إلى صلاح جاهين
حين يريد الكاتب أن يَرثي شاعرًا مات أو استُشهد، فإنه يحاول أن يصل بكلماته إلى ذرى الشِّعر؛ فالشاعر لا يُرثى بغير الشعر.
فإذا كان الشاعر أخًا وصديقًا وزميل كفاح بدأ منذ الخمسينيات إلى الآن، فلا بدَّ أن يُحاول الكاتب أن يسمو بِشعره إلى رثاء الأخ والحبيب والصديق.
وإذا كان الكاتب زميل الشاعر في اكتئابه، صنو اكتئابه، بل حتى صنو الأماكن التي عولج فيها، فحين أدخلوه مُستشفى الكرملين ليعالج من الاكتئاب وضعوه في نفس الحجرة والفراش الذي كنتُ أرقد عليه، وكانوا — كما قال لي — يُذكِّرونه بي على الدوام.
وإذا كان المُتوفَّى شاعرًا وأخًا وزميلًا ورفيق مرض واكتئاب، فإن الكتابة عنه تُصبح في الحقيقة عذابًا ذا ثلاث شعب.
والأكثر تَعذيبًا أني — رغم أني كنتُ أحد المُعجبين المتعصِّبين لإنتاج صلاح شعرًا أو رسمًا أو تصرُّفات — فإني بحكم شخصيته، وبحكم اكتئابينا، كُنَّا نادرًا ما نلتقي، حتى إني لم أرَهُ خلال السنوات العشر الأخيرة سوى مرة أو مرتين، وكأنما كان كلٌّ مِنَّا يُحاول أن يخفف من معاناة صديقه بأن لا يضيف له معاناته.
ولهذا كان غريبًا في الأسبوع الماضي فقط أن يدقَّ جرس التليفوني ويأتيني عبره، صوت واهن مُتحشرِج: مَن؟ أنا صلاح. بذهول واستغراب وسؤال استنكار؛ لأني كنت أعرف: صلاح من؟ صلاح جاهين.
لا بد أن سببًا هامًّا جِدًّا دفعه للاتصال بي، وبعد المجاملات الذاهلة الأولى، صمتُّ، في انتظار أن يبدأ صلاح يقول لي ما هي المشكلة، فإذا بما يأتيني صوت مُطبق من الطرف الآخر: مالك يا صلاح؟ أبدًا. وسكت. وانتظرتُ. ولم يتكلَّم. أهناك شيء؟ لا، أبدًا. وصمتَ وصمتُّ. إذن لماذا طلبتَني؟ قلتها وأنا أضحك حتى أُخفِّف من حرجه بسؤالي ذلك السؤال، قال: أبدًا، حبيت أطلبك. فقط؟ فقط. طيب مع السلامة يا يوسف. مع السلامة يا صلاح.
ظللتُ طوال اليوم حائرًا في تفسير هذه المحادثة التي لا محادثة فيها دون أن أعثر على جواب.
ولم أكن أتصوَّر أن الجواب سيأتيني عاجلًا في اليوم التالي بدخول صلاح غرفة الإنعاش وإشرافه على الموت ثم موته.
أكانت محادثة وداع غير واعية؟
أم إحساس خفي أنه ذاهب، وأنه يُريدني أن أذكُرَه، وكأن مثله يُمكن أن يُنسى.
الغريب أني وأنا في صيوان العزاء وفي قمة الألم، حين رأيتُ نعشَه قادمًا مُرتفع الهامة محمولًا على الأعناق مخترقًا الصفوف بعد الصلاة عليه، تحشرج صوتي وبكيتُ وأنا في عزِّ البكاء تلبَّسَني صلاح الساخر، ورسم ذهني في الحال كاريكاتيرًا لصلاح جاهين، سيظهر في الصباح التالي لتشييع جنازته صورة لجنازته ونعشه يَرفع فيها عنه غطاء النعش وينظر إلى حاملي نعشه ويقول: كويس قوي إني خسِّيت لكم ستين كيلو قبل ماموت، وإلا كنتوا ماقدرتوش تشيلوني. وجعلتني صورة النكتة أنخرط في بكاء أعمق.
– ألو.
– ألوه.
– صلاح؟
– أيوة.
– أنا يوسف.
– إزيك يا يوسف عامل إيه؟
ووجدتُ نفسي أصمُت، فعاد صوته يقول عبر الأثير: سكت ليه، أمال طالبني ليه؟
ولم أُحِر جوابًا، فلم أكن أدري ما هو الجواب.
اتكلم يا يوسف إزي مصر، إزيكم، أنا استريحت، بس انتو لسه تعبانين.
– اتكلم.
ولم أتكلم.
ولن أتكلم.
فما في قلبي لا يعبر عنه كلام.