العظمة سيدة فاضلة
قطعت «جهيزة» قول كل خطيب. إني لا أذكر الآن وقد درست المثل في مقرر الأدب العربي في ثانوي القصةَ الدقيقة للمناسبة التي قيل فيها، ولكن ما أذكره أن قبيلة عربية قد اختلَفَت اختلافًا حادًّا حول شيء ما، فجاءت جهيزة، ويبدو أنها كانت واحدة من فصيحات وحكيمات العرب، كخنساء عصرها، وأدلت بدلوها ورأيها، فحسمت الأمر، وحلَّت المُشْكِل.
وأنا أقرأ خطاب السيدة العظيمة حرمَ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كانت آلاف الخواطر تَحتدِم في عقلي، أولها وعلى رأسها أن هذه السيدة سيدة عظيمة بكل ما تعني كلمة العظيمة من أبعاد ومواقف؛ فعلى مُضيِّ سنين طويلة كانت زوجةً لأكبر زعيم معاصر أنجبَتْه مصر والأمة العربية جمعاء، ولكنَّها أبدًا لم تنظر لنفسها يومًا على أنها زوجة لزعيم أو رئيس، ولا حتى نظرت إليه هو كما كان الناس يَنظُرون إليه، زعيمًا وقائدًا ملهمًا ورئيسًا، وإنما كانت تراه دائمًا الزوج ورب البيت والأب والأخ والحبيب. كان يهزُّ العالم بكلماته ومواقفه ويئوب إلى بيتها الواحة، كما ظلَّ يئوب طوال حياته، ليجد في كنفها الود والحب والحدب والحنان، كانت واحته الخضراء في قلب جهنم الحياة التي يحياها.
والواقع أني حين كتبتُ هنا تحت عنوان: رجاءان، كان عَقلي الباطن يُخاطب تلك السيدة العظيمة المتواضِعة، التي لا يُمكن أن ترضى بأن يكون شعب مصر في ضائقة ولا تخفَّ إلى مساعدته وتقديم كل ما تستطيع تقديمه من أجله. كنتُ موقنًا ومتأكدًا أنها ستفعل هذا، حتى وأنا أقرأ خطاب الدكتور خالد جمال عبد الناصر — الذي استنكره الكثيرون — لم أَستنكره أنا، حتى بما فيه من بعض الشطط؛ فالابن له الحق أن يشتطَّ إذا تصوَّر أن شيئًا من أبيه أو سيرة أبيه أو مخلفات أبيه ستَمسُّه يد. غير أن الغريب أني لم أَقترح أو أرجو أن يمسَّ شيء من استراحة الرئيسَين أبدًا، لا الاستراحات، ولا الحدائق المحيطة بهما، فليبقيا للأسرة كما قرَّر مجلس الشعب، فليتحولا إلى متحف ومزار يضم كل ما يتعلق بالرئيس من مخطوطات، وقرارات، ومحاضر اجتماعات، إذ هكذا يكرم الزعماء، وليس بأنه في سبيل عمل منطقة حرام حول الاستراحتَين تحتجز كمية من الأرض قال عنها رئيس شركة المعمورة إنها ٣٨٧ فدانًا، وقلت أنا عنها إنها أربعمائة، وطبعًا رقمه وتقديره هو الأدق.
لم يكن في ذهني كما قلت أن أغتال تركة أحد حتى لو كانت هبة أو ملكًا للحكومة، وإذا كانت مساحة كل استراحة خمسة فدادين والباقي تملكه وزارة الزراعة، فإن هذا لمما يُؤكِّد أن أحدًا لا يريد أن يمسَّ الاستراحتين، كل ما في الأمر أن بقاء هذا الكم الكبير من الأرض متروكًا بزعم أنه حدائق وهو ليس سوى بقايا أشجار من أشجار الجوافة، أي رأسمال قدره ملياران ونصف مليار دولار، أي خمسة مليارات من الجنيهات مرهونةً في سبيل محصول جوافة لا يتعدَّى ثمنه بضع مئات من الجنيهات، بل إن رئيس شركة المعمورة قال إن المنصرف على هذه الأشجار أكثر من ثمن محصولها بكثير؛ أي أنها تخسر. وضع كهذا هو الوضع غير المعقول تمامًا، وكل ما أطلبه، ما دامت الأرض ملكًا لوزارة الزراعة وتستطيع وزارة التعمير واستصلاح الأراضي أن تُحيلَها إلى مؤسسات أو حتى مزارع وزهور أكثر نفعًا بكثير أو مصايف عالَمية، أن يبادر الدكتور يوسف والي والمهندس حسب الله الكفراوي باستخدام هذا الكنز المخبوء؛ فالمسئولية الآن تقع على عاتقهما، ولا حُجة بعد خطاب السيدة حرم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي طلبَت رسميًّا إيداعه مضبطة مجلس الشعب، لا حجة لهما في التنصُّل من هذه المسئولية.
