قواد الجماعات وطرقهم في الإقناع
نحن الآن نعرف تركيب الجماعات الفكري والعوامل التي توثر في نفوسها. بقي علينا أن نذكر كيفية استعمال هذه العوامل، ومن الذي يمكنه استعمالها استعمالًا مفيدًا.
(١) قواد الجماعات
ما اجتمع عدد من الأحياء سواء كان من الحيوان أو من بني الإنسان إلا جعل له بمقتضى الفطرة رئيسًا.
والرئيس في الجماعات البشرية عبارة عن قائد في الغالب إلا أن له بذلك شأنًا كبيرًا تجتمع الأفكار وتتحد حول إرادته، وهو الركن الأول الذي يقوم به نظام وحدة الجماعات ويهيئها لأن تصير طائفة خاصة.
والعادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودًا: أعني أنه كان مسحورًا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه إلا ما كان منها، وأن كل ما خالفها وهم وباطل، كما جرى للزعيم (روبسبير) أسكرته أفكار (روسو) فقام يدعو إليها، واستعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها.
ليس القواد غالبًا من أهل الرأي والحصافة، بل هم من أهل العمل والإقدام، وهم قليلو التبصر. على أنه ليس في قدرتهم أن يكونوا بصراء؛ لأن التأمل يؤدي غالبًا إلى الشك ثم إلى السكون، وهم يخرجون عادة من بين ذوي الأعصاب المريضة المتهوسين الذين اضطربت قواهم العقلية إلى النصف، وأمسوا على شفا جرف الجنون؛ لا ينفع الدليل على فساد ما اعتقدوا كيفما كان معتقدهم باطلًا، ولا تثنيهم حجة عن طلب ما قصدوا بالغًا منه الخطل ما بلغ، ولا يؤثر فيهم الاحتقار ولا الاضطهاد، بل ذلك يزيدهم تهوسًا وعنادًا؛ حتى إنهم يفقدون غريزة المحافظة على النفس فلا يبتغون في الغالب أجرًا على عملهم إلا أن يكونوا من ضحاياه. تزيد شدة اعتقادهم في قوة تأثير أقوالهم، والجموع تصغى دائمًا إلى قول ذي الإرادة القوية الذي يعرف كيف يتسلط عليها. ومتى صار الناس جماعة فقدوا إرادتهم والتفوا كلهم حول من كان له شيء منها.
وجد القواد في الأمم على الدوام، غير أنهم ليسوا جميعًا من أهل الاعتقاد الصادق الذي يصير به المرء رسولًا في قومه، بل هم في الغالب قوالون سوفسطائيون لا يسعون إلا وراء منافعهم الذاتية فيتملقون ذوي المشاعر السافلة ليكتسبوا رضاهم، وقد يكون النفوذ الذي ينالونه بهذه الوسائل كبيرًا جدًّا إلا أنه سريع الزوال. أما أصحاب المعتقدات الصحيحة الذين تمكنوا من نفوس الجماعات وحركوها مثل (بطرس الراهب) و(لوثر) و(سافونارول) ورجال الثورة الفرنساوية وغيرهم، فإنهم لم يتمكنوا من خلب العقول واجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه. وبذلك توصلوا إلى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس، وهي التصديق الذي يجعل المرء عبدًا لخياله.
كان عمل قواد الجموع على الدوام خلق الاعتقاد في النفوس لا فرق بين أن يكون دينيًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا، ولا أن يكون محله عملًا أو إنسانًا أو رأيًا. بهذا كان تأثيرهم عظيمًا جدًّا؛ لأن الإيمان أكبر قوة في تصرف الإنسان، وقد صدق الإنجيل في قوله إنه يزحزح الجبال عن مواضعها، فمن كان مؤمنًا زادت قوته عشر أمثالها، والذي قام بأكبر حوادث التاريخ أفراد من الضعفاء المؤمنين الذين لم يكن لهم من الحول إلا الإيمان، وليس المستبدون ولا الفلاسفة ولا أهل البأس على الأخص هم الذين أقاموا الأديان الكبر التي سادت على الدنيا، واختطوا الممالك الشاسعة التي امتدت فوق السطحين.
