حدود تقلب معتقدات الجماعات وأفكارها
(١) في المعتقدات الثابتة
يوجد بين الخواص التشريحية أي الجسمانية والخواص النفسية تشابه تام، فمن الأولى ما هو ثابت أو لا يتغير إلا ببطء شديد بحيث يلزم لتغييره زمن كالذي بيننا وبين الطوفان، ومنها ما هو متقلب يتغير بالسهولة من أثر البيئة أو المربي، وقد يبلغ التغيير درجة تختفي فيها الخواص الأصلية على غير المتأمل.
وكذلك الحال في الخواص الأدبية، فمن أخلاق الشعب ما هو ثابت لا يغيره كرور الأيام، ومنها ما هو متقلب يتغير. ومن ينعم النظر في معتقدات الأمم وأفكارها يرى دائمًا في أخلاقها أصلًا ثابتًا ترسب فوقه أفكار متقلبة كما ترسب الرمال فوق الصخر.
المعتقدات الكبيرة العامة قليلة جدًّا، وقيامها وسقوطها في كل أمة ذات تاريخ يمثلان أعظم دور في حياتها، ولا قوام للمدنية بدونها.
ومن السهل جدًّا إيجاد فكر وقتي في عقول الجماعات، لكن من الصعب جدًّا تقرير معتقد دائم في نفوسها، كما أنه من الصعب جدًّا هدم اعتقاد تمكن منها، ولا سبيل إلى التغيير غالبًا إلا بالثورات العنيفة، بل إن الثورة لا تؤدي إلى ذلك إلا إذا اضمحل قبلها أثر المعتقد في النفوس، فهي تصلح لكسح تلك البقية التي تكاد تكون في حكم المهمل لولا أن سلطان العادة يمنع من الإقلاع عنها بالمرة، فالثورة التي تقبل عبارة عن معتقد يدبر.
ومن السهل تجديد اليوم الذي يندكُّ فيه أحد المعتقدات الكبرى، ذلك هو يوم يأخذ الناس بالبحث في قيمة هذا الاعتقاد؛ لأن كل اعتقاد عام يكاد يكون أمرًا فرضيًّا، فهو لا يحتمل البقاء إلا بشرط عدم البحث فيه.
غير أن النظامات التي أُسست على اعتقاد عام تستمر حافِظةً لقوَّتها ولا تتحلل إلا ببطء، وإن تزعزع ذلك الاعتقاد، فإذا تم له الهدم تساقط ما بني عليه.
ومما قضت به سُنة الوجود حتى الآن أن كل أمة أصبحت متمكنة من تغيير معتقداتها لا بد لها عاجلًا من تغيير جميع أركان حضارتها، فهي تُغير وتبدل فيها حتى تهتدي إلى معتقد جديد عام ترضاه النفوس وتعيش في فوضى حتى تعثر عليه، فالمعتقدات العامة هي دعائم الحضارة التي لا بد منها، وهي التي ترسم للأفكار طريقها الذي تسير فيه، وهي التي توحي بالإيمان وتفرض الواجبات.
أدركت الأمم على الدوام فائدة المعتقدات العامة، وفطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها. عَبَد الرومانيون مدينة روما عبادة المتعصبين، فسادوا على الدنيا أجمع، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما، واستمر المتبربرون الذين خرَّبوا ملكها على همجيتهم حتى إذا رسخت بينهم بعض المعتقدات العامة وُجد فيهم شيء من الامتزاج والتآلف وخرجوا من الفوضى.
وعليه تعذر الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها، إذ الحقيقة أن هذا التعصب هو أرقى الفضائل في حياة الأمم وإن كان مذمومًا جدًّا من الجهة الفلسفية.
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوفَ من الناس إلا للدفاع عن معتقد عام موجود أو لإدخال معتقد عام جديد في النفوس. وما مات الكثير من المخترعين والمبتدعين والأسى ملء قلوبهم إلا لأنهم لم ينالوا قسطًا من العذاب لأجل تلك المعتقدات، وما اضطربت الدنيا المرة بعد المرة إلا للدفاع عنها، وما ماتت الملايين في ساحة الوغى إلا بسببها، وكذلك يكون في مستقبل الأيام.