كل ما في الأمر أنني لمحت في خطاب السيدة العظيمة ما يُشبه التأنيب، فهي لم تقصر في خطابها على فتح الأرض المغلقة للاستغلال المنتج وإنما أيضًا تنازلت عن الاستراحة المخصَّصة لها وحديقتها هي الأخرى.
وهو أمر لا يرضاه أي مُخلِص لهذا الشعب؛ فنحن لم نطالب أبدًا «بإخلاء» الاستراحة أو هدمها (كما تصور خالد عبد الناصر أو صُوِّر له) إنما طالبنا فقط بالتخلي عن الأرض المَحجوزة على ذمة «حرم» للاستراحتَين.
وربما كان هذا «الحرم» لازمًا لضرورات الأمن أيام حياة الرئيسَين جمال عبد الناصر أو أنور السادات، أمَّا الآن فقد زالت هذه الظروف ولم يَعُد يُهدِّد العائلتَين أيُّ مخلوق. فما الداعي لهذا الحرم الأمني الهائل في ظروف تَعتصِر الشعب كله اعتصارًا من أجل توفير خمسمائة مليون جنيه، أي عُشر قيمة هذه الأرض.
لقد كتَب الزميل والصديق العزيز الأستاذ محسن محمد مقالًا رائعًا يقول عنوانه «الكرة الآن في ملعب السيدة جيهان السادات»، وأنا لا أَعتقِد أبدًا أنَّ آل المرحوم أنور السادات سيتَّخذون من هذه القضية موقفًا مختلفًا أو مُنفردًا، كل ما في الأمر أني أعتقد أنهم يُريدون أخذ موقفهم الخاص وبطريقتهم الخاصة حتى لا يُقال إن موقفَهم كان تاليًا أو متأثِّرًا بموقف عائلة الرئيس جمال عبد الناصر. وهذه — إذا كان تخميني صحيحًا — مسألة واردة ومشروعة.
فلو فطنَ الصديق خالد عبد الناصر إلى أن هذا العمل الجليل الذي قامت به السيدة والدته، أو الذي ستقوم به العائلتان، ستَعتبرُه الأجيال القادمة والجيل الحالي موقفًا وطنيًّا عظيمًا يُضاف إلى رصيدِ والده ويُعليه، ولن يُعتبَر بأي حال من الأحوال «اعتداءً» على تراث الوالد، إنما إضافة له وإضافة لرصيد عائلته ومواقفها الوطنية التي لا تخفى على أحد.
إني في الحقيقة وأنا أضع للمقال عنوانَ «رجاءان» كان في اعتباري أن يَزداد تقدير الشعب المصري لعائلتَي الرئيسَين، وليس الحط من القدر أبدًا أو العدوان.
شيء آخر أودُّ إضافته، اسم المقال رجاءان، والرجاء الآخر كان موجهًا للمُشير عبد الحليم أبو غزالة بنقل ثكنات الجيش التي لا تُقدَّر بثمن من قلب القاهرة إلى حيث يجب أن تكون على أطراف صحرائها، هذا الرجاء لم أسمع من يُلبِّيه أو حتى رد عليه، وما زلت في انتظار أن أسمع من السيد المشير جوابًا.
•••
وهذا المقال الماضي الذي أتحدث عنه له قصة، فقد كتبته يوم الأربعاء ٩ أبريل، أي قبل نشره يوم الاثنين ١٤ أبريل بخمسة أيام، وذكر لي مدير تحرير الأهرام الأستاذ سلامة أحمد سلامة أن باب العصفورة في جريدة الوفد الغراء قد أشار إلى شيء من هذا، فقلت له: زيادة الخير خيرَين، وعلى العموم أنا أَعتقِد أن لي طريقتي المُختلفة في معالجة الموضوع.