غير أن الأمثلة التي ذكرناها تختص بقواد عظام يندر ظهورهم، فمن السهل على التاريخ حصرهم، وهم رأس سلسلة تتدلى من أولئك القواد العظام إلى العامل الذي يقف في قهوة أطبق الدخان في سمائها ويسترعي أسماع أخوته وهو يلوك صيغًا حفظها من دون أن يدرك معانيها، ولكنه يؤكد أن في العمل بها تحقيق جميع الأماني والآمال.
لا يلبث الإنسان أن يقع تحت حكم قائد يتبعه كلما خرج عن العزلة إلى الجماعة، ذلك أمر واقع في جميع الطبقات أرقاها وأدناها، فأما أفراد طبقة العامة فإن الواحد منهم متى خرج عن حرفته أو مهنته لا تجد عنده فكرًا واضحًا في أمر من الأمور، وكلهم كفء لقيادة ذاته، ومرشدهم هو القائد، وربما أمكن الاستعاضة عنه بتلك الصحف الدورية التي تصنع لقرائها أفكارًا وتحصل لهم جملًا مصوغة تغنيهم عن التفكير، إلا أن البدل لا يقوم مقام الأصل تمامًا.
من لوازم سلطة القواد أن تكون مستبدة، على أن استبدادهم هو علة سيادتهم، وقد لوحظ كثيرًا أن فيهم مقدرة على إطاعة طبقات العمال الذين هم أشد عربدة وأصعب مراسًا مع تجرد أولئك القواد من كل شيء يستندون عليه في سلطتهم، فهم يحددون ساعات العمل ويقررون الاعتصابات وينفذونها بميقات ويفضونها بميقات.
قواد هذه الأيام صائرون إلى الحلول مكان السلطات الحاكمة، كلما تركت هي الناس يبحثون فيها ويضعفون من نفوذها وتعسُّف المولى الجديد وظلمه يجعل الجماعة تطيعه بسهولة أكثر مما أطاعت حكوماتها، وإذا حدث حادث اختفى بسببه القائد ولم يول الخلف على الأثر تصبح الجماعة جمهورًا مفكك الأجزاء، ولا قدرة فيها، فلما اعتصب عمال شركة الأمنيبوس اعتصابهم الأخير في باريس وقبض على الرئيسين اللذين كانا القائدين بطل الاعتصاب لساعته، إنما الحاجة التي يشتد شعور الجماعة بها هي الخضوع لا الحرية.
وقد بلغ منها الظمأ إلى الطاعة أنها تخضع بفطرتها لكل من ادعى السيادة عليها.
تنقسم القواد إلى فريقين ممتازين، فقواد أولو عزم وإرادة قوية لكنها وقتية، وقواد ذوو إرادة جمعت بين القوة والدوام وهؤلاء قليلون، والفريق الأول أصحاب حدة ونزق وشجاعة وإقدام، وهم على الأخص نافعون في تنفيذ ما دبر أو كسب الجموع بلا خوف من الخطر، وفي جعل الجبان بطلًا مغوارًا ذلك مثل (ناي) و(مورات) زمن الإمبراطورية الأولى، ومثل (غاريبالدي) في عصرنا هذا، فإنه كان رجلًا هجومًا لا ذكاء فيه، لكن ذا عزم ومضاء، وبذلك تمكن مع نفر قليل من الاستيلاء على مملكة (نابولي) القديمة على رغم الجيش المنظم الذي كان يحميها.
عزيمة أولئك القواد على قوتها قلما تبقى بعد زوال السبب الذي دعا إليها، وكثيرًا ما يبرهن الذين تجملوا بها على ضعف مدهش متى عادوا إلى حياتهم الاعتيادية كالذين ذكرناهم، فتراهم لا يستطيعون التصرف في أصغر الحوادث مع كونهم كانوا ماهرين في تصريف غيرهم، أولئك قواد لا يمكنهم القيام بوظائفهم إلا إذا كانوا أنفسهم مقودين، وكان لهم مهيج على الدوام، واستولت عليهم يد أو فكر من الأفكار وساروا في طريق مرسوم من قبل. أما الفريق الثاني من القواد وهم ذوو الإرادة الثابتة، فإن تأثيرهم أعظم بكثير وإن كانوا أقل ظهورًا في الشكل، وهم الذين نبغ من بينهم أصحاب الأعمال الكبيرة كالقديس (بولص) ومحمد ﷺ و(كريستوف كولومب) و(دولسبس)، وسواء كان قواد هذا الفريق من الأذكياء أو الأغبياء لهم الدنيا أبد الآبدين، لأن الإرادة الثابتة التي اتصفوا بها ملكة نادرة الوجود لكنها قوية يخضع لها كل شيء، إلا أن الناس لا يدركون دائمًا ما عسى أن يكون من وراء الإرادة القوية المستمرة، فالذي يكون من ورائها هو أنه لا شيء يقف أمامها، حتى الطبيعة حتى الآلهة حتى الرجال.