ومتى تمكنت عقيدة جديدة من نفوس الجماعات أصبحت مصدر نظاماتها ومرجع فنونها وقاعدة سيرها. هنالك يستحكم سلطانها وتتم غلبتها، فترى أهل العزائم لا يفكرون إلا في تحقيقها، وواضعي القوانين إلا في الأخذ بها، والفلاسفة وأرباب الفنون والكتاب إلا في تمثيلها على صور شتى.
وقد يتولد عن العقيدة العامة أفكار وقتية ثانوية، إلا أنها تكون على الدوام مصبوغة بصبغتها، فقد تولدت حضارة المصريين وحضارة الأوروبيين في القرون الوسطى وحضارة المسلمين من عقائد دينية قليلة العدد، طبعت كل عقيدة منها خاتمها على كل جزئية من جزئيات حضارتها وسهلت بذلك معرفتها.
من هذا يتبين أن الفضل للعقائد العامة في إحاطة أهل كل عصر بتقاليد وأفكار وعادات تقيدوا بها وصاروا متشابهين، والذي يهدي الناس في سيرهم إنما هي الأفكار والعادات المتولدة عن تلك العقائد، فهي الحاكمة على أعمالنا جليلها وصغيرها، وكيفما سمت مداركنا فإنا لا نفكر في الخلاص منها، إذ الاستبداد الحقيقي هو الذي يدخل على النفوس من طريق الغرائز؛ لأنه هو الذي لا يتمكن المرء من محاربته، فلقد كان (تيبير) و(جنكيزخان) و(نابليون) جبارين مستبدين، ولكن استئثار «موسى» و«بوذا» و«عيسى» و«محمد» ﷺ و«لوتر» وهم في القبور أشد وأبقى. إن مكيدة قد تبيد سطوة الجبار، ولكن ماذا ينفع الكيد في عقيدة استقرت في النفوس، قامت حرب عنيفة بين الثورة الفرنساوية والدين المسيحي وكانت الجماعات في ظواهر الأمر من جانب الأولى، واستعمل الثوار من وسائل القهر والاضطهاد ما استعمله الأندلسيون، والثورة هي التي دارت عليها الدائرة، إنما الجبابرة الذين سادوا في البشر هم خيال الأموات أو الأوهام التي أوجدتها الأمم لنفسها.
ما كان بطلان العقائد العامة من حيث النظر والفلسفة مانعًا من استظهارها، وقد يظهر أن فوزها مشروط باحتوائها على شيء من الهزء الخفي. وإذا كانت مذاهب الاشتراكيين في العصر الحاضر واضحة الضعف، فليس ضعفها هذا هو الذي يكون سببًا في عدم استيلائها على نفوس الجماعات، وإنما السبب في انحطاطها عن جميع العقائد الدينية راجعٌ إلى أن السعادة التي وعدت بها الديانات لا تتحقق إلا في الدار الباقية؛ فلم يكن لأحد أن يماري في تحقيقها. وأما السعادة التي وعد بها مذهب الاشتراكيين، فإنها يجب أن تتحقق في الحياة الدنيا، ومتى شرع في ذلك بان أن الوعد خلب وسقط بذلك نفوذ العقيدة الجديدة، وعليه فلا يعظم سلطان هذه العقيدة إن تم لها الظفر إلا إلى اليوم الذي يبدأ فيه بتحقيقها، وذلك هو السبب في أن هذا الدين الجديد له من قوة التخريب ما كان لغيره من الأديان التي سبقته، ولكنه لن يكون له ما كان لها من قوة النبأ.
(٢) فيما للجماعات من الأفكار غير الثابتة
وإذا لم يوجد هذا الفارق الفلسفي جاز الظن بأن الجماعات تغير كثيرًا عقائدها الدينية والسياسية كما تشاء، والظاهر أن التاريخ يؤيد هذا الظن سواء كان تاريخ السياسة أو الدين أو الفنون أو الأدب، لأنا إذا نظرنا في تاريخنا إلى الفترة القصيرة الواقعة بين سنة ١٧٩٠ وسنة ١٨٢٠ — أعني ثلاثين سنة، وهو عمر جيل واحد — ورأينا الجماعات التي كانت ملوكية تحولت فصارت ثورية للغاية ثم إمبراطورية كذلك ثم عادت ملوكية كما كانت، هذا في السياسة. وأما في الدين فإنها كانت كاثوليكية ثم كفرت ثم قالت بالألوهية، ثم رجعت إلى الكثلكة الضيقة إلى حد التغالي، ولم يكن ذلك شأن الجماعات وحدها، بل شاركها فيه كله قوادها فشهدنا، والعجب يأخذ منا أولئك الثوار الذين تقاسموا على بغض الملوك، وأنكروا الله والسلطان أمسوا خدامًا خاضعين لنابليون، وأصبحوا يحملون الشموع والخشوع ملء جوانحهم في احتفالات الملك لويز الثامن عشر.
