لقاء حافل مع دورينمات
حين كُنت طالب علم أقرأ المراجع الطبية، وأقرأ أحيانًا كتبًا لأساتذة الأدب في القرن التاسع عشر، كانت صورة أولئك الأساتذة سواء في العلم أو الأدب تأخذ عندي طابعًا مُبالَغًا فيه تمامًا، كنتُ أتصوَّر أن ذلك الرجل العظيم الذي باستطاعته أن يكتب هذا المرجع أو يحيط به، بل أحيانًا يكتشف ويخترع تلك المعلومات لا يُمكن أن يكون مثلنا أبدًا. وكنت لا أفعل هذا عن تصور رومانسي لإنسان خرافي أو من عالم آخر كتب أو ألَّف، ولكن الكاتب أو العالم يُعطينا فيما يكتبه خير ما عنده، أو بالأصح معجزته الخاصة التي وصل إليها وحده، وقياسًا على هذا نتصوَّر نحن أن كل شيء فيه، مثل إنتاجه، معجزة هو الآخر ومن مجموع تلك المعجزات التي تُكوِّن شخصَه يتبدَّى لنا في صورة أسطورية تمامًا. بل إني لأذكر أني بعد أن أصبحت كاتبًا وصدر كتابي الأوَّل «أرخص ليالي» كنت مدعوًّا إلى حفل في إحدى السفارات، ووجدتُ ضمن المدعوِّين الدكتور طه حسين يَصطحبه سكرتيره الأستاذ فريد شحاتة، وكنت أعرف أن الدكتور طه حسين قد قرأ كتابي وأُعجب به تمامًا، وأنه أَوصى المرحوم الأستاذ سامي داود أن يُخبرني أنه يريد أن يَراني. وها هو ذا طه حسين أمامي لا تَفصلني عنه إلا بضع خطوات، وما عليَّ إلا أن أذهب إليه وأسلم عليه وأقول له اسمي، فلا حرج إذن ولا إحراج، ولا داعي للوجل والرجلُ هو الذي يَطلب لقائي، ومع هذا لم أستطع أن أخطوَ خطوة واحدة تجاه الأستاذ العميد الذي قرأت له «الأيام» و«المعذبون في الأرض» و«أديبٌ»، والذي كنت أضعه هو والأستاذ توفيق الحكيم في برج فني خاص أقول لنفسي إنني أبدًا لن أستطيع بلوغه. وهكذا مضت الحفلة وغادرها طه حسين ولم أُقابله إلا بعدها بعام حين اصطحبني المرحوم سامي داود بما يشبه الإرغام للقائه في فيللته بالزمالك في ذلك الحين.
تذكرتُ كل هذا وأنا في طريقي للقاء «فردريك دورينمات» أعظم كاتب مسرحي معاصر — في رأيي المُتواضع — ذلك أني حين دعتْني «البروحيلتسيا» وترجمتها «من أجل سويسرا»، وهي الهيئة التي تشرف وتشجع وترعى الأدب والفن السويسريَّين وكان رفيقي في الرحلة أستاذنا الدكتور لويس عوض، جعلوا لنا برنامجين مختلفين؛ فالدكتور لويس آثر أن يزور المتاحف والمكتبات والأماكن التاريخية، وأن يعتكف بعيدًا عن الخلق يتأمل كل ما قرأ عنه في تاريخ سويسرا وأماكنها المشهورة حتى الصخرة التي كتب الشاعر الإنجليزي بايرون قصيدة مشهورة بجوارها، بينما كان اهتمامي الأوَّل أن أتعرف على الناس: كُتَّابًا، وفنَّانين، ومسرحيِّين من مختلف أنحاء سويسرا.
وهكذا افترقنا.
وفي حفل عشاء صغير أقامه الكاتب السويسري «أدولف موشك» وزوجته الكاتبة لزوجتي ولي، وحضره عدد آخر من الكُتَّاب، أسرني ذلك الجو الأسري البسيط الذي يحيا فيه الكاتبان زوجة وزوج، ولم يخلُ الأمر من مداعبات أطلقتُها عن التناقض الكامن بطبيعته بين الحياة زوجًا وزوجةً وبين الزمالة في العمل؛ فكلاهما كاتب ناجح، وحين انتهينا من العشاء ورحنا نتحدث، جاءت سيرة «دورينمات»، وهنا وجدتُ حناجر الكُتَّاب والكاتبات المجلجلة بدا وكأنها ازدردت لقمة كبيرة أوقفت الكلمات في الحلوق، وحين استؤنف الحديث، استؤنف على هيئة كلمات مُتناثِرة عن «دورينمات» فمن قائل: لقد ماتت زوجته التي كان يَعبدها وتزوَّج بأخرى وهو عجوز هكذا. ومن قائل: إن وزنه قد زاد كثيرًا، وإنه قليل الحركة جِدًّا. ومن قائل: إنه يُعاني من السكَّر. أخبار محزنة على طول الخط، خاصةً وقد كنتُ أتمنى أن ألقاه في هذه الرحلة إلى سويسرا، ولم أجد بُدًّا من أن أبوح بأمنيَّتي تلك لهم. وجاءت الكلمات تترى تقول: إن «دورينمات» لا يقابل أحدًا. إنه «سوبر ستار» الآن، ولا يُقابل أحدًا. كثيرون من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء يحاولون لقاءه، ولكنه باستمرار يرفض. لقد أصبح مغرورًا تمامًا ويوشك غروره أن يقتله في بيته المنعزل في نيوشاتل. وابتسمت في سرِّي، لكأننا في القاهرة أو في أيَّة