أمَّا الذي لا أُوافق عليه مُطلقًا، فو أن يتَّخذ هذا الموضوع ذريعة لهجومٍ ضارٍّ على عبد الناصر الزعيم الذي وضَع اللبنات الأولى لمصر حديثة مُتخلِّصة من رجعيتها وإقطاعيِّيها وتبعيتها للإنجليز وللغرب.
إن عبد الناصر الذي تُهيلون عليه كل هذه التُّهَم لم يتهجَّم مرة واحدة على سعد زغلول أو ثورة ١٩ أو يُشكِّك ولو بالتلميح في ذمة قائد مِن قُوَّاد الوفد، سواء كان سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو فؤاد سراج الدين. اختلِفوا مع سياسة عبد الناصر كما تشاءون، راجِعوا كل ما حدث في عهده مراجعة المصريين الوطنيين الذين ينظرون بكل حيدة وموضوعية إلى كلِّ ما حدَث في عصر عبد الناصر. وليكن لكم فيما فعله الأستاذ الكبير مصطفى أمين درسًا، إنه لم يَنتهِز فرصة حكاية الأرض المحيطة بالاستراحتَين ليصبَّ جام حقده على عبد الناصر أو السادات، الذي سُجن في عهد الأوَّل تسع سنوات، ومُنع من الكتابة في عهد الثاني، ولكنه تحدث بموضوعية ومن مُنطلَقٍ مصري يَحرص على ثروة مصر وإمكاناتها ويُريد تنميتها.
•••
وبعد …
الكرة لم تُصبح في ملعب السيدة جيهان السادات فقط، ولكنَّها أصبحَت حقيقة في ملعب مجلس الشعب، وأخوفُ ما أخافه أن تأخذ بعض الأعضاء العنجهية والعاطفية فيُهملوا الموضوع أو يأخذوا قرارًا بالاعتذار عن عدم قبول خطاب السيدة حرم الرئيس عبد الناصر. لو حدث هذا فلن أترك ولن يترك غيري طوبة في مصر دون أن يؤلبها ضد هؤلاء الأعضاء، ولا أريد أن أستبق الحوادث لأقول إن شيئًا كهذا لو حدث لأثبت أن هؤلاء الأعضاء أبعد ما يكونون عن تمثيل الشعب، فإني متأكد أن الوطنية والحمية القومية والحرص على ثروات الشعب ومصالحه هي التي ستتغلب وتنتصر.
إني أناشد الصديق الدكتور ميلاد حنا رئيس لجنة الإسكان في مجلس الشعب أن يضرب على الحديد وهو ساخن. وهو ذلك المهندس وأستاذ الهندسة المُعلِّم، يستطيع مع اللجنة أن يبتكر طرقًا للاستفادة الفورية من هذه الأرض، بحيث تُوضَع في التو موضع التنفيذ.
فإن تأجيل التنفيذ، والتراخي في التنفيذ، وضياع الوقت بين أخذ ورد، هو الفقر بعينه. فقد قلت مرةً: إنَّ الزمن هو الثروة الضائعة التي لا نراها.
والزمن يُقاس بالسرعة، والتباطؤ فقر، والثروة أفكار سريعة تُدرس وتُنفذ على عَجل.
•••
بقيَت كلمة أخيرة يعزُّ عليَّ أن أوجهها لقراء هذه المفكرة، فمن أكوام خطاباتهم أدرك كم يعتزُّون بها وبكاتبها، ولكني أيها الأصدقاء أكاد أموت همًّا لأنَّها شغلتني تمامًا عن عملي الرئيسي والأساسي ككاتب قصة ومسرح، ولذلك أستأذنهم في عدة أسابيع أقضيها أنجز فيها أكثر من عشرين قصة تلحُّ عليَّ إلحاحًا لم أَعُد أستطيع معه صبرًا، وعلى العموم أرجو حين تُنشَر أن يجدوا فيها ربما خيرًا أكثر مما يَجدونه في هذه المُفكِّرة.
لقد كتبت خلال السنوات الكثيرة الماضية، منذ حوالي عام ٧٤ إلى الآن أكثر من خمسمائة وثمانين موضوعًا في هذا المكان، وأعتقد أن في هذا إجحافًا كبيرًا لما خُلقت له؛ فمُقابِل هذا لم أكتب سوى عشر قصص.
فوداعًا وإلى لقاء إن شاء الله، وإذا أذنَ الرحمن بعمر أطول، إنه على كل شيء قدير.