وأقرب الأمثال على ما تأتي به الإرادة القوية الثابتة هو ذلك الرجل العظيم الذي فصل الدينين، وأنجز عملًا قصرت عنه همة أكبر الملوك منذ ثلاثة آلاف عام، نعم، لم ينجح بعد ذلك في عمل يضارع هذا العمل، لكن الشيخوخة كانت قد أدركته، وكل شيء ينطفئ أمامها حتى الإرادة.
من أراد بيان ما تأتي به الإرادة وحدها فما عليه إلا أن يذكر العقاب التي ذللت لفتح قناة السويس، وقد لخص الدكتور (كزاليس) وهو من شهود الحال في أسطر تسحر الألباب تاريخ ذلك العمل المجيد نقلًا عن صاحبه الذي خلد التاريخ ذكره فقال: «كان — يعنى دلسبس — يقص علينا حينًا فحينًا حوادث القناة مرحلة بعد أخرى، فحكى لنا ما لاقى من الصعاب التي ذللها، وكيف جعل المستحيل ممكنًا، وروى المقاومات التي صادفته والتحزبات التي اعترضته واليأس الذي كان قد استولى على قلبه والخيبة التي كان يؤوب بها، وكيف أن ذلك كله لم يكن ليثني عزيمته، ولا ليضعف من إرادته. وكان يذكر إنكلترا وهي تحاربه وتحمل عليه الحملة بعد الحملة، وفرنسا ومصر مترددتان والعميد الفرنساوي أشد الجميع معارضة في البدء بالعمل. حتى إنه لما رأى عدم الامتثال أنحى على العمال بالعطش، فسعى فمنع عنهم الماء الفرات. ولا تنس أن ناظر البحرية وفريق المهندسين والناس من رجل الجد وذي الخبرة وصاحب العلم كلهم خصماء وكلهم مقتنعون، علمًا بأن الخيبة محتمة يحسبون سيرها ويجددون يوم حلولها كما ينبأ بالكسوف أو الخسوف.»
إن الكتاب الذي يضم سيرة أولئك القواد العظام لا يكون فيه عدد كثير من الأسماء، لكن تلك الأسماء هي التي كانت على هامة أكبر حوادث الحضارة والتاريخ.
(٢) وسائل القواد في التأثير
إذا مست الحاجة إلى قيادة جماعة وحملها على عمل من الأعمال كإحراق قصر أو الاستماتة في الدفاع عن حصن أو معقل، وجب التأثير فيها بخواطر سريعة. والأمثولة أشد ذلك تأثيرًا في نفوسها إلا أنه يجب أن تكون هناك أحوال جعلتها مستعدة للتأثر، وأن يكون من يريد تحريكها حائزًا للنفوذ، وسيأتي الكلام فيه.
لكن إذا كان الغرض بث أفكار في عقولها أو معتقدات في نفوسها كالأفكار الاشتراكية العصرية، فالوسائل غير ما تقدم وأخص ما يستعمله القواد منها ثلاث: التوكيد، والتكرار، والعدوى، ولذلك تأثير بطيء، إلا أنه متى انبث فيها المطلوب لزمها زمنًا طويلًا.
فأما التوكيد فإنه من أهم العوامل لبث الفكر في نفوس الجماعات متى كان بسيطًا خاليًا من التعقل والدليل، وكلما كان التوكيد موجزًا ومجردًا عن كل ما له مسحة الحجة والتقرير كان عظيم التأثير، هكذا اعتمدت الكتب الدينية وقوانين جميع القرون على مجرد التوكيد، فالتوكيد قيمته يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي، وأهل الصناعات الذين يروجون بضاعتهم بالنشر عنها.
إلا أن قيمة التوكيد هي بدوام تكراره بالألفاظ عينها ما أمكن ذلك. وأظن أن نابليون هو القائل بأن أهم صيغ البيان التكرار، فإذا تكرر الشيء رسخ في الأذهان رسوخًا تنتهي بقبوله حقيقة ناصعة.
