رائحة الخريف
١
مرت أيام الشتاء برياحه الباردة التي تلسع الجلد وتكوي النفس فتتولَّد بداخلها رغبات حميمة للالتصاق، بينما المعاني التي كانت تَنبثِق خلف بعضها تندفع كنهر. كانت تمرُّ منزلقة عبر دروب نفسه فتتحوَّل إلى ألفاظ وعبارات حادة ومَسنونة تشقُّ طريقها متسلِّلة نحو وعيها الغض الذي كان يتفتح كزهرة.
كان يرى عينَيها تتألقان بالحيرة والتساؤل أمام كل معنى جديد يتماسُّ مع روحها. أحس بأجزاء جسدها كمحطة استقبال تتفاعَل مع جميع ما أوصله بهذا العالم، الذي بدأت تُوجِّه قلبها الصغير كي يحتضنه ويعانقه وفق مقاييس ابتكرتها نظراتهما، ولمساتهما، وهمساتهما بعد هروبهما من الضجيج.
في تلك الأوقات كان لسع البرد لا يكاد يصل إلى ما تحت جلده. كانت آثاره تزول على موجات الدماء الحارة التي تتدفَّق في العروق أثناء اندفاعها.
٢
تفتَّحت المعاني التي كانت تبدو غامضة، فأزهرت عشرات الورود الملوَّنة التي نقعت في الندى الصباحي، وامتلأت الحديقة الجميلة التي كانا يتسابقان على حشائشها الخضراء والمصفرَّة، تحيطهما مشاعر الرغبة في التواصل والامتزاج.
كانت الأجنة قد بدأت طريقها نحو الاكتمال والتحقق بداخل أحشائها، بعدما استقبلت البذور وسط عواصف الشتاء الباردة.
بدت الكلمات ناعمة كمياه النيل التي تمدَّدت كبساط بني اللون بعد انقشاع لحظات الحيرة والتساؤل والخوف مع ليالي الشتاء الطويلة. لم يكن تيار المشاعر طوفانًا، بل كان عشقًا وجريًا وعناقًا طويلًا وسط الزهور والورود الملونة، وتحت أشرعة المراكب التي تسبح فوق مياه النهر التي كانت تبعث الأمل غير المحدود الذي سوف يأتي بعد ذلك، وبدا انتظارًا طويلًا مملًّا. وكانت قد عرفت الكثير.
٣
عادت الأحلام السديمية الهائمة تتكوَّر متحدِّدة في نقاط صامتة قبلما تتضح لها تضاريس تحدد شكلها. حاول القلب القَلِق أن يتلمس تلك التحديدات الغامضة فلم يستطع. تلمس وجوده بداخل الصور الملونة، والكلمات الفنية الرجراجة، واللمسات التي اعتادتها أيديهما أثناء عناقهما الطويل المتواصِل. كان العرق المترَّبُ يُغطي كل شيء. كادت الكلمات الحلوة تنزلق بعد بدء زوال رائحة الورود وتلاشي ألوانها الجميلة، عندما بدأ الإحساس الرمادي الغامض بينهما يَنبث في طيات متتاليات من الوهم والتوجُّس الذي لم يكن قد أصبح مطلقًا، والرغبة في التوقف دون الاسترسال، وحالات التفرد الجديدة التي اختارتها ولم تكن قد برزت من قبل. كانت دائمًا مصاحبة لارتفاع الحرارة اللزجة على صفحة وجهها الأبيض، الذي أحبه وحفظ ملامحه، مع احتقان العينَين اللتين كانتا تتحركان تحت لفح الهواء والتراب والعرق، بينما صوت أقدامهما الأربعة يتصاعد في خشوع، أثناء اصطدامهم بالأرض على طريق المقابر، الذي يَصِلُهم بالنهر.
٤
ظلَّت المصاحبة مستمرة، مع ساعات الحب، والعِشق، والعناق، والأيام تتوالى حاملةً سرَّها الذي لم تتلاشَ طلاسمه، حتى سقطت أوراق الأشجار مصفرَّة ذابلة، وظهرت المساحات الطينية الكبيرة، التي انحسرت عنها الخُضرة كجزر داكنة وجافة، وسط جنة الحشائش التي انغرست فيها الأقدام من قبل. تحوَّلت تحت أشعة الشمس اللافحة إلى بُقَع كبيرة متربة يتوالد فيها الغبار مرتفعًا إلى أعلى بعدما تَحمله رياح الخريف المُؤذِنة بالبرودة التي أوصلت إلى نفسه مشاعر غامضة حزينة. كانت الأوراق الصفراء تتناثَر فوق صفحة النهر الكبير الذي شاهد لحظة الميلاد والتواصُل وتلمس المعاني الكبيرة، التي كانت ستُنبت سنابل القمح والورود الملونة.
وكانت لحظات العذاب الحزينة التي تتسرَّب إلى أعماق النفس بغموضها الآثر الذي له طعم خاص كثيرًا ما يعود ثانيةً فيذكر قلبه بتلك الأيام والرغبات عندما كانت البذور قد بدأت تتحول إلى كائنات تتكوَّر، ثم تتمدَّد فتستطيل، ثم تستدير متكورة ثانيةً، لكنها توقفت عن النمو، وبدأت في مرحلة الذبول بعدما أدركت سرَّ الانقسام الذي كانت تُخفيه عنه عندما انزلق وعْيها بعيدًا متجرِّدًا على استمرار قانون الحلول الذي حلَّ بها من قبل. كانت قد عرفت كل شيء، ولكنها أبت الاستمرار والحلول. تركته يزول ويتلاشى في الموجودات، فبلعَتْه مياه النيل في نهاية الطريق العريض، ولم يكن له شاهد يشهد عليه بين الشواهد التي كانت تَرتفع خلفهما في سموق حزين تحت أضواء النجوم التي بدت مُتخاذِلة وغائبة.
ولولا حُسن الحظ لوضعت قصته الأخرى جانبًا، ولكن قرأتُها فوجدت أن هنا قصة، لا أستطيع أن أقول أين أو كيف، فكما قلتُ لكم لا يَستطيع الإنسان أن يعرف القصة، ولكن حين تقرءونها معي ستُحسون أن هنا قصة وقصة حديثة، وفيها حساسية، وحساسية مرهَفة وفعلًا جديدة، فلنقرأها معًا:
المتفرج: قصة شمس الدين موسى
إنني لست مسئولًا عن ذلك.
كلماته ذات جرس خاص، كان ينفخ فيها شحنة كبيرة من ذاته. يصل صوته إلى آذان مستمعيه من خلال نوع من الرنين يُثير الانتباه. له آراء في أشياء كثيرة متعارضة، قليلون هم الذين ينجذبون إليه، ولا أستطيع أن أحدِّد هل أنا من هؤلاء القليلين الذين يَنجذبون إليه أم من الكثيرين الذين لا يثيرهم وجوده؟
تذكرت أنني عرفتُه منذ سنين طويلة كما عرفه غيري وكانوا كثيرين، لا يُمكن ذكر عدد من عرفوه عن قرب، وربما يوجد في لحظة ما محاطًا بمن يمثل أجيالًا ثلاثة. كذلك أستطيع أن أحدد أنه لا يمكنني ذكر عدد السنين التي عرفته خلالها دون ذكر أحداث، وأفراح، ودموع تكون قد سجلتها الذاكرة مثل حرب ١٩٥٦، وأول قصة قرأتها، وحبِّي لأول فتاة، وأنباء صعود الإنسان إلى القمر … إلخ طوال كل تلك الأحداث التي تداخَلت معالمها مُمتزجة بالسنين والأيام. كان دائم التطلع إلى الأفق، رغم قامته التي لم تكن طويلة. لم يجرب ذلك الارتفاع المقصود فوق أصابع القدمين، كما لم يكن يتعمد أشياء كثيرة، فلم يُعرف عنه في يوم حبه للتمايز عن الآخرين. كانت جوانب التمايز في حياته ملحوظة لمن يَقترب منه ويتأمَّله بدقة، وكانت تتمثَّل في نوع الحياة التي يحياها، ويعمل على إخفائها بقوله: إنني لست مسئولًا عن ذلك!
وعندما أراجع ملاحظاتي القديمة والحديثة عنه أُقرِّر دون تردد أنه لم يُجرِّب السير بمفرده، بل دائمًا ما يُسارع إلى مصاحبه الآخرين، كما لم يجرب حب الفتيات، أو الرقص في الحدائق، أو زيارة المتاحف، أو السفر، كما لم يعرف طعم الخمر أو المخدرات، ولم يشغل نفسه بعمل المستحيلات، لكنه كان يحب مشاهدة كل ذلك، وجمع الكتب، مع قراءة الحروف المطبوعة، إلى جانب غرامه الشديد برواية الأخبار؛ مَن أحبَّ! ومَن فشل! ومَن سُجن! ومَن سافرَ! ومَن أصبح مليونيرًا! ومن سرق! ومن تحوَّل عن آرائه! لم يأخذ عليه أي واحد ممن يعرفونه أنه يسكن بالأدوار العليا؛ لأنهم يَعرفون ردَّه المباشر الذي تكرَّر كثيرًا.
إنني لست مسئولًا.
لكنه كان دائم التأمل في حياة سكان الأدوار السفلى؛ كيف يعيشون؟ وماذا يأكلون؟ وبماذا يحلمون؟ وعيناه دائمًا تتركزان بداخل مكان ما، لعله يفتش عن شيء، لكن المؤكَّد أنه لم يعثر عليه. ظن أنه وجد ما يبحث عنه عندما تزوج، اختفى عن كل الأماكن التي كان يجب أن يوجد فيها، وضعفت حالة الشغف التي كانت تنتابه في مواجهة الأوراق المطبوعة، كما تلاشى إحساسه بضرورة رواية الأخبار أو سماعها، لكنه سرعان ما عاد بعد ذلك إلى طبيعته القلقة والمتأملة. ومجمل ما قيل عنه بعد عودته إلى طبيعته الأولى أنه لم يتغيَّر، ولا يزال يبحث عن شيء غير معروف لأحد، وهو — أيضًا — لا يعرفه.
اقتنع كل الذين تعرَّفوا عليه أنه يُمثِّل حالة لا تتكرَّر كثيرًا وجديرة بالتعرف عليها.
قال البعض عنه إنه يريد إعادة تشييد العالم.
وكان هناك من يقول بأنه يُضيع وقتنا بثرثراته.
كما وصفه آخرون بأنه حالة مرضية.
ووسط كل ذلك، كانت كلماته تذهب متلاشية، وربما تصل إلى آذان البعض فيدركها بطريقة خاطئة، فتظهر أصداء تلك الكلمات متناثرة هنا وهناك.
وما سبَّب الحيرة للكثيرين من أصدقائه، أنه كان لا يعترف بصداقتهم رغم أنه يقضي معهم الكثير من الأوقات. كان يُعلن لي دائمًا أنه من أنصار الصديق الواحد؛ فهو يعرف أن معرفته بهؤلاء طارئة. وما أدهش الجميع أنه دائم التطلع إلى التفاصيل الدقيقة، ولا يعجبه شيء. كما كان ساخطًا على كل شيء، وقلما اعترف بخطئه عندما تفشل آراؤه. كان يوعز الفشل للظروف، وما يطلب تحقيقه اليوم سرعان ما يرفضه في الغد، بل إنه كثيرًا ما يُضبَط بمدح شيء معين ونقيضه في نفس الوقت. كان دومًا يجد العبارات التي تُبرِّر الموقف الذي ضُبط بداخله. رفضه المتفائلون بينما يُعلن رفضَه للمتشائمين، وكان هو البادئ دائمًا لكل مَن يَصِل إلى تلك المساحات الغامضة بداخله. عندما توصلت زميلتُه التي شعَر نحوها بالحب — وأَسَرتْه بوجودها وشخصيَّتها — إلى تشخيص حالته قذفها بأقذع الألفاظ، وسقطَت كلماته التي كانت تحمل الرنين في فوهة الآمال المكبوتة، وارتسمَت معانيه القليلة في عينَيها فوق حروف وألفاظ تحوَّلت بفعل التكرار إلى نوع من الأكلشيه المُميَّز. انفرد بي في الفترة الأخيرة لأوقات طويلة. أحسست في وجودي معه بخاصية دوران الزمن. بدت حروف وكلماته كعجوز دبَّت فيها الشيخوخة. بل كثيرًا ما حلا له رسم الغضون فوق صفحة وجهه. لم يكن يُخفي ذلك ما يُصيغه من جمل تأخذ شكل العبارات المأثورة.
وما يُمكن أن يذكر له في الأيام الأخيرة أنه كان يردِّد مُفلسفًا حالته، إنه لا شيء، إنه مجرد متفرِّج، متفرِّج على كل شيء، لكنه لا يَشترك في عمل شيء. وبذلك وضع أمام الجميع تفسيرًا حار البعض كثيرًا في التوصُّل إليه.
•••
من حسن الطالع أيضًا أن القصتين لكاتب واحد حتى لا أكون قد ظلمتُه، ولكن المهم أننا تتبعنا لنماذج قصصية متعدِّدة سنَقترب أكثر وأكثر من مفهومنا لما هي القصة. فأنا شخصيًّا لا أعرف ما هي القصة القصيرة، وكل مرة أكتب فيها قصة قصيرة، أحاول أن أعرفها لنفسي أو أكشفها، وغالبًا ما لا تصادف الرضا عندي، فأكتب مرة أخرى.
وربما لهذا لا زلت أكتب.
وإلى اللقاء مع كتاب جديد وقصص جديدة.