ذاهب لرؤية المعجزة
في طائرة تَنطلِق، من فرط سرعتها، بلا سرعة، كان المغرب يقترب بسرعة غير عادية تمامًا، تركتُ القاهرة، في الثالثة بعد الظهر، وبعد أقل من ساعة ونصف، ها هي ذي الشمس موشكة على المغيب، مما ذكَّرني بأول سفر إلى الشرق الأقصى وكان معنا في الطائرة المرحوم يوسف السباعي. ما أقل ما يَذكُرُه من كان صاحب جمائل لا تُحصى عليهم، وما أكثر ما يذكره من أساء لهم ونفَّذ بانضباطٍ تام أوامر السلطة تجاهَهم! وكان — رحمه الله — صائمًا، وكنا في رمضان، وكنتُ أعتقد أنه قد أمسك بتوقيت القاهرة وغربت علينا الشمس في طريقنا إلى الهند في الرابعة بعد الظهر بتوقيت القاهرة، فهل يُفطِر وقد غربت الشمس الآن؟ بل الأدهى أنه قد ثبَت أنه كان في طرابلس الغرب «ليبيا» لحضور المؤتمر الآسيوي الأفريقي هناك، فإنه أمسك عن الطعام والشراب بتوقيت طرابلس؛ أي في الواحدة ليلًا بتوقيت القاهرة. ويومها بدت لنا المشكلة محيِّرة تمامًا نحن الكُتَّاب أعضاء الوفد المصري إلى مؤتمر الكُتَّاب في الهند عام ٧١. وأذكر أنَّ قبطان الطائرة الذي كان واضحًا أنه مُتبحِّر في علوم الدين والطيران معًا وفروق التوقيت قد أفتى بأن على يوسف السباعي — وحده — أن يُفطِر بتوقيت المدينة التي أمسك فيها عن الطعام والشراب. ويومها بدت المسألة غير معقولة؛ فقد كان عليه أن يتناول إفطاره في الحادية عشرة مساءً. ولكن كان واضحًا أنها الفتوى الوحيدة التي لها منطق، حيث يحتفظ للصائم بساعات محدَّدة لا بد أن يصومها؛ لأنه لو اتبع طريق الشمس لضلَّ؛ فالشمس كانت قد اغتالت من نهار طرابلس ست ساعات يومها، ويوم ١٧ سبتمبر الماضي كانت عند الغروب قد اغتالت من يومي ساعتين، أول دفعة من دفعات الاغتيال؛ فقد كان عليها أن تَغتال سبع ساعات أخرى حتى أصل إلى طوكيو وقد فقدت من حياتي مقدمًا نهارًا بأسره وسأَكسبه بعد نهاية رحلتي حين أستعيد تلك الساعات التسع المغتالة.
أعتذر للقراء أنني قد أدخلتهم هكذا مرةً واحدة في حسبة كحسبة «بِرمة»، ولكن ماذا أفعل، والإنسان ما إن يبدأ يرحل ويُسافر حتى يبدأ يحسب. إننا نحيا في قاهرتنا العزيزة بلا أي حساب بالمرة، بل يُخيَّلُ إليَّ رغم كثرة عدد الساعات التي يحملها الناس في القاهرة، ملايين الساعات ربما، أننا من الممكن أن نَستغني عنها كلها دون أن يختلَّ نظام الحياة — إن كان لحياتنا نظام — قيد شعرة أو أنملة. بل أكاد أقول إننا في حاجة إلى ساعات تدور إلى الخلف أو كما يقولون باللغة العِلمية عكس اتجاه عقارب الساعة، فحين عُدت إلى القاهرة بعد غيبة عن أحداثٍ وقَعَت منذ عشرين وثلاثين وخمسين سنة وكأنها الأحداث الواقعة الآن. إن موضوع الساعة عندنا دائمًا هو الماضي، أمَّا الحاضر فحرام أن نتحدَّث عنه إلا بعد أن يُصبح ماضيًا معتقًا تمامًا. إن ساعتنا الميقاتية تؤخر دائمًا بمعدَّل لا يقل عن الربع قرن بأي حال من الأحوال، وللأسف ليس هناك ساعاتي في الدنيا — إلا نحن — يستطيع إصلاحها.
