لماذا الفتور في حياتنا؟
أنا أكتب لقارئ فاتر الحماس، وهو ليس فاتر الحماس لقراءة ما أكتبه أنا، وإنما أعتقد أنه فاتر الحماس لكل وأي من يقرأ له حتى لو كان الكاتب من جهابذة الكتابة أو العبقرية أو التاريخ. وليس العيب في هذا أبدًا عيب القارئ؛ ذلك أني أدرك أن الكاتب أيضًا، أي كاتب لم يَعُد شديد الحماس للكتابة، بمعنى آخر: إن الحماس الفاتر أو على وجه الدقة الفتور أصبح هو الصفة الغالبة للكُتَّاب والقُرَّاء جميعًا، كما لو كُنَّا قد أصبحنا «نؤدِّي» الكتابة، مثلما «يؤدِّي» القارئ القراءة، وليس هذا أيضًا إحساسًا خاصًّا بالقراءة والكتابة وحدهما، بل بجولاتي الكثيرة في مختلف أوجه الحياة في المجتمع المصري وأماكن العمل، كنت أنتبه مِن انشغالي بالمناقَشات اللامتحمِّسة التي تدور، وأنين الشكاوى والانتقادات، على هاجسٍ مفاجئٍ مُلح، إنها علامات الفتور الواضح وانعدام الحماس.
بل إنني في تجوالي في كثير من بلادنا العربية على اختلاف النُّظم الحاكمة فيها، كان ذلك الشبح يطلُّ برأسه حتى لأكاد أراه رأي العين وألمسه حقيقةً مجسدةً واقعةً: الفتور المستشري وعدم الحماس.
وإذا عَنَّ لقارئ أن يرفع يده أو صوته أو قلمه مُعترضًا، وكثير من خطابات القراء التي تأتيني معترضة أو مؤيدة، أجدها في النهاية وبالنظرة الأعمق دليلًا ما بعده دليل على انعدام الحماس وفتور الهمة، حتى لو كان الموضوع الذي يكتب عنه القارئ مثيرًا للهمة ودافعًا للحماس.
ولقد أصابني هذا كله بالعدوى. أوَلستُ فردًا في نفس هذا المجتمع، يُعديني فتوره؟ وكنت قد قررتُ أن أستقصي كل أسباب النجاح في التجربة اليابانية الصناعية الناجحة، على الأقل لنتمثلَّ بها، وفي نفس الوقت أفتح ما استطعت قلب المواطن الياباني ووجدانه لأكشف عن التمزُّق الهائل الذي يُعانيه اليابانيون ما بين تمدن صناعي صارخ على الطريقة الأمريكية الرأسمالية وما بين الوجدان الياباني الذي كان واجبًا أن يُفرز ثقافةً وفنًّا وحضارةً تُوازن ذلك التقدم التكنولوجي الهائل، وتُعيد التوازن إلى العقل الياباني والضمير الياباني والإنسان الياباني بشكل عام. ولكن اسمحوا لي أن أعترف بهذا، أحسستُ أني أؤذِّن في مالطة، أو ربما في جزيرة شكوكو (وهي إحدى الجزر الأربع التي تتكوَّن منها بلاد اليابان)، أحسستُ أني أتكلَّم عن مجتمع ناجح لمجتمع فقد الأمل والطموح أن يَنجح، وعن تقدُّم صناعي هائل في مجتمع بالكاد يحاول الاحتفاظ بالصناعات التي أقامها منذ خمسين عامًا، وأنني أتحدَّث عن بلاد يَميل فيها الميزان التجاري لصالح اليابان بزاوية تكاد تصل إلى ١٨٠ درجة، إلى مجتمع تكاثرت عليه الديون الخارجية وأُثقل بفوائد الديون إلى درجة تكاد تميل في غير صالحه بزاوية تكاد تصل أيضًا إلى ١٨٠ درجة.
ووجدتُ الفتور يدبُّ إلى مشروعي، ومفاصل طموحي لإعطاء الصورة تتكلَّس، ويُصيبها الوهن.
وكدتُ أُصاب بل أُصبتُ فعلًا، بإحباط يكاد يَمنعني من الاقتراب من القلم أو الورق.
وحينذاك، وفي نوبة ثورة على الفتور وعلى نفسي وعلى انعدام الحماس الذي يَزحف كالطاعون غير المرئي على الإرادات في مجتمعي، قرَّرتُ أن أجعل موضوعي هذه المرة، هو هذا الموضوع نفسه موضوع فتورنا وعدم حماسنا لأي شيء على الإطلاق.