وما أكثر الانقلابات التي طرأت على أفكار الجماعات في السبعين سنة التالية، فقد صار الإنكليز حلفاء أمة الفرنساويين في عهد خليفة نابليون، وكانوا في أول القرن أعداء ماكرين، وأغرنا مرتين على بلاد الروس، وكم خفقت قلوبهم فرحًا بانكسارنا ثم صاروا لنا أصدقاء.
وأسرع من ذلك تقلب الأفكار في الأدب والفنون والفلسفة، فكنا لا نتقيد بقواعد اللغة، وكنا طبيعيين وكنا صوفيين، وكنا غير ذلك؛ كل هذا ظهر واختفى، وكان الناس يتغنون باسم هذا الكاتب أو ذاك المصور في المساء، فإذا أصبح الصباح حقروه ورذلوه.
وإذا دققنا البحث في هذه التقلبات التي يخال أنها حقيقية متأصلة في النفس رأينا أن ما كان منها مخالفًا للاعتقادات العامة ومشاعر الشعب، فهو زائل لا يدوم إلا يسيرًا، ولا تلبث المياه أن تعود إلى مجاريها، فمن المعلوم أنه يستحيل دوام الأفكار التي لا رابطة بينها هي والمعتقدات العامة ومشاعر الشعب؛ لأنها مُعرضة لتأثير الطوارئ والاتفاق تتغير بأقل تغيير في البيئة التي وجدت فيها. ومما يدل أيضًا على عدم بقائها أنها تولدت من طريق الإلقاء والعدوى، فهي تولد ثم تموت بسرعة الرمل الذي يتكون أكداسًا على شاطئ البحر ثم تذهب به الريح ثم تعيده … وهكذا.
ولقد كثرت في أيامنا هذه أفكار الجماعات التي لا بقاء لها، ولذلك ثلاثة أسباب:
الأول: أن الاعتقادات القديمة أخذت تضعف شيئًا فشيئًا، فلم تعد تؤثر في الأفكار العرضية تأثيرًا ينظمها ويهديها، وضعف تلك الاعتقادات العامة من شأنه أن يفسح المجال لتولد أفكار خاصة لا رابطة بينها هي والماضي، ولا يرجى بقاؤها في المستقبل.
السبب الثاني: أن قوة الجموع تزداد شيئًا فشيئًا، والقوة المضادة تضعف بمقدار ذلك، وقد عرفنا أن الجماعات كثيرة التقلب في أفكارها، فالنتيجة أنها أصبحت أكثر حرية في إظهار تلك الأفكار المتقلبة.
والسبب الثالث: هو كثرة انتشار المطبوعات لما فيها من كثرة الأفكار المتناقضة التي تعرضها على الجماعات. فالفكرة لا تكاد تظهر حتى تبطل بظهور فكرة تخالفها، وما من فكر ينتشر تمامًا وكلها محكوم عليها بسرعة الزوال، فهي تموت قبل أن تنتشر انتشارًا يثبتها ويجعلها معتقدًا عامًّا.
من تلك الأسباب تولدت ظاهرة جديدة في تاريخ البشر ينفرد بها العصر الحاضر، وهي ضعف الحكومات عن قيادة الرأي العام.
كان زمام الرأي في الزمن السابق ما هو في يد الحكومات وبعض ذوي النفوذ من الكتاب، وعدد مخصوص من الجرائد: فأما الكتاب فقد انعدم تأثيرهم، وأما الجرائد فإن وظيفتها أصبحت قاصرة على أن تكون مرآة للرأي، وأما السياسيون فإنهم لا يديرونه بل يسيرون خلفه، وقد أخذتهم منه رهبة تكاد أحيانًا تبلغ حد الذعر والانذهال، فهم لا يثبتون في أي طريق يسلكون.