للتكرار تأثير في عقول المستنيرين وتأثيره أكبر في عقول الجماعات من باب أولى. والسبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان، فإذا انقضى شطر من الزمن نسي الواحد منا صاحب التكرار وانتهى بتصديق المكرر. وهذا هو السر في تأثير الإعلانات العجيب. يقرأ الواحد مائة مرة أن أحسن الحلوى ما كان من صنع زيد فيخيل إليه من التكرار أنه سمع ذلك من مصادر شتى وينتهي باعتقاد صحة الخبر، ويقرأ ألف مرة أن دقيق فلان شفى أعاظم القوم من مرض عضال، فيميل إلى التجربة أن أصيب بمثل المرض المذكور، ويقرأ كل يوم في الصحف أن زيدًا من الأنذال وعمرًا من الفضلاء، فينتهي باعتقاد ذلك إلا إذا كان يقرأ دائمًا في جريدة أخرى ما يخالفه، فإنه لا يفل التكرار إلا التكرار.
ومتى كثر تكرار أمر وأجمع المكررون عليه تولد من عملهم تيار فكري يتلوه ذلك المؤثر العظيم، أي العدوى، كما وقع ذلك في بعض المشروعات المالية الشهيرة التي تمكن أصحابها بثروتهم من كسب كل قادر على معونتهم؛ لأن للأفكار والمشاعر والتأثرات والمعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوتها عدوى المكروبات، وذلك أمر طبيعي لوجوده في الحيوانات متى اجتمعت، فالفرس يقبع في مربطه فتفعل فعله الخيل كلها، وتجزع الشاة أو تضطرب في حركتها فتفعل الغنم مثلها، كذلك لحركات الإنسان في الجماعة عدوى سريعة جدًّا، وهذا هو السبب في سرعة انزعاج الكل لفزع الواحد بينهم، حتى إن اختلال القوى العقلية معدٍ وكثير ما هم أطباء المجانين الذين جنوا، وشاهد بعضهم نوعًا من الجنون تنتقل عدواه من الإنسان إلى الحيوان.
ولا يجب في العدوى وجود الأفراد الكثيرين في مكان واحد، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها. ذلك ما كان من ثورة سنة ١٨٤٨، فإنها بدأت في باريس وما عتمت أن امتدت إلى قسم كبير من أوروبا، وهزت أركان كثير من الممالك.
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه إلى التقليد، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته، وهذه الحاجة هي التي تجعل للبدئ (المودة) تأثيرًا كبيرًا، والقليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان، ولكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها، وإنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرًا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع، ولذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم إلا نادرًا لبعد البون بينهما، ومن هنا قل تأثير الأوروبي في الشرقي مع ما للأول من المزايا المدنية، لأن الخلف شديد بين الرجلين.
ويؤخذ من الأمثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها إلى الطبقات الرفيعة. ونحن الآن نشاهد هذه الظاهرة في مذهب الاشتراكيين، لأنه بدأ يمتد بين الذين يخال أنهم سيكونون أول ضحاياه، لكن قوة العدوى شديدة بحيث يضعف أمامها أثر المنافع الذاتية.
هذا هو السبب في أن الفكر إذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضًا بين طبقات الأمة إلى أرفعها وإن كان فاسدًا بعيدًا عن الصواب. وهنا رد فعل يشرئب من الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا، وذلك من أغرب المشاهدات الاجتماعية، لأن الأفكار العامة لا تأتيهم دائمًا إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم ويشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها، ثم يبثونها في الجماعات، وهذه تضاعف التغيير، ثم تصير حقيقة عند العامة، وبعد ذلك تصعد إلى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية، وعلى هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا، ولكن من بعد باعد، فقد تفنى عظام الحكماء الذين يوجدون الأفكار وتصير ترابًا ويمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها.
(٣) النفوذ
مما يساعد كثيرًا على قوة تأثير الأفكار التي بثت في الجماعات بواسطة التوكيد والتكرار والعدوى كونُها تنتهي باكتساب قوة خفية تسمى النفوذ.
للنفوذ قوة لا تقف أمامها قوة أخرى، وكل سلطة سادت في الوجود سواء كانت سلطة الأفكار أو الرجال، فهو السبب في قيامها وسيادتها. والنفوذ كلمة يعرف الجميع معناها ولكنها تستعمل استعمالات كثيرة؛ ولذلك لم يكن من السهل تعريفها.
