الإنسان الآخر
بهذه الرحلة أكون قد غطَّيت — تقريبًا — سطح الكرة الأرضية، وتعرَّفت إلى معظم أوطانها وشعوبها، والحقيقة أني بدأتها مجرد رحلة أخرى من الرحلات. ولكني حين انتهيتُ منها أحسست أنها فريدة، بل رحت أؤنِّب نفسي أني أجلتها إلى هذا الوقت، بينما هناك بلاد كثيرة معظمها في أوروبا رأيتها أكثر مِن مرة، وضيَّعتُ فيها أكثر من وقت.
كنتُ أقول لنفسي وأنا في الطائرة: حسنٌ، ها أنا ذا في طريقي إلى الشرق، في عكس اتجاه الشمس، كلما مضَت بنا الطائرة أمعن اليوم في مضيِّه حتى حلَّ علينا الظلام وساعتي تُشير إلى الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة. ظلام سبب مشكلة ليست هينة لراكب عربي صائم؛ فهو كان من طرابلس عقب حضور مؤتمر هناك، وفقط غيَّر الطائرة في مطار القاهرة. ولكن المشكلة أنه كان صائمًا — إذ كُنَّا يوم اثنين — فهل يفطر وقد غربت الشمس الآن، بينما الساعة تُشير إلى الثانية بتوقيت القاهرة، وربما الثانية عشرة أو الواحدة بتوقيت طرابلس؟ وبدَت لي المشكلة محيرة، فها هو المغرب أمامنا قد حلَّ والدنيا ظلام تام. أوَليس هذا ميعاد الإفطار؟ حلَّ لنا المشكلة قبطان الطائرة الذي كان واضحًا أنه متبحر في الدين؛ فقد أفتى بأن على الراكب أن يُفطر بتوقيت المدينة التي أمسك فيها عن الطعام والشراب؛ أي بتوقيت طرابلس. وقد بدت الفتوى أول الأمر غير معقولة، فقد كان على الرجل أن يفطر في تمام الحادية عشرة مساءً، ولكن كان واضحًا أيضًا أنها الفتوى الوحيدة التي لها منطق يَحتفظ للصائم بساعات محددة لا بدَّ أن يصومها؛ لأنه لو اتبع طريق الشمس لضلَّ؛ فالشمس كانت قد اغتالت من نهار طرابلس ست ساعات، وربما أكثر. أنا في طريقي إذن لآسيا، إلى البلاد التي تُشرق فيها الشمس قبل شروقها في القاهرة بربع يوم على الأقل. آسيا حيث الهند المُبهدلة ذات الخمسمائة مليون، والصين الخرافية ذات التسعمائة مليون، وباكستان واليابان ذات المائة، وتايلاند وإندونيسيا وسنغافورة وكامبوديا ولاوس ذوات المائتَي مليون، ناهيك عن فيتنام وكوريا وماليزيا والفلبِّين … في طريقي إلى بلادٍ يسكنها أكثر من نصف عدد سكان الكرة الأرضية، ومع هذا ما أقل ما نعرفه عنها؛ إننا لا نَعرف عنها إلا ما تنشره الصحُف من أخبار معاركها أو مجاعاتها أو كوارثها الطبيعية.
الهند ليست في نظرنا سوى غاندي ونهرو وأنديرا وبضعة أفلام هندية رأيناها.
اليابان ليست سوى ضحية أول قنبلتَين ذريتَين والراديوهات الترانزستور والبضائع التي تُغرق السوق، وبالنسبة لي — على الأقل — قصيدة حفظناها في الثانوية لشاعر النيل حافظ إبراهيم عن غادة يابانية «صفراء؛ ذات صفر تُنسي اليهود الذهب»، عشقها — في الصغر طبعًا — وصارت تُحدثه عن وطنها وضرورة خدمته.
ولكن الحقيقة أني — بيني وبين نفسي — كان لي هدف آخر. كان هدفي الأوَّل أن أَلتقي وجهًا لوجه بهذا الإنسان الآسيوي، الإنسان الذي صنَع المسير الطويل وثورة الصين العظيمة، الذي يَخوض بنجاح تجربة الاشتراكية الديمقراطية في الهند، الذي بعد قسوة الهزيمة في اليابان انتصر، وأصبحت به ثالث دولة في العالم بعد أمريكا وروسيا، والذي يتبدَّى لنا الآن — وعلى مسمع ومرأى من العالم أجمع — كفَّة هذا الكم من البطولة الذي يحتويه وهو يُناضل الاستعمار الأميركي في فيتنام.
لماذا هو هكذا هذا الإنسان؟
ما هي طبيعته؟
ما هو طبعه؟
مَن هي المرأة فيه وكيف؟
من أين جاءته هذه الطاقات الروحية الخارقة حتى ليُحوِّل الهزيمة إلى انتصار، وحتى ليرسي الرعب — مهما كان قليل العدد — في قلب دولة كبرى كأمريكا نفسها؟
ذلك كان هدفي الحقيقي، كنتُ متأكدًا أني حتمًا سأعثر على الجواب.
•••
كنتُ متأكدًا أنها ليست فقط رحلة عبر المكان، ولكنها أوَّلًا رحلة لقلب إنسان، لروح إنسان، كنتُ متأكِّدًا أني سأُفاجأ وأُذهل، أني سأتعلَّم، أني سيَحدُث لي تحول رُوحي هائل، وأني حتمًا سأتغيَّر، وأيضًا — وهذا هو المُهم — كان الهدف من أجلنا نحن وما من مرة خرجتُ فيها إلا وكان الهدف نحن، وما من مرة سعيت فيها لرؤية شعب آخر إلا وكان الهدف شعبي، وبالذات الآن، وبالذات حين تصير حركتنا إلى مأزق.
والحق أن إنساننا في مأزق. التاريخ قادنا إلى مأزق. وأحيانًا تُغيم الدنيا ولا تتبدى بارقة أمل. أحيانًا يبدو كما لو كان حكم التاريخ لا يَقبل النقض، وكأنما حلَّت اللعنة.
أقول أحيانًا لأني أرى — ودائمًا أرى — وراء الحناجر الضاحكة في سخرية عصبية استعدادًا قاهرًا مهولًا ليومٍ نَضحك فيه بحق وعن حق، ليوم ننتصر، ليوم نستعيد فيه تمامًا الثقة بالنفس، والقدرة وفاعلية العمل، ليوم نعود نُلقِّن فيه العالم درسنا الأوَّل، أننا أصل الحضارة، أننا بعدُ لا زلنا الأرقى والأشجع والأكفأ. وفي مثل هذه المآزق التي يَضعنا فيها التاريخ يُستحسَن أن نَنفتح على العالم كي نطفو ونَنجو، ننفتح لكي نرى غيرنا ويرانا الغير، نَنفتح لكي نتعلَّم، وما أروع أن نتعلَّم من أرقى مثل.
وفي طوافي ببلاد الناس لم أجد خيرًا من الإنسان الآسيوي زميلًا في المآزق، نتطلَّع إليه ونقترب منه، ونتعلم.
أنا إذن في طريقي إلى الإنسان الآسيوي.
ورغم هذا لم أكن أتصور أنه إنسان يَختلف عَنَّا إلى هذه الدرجة، طبعًا توقَّعتُ أن يكون مختلفًا، ولكن لم أتوقع أن يصل الاختلاف إلى درجة أنه يكاد يكون نوعًا آخر من البشر، وهو ليس كاملًا أبدًا كما أردته، ولكن ليس فيه أيضًا ما توقَّعتُ من نقائص.
أين يكمن الاختلاف؟ وأيضًا أين يكمن التشابه؟ لا أعرف ولكن سأُحاول، دون ترتيب، أن أضع على الورق بعض انطباعاتي. إنَّ انطباعي السريع الأوَّل أن الإنسان في آسيا ليس غريبًا من الناحية الشكلية البحتة عَنَّا في العالم العربي. في الهند مثلًا وفي تايلاند وفي الفلبِّين وحتى في طوكيو كنتُ أرى دائمًا وجوهًا عربية، أو لا بدَّ في رأيي أن تكون عربية، أو، وهذا هو الأصح، نحن قطعًا — وبالذات وجهنا البحري — آسيويون مائة في المائة.
إنَّ المغول والتتر والآسيويين تركوا بصماتهم الشكلية في نَسلِنا هنا، حتى إني وأنا أسير في القاهرة الآن لا أستطيع أن أمنع نفسي من رؤية أشكال الناس، وبالذات البنات والسيدات لأردَّهن إلى أصلهن الحقيقي في القوقاز والتركمانستان والقازاكستان وكشمير والبنجاب وسيام وجزر اليابان.
لقد أدركتُ أن الملامح التي نُسمِّيها مصرية أو عربية ليست كذلك في الحقيقة، فحقيقة أمرها أنها آسيوية جاءت من الصين، وبالذات من أواسط آسيا.
ولكن العيون مختلفة، إنها ما أجملها من عيون! لقد حزَّ في نفسي أن بعض اليابانيات يَلجأن لجراح العيون لمد فتحتها لتُصبح كالعيون الغربية أو الأوروبية، في حين أن جزءًا لا يتجزأ من جمال تلك العيون هو ذلك الحيز الجلدي الذي يفصلها عن الأنف، والذي تتميَّز به معظم العيون الآسيوية.
لها إذن — تلك القارة — طريقتها الخاصة في الجمال، ولها أيضًا قيمتها الخاصة. والتشابه الخارجي بين إنسان الشرق الأوسط وإنسان الشرق الحقيقي الأقصى قائم وموجود، ولكن ما أذهلني وحيرني أنني وجدت نفسي لأول مرة في عالم ثان غريب كأنه الوجه الآخر لكرتنا الأرضية.
•••
لأول مرة أحسُّ أن عالَمنا هذا ليس واحدًا كما كنتُ أعتقد، ولكنه عالَمان؛ ذلك الذي بدأ بالحضارة المصرية القديمة التي انتقَلَت إلى اليونان ثم الرومان ثم العرب ثم أوروبا من جديد، لتبدأ الحضارة الأوروبية التي انتقلَت إلى قارتَي أمريكا وانتشرَت في مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا.
عالمُنا هذا بأديانه التي بدأت بتوحيد أخناتون ثم الدين اليهودي والذي منه وُلدت المسيحية ثم الإسلام، بعلومه وفلسفته وطريقة نظره إلى الأشياء والوجود.
عالمنا هذا الذي قد تختلف درجة تحضُّر أجزائه، أو تتبادل شعوبه مشاعل التحضُّر والنور، ولكنه واحد يكاد يكون كاملًا متكاملًا، تاريخه واحد، وإنسانه واحد.
عالم نتصوَّر أنه كل العالم بينما الأمر ليس هكذا أبدًا، فهناك في شرق آسيا وجنوبها وقلبها عالم آخر تكاد لا تَربطه أي صلة بعالَمنا، عالم موازٍ نشأت الحضارة فيه بطريقة مختلفة، وتكوَّن تاريخه من أحداث مختلفة، وانبثقَت فيه الديانات والعقائد بطريقة خاصة به وحده.
عالم ثانٍ إن يكن أقصر من عالَمنا عمرًا، إن يكن أقل اتساعًا وانتشارًا، إن يكن قد ظلَّ حبيس حدوده الجغرافية لم يُغدق بفتوحاته وغزواته وجه الأرض أو كان سيد الدنيا يومًا، إلا الإنسان الآسيوي المعاصر الذي جاء نتيجة ذلك العالم، هذا إنه لا يقلُّ عراقة عن عالَمنا إن لم يَزِد، بل إني لأجرؤ وأقول إن الإنسان، هذه الشعوب المكوَّنة منه، يُغدق وتُغدق من أوجُهٍ كثيرة إنساننا نحن وشعوبنا نحن، بل إني لأُصرِّح بما في نفسي وأقول: «نحن على شفا عصر ستكون فيه السيادة لهذا الإنسان، عصر تنقلب فيه الآية، ويُكتَب لعالم ظلَّ طويلًا حبيس البُعد والعزلة أن يتلقف هو مشعل الحضارة والتقدم، وأن يتحوَّل عالمنا نحن إلى عالم تابع، على الآخر يتتلمذ.»
•••
نحن إذن على أبواب عصر آسيا، عصر الإنسان الذي سمَّيناه الأصفر، وعشنا لا تُثير فينا أحداث هائلة تقع فيه إلا أوهى الانفعالات والاهتمام، وكأن ما يحدثُ يحدث في كوكب آخر. بل إننا المُضطرُّون أن نفهم الفهم الصحيح، وندرك الإدراك الحق، أن مستقبل الإنسان، عالَمنا نفسه يتقرَّر هنا.
إنَّ مصير أمريكا هنا، الحضارة الأوروبية أيضًا مآلها حتمًا هنا، الرأسمالية نفسها، بل حتى الماركسية، وشكل ونتيجة ونهاية الصراع بينهما أمور أبدًا لن تتحدَّد إلا هنا، بل حتى قضية كقضية فلسطين ووجود كالوجود الإسرائيلي إذا كان اليوم أمره مرهون بإرادة أمريكا وما بينها وبين الاتحاد السوفياتي من صراع حوله، وإذا كان الشد والجذب بيننا وبين إسرائيل هنا، فإن الحل النهائي للقضية أيضًا هناك في آسيا، ليس مجرد حماس لمنطقة أنا حديث القدوم منها، ولا من قبيل التهويل ما أقول. لقد كانت نهاية الحضارة الأوروبية على يد آخر نظرية، آخر ثمرة فلسفية من ثمار تلك الحضارة «الماركسية»، بوجودها، بقيام أول ثورة شيوعية، بانقسام أوروبا إلى معسكرَين، إلى اشتراكية ورأسمالية تُعادي إحداهما الأخرى أبشع عداء، بانتهاء الجولة الأخيرة بالحرب العالمية الثانية انتهت المطاردة الأوروبية وتجمَّدت؛ إذ بدلًا من المضي قدمًا انقسمت إلى قسمَين همَّ كلٌّ منهما أن يجمد وضع الآخر وأن يَمنعه عن الحركة، والنتيجة الحتمية — والتوازن قائم — أن يتوقَّف الإنسان كعربتَين متساويتي القوة تُحاول كل منهما أن تزحزح الأولى، فلا يتحرك أي منهما خطوة.