فمِن غير المعقول، ونحن الذين كان إذا مسَّ الفلسطينيين شيء، نقوم قومة رجل واحد، وإذا مسَّ مسلمًا ضُرٌّ أو اعتداءٌ قامت المظاهرات وعُقدت المؤتمرات وانتابتنا حُمَّى وفتحنا باب التطوع وأرسلنا فعلًا مقاتلين إلى فلسطين أو غيرها.
غير معقول أن يكون هذا موقفنا في الماضي القريب جِدًّا، ثم نقرأ الآن عن المذابح التي تجتاح معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ومِن مسلمين أو على الأقل يَنتمون لدين الإسلام؛ منظمات أمل، وجند الله، ولا يتحرَّك لنا ساكن. ولولا تصريحات مبارك وإداناته، ولولا وفد أحزاب المعارضة وعلى رأسه ذلك الرجل المخلص الطيب إبراهيم شكري، لحسبتُ أن المرض قد وصل بنا إلى الشلل التام. نحتفل بأعياد الطفولة ثم نُفاجأ أن هؤلاء الأطفال يُحشَرون كل ١٢٥ في فصل، ليتلقوا «العلم». أيُّ علم يتلقونه وهم إذا أرادوا التنفُّس، مجرد التنفس واستنشاق الأكسوجين لن يجد الواحد منهم ما يكفيه للتنفس ساعة؟ وأيضًا لا يتحرك لنا ساكن، ولا ينتفض وزير التربية ويفتح الله عليه بشيء يفعله أو يقوله.
نسمع عن مصريين سُجناء في إيران، ويقصر حماسنا حتى عن أن نَطلب من الصليب الأحمر، ولا أقول الهلال الأحمر؛ لأني أعتقد أن الحاكمين في إيران لا يؤمنون بأي تنظيم أحمر حتى لو كان هلالًا إسلاميًّا عربيًّا، وبالذات لو كان إسلاميًّا عربيًّا.
تتحدَّث الدنيا كلها، وتدين، وتسخر، وتحتجُّ على أن أمريكا وإسرائيل تزوِّدان فارس بأسلحة وصواريخ لإبادة العرب المسلمين في العراق، والدنيا كلها قائمة على قدم وساق تتحدَّث عن هذه الفضيحة، بل تلك الجريمة النكراء من إدارة ريجان ومخابراته ومؤسسته، ونحن وكأن لا حياة لمن تنادي، وكأن الذي سيُباد بتلك الأسلحة فئران تجارب وليس مواطني العراق العرب والمسلمين من سنة وشيعة، وحتى من مصريِّين يعملون في العراق.
ولا أريد أن أسترسل، فلست هنا بسبيلي إلى انتقاد موقف السلطات من تلك الأفعال، ولا لوم الأحزاب، مُعارِضة أو مُؤيِّدة، ولا التجمُّعات الشعبية والجماهيرية، فأنا هنا وأقسم على هذا لا أريد أن ألوم أحدًا، إني إنما أسميتُ الظاهرة التي أسميتها مرة بحالة «التولة» التي أصبحنا نعاني منها، أو ما سميتها مرة بالرمال الناعمة التي تترسَّب دون أن نشعر في مفاصل الإرادة المصرية، الفردية والجماعية، ونُصيبها بالثقل، وبالتصلُّب، ثم أخيرًا أعوذ بالله بالشلل.
•••
أجل!
أريد، بالسرعة البطيئة، أن أمرِّر حياتنا أمامي، وأمامنا، فمن يدري، ربما نعرف السر، أو الطريق إلى السر.
وأبدأ بالفتور تجاه القراءة، وبالذات قراءة جرائدنا.
ولا أقول جرائدنا المصرية فقط، ولكن كل الجرائد التي تصدر بالعربية.
أعتقد أنني لست وحدي، ولكن قراء جرائدنا قد لاحظوا في الفترة الأخيرة بالضبط خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، ظاهرةً انفردت بها صحافتنا دون صحافة العالم، وأقصد بتلك الظاهرة هذا الطوفان من الذكريات والمذكرات، وبالذات عن الأحداث التي جرت في عهد الرئيس عبد الناصر، بل ومنذ قيام ثورة ٢٣ يوليو. ذكريات ومذكِّرات، وكأننا قد وصلنا إلى محطة استراحة سياسية، حقَّقنا فيها كل أهداف مرحلة ماضية. وقطعنا مشوارًا تقطعت فيه أنفاسنا، وآنَ الأوان، ليس لنستريح من وعثاء المشوار، وإنما لنَجلِس ونتوقَّف ونُوقف التاريخ وسريان الأحداث، ليَروي كلٌّ مِنَّا ما حدث له، من وجهة نظره الخاصة، وليُريَنا كيف كان البطل الأوحد لهذه الفترة أو الواقعة أو الوقائع، وكيف أنه وحده خلص مصر من ذلك المطب أو غيره، وأن لولاه لحدث لمصر ما لا تُحمد عقباه ولانحرفَت الثورة وابتلعها التيار، أو ليَرويَ لنا بعض عمد فترة ما قبل الثورة الكارثة التي حدثت في مصر بعد قيام الثورة، وأن مصر لو لم تَقُم فيها ثورة أصلًا لكانت أحسن حالًا بكثير، ولما عشنا المآسي التي جلبتها علينا ثورة ٢٣ يوليو و«دكتاتورها» جمال عبد الناصر.
أو يحدث العكس، ويتولى آخرون إعادة كتابة الفترة، ليوضحوا إلى أي حد كان لهم الفضل الأوَّل في بناء السد العالي، أو تأميم قناة السويس، أو خروج مصر منتصرة في حرب ٥٦، ويتنصَّل الجميع من هزيمة ٦٧، أو يرون أنهم السبب في انتصار ٧٣، وكأن الذي صنع كل تاريخ الفترة المادية وانتصاراتها هي مهارتهم وعبقريتهم واتِّباع عبد الناصر لنَصائحهم أو استبداده برأيه وتنحيتهم، أو أن طريقة السادات في الحكم هي السبب. باختصار كل واحد منهم يَخرج من مذكراته بطلًا لا يُشقُّ له غبار.
لم أقرأ لأيٍّ منهم اعترافه بخطأ اقترفه لنتعلَّم نحن والأجيال القادمة منه، لم أقرأ لأيهم هفوة واحدة، بدرَت له. كلهم رجال سياسة كاملون مُنزَّهون، والعيب كل العيب إمَّا على هذا الدكتاتور أو ذاك.
ولم أرَ مهزلة مُذكِّرات حدثت في تاريخ البشرية مثلما رأيتُ هذا الوابل من المذكِّرات يَنهال على العقل المِصري والعربي، وكلُّها مذكِّرات دُفعت فيها أثمان باهظة وخرج أصحابها بالثروة والمجد والخلود، وخرجنا نحن بالانطباع الوحيد المُمكن، أنهم كلهم بطريقة أو بأخرى كذابون، منافقون، عاشوا يتمرَّغون تحت أقدام الثورة وعبد الناصر والسادات، واستأسدوا جميعًا الآن.
بل خرجنا بانطباع أهم: أننا فقدنا الثقة فيما يُكتب، وفتر حماسُنا للقراءة؛ فمعظمنا كان حيًّا وشاهدًا على ما حدث، وإذا كان الكذب على الميت حرام، فالكذب على الحي والأحياء جريمة خُلقية ما بعدَها جريمة.
•••
السبب الثاني لهذا الفتور الذي يَشعر به القارئ تجاه ما يُكتَب هو هذه «المُودَة» التي اجتاحَت صحفنا ومجلاتنا، «مُودَة» تحوُّل أساتذة الجامعات ومدرسيها وأعضاء مجالس الشعب والشورى بل وحتى بعض الوزراء السابقين والحاليِّين والسفراء وكل من هبَّ ودبَّ إلى الكتابة في الصحف.
فأوَّلًا هؤلاء جميعًا ليسوا كُتَّابًا، والكتابة ليسَت أن تُمسك برأس موضوع ما، وكلها مواضيع لا تُهمُّ القارئ العادي في شيء. وأمسِكْ أيَّ جريدة من جرائد هذا اليوم بالذات، أو جرائد الأسبوع الماضي كله، ستجد صفحات الرأي في جرائدنا الثلاث مملوءة بمواضيع غريبة؛ مثل العلاقة بين التخطيط والتنفيذ في مجال البحث العلمي أو تنظيم الأسرة أو برامج التليفزيون أو خروج المرأة إلى العمل. هذه ليست رءوس المواضيع على وجه أكيد، ولكنها شبيهة كثيرًا بالمواضيع التي يتناولها هؤلاء الناس من «الكُتَّاب» الجدد، فإذا جئتَ إلى طريقة العلاج فسوف تكتشف أنها طريقة واحدة تُكرِّهك في القراءة؛ إذ لا بد أن يسوق «الكاتب» مقدمة طويلة جِدًّا مملوءة بأشياء مثل «لوحظ في الفترة الأخيرة» أو «قبل الدخول في الموضوع لا بد من كذا أو كيت» أو «كمُقدمة لدراسة المشكلة لا بدَّ من القول إنه …» طريقة مملَّة لا علاقة لها بفن الكتابة، وبالذات للصَّحافة، من قريب أو بعيد، وإنما على أحسن الفروض تَصلُح محاضرات عقيمة من النوع الذي يبدأ جمهوره يتملمَل بعد الدقائق الخمس الأولى من المحاضرة؛ إذ يكون قد يئس من الدخول في الموضوع.
ثم …
لأنَّ معظم هؤلاء «الكُتَّاب» الجدد من أساتذة الجامعة ومعلِّميها، فإنني لأعجب لأستاذ جامعي، مجال حديثه بين طلبته ومجالس كليته وجامعته، يترك هذا كله ليُخاطِبَ جمهورًا لا يعرفه ولا يعرف اتجاهاته، ويخاطبه وكأنه يُلقي محاضرة على طلبته. إنني لا أعرف مكانًا أسمى لأستاذ الجامعة ومدرسها من مدرَّج محاضراته ولقاءاته بطلبته واجتماعاته بهم في أُسَرهم أو مجالات نشاطهم الجامعي. ليست مهمة أستاذ الجامعة أن يكتب للصحافة، إنَّ مهمته أسمى وأجل؛ أن يُربي ويعلم وينشئ معلِّمين للشعب وأساتذة، إنه أبوهم الروحي وصانع طموحهم ودليلهم في بحر العلم والتربية الشاسع، ولكن شهوة الشُّهرة والذيوع أقوى بكثير من متعة الجهد العميق لخلق إنسان جامعي. لقد بدأت الكارثة بمودة اختيار الوزراء من بين أساتذة الجامعة، ولهذا أصبح كل أستاذ يَطمح في الانتشار العام والشهرة خارج منصب الأستاذية الرفيع؛ إذ من يَدري لعل وعسى تصنع منه مقالة أو بضع مقالات مرشحًا أثيرًا للوزارة!
وقد يقول قائل إنَّ هؤلاء الأساتذة يصنعون من مقالاتهم في الجرائد والمجلات نوعًا من «الجامعة الشعبية»، وهذا قول مردود عليه؛ إذ إنهم للأسف لا يُحسنون الحديث إلى جمهور الصحف والمجلات، ولا يُحسنون أيضًا أصول الكتابة وجذب انتباه القارئ؛ لأنَّ تفرُّدهم الحقيقي وقدرتهم الحقيقية هي في «الأستذة» وليست في تدبيج المقالات الصحفية؛ فالمقالة الصحفية «فن» و«علم» و«موهبة» لا علاقة لها بالتدريس أو البحوث.
وهذا عن كتابة مرجع علمي في التشريح.
فما بالك وهؤلاء «الكُتَّاب» الأساتذة يكتبون لجمهور عريض تحتاج الكتابة إليه إلى قدرة فائقة على جذب الانتباه وإثارة حب الاستطلاع والدخول إلى قلب الموضوع بطريقة بارعة!
•••
هذه بعض أسباب الفتور، فتورنا في قراءة الصحف وفتورنا أيضًا في الكتابة التي أصبحت عمل من لا عمل له، واجتنابًا متعمَّدًا لكل مشاكل الحاضر الشائكة واللجوء إلى الماضي، وذكرياته، أو بالأصح الهرب إلى الماضي وذكرياته أو إغراق القارئ في مواضيع هامشية جِدًّا وغير هامة بالمرة تُخمد فيه الرغبة في الاطلاع أو القراءة.
ولكن الفتور في حياتنا متشعب ومتسرطن، ومعشش في قراراتنا وعملنا ومواجهاتنا وحتى في سلوكنا اليومي.
إنه بالكاد يبدأ.