وقد يجتمع النفوذ مع بعض المشاعر كالإعجاب أو الرهبة، وربما كان الاثنان أصلًا له في أحوال كثيرة، إلا أنه قد يوجد بدونهما مثل نفوذ الذين ماتوا، فإنه لا محل للخوف منهم، ودليل ذلك أن أكثر من نشعر بنفوذه فينا هم من الذين ارتحلوا عن هذه الدار، ولم نعد نخاف منهم مثل الإسكندر وقيصر ومحمد ﷺ وبوذا. كذلك لبعض الكائنات أو البدع تأثير في النفوس، وإن كان مما لا يعجب به كالآلهة المنغوليين الذين يوجدون في معابد الهند التي تحت سطح الأرض.
يمكن أن يقال إن النفوذ عبارة عن سلطة رجل أو عمل أو فكر يستولي بها على العقول، وتلك السلطة تعطل ملكة النقد فتملأ النفس اندهاشًا واحترامًا، ولا يمكن تفسير الشعور الذي يحدث منه كما هو الشأن في كل شعور، إلا أنه لا بد أن يكون من جنس الاجتذاب الذي يحدث في نفس الشخص النائم نومًا مغناطيسيًّا. والنفوذ أعظم مقوم لكل سيادة في العالم إذ لولا هو ما ساد الآلهة والملوك والنساء.
ثم إن النفوذ أنواع يمكن حصرها في قسمين: النفوذ المكتسب والنفوذ الشخصي، فالأول هو الذي يرجع لاسم صاحبه أو ثروته أو شهرته، وقد يكون منفصلًا عن النفوذ الشخصي، وأما النفوذ الشخصي فهو أمر ذاتي قد يجتمع مع الشهرة والمجد والثروة ويشتد بانضمامها إليه، وقد يكون وحده.
والنفوذ الذي أشرنا إليه خاص بالإنسان، وبجانبه يوجد النفوذ الذي يكون للأفكار أو الأدبيات أو الفنيات وغير ذلك، وهو في غالب الأحوال ناشئ من التكرار، وما التاريخ وبالأخص تاريخ الآداب والفنون إلا تكرار رأي سبق ولم يعارضه أحد، فيؤول الأمر إلى أن كل واحد يكرر ما قرأ في المدرسة، ووجدت بذلك أسماء وأشياء لا يجرأ أحد على الحديث فيها، فمما لا شبهة فيه أن مطالعة «هومير» تورث قراء هذا الزمان مللًا شديدًا إلا أنه لا يجرأ أحد على القول به، و«البارتينون» أصبح اليوم خرابة تراكمت فيها الأنقاض ولا فائدة منها إلا أن نفوذه لا يزال قويًّا، حتى إنهم لا يبصرونه كما هو الآن، بل كما كان في القدم محفوفًا بأبهته وفخامته، فمن خواص النفوذ أن لا يجعل الإنسان يرى الشيء على حقيقته وأن يعطل فيه ملكة النقد والتمييز.
تحتاج الجماعات دائمًا والأفراد غالبًا إلى آراء حاضرة في جميع المباحث، وانتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ، بل مرجعه ما لها من النفوذ.
ننتقل الآن إلى النفوذ الشخصي وهو يختلف مع النفوذ المكتسب؛ لأنه صفة تنفرد عن كل لقب وكل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم ويجذبونها إليهم كالمغناطيس، وإن ساووهم في المنزلة بين أمتهم، ولم يكن لهم شيء من وسائل التسلط والغلبة ويبثون فيهم أفكارهم وينقلون إليهم مشاعرهم، وأولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مُروِّضه وإن كان في استطاعته افتراسه بالسهولة لو أراد.
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قواد الجماعات مثل بوذا وعيسى ومحمد ﷺ وجان دارك ونابليون، وهو السبب في تمكنهم، فإنما تتسلط الآلهة والأبطال والمذاهب تسلطًا لا دخول للمناظرة فيه، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه.
