات من دين ما دامت جميع المعتقدات السياسية أو الإلهية أو الاجتماعية لا تطمئن عندها إلا إذا لبثت ثوب الدين الذي يحميها من الجدل ويجعلها فوق بحث الباحثين، بل لو أمكن إدخال عدم الاعتقاد في الجماعات لاشتد تعصبهم فيه كأنه معتقد ديني، ولصار في الخارج دينًا يتعبد به الناس. ومن الأمثلة الغريبة على ما نقول ما كان من أمر تلك الفئة القليلة صاحبة مذهب الوضعيين، فقد وقع لها ما وقع للرجل العدمي (نهيلست) الذي روى لنا العلامة (رستوفيسكي) قصته، قال: أشرق ذات يوم نور العقل على ذلك العدمي، فعمد إلى صور الآلهة والقديسين التي كانت تزين أحد المعابد، وحطمها، وأطفأ الشموع، ووضع مكان الصور مؤلفات بعض الفلاسفة الذين لا يعتقدون مثل (بوخنر) و(موليشوت)، ثم تولاه التقى فأوقد الشموع حول هاتيك الكتب. فمحَلُ اعتقاده الديني كان قد تبدل، ولكن مشاعره الدينية ما تبدلت أبدًا.
وعليه لا يدرك الباحث أهم الحوادث التاريخية تمام الإدراك إلا إذا وقف على الصبغة الدينية التي ينتهي حتمًا إليها اعتقاد الجماعات. ومن الحوادث الاجتماعية ما ينبغي البحث فيه على طريقة علماء النفس لا على طريقة الطبيعيين، فإن مؤرخنا العظيم (تاين) لم ينظر في الثورة الفرنساوية إلا نظرًا طبيعيًّا، لذلك فاتته حقيقة الحوادث غالبًا، نعم، لم تفته من الوقائع فائتة، ولكنه غفل عن البحث في روح الاجتماع فلم يصل إلى علل ما أثبت منها، وقد هالته الوقائع بما اشتملت عليه من الدماء والتوحش والقسوة، فلم ير في أبطال ذلك الزمن الكبير إلا قطيعًا من المتبربرين السفاحين انطلقوا وراء شهواتهم، ولم يجدوا مانعًا يصدهم عما كانوا يشتهون.
على أنه لا سبيل لإدراك حقيقة ما كان في الثورة الفرنساوية من القسوة وسفك الدماء والحاجة إلى نشر الدعوة وإعلان الحرب على جميع الملوك إلا إذا فطن الباحث أنها، أي الثورة، أثر معتقد ديني جديد حل في نفوس الجماعات، ومثل ذلك أيضًا كانت قيامة الإصلاح (البروتستانتية) ومقتلة صانت بارتلمي و(الاضطهاد) و(الهول)، فكلها فظائع ارتكبتها الجماعات المتحمسة بشعور من شأنه أن يدفع الذي حل في قلبه إلى استعمال النار والحديد لاستئصال كل ما يعترض قيام المعتقد الجديد من دون أن تأخذه رحمة ولا حنان. لذلك كانت وسائل الاضطهاد هي وسائل جميع المعتقدين الحقيقيين، ولو أنهم استعملوا غيرها ما كانوا من الموقنين.
ولا تظهر في الوجود أمثال الانقلابات التي مر ذكرها إلا إذا قذفت من جوف الجماعة، وليس في استطاعة أكبر المستبدين إثارتها، والمؤرخون الذين رووا لنا أن الملك هو السبب في واقعة صانت بارتلمي كانوا يجهلون روح الجماعات وروح الملوك معًا؛ لأن مثل هذه المظاهرات لا تخرج إلا من قلب الجماعات ولا يقدر أكبر الملوك وأشدهم استبدادًا على أكثر من تعجيلها أو تأجيلها، فليس الملوك هم الذين أحدثوا واقعة صانت بارتلمي ولا حروب الدين، كما أن (روبسبير) و(دانتون) و(صانت جوست) ليسوا هم الذين أحدثوا (الهول)، بل نجد على الدوام وراء هذه الحوادث روح الجماعات لا سلطة الملوك.