وأما الجرائد فبعد أن كانت تقود الرأي العام كالحكومات، اضطرت إلى التسليم أمام سلطان الجماعات. نعم للجرائد أثر شديد في الناس، لكن ذلك سببه أنها صارت مرآة لآرائهم ومتغيرة بتغير أفكارهم المستمر. أصبحت الجرائد رسل أخبار، فلم تعد قادرة على نشر رأي أو تقرير مذهب، بل هي تسير خلف أهواء الجماعات مكرهة على ذلك بحكم المسابقة والتزاحم، وإلا خسرت قراءها، ألا ترى الجرائد الكبرى القديمة التي كان لها المقام الأول والتأثير القوي مثل (لوكونستيتو سيونيل) و(الديبا) و(السييكل)، وهي التي كان يتلقى آباؤنا أقوالها كالوحي المنزل من السماء، قد احتجبت أو صارت صحف أخبار محلاة ببعض الفكاهات القصصية ولطائف المجتمعات والإعلانات التجارية. لا توجد اليوم جريدة تسمح ماليتُها للمحررين بإبداء آرائهم الذاتية، على أنها إن وُجدت ما كان لتلك الآراء والأفكار قيمة عند القراء؛ لأنهم إنما يطلبون خبرًا يقرأونه أو نكتة يتفكهون بها، وصاروا في ريب من كل رأي ونصيحة توجه إليهم، إذ يظنون أن وراءها طمعًا في ربح أو سعيًا لمنفعة خاصة. بل إن أهل النقد أصبحوا لا يجرأون على نشر كتاب أو رواية تمثَّل في المراسح، فإن النقد صار مما قد يجلب الضرر ولا يجر إليهم نفعًا. أيقنت الجرائد بعدم الفائدة من النقد أو إبداء الآراء الشخصية، فجعلت تقلل منه في عالم الأدب حتى بطل واستعاضته بذِكر اسم الكتاب الجديد متبوعًا بسطرين أو ثلاثة للإعلان عنه، والحث على اقتنائه، وربما آل الأمر إلى مثل ذلك بعد عشرين سنة فيما يتعلق بنقد الروايات التي تشخص في الملاهي.
أصبح الشغل الشاغل للجرائد والحكومات تتبُّع حركات الرأي العام، فالذي يهمهم من حادث يقع أو من مشروع قانون يحضر أو من خطاب يلقى، إنما هو أثر ذلك في الناس، وما ذلك بهين على طلابه لشدة تغير أفكار الجماعات، فما أسرعها في السخط على أمر لم تكد تفرغ من التهليل له.
ينتج عن فقدان ضابط للرأي واقتران ذلك بانحلال الاعتقادات العامة تفتت اليقين وتمزق الوجدانيات وعدم اهتمام الجماعات بشيء لا تظهر فيه لها منفعة حاضرة ظهورًا تامًّا. وأما المذاهب كالاشتراكية، فإن حماتها المخلصين من أجهل الطبقات كعمال المعادن والمصانع، أما متوسطو الحال وكل من ناله قليل من التعليم فهم في شك من كل شيء أو هم كثيرو التقلب.
ليس لفكر ولا لرأي في هذه الأيام وقع في النفوس لكثرة المناظرة والتحليل مما يذهب بطلاوتها، ولا يجعل تأثيرًا للبقية، والذي ينفرد به أهل هذا الزمان هو عدم الاهتمام بالأمور شيئًا فشيئًا.
على أنه ينبغي أن لا نحزن من انتشار الأفكار، نعم لا شبهة في أنه منذر بانحطاط الأمة، لأنه من المحقق أن تأثير أهل الخيالات والرسل وقواد الجماعات، وعلى الإطلاق جميع الذين سكن اليقين قلوبهم، أكبر جدًّا من تأثير أهل الجحود والنقادين ومن لا يهتمون بشيء. لكن لا يذهب عنا أنه إذا تمكن رأي واحد من النفوس والجماعات على ما هي عليه الآن من القوة والنفوذ لا يلبث أهله أن يصيروا مستبدين استبدادًا يذل له كل ما في الوجود، ويغلق باب حرية الأفكار وحرية النقد زمنًا طويلًا. لا يقال إن من سلاطين الجماعات من كان ندي الخلق لين الملمس لأن طبعها قلب، فهي هوائية سريعة الغضب والانفعال، فإذا قُدر لحضارة أن تقع في يدها أصبحت هدفًا للطوارئ والمصادفات، وقصر بذلك أجلها وإن كان يرجى تأجيل زمن الانحدار والسقوط، فإنما يكون ذلك من شدة تقلبات آراء الجماعات وعدم اهتمامها بالاعتقادات العامة.