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم، وتلك القوة هي السبب في شهرتهم، فلما بلغ نابليون مثلًا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منعته وسلطانه، إلا أنه كان له شيء منه يوم لم يكن له من السلطة ولم يكن معروفًا لدى أحد، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال)، وكان لا يزال مجهولًا عهد إليه من كان مستصنعًا له بقيادة الجيش الفرنساوي المحارب في بلاد إيتاليا، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء، وكانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلًا بينهم، ولكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول التقائه بهم بلا كلام ولا إشارة ولا وعيد، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء. وإليك كيف كان اللقاء:
«جاء قواد الفرق إلى المعسكر العام وقلوبهم نافرة من هذا الرجل حديث النعمة، وكان بينهم اللواء (أوجيرو) وهو جندي عظيم الجثة غليظ الطبع مختال بطول نجاده، فخور بشجاعته، وكان ممتعضًا ينساب بالشتائم على نابليون من يوم أن سمع به وعرف أوصافه، فسماه صنيعة (باراس)، ولواء الشارع ونعته بالدب؛ لأنه كان يحب التفكر منعزلًا وذا سمنة صغيرة ومشهورًا بالرياضي الصغير وبالخيال، فلما اكتملوا أدخلوهم غرفة الاستقبال، فأبطأ نابليون في الخروج إليهم، وبعد زمن بان لهم متقلدًا سيفه، ثم اتشح بردائه وأخبرهم بنياته، وأنفذ إليهم أوامره وأشار إليهم بالانصراف. أما (أوجيرو) فقد تولاه الصمت ولم يرجع إلى نفسه إلا بعد أن خرج، فجعل يسب كما كان يشتم من قبل، ولكنه أقر مع زميله (مسينا) أن هذا القائد الصغير أوقع الرعب في قلبه وأنه حائر في التأثير الذي أخذ به أول ما وقع بصره عليه.»
هذا التأثير الذي فاق حد الإعجاب يبين لنا السبب في الاستقبال العظيم الذي قوبل به نابليون يوم عودته من جزيرة «ألب»، وكيف أنه افتتح ثانية بلا إمهال قلوب الأمة الفرنساوية وهو أعزل وليس معه مُعِين وأمامه جيوش تلك الأمة المنظمة، وكان الناس يظنون أنها سئمت من جبروته عليها. حلف القواد الذين أرسلوا للقبض عليه أن يفعلوا، فلم تكن إلا نظرة منه أخضعتهم وهم صامتون. وكتب القائد (ولسلي) في ذلك يقول: نزل نابليون من السفينة إلى بر البلاد الفرنساوية وليس معه إلا قليل من رجاله الخصوصيين، كأنه فارٌّ من جزيرة ألب الصغيرة التي كانت كل ما يقدر أن يتسلط عليه، فما لبث بضعة أسابيع حتى قلب نظام الإدارة الفرنساوية كلها على مرأى من ملكها الشرعي، وذلك من غير أن يريق قطرة دم لواحد من أهلها، بل بمحض نفوذه الشخصي مما لم يسبق له مثيل في الدنيا، وأعجب منه ما كان له من التأثير في حلفائه أثناء هذه الحركة الطويلة التي ختمت فيها حياته العمومية، فإنه كان يلجئهم إلى تتبع خطاه حتى كاد يسحقهم لولا المقادير.
مات نابليون ولكن نفوذه بقي حيًّا أو صار ينمو، وتأثيره هذا هو الذي حمل الناس على الاعتراف بابن أخته إمبراطورًا، وكان من المستضعفين، وها نحن أولاء اليوم نشهد ظهور أقاصيصه من جديد، وذلك برهان على أن خياله لا يزال قويًّا في النفوس. أسئْ معاملة الرجال كما تشاء واقتلهم ألوفًا ألوفًا، وانزل على البلاد غارة وغارة، إنك في حِل مما تصنع ما دمت ذا نفوذ، وكان فيك من الذكاء ما تحمي به ذاك النفوذ.
رب قائل ولكنك قد اخترت التمثيل للنفوذ بأكبر مثال، عزيز المثال، والحق أني اخترته عمدًا لأبين للقراء كيف ثبتت أركان الديانات الكبر، وقامت المذاهب العظام، وأنشئت الممالك الواسعة، إذ لولا تأثير النفوذ في الجماعات ما كنا لذلك مدركين.
الأمثلة التي قدمناها تعد أقصى ما يبلغ النفوذ إليه، فإذا أردت أن تعرف ماهية النفوذ مفصلًا وجب أن تضع تلك الأمثلة في أعلى السلم، ثم تتدرج من مُنشئِي الديانات ومقيمي الممالك حتى تصل إلى الرجل البسيط الذي يحاول أن يبهر جاره بثوب جديد أو وسام.
وبين هاتين النهايتين درجات كثيرة من النفوذ تراها في جميع أركان المدنية من علوم وفنون وآداب، وترى النفوذ أول مؤثر في تحصيل الاعتقاد. فالناس يقلدون ذا النفوذ عمدًا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانًا أو رأيًا أو شيئًا آخر. ويتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها ويترجمون عما به يشعرون ويكون التقليد في الغالب فطريًّا، لذلك يبلغ حد الكمال والاتقان. ومن ذلك أن مصوري هذه الأيام أخذوا يعيدون رسم الصور ذات الألوان الباهتة والأزياء العابسة التي تمثل أناسًا من أهل الفطرة الأولى، وهم لا يشعرون من أين جاءهم هذا الميل، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوه لأنفسهم، وفاتهم أنه صنع أحد كبار المصورين، ولولا ذلك لاستمروا على النظر إلى تلك الصور من جهة سذاجتها وانحطاط درجتها في فن التصوير، ومنهم من قلدوا أحد المشاهير فجعلوا يكثرون في مصوراتهم من الظلال البنفسجية اللون مع أنهم لا يرون هذا اللون منتشرًا في الطبيعة أكثر مما كان يراه غيرهم منذ خمسين عامًا. والواقع أنهم متأثرون بفعل أستاذ من عظماء أساتذة الفن كانت له في ذلك التلوين شهرة فائقة وإن كان هذا الاختراع مما يعد غريبًا. وأمثال المصورين كثيرة في جميع عناصر المدنية.
ويؤخذ مما تقدم أن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس وبطلت معارضتهم له، وكذلك الفكر إذا تمكن من العقول، والدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر ويسخرون منه في الصباح إذا قَلب له الزمان ظَهْر المجنِّ. وبقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة، فتراه الجماعة من أندادها، فتميل إلى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشيء منه. هكذا كان نفوذ روبسيير شديدًا يوم كان يقطع رءوس زملائه ورءوس الكثير من معاصريه، فلما ضاعت منه بعض الأصوات وقت الانتخاب وسقط من مركزه فارقه النفوذ لساعته وشيَّعته الجماعة إلى المشنقة وهي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه. ومن عبد الآلهة وزاغ عنها كاد يقتله الغضب وهو يحطم الأصنام.
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة، وقد يذهب النفوذ بالبحث فيه، لكن ذلك لا يتم بالتدريج، وهذه الوسيلة هي أضمن الوسائل لإضاعته، وما من إله أو إنسان دام له النفوذ زمنًا طويلًا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها.
هوامش
«خلد رئيس محكمة الاستئناف اسمه في التاريخ بحكمه على دولسبس؛ لأن الأمم لا تنفك تسأل عن اسم الذي اجترأ غير هياب فحط من قدر عصره، وألبس طاقية المجرمين رأس شيخ كانت حياته مجدًا وفخارًا لمعاصريه.»
«ألا فليكفوا منذ اليوم عن ذكر العدالة بين ربوع تمكنت البغضاء من نفوس صغار الموظفين في مصالحهم، فحنقوا على كل من قام بعمل مجيد، إلا أن الأمم في حاجة إلى رجال ذوي عزم وإقدام يثقون بأنفسهم ويقتحمون كل صعب، وهم لذواتهم غير ملتفتين، إلا أنه لا حذر لنابغ إذ ولو كان حذرًا ما أمكنه أن يرقى هامة العصر الذي هو فيه.»
ذاق فرديناند دولسبس حلاوة المجد وغضاضة الجذل، السويس وبناما. وهنا يحق للنفس أن تغضب من آداب الفوز والانتصار. فلما أفلح دولسبس وجمع بين البحرين جاءته الملوك والأمراء تهديه التهاني، واليوم لما أدركه الفشل أمام صخور (كورديليير) كان نصابًا حقيرًا. إن هذه إلا حرب تقوم بين الطبقات في الأمم يثيرها حقد الموظفين الذين ألفوا المكاتب ولاذوا بقانون العقوبات انتقامًا ممن يصبو إلى المجد والمعالي. ولقد يحار مشرعو هذي العصور أمام تلك الأفكار العالية التي يولدها النبغاء، والعامة في ذلك أقل فهمًا وأدنى إدراكًا. لكن من السهل على الأفوكاتو العمومي إقامة البرهان على أن ستانلي من القتلة وأن دولسبس من الخادعين: