تمهيد
إذا بدا لك غريبًا استهلالُ كتابٍ عن التسويق بالإشارة إلى عالِم فلك دنماركي من القرن السادس عشر، فأرجو أن تصبر معي لِلَحظات.
يقول الكثير من مؤرخي العلم الآن عن تيكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١) إنه العالِم الذي جعل إنجازات كبلر ونيوتن العلمية ممكنة.
فلم تكن صياغةُ قوانين الفيزياء، التي ثبتت فائدتها الكبيرة في العلوم الفيزيائية، ممكنةً إلا بفضل جهود براهي في تحديد حركات الأجرام السماوية؛ فمن دون البيانات التجريبية الهائلة التي جمعها براهي، ما كانت لتظهر للنور النظرياتُ التي وضعها تلميذه كبلر أو نيوتن، أو — على نحو متساوٍ من الاحتمال — لظهرت واستمرت نظريات أخرى معقولة ظاهريًّا ومبررة، ولكنها ببساطة خاطئة.
إن عددًا كبيرًا من الناس، ومن بينهم الاقتصادي بول أورميرود، قد استخدموا تلك النقطة لشن هجوم شديد بعض الشيء على النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، وكان منطقهم في هذا وجيهًا؛ فنظرية الفعل البشري التي قدمَتْها المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية الحديثة لا تقوم على أي ملاحظة تجريبية لكيفية اتخاذ الناس لقراراتهم أو على أي أبحاث في مجال العلوم العصبية؛ بدلًا من ذلك، وبخلاف التقدم الذي حدث في علمَي الفلك والفيزياء اللذين قامت فيهما النظريات على الملاحظة، فقد سار الأمر على نحو عكسي؛ فقد تم تطوير نظريات مقبولة عن كيفية اتخاذ الناس لقراراتهم الاقتصادية، ثم بُني كمٌّ كبير من القواعد من خلال الاستنتاج من تلك الافتراضات المبدئية.
لكن قد يظهر في النهاية أن تلك الافتراضات، رغم أنها تبدو ملائمة، خاطئة تمامًا؛ فالناس لا يتخذون قراراتهم اعتمادًا على معلومات كاملة؛ فهم لا يقارنون بين قيمة كل الاختيارات المتاحة لهم، كما أنهم يتأثرون بسلوك الآخرين (أو بسلوكهم هم أنفسهم في الماضي) عند اتخاذهم لقراراتهم. كما أن تفضيلاتهم أو أفكارهم عن القيمة تتأثر بالسياق. وبمجرد إقرارك بتلك الحقائق، يبدأ البناء الرياضي للفكر الاقتصادي بالكامل في التصدع من أساساته.
لكن يمكن توجيه اتهام مماثل للمدرسة الفكرية (الأقل تأثيرًا على نحو كبير) التي توجه معظم النظريات التسويقية الخاصة باتخاذ القرار. فنادرًا ما يحاول التسويق أن يكون له علم مستقل خاص به، لكن عندما يفعل، فهو بالتأكيد لا يحاول أن يكون علمًا تجريبيًّا. مرة ثانية، وكما هو الحال بالنسبة إلى الاقتصاد، فإن التسويق يضع افتراضًا للكيفية التي ينبغي أن يتأثر بها الناس في أي مسار لأفعالهم، ثم ينشئ مجموعة كاملة من «القواعد» المستنتجة من هذا الافتراض المبدئي. وهو يقرر أيضًا أفعاله على أساس وَهْم خطير جدًّا؛ وهو أن الناس يعرفون الآليات العقلية التي تقوم عليها قراراتهم وأفعالهم ويمكنهم بدقة وصفها.
إن ما فعله فيل في هذا الكتاب هو شن هجوم قوي وملائم التوقيت في المعركة ضد هذا المنهج الرجعي.
لذا، ورغم أن هذا الكتاب في ظاهره عن التسويق، فإن له تبعات على مجالات عدة بعيدة عنه تمامًا؛ فهو يضم بين جنباته مجموعة كبيرة من الأدلة العلمية التي توضح أن الناس لا يتخذون قراراتهم بالطريقة الشائعة والبسيطة التي يفترضها المسوقون (أو الاقتصاديون). لذا، وكما أن الاقتصاد كان غالبًا غير مدرك لأهمية مجموعة كبيرة من المشاعر والميول البشرية (مثل الندم أو تجنب الخسارة أو العدوى الاقتصادية أو تأثير الملكية)، فيبدو أن المسوقين على نحو مماثل غير مدركين لأهمية مجموعة كبيرة من المؤثرات اللاواعية التي تؤثر على عملية اتخاذ القرار البشري (مثل السياق أو تخفيف الأهداف أو التبعية للمسار أو التأطير).
لهذا السبب، فإن هذا الكتاب — بما يشتمل عليه من مجموعة كبيرة من دراسات الحالة والاقتباسات — لا غنى عنه بالنسبة للمسوقين، ولأي شخص يعمل في وكالة إعلان، أو وكالة تسويق رقمي، أو مجال أبحاث السوق، أو الإعلام. وهو مهم أيضًا لأي شخص يسعى لفهم الناس وتصوراتهم ودوافعهم؛ مثل الساسة، وصناع السياسات، وأصحاب شركات البيع بالتجزئة، ومصممي المنتجات، والمراقبين الماليين، والمُشرِّعين، وأصحاب الأعمال في كل المجالات.
أتمنى أن يكتشف كل هؤلاء الأشخاص الآخرين هذا الكتاب، فأنا أزعم أنه قد يجذب الأنظار في تلك المجالات أكثر من مجالَي التسويق والإعلان؛ والسبب في ذلك — كي أكون صريحًا — يتمثل في أنَّ رد فعل مجال تقديم الخدمات التسويقية تجاه الثورة المهمة الحادثة في العلوم السلوكية يكاد يكون معدومًا حتى الآن؛ فالاستجابة للأعمال المبكرة لكلٍّ من إيرنبيرج وجونز وستيفن كينج وغيرهم — التي تتحدى الافتراضات السائدة من خلال أدلة تجريبية حقيقية — تشير إلى أن المسوقين قد يستمرون في فعلِ ما يفعلونه غالبًا؛ أيْ يُبدون اهتمامًا بهذه المعلومات الجديدة وتقديرًا كبيرًا لها، لكنهم يواصلون القيام بمهامهم بنفس الطريقة التي يقومون بها دائمًا. قد يقول الواحد منهم لفيل: «كل هذا جيد، يا فيل، لكن اعذرني فأنا لم أصل للعدد المستهدف مني هذا الشهر من حالات الإعجاب على صفحتنا على موقع فيسبوك.»
أو، كما لاحظ أبتون سينكلير قبل فترة طويلة من الملاحظة العلمية لمفهوم «تجنب الخسارة»: «من الصعب أن تجعل أحد الأشخاص يدرك شيئًا عندما يعتمد دخله على عدم إدراكه لهذا الشيء.»
لكن دعونا نتحلى بالأمل. فبادئ ذي بدء، هذا الكتاب مميز في أنه ليس فقط يضم مجموعة مفيدة جدًّا من الملاحظات، وإنما يشرح أيضًا ما يجب علينا فعله في ضوئها؛ فهو أكثر من مجرد طريقة جديدة للنظر لعالم التسويق، على الرغم من أهمية هذا؛ إذ إنه دليل عملي جدًّا يخبرك بما يجب عليك أن تفعله على نحو مختلف في ضوء ما يقدمه.
كما أن توقيت ظهور هذا الكتاب ملائم جدًّا؛ فالمسوقون الأوائل، من بينهم ديفيد أوجلفي وَبيل بيرنباخ وَهاوارد جوساج، سعوا للوصول لمنهج أكثر فاعلية لفهم السلوك البشري (فَجوساج أسس شركة سماها جنراليستس المحدودة، التي كانت محاولة في ستينيات القرن العشرين للربط بين التسويق والعلوم السلوكية). وقد كان كل اختصاصيي التسويق المباشر الجيدين — وفيهم أول مدير لي، المدير الرائع درايتون بيرد — علماء نفس سلوكيين من الطراز الأول. وكل اختصاصي جيد في مجال التسويق يَعرف في داخله أن التسويق فيه منطقة عمياء كبيرة ومعيقة متعلقة بفهم السلوك الفردي والجماعي.
كانت المشكلة التي كان يواجهها الجميع حينها، من دون المفردات والنظريات الجامعة الحالية، أن التحدث عن تلك الأشياء يجعلك تبدو تافهًا وضيق الأفق. فلا يترقى أحد في عمله لتغيير الخيارات المتاحة في كوبون دعائي ما، حتى لو كان لهذا تأثير أكبر على المبيعات والأرباح من قضاء ساعات طويلة ومرهقة في مناقشة تفاصيل تصميم الإطار النهائي لإعلان تليفزيوني. بل إن مؤسسة #أوجلفي تشينج العاملة في مجال أبحاث العلوم السلوكية لها شعار يشدد على أهمية هذه الأشياء الصغيرة؛ وهو: «تجرَّأْ على أن تكون تافهًا.»
لكن الآن، وأخيرًا، أصبحت لدينا مفردات تناسب أهمية تلك النتائج؛ فأنا لم أعد «مجرد مصمم للكوبونات الدعائية»؛ فقد أصبحت «مصممًا للخيارات». وأخيرًا، فإن جوانب النشاط التسويقي التي كانت تحال على نحو عام للسعاة في الشركات بدأت تجد طريقها إلى مكتب مدير التسويق، أو حتى قاعة اجتماعات مجلس الإدارة.
إن هذه المفردات الجديدة، بالطبع، مثال جيد على «إعادة التأطير» في العمل.
يا له من شيء رائع!
مدير الإبداع التنفيذي ونائب رئيس شركة أوجلفي وان لندن،
ونائب رئيس مجموعة أوجلفي، المملكة المتحدة