الجماعات الجارمة
بعد أن يمضي زمن على الجماعة وهي في هياج تعتورها حالة هبوط تجعلها آلة صماء غير شاعرة يحركها الإلقاء في نفسها، ولذلك يتعذر تأثيمها فلسفيًّا كيفما كان الحال، وإنما جريت في الكلام على استعمال هذا الوصف غير الصحيح لأني أقرأه في بعض كتب علماء النفس الحديثة. نعم إن بعض أعمال الجماعات تعتبر جرائم من حيث هي لكن كما يعتبر عمل النمر الذي يلتهم الهندي بعد أن يكون قد تركه لصغاره يفرحون بتمزيقه.
تصدر الجرائم عن الجماعة غالبًا بسبب تحريض قوي ويعتقد الذين ارتكبوها من أفرادها أنهم قاموا بواجب كان مفروضًا عليهم، وهذا ليس شأن الجناة في الأحوال الاعتيادية، وتاريخ جرائم الجماعات يوضح ذلك بأجلى بيان.
فمن أمثلة ذلك قتل موسيو (لوني) مدير سجن (الباستيل)، وواقعة الحال أنه بعد استيلاء الثائرين على هذا الحصن أحاطت الجماعة الثائرة بالمدير المشار إليه وصارت الضربات تتساقط عليه من كل جانب، وهذا يشير بشنقه وذاك بضرب عنقه وثالث بربطه في ذيل فرس … وهكذا. وبينما هو يدافع عن نفسه فرطت منه رفسة أصابت واحدًا من الجماعة، إذ ذاك اقترح أحدهم أن يقطع المضروب رأس الضارب، فهلل الجمع بالموافقة. قال راوي الواقعة: «وكان المضروب طباخًا خاليًا من العمل ويقرب من أن يكون بهلولًا ذهب إلى (الباستيل) لينظر ماذا يجري هناك. فلما سمع الإجماع ظن أن الفعل مما تقضي به الوطنية، وأنه ينال وسامًا إذا أعدم ذلك الوحش. ثم ناولوه سيفًا ضرب به عنق المدير، وكان غير مشحوذ فلم يقطع، فألقاه وأخرج من جيبه سكينًا صغيرة ذات مقبض أسود واستعان بخبرته في تقطيع اللحوم، فساعده الحظ وأتم عمله.»
ومن هذا المثال يظهر لك كيف تصدر أفعال الجماعة، فقد انقادت هنا إلى تحريض قوي بالإجماع عليه، واعتقد القاتل أنه أتى عملًا شريفًا اعتقادًا مَكَّنَه من نفسه ذلك الإجماع، وقد يكون مثل هذا العمل آثمًا بحكم القانون لكنه ليس كذلك في حكم علم النفس.
أما الصفات العامة للجماعات الجارمة فهي بعينها الصفات التي شاهدناها في غيرها، من قابلية التأثر، والتصديق والتقلب والتطرف في المشاعر طيبة كانت أو رديئة، والتخلق ببعض الأخلاق الخاصة … وغير ذلك.
كانت تلك الجماعة مؤلفة من نحو ثلاثمائة سفاك كلهم أشتات، فهي تمثل الجماعة المختلفة العناصر أكبر تمثيل إذ لم يكن فيها الغوغاء إلا نفر يسير، والباقون من أصحاب الحوانيت والصناع في كل حرفة وكل مهنة؛ من حذائين وقفالين وحلاقين وبنائين ومستخدمين وسماسرة وغيرهم … كلهم متأثرون بالتحريض الذي وقع عليهم، كالطاهي الذي مر ذكره، وكلهم يعتقد أنه قائم بواجب وطني، وقد قاموا بعملين، فكانوا قضاة وجلادين، ولكنهم لم يروا أنفسهم من الجناة أبدًا، بل وقر في نفوسهم أنه واجب من أكبر الواجبات، وأول ما بدأوا به أن شكلوا محكمة، هنالك ظهرت بساطة روح الجماعات وبساطة عدالتها، ذلك أن المحكمة رأت عدد المتهمين كبيرًا، فقررت أولًا قتل الشرفاء والقسوس والضباط وخدام الملك، وبالجملة قتل جميع الذين يعتبرون في نظر كل وطني جناة بمقتضى صناعتهم، وأن يكون القتل جملة من دون احتياج إلى حكم خاص. وأما الباقون فيحكم عليهم بناء على سمعتهم أو شهرتهم. فلما اطمأنت نفوس الجماعة بهذا القرار انطلقت تنفذ ما حكم به القضاء، فبرزت كوامن القسوة والتوحش اللذين شرحناهما من قبل، والتوحش يزداد فظاعة وعنفًا في المجامع، إلا أن الغرائز الهمجية لا تمنع من ظهور مشاعر تناقضها كما هو الشأن في الجماعات، ولذلك كان يوجد في تلك الجماعة من عاطفة التأثر ما يبلغ في شدته تلك القسوة الهائلة.
كان لأولئك القتالين عطف صناع باريس ولطف شعورهم، من ذلك أن أحدهم علم أن المسجونين لم يذوقوا الماء منذ ست وعشرين ساعة، فشرع في قتل السجان لولا شفاعة السجناء، وكانوا إذا برَّأت المحكمة التي أقاموها واحدًا من المتهمين فرحوا وهللوا وانهالوا عليه يقبلونه وصفقوا تصفيقًا طويلًا، ثم انقلبوا يقتلون غيره أكداسًا. كانوا يقتلون والسرور لا يفارق محياهم، يغنون ويرقصون، ويعدون المقاعد للنساء لتشاهد وهي فرِحة قَتْلَ الشرفاء. وكان لهم عدل من نوع خاص يدلك عليه أن أحد الموكلين بالتقتيل شكا من أن النساء لا يشاهدن القتل لبُعدهن عن مكانه، وأن القليل من الناس هو الذي ينال حظ ضرب الشرفاء، فصوب الجميع شكواه وقرروا أن يمشي المتهمون الهوينا بين صفين من القتالين، وأمروا هؤلاء أن لا يضربوهم إلا بظاهر السيوف حتى يطول أمد العذاب. وكان فريق يأتي بالمتهمين عراة كما ولدتهم الأمهات، ثم يمزقون أجسامهم مدى نصف ساعة كاملة، فإذا تمت للجميع مشاهدة هذا المنظر أجهزوا على المعذبين فبقروا بطونهم.
ومع ذلك كنت تشاهد الأمانة لا تزال ملازمة للقاتلين، فكانوا يظهرون من الفضائل ما ذكرناه للجماعات من قبل ويأبون أن يتناولوا شيئًا من نقود المقتولين وحليهم، بل يقدمونها لِلَّجنة.
وكانت بساطة التعقل التي انفردت بها روح الجماعات تظهر في أفعالهم، من ذلك أنهم لما فرغوا من قتل الألف والمائتين أو الألف وخمسمائة العدو للأمة لاحظ بعضهم أن السجون الأُخَر تضم أناسًا لا فائدة منهم، وأن الأولى إعدامهم، فسارت الجماعة إلى الموافقة على هذا الرأي، وكان من في السجون الأخر أناسًا من الشحاذين والهمل (المتشردين) والأولاد. فرأت الجماعة أنه لا بد من وجود أعداء للأمة بينهم، كامرأة رجل كان قد قتل نفسًا بالسم إذ قال بعضهم: «لا بد أنها متغيظة من وجودها في السجن، ولو تمكنت لوضعت النار في باريس ولا بد أن تكون قد قالت ذلك، بل قالته، إذن حق عليها الإعدام.» سرى هذا القول في النفوس كالحجة الناصعة وهرولت الجماعة، فقتلت كل من كان في تلك السجون وبينهم نحو خمسين غلامًا ما بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، وقالوا في قتلهم إنهم إذا عاشوا لا يبعد أن يصيروا من أعداء الأمة، فالواجب التخلص من شرهم.
ولما أتم القاتلون عملهم بعد أن زاولوه مدة أسبوع كامل فكروا في الراحة واعتقدوا أنهم خدموا الوطن خدمة يستحقون الجزاء من أجلها، ورغبوا إلى حكومة ذلك الزمن أن تكافئهم، ومنهم من طلب وسامًا.
وفي تاريخ ثورة ١٨٧١ أمثلة كثيرة كالتي قدمناها، وسنرى كثيرًا غيرها ما دام سلطان الجماعات ينمو ويعظم، وسلطان الحكومة ينزوي ويضعف.