ملحوظة هامشية جِدًّا
هذه الكتب التي أصدرتُها منذ بدأت كتابة باب «من مفكرة يوسف إدريس» في الأهرام كل يوم إثنين، ألقَتْ عليَّ شخصيًّا وعلى الحركة الثقافية والفنية المصرية والعربية سؤالًا لا يزال إلى اليوم مطروحًا، ولا زلتُ أُواجَه بالتساؤل في كل مكان: لماذا قلَّلتَ كثيرًا من إنتاجك القصصي والمسرحي، وكدتَ تتفرَّغ لكتابة المفكرة؟ صحيح إنها هامة — هكذا يقول المتحدث أو المتسائل — وتتناول أخطر القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية في حياتنا، ولكننا نضنُّ بكاتب القصة (وهنا يُضْفُون عليَّ ألقابًا لا أعتقد أني أستحقها)، نضنُّ بهذا الكاتب أن يُنفق جهده في هذا الجانب الصحفي، المفكِّرة، ولا يتفرَّغ كليةً لقصصه ولمسرحه.
والحقيقة أنني كثيرًا ما أُجيب السائل «بأي كلام»، فحين تتكرَّر نفس الأسئلة والتساؤلات مئات المرات، وأكون مضطرًّا لنفس الإجابات، تُصبح المسألة ليست مملةً فقط، ولكن لا فائدة البتَّةَ منها.
وغالبًا، وفي أعقاب كل محادثة كهذه، أتأمَّل المسألة فأجد أنها مسألة هزلية تمامًا، ولا بد لو غيرنا الزاوية قليلًا أن تتحوَّل إلى «نكتة» تُميت من الضحك. فالمتسائل يَعترف أن القضايا التي أتناولها تُعتبَر «أهم قضايا حياتنا في الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع …» باختصار أهم قضايا «الوجود» المصري والعربي، فهو إذن لا يَستنكرها، إنما يَستنكر أن تكون مكتوبة على هيئة مفكِّرة، ولا زلت أذكر تلك الخطابات التي جاءتْني ولا تزال تَجيئني من أرجاء وطننا العربي ومن العرب المقيمين في أوروبا وأمريكا، بل ومن أجانب، تُسائلني وتُعاتبني بنفس الطريقة، وهو عتاب مُضحِك! لأن أحد النقاد قد أرسل لي مرة تعليقًا على مفكِّرة «غطاء الفانوس» يقول: لو أنك بدلًا من كتابة رأس الموضوع هكذا: «من مفكرة يوسف إدريس» كتبت قصة قصيرة بقلم يوسف إدريس، لظَفرنا بقصة قصيرة من أبدع ما يكون. بل إنه ذكَر أن العكس يحدث لبعض الكُتَّاب غيري، فيكتبون: «قصة بقلم فلان»، وهي في الحقيقة مقالة.
وأعتقد أن القضية، ما دامت قد وصلت إلى هذا الحد، قد أصبحتُ في حاجة إلى معالجتها بحزم.
أيها القراء الطيبون، ما أكتبُه تحت عنوان «من مفكرتي» هو نوع جديد من الكتابة لم يأخذ حظَّه من الشيوع أو الاعتراف في بلادنا العربية، التي تُقسِّم الكتابة تقسيمًا إرهابيًّا متعسفًا، فهي إمَّا قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو مقالة.
صعب جِدًّا في ظل هذا التقسيم الإرهابي أن أقول إنَّ هناك نوعًا خامسًا يَجمع كل خصائص هذه العائلات الفنية، ويُسمُّونه مفكرات أو انطباعات، أو يُغالي بعضُهم حتى ويُسميه الشكل الحديث جِدًّا للقصة القصيرة في عالم اليوم، فهو يجذب القارئ من أول كلمة، وفيه دراما داخلية وموسيقى لغوية تركيبية، وخيط فني قصصي أكثر إحكامًا ربما من الخيوط الفنية التي تجدها في القصص القصيرة.
وإذا كانت مكانة أي فن ودرجة رُقيِّه تُقاس أوَّلًا بمقدار فاعليته، وليس بمقدار انتشاره، فقد يكون الانتشار راجعًا لأسباب لا علاقة لها بفنية العمل؛ فإني أقولها بصراحة إن هذا الشكل الذي أكتب به ما أُسمِّيه أو يُسمِّيه الأهرام من مفكرة د. يوسف إدريس، شكل فني خالص لا علاقة له البتَّة بشكل المقالة القديمة، كما كان يَكتبها العقَّاد أو المازني أو طه حسين، أو الكُتَّاب المعاصرون الذين يجلسون إلى مكاتبهم وفي نيَّتهم كتابة «مقالة» أو مقال، بمعنى عمل عقلاني له مقدماته ونتائجه العقلانية المدروسة بعناية لتؤدِّي إلى «إقناع» القارئ في النهاية بصحة رأي الكاتب.
هذه مقالات «رأي» وليست أعمالًا فنية.
والفرق بين مقالة الرأي والعمل الفني الذي أكتبه، هو الفرق بين أي موضوع تقرؤه في هذا الكتاب وبين هذا الموضوع نفسه لو كُتب على هيئة مقالة رأي، لها مقدمة ومدخل ووسط وعرض ونتيجة.
المسألة في الحقيقة ليست موضوعي البتَّة، وإنما هي موضوع ناقد خلَّاق جريء يتفحَّص الكتب التي أخرجتُها منذ بدأت كتابة المفكرة؛ وهي: «من مفكرة د. يوسف إدريس» جزء أول وثانٍ، و«الإرادة»، و«جبرتي الستينات»، و«عن عمد اسمع تسمع»، و«بصراحة غير مُطلَقة»، و«اكتشاف قارة»، و«م. د. م»، و«عزف منفرد»، و«خلو البال» …
إذا نظَرَ ذلك الناقد الذي أرجوه بتجرُّد أو بجرأة، وبرؤية تستكشف وتكتشف وتخلق، كما لا بد لأي ناقد حقيقي أن يفعل، فسوف يَطلع علينا برأي — كما ذكره الشاعر الكبير فاروق شوشة في أمسية ثقافية — رأي فيه مفاجأة لنا جميعًا، لكم ولي.