ولكن …
لنَدعِ الحديث عن الساعات والزمن؛ فالزمن يبدو أنه ليس في صالحنا، ويبدو أننا نحن الآخرين لسنا في صالح الزمن؛ فنحن لو التزمنا بالزمن لتشكَّل بطبيعتنا وأخرناه وربما أفسدناه. فليمض الزمن كما يحلو له، ولنتركه، ولنترك غيرَنا من الأمم المجنونة تمضي معه، ولنُخلِص نحن لزمننا الماضي الذي يدور عكس عقارب الساعة، وما دام العالم يتسابَق في أن يتقدَّم الزمن ويتقدم بالزمن فلنتسابق نحن في التقدُّم متأخرين بالزمن، ولنَثِق بأن أحدًا لن يَسبقنا في هذا المضمار!
•••
مرةً أخرى إذن — بعد خمسة عشر عامًا — أنا في طريقي إلى آسيا، في طريقي إلى البلاد التي يَسكُنها أكثر من نصف عدد سكان الكرة الأرضية، ومع هذا فما أقل ما نعرفه عنها! نعم نحن نتحدث كثيرًا عن المعجزة اليابانية، وعن العملاق الصِّيني ذي المليار إنسان، وعن بلد البطولات فيتنام، وعن حبيبتَينا إندونيسيا وسنغافورة ومُسلميهما، وعن لاوس وكمبوتشيا أو كمبوديا، وعن المشهورة جِدًّا أفغانستان ومُجاهِديها، ثم أخيرًا وليس آخرًا عن مُعجزة الديمقراطية في العالم الثالث؛ الهند ذات الثمانمائة مليون والثمانمائة لغة وعشرات الديانات والمقاطعات والولايات، ومع هذا تبقى واحدة متَّحدة، يُغتال زعيمها غاندي فتبقى ديمقراطية، يموت نهرو فتبقى ديمقراطية، تُعزل رئيس وزرائها في انتخابات تجريها بنفسها فتبقى ديمقراطية، تُغتال أنديرا فتبقى وستبقى ديمقراطية، المسلمون فيها — هكذا قال لي زعماؤهم — أسعد كثيرًا من مسلمي الباكستان ولا يرضَون عن الهند وديمقراطيتها بديلًا.
بل أنا في طريقي على وجه التحديد إلى اليابان أوَّلًا، بدعوة من وزارة خارجيتها؛ إذ كنت عقب زيارتي الأولى لليابان عام ١٩٧١ قد نشرتُ سلسلة من المقالات في أهرامنا العتيدة عن آسيا وعن اليابان بالذات وجمعتُها في كتاب، وظلَّ هذا الكتاب مجرد كتاب إلى أن جاء إلى مصر سفير ياباني نشيط هو السيد كاتوا اكتشف الكتاب وترجمَ له إلى اليابانية، وقرأه، ثم سألني عبر لقاء بالصدفة: لقد قرأتُ كتابك وعرفت ما كتبتَه عن اليابان منذ خمسة عشر عامًا، أتحبُّ أن تعرف ماذا حدث لليابان خلال هذه المدة؟
ولأنه كان يعرف أن إجابتي ستكون بالإيجاب فقد أردف قائلًا: إننا ندعوك لزيارة اليابان.
وقد كان.
•••
كانت المسافة بين البحرين، أول محطة لهبوط الطائرة، ونيودلهي، المحطة التالية، مسافة تأنيبٍ لنفسي، حماكم الله من تأنيب النفس. كان ذنبي الأكبر في نظر نفسي ذلك القرار الذي اتخذتُه وحدثتُ به القراء. كنت خلال شهر يوليو الماضي قد وصلتُ بالضيق من نفسي ككاتب قصة إلى حدٍّ مؤلم للغاية. إن الصحافة كما يَعرفها المشتغلون بها غُول لا يَرحم، والكتابة إليها مثل إلقاء الحطب إلى فم فرن مُشتعِل تأكُل ناره كل ما يمكن أن يكون لديك من حطب ومن وقود ومن أثاث بيتك حتى إن لم تجد. وجلست يومًا أقلِّب فيما نشرتُه خلال الأعوام العشرة الماضية، فوجدت آلافًا من المقالات والانطباعات والانتقادات، وقليلًا جِدًّا من القصص، ومسرحية واحدة لا تزيد. وغضبت نفسي غضبًا شديدًا. وحاولتُ تهدئتها بأقوال مثل: تلك كانت مصالح ناس، وأمور تُهم المواطنين والوطن، ولم تكن عبثًا، ولكن ضميري الفني كان قد استيقظ، ولم يَعُد هناك سبيل إلى إسكاته.
لم يعد هناك سبيل إلى إسكاته إلا أن أفرغ نفسي تمامًا من أي شيء، ومن الاهتمامات اليومية المباشرة، وأن أُهاجر هجرة داخلية مؤقَّتة إلى عالم الفن والقصة. ونفَّذتُ القرار. وكتبتُ أُخبر رئيس التحرير والقراء. وفعلًا انتهيتُ خلال أغسطس من أربع قصص. وأرضيتُ ضميري بعض الشيء. وكنتُ معدًّا نفسي للتفرغ تمامًا لعالمي هذا الحقيقي، ثم جاءت هذه السفرة، مغرية أشد ما يكون الإغراء، قاطعة عليَّ ما كنت قد بدأتُ السعادة به، وها أنا ذا في الطائرة الذاهبة، وها أنا ذا أقطع الخليج العربي والمحيط الهندي مُندفعًا كالطلقة الشاردة إلى الشرق، فلماذا تأنيب الضمير؟
كأنَّ تأنيب الضمير سببُه أني أعرف أني لا بدَّ أن أكتب عن هذه الرحلة إذا عُدت، لا بحكم الواجب، ولكن للالتزام بأن يُقدِّم الكاتب لقارئه أحدث ما ورد إلى عقله من رُؤًى وخواطر. ومعنى هذا أن أعود لكتابة المُفكِّرة قبل أن أستطيع نشر آخر ما كتبتُه من قصص؛ فالقصص ليس لها موعد عاجل لا بدَّ من نشرها فيه وإلا فسدت، أمَّا الأخبار والانطباعات فإنها لا بدَّ تفسد، أو تتحوَّل إلى شيء آخر إذا مرَّ عليها وقت.
فلأتقبل إذن ما شاء الضمير أن يصبَّه عليَّ من تأنيب، ولا بأس من إعطاء الفرصة لزملائي الكُتَّاب ليقولوا فيَّ ما شاءوا لبضعة أسابيع أخرى، ولأكتب للقراء بشكل عام ليس عن أغنى رحلة في حياتي، ولكن عن أهمِّها على وجه الإطلاق.
ذلك أني رحبتُ بالرحلة لأني كنت أريد أن أجد حلًّا لهذا اللغز الياباني الذي استعصى على الحل.
المعجزة اليابانية.
أمريكا تَفرض ضرائب جمركية لحماية بضائعها من المنتجات اليابانية، ٤٥ مليار دولار فائض ميزان المدفوعات لصالح اليابان.
رئيس وزراء اليابان يطلب من اليابانيِّين أن يُقلِّلوا من العمل حتى لا يضيق العالم باليابانيِّين ويُعاديهم.
الحكومة اليابانية تُعطي للعاملين إجازات بالأمر، والعاملون يرفضون الإجازات.
كنت كما قُلت قد زرت اليابان منذ خمسة عشر عامًا، إذن الواقع الياباني ليس غريبًا عليَّ، ولكن «المعجزة» لم تكن قد وقعت بَعدُ، ولم تكن اليابان بعدُ قد أصبحت الدولة الصناعية الأولى في العالم، والآن بعد أن حدث هذا، فماذا يُمكِن أن يكون قد حدث غير ما رأيت؟
وهل صحيح هناك معجزة؟
وما سرها؟!
•••
تلك كانت الأسئلة التي دارت في عقلي فيما بين نيودلهي عاصمة الهند وبانجوك — المحطة التالية — عاصمة تايلاند.
الرحلة أصبحت مُرهِقة كأشد ما يكون الإرهاق، وشكرًا للأبطال الذين يخطفون الطائرات المدنية ويَقتُلون النساء العزَّل باسم الكفاح والثورية، فقد تعقَّدت الإجراءات في مطارات العالَم بطريقة مزعجة تمامًا. زمان كانت الطائرة تتوقَّف لتتزود بالوقود والطعام، وكان الركاب يجلسون آمنين أو نائمين في الرحلات الطويلة لفترة لا تتعدَّى الخمس والأربعين دقيقة، بانتهائها تُقلع الطائرة.
الآن لا بد من هبوط ركاب «الترانزيت» كما يُسمُّونهم، وفحصهم إلكترونيًّا وجسديًّا هم وحقائب يدهم وهم داخلون إلى مطار الترانزيت، ثم إعادة فحصهم وهم عائدون إلى الطائرة. وكل هذا يَحدث في الثالثة صباحًا مثلًا، في أحلى ساعات النوم، سواء بتوقيت بلدك أو البلد الآخر.
ولكن كان عزائي أني سأَقضي من بانكوك إلى طوكيو ستَّ ساعات كاملة دون إزعاج ودون ترانزيت ودون تفتيش، آمُلُ أن أقضيها نائمًا، مُستغرقًا في نوم عميق، فأنا سأَصِلُ إن شاء الله إلى طوكيو بعد الظهر من يوم غد، وعندي مواعيد في طوكيو في مساء الغد، هكذا قرأتُ في البرنامج الياباني الدقيق الذي وُضع لزيارتي مع مشاورات ومُناقشات ومراسلات بين القاهرة واليابان استغرَقَت أسابيع كثيرة وأنهكت العزيزة مس كينو المستشارة الثقافية بسفارة اليابان حتى أشفقتُ عليها.
ولكنِّي لم أنَمْ.
ولا لحظة واحدة.
•••
من أجمل وأروع التسبيحات التي يقولها المؤذِّن قبل أذان الفجر، شرط أن يكون تسبيحه بلا ميكروفون مُزعِج مقلق، وشرط أن يكون الإنسان مستيقظًا لتتلقَّاه حواس صاحية، ذلك التسبيح الذي يقول:
سبحان فالق الإصباح.
وجدتُ نفسي تكاد تجيش بالبكاء وأنا أرى الفجر يُولد بتوالٍ سريع أمامي. حين تحدث التغيُّرات الكونية بسُرعتها العادية لا يكاد الإنسان يحسُّ بها، وكأنما قد كيَّفَت سُرعتها، أو كيَّفَ المولى سرعتها، كي لا يَضطرِب الإنسان لحدوثها، أما والإنسان قد صنع أشياء تستطيع أن تُسرع حتى بالتغيُّرات الكونية، مثل النفاثات الحديثة، فإن مشاهَدة ذلك التغيُّر تُحدِث في النفس هزةً وجياشًا عاطفيًّا يكاد ينطق.
اختصرت الطائرة النفاثة المسافة والزمن معًا ما بين الثالثة صباحًا والخامسة والنصف، موعد شروق الشمس في أي مكان من العالم، حتى ذلك المكان في بحر الصِّين العظيم الذي كنتُ فيه، فيما لا يتجاوز الساعة. وفي تلك الساعة، شاهدتُ لأول مرة في حياتي كيف يُولد النهار، كيف يُصنع الفجر، كيف يَنتهي الليل، كيف يحدث للكرة الأرضية، وكيف يحدث لنا ذلك التغيُّر الكوني العظيم، ومن الظلام يأتينا النور، ومن ضوء القمر الملوَّن للأشياء يأتينا ضياء الشمس الساطع الواضح الحار.
أُحملِق من خلال نافذتَي الطائرة المُقابلتَين لمقعدي فأرى اللوحة متحرِّكة وكأنما يَرسمها فنان ساحر باستطاعته أن يُغيِّرها باستمرار، بحيث لا تثبت على مشهد واحد، حمرة عبثية باهِتة تبدأ، رفيعة مُضطرِبة لا معنى لها، تتزايَد، يَزرقُّ لها الظلام وأبدًا لا يَحمر، تتغامَق حمرتها هي لتُصبح ويا للغَرابة برتقالية داكنة، ثم فاتحة، ثم باهتة الاصفرار مختلطة بباهت الزُّرقة حولها، وكل شيء مُتداخِل في كل شيء، السحاب مع السماء مع الأزرق مع الرمادي مع الأصفر مع البرتقالي مع بقايا الأسود.
ثبَّتُّ أنا المنظر في عيني إذ كان من المحال تثبيتُه في الواقع، وهززتُ رأسي لأني تذكرتُ تمامًا أني رأيتُ هذا المشهد قبلًا، بل بالذات رأيتُه من خلال عدسة ميكروسكوب، أول وجود لجنين الكتكوت في بياض البيض، يا سبحانك يا رب، إن ميلاد كل شيء واحد، جنين الإنسان، كجَنين الكتكوت كجنين الفجر، كجنين التغير، كجنين الفكرة، كجنين الخروج عن المألوف، الصورة بحذافيرها واحدة وإن اختلفت الألوان، إحساسك به واحد، هي الحياة تَدب، حتى التغيُّر والتغيير في الجماد حياة، والميلاد واحد، وخروج الميت من الحي كخروج الحي من الميت، كولوج الليل في النهار، كولوج النهار في الليل، كانبثاق الأمل في اليأس المطبق أو عنكبة اليأس في الأمل الممتد، يا إلهي!
لحظات مضت في ساعة كاملة من الزمن.
اللوحة تأخذ بالألباب ويَخفِق لها القلب وتتهدج الأنفاس، حتى لكأني أُشاهِد معجزة!
وتلك هي المعجزة الوحيدة التي شاهدتُها في رحلتي.
أمَّا اليابان التي ذهبتُ لأشاهد معجزتها، فلم تكن هناك معجزة على وجه الإطلاق.
ولكن كان هناك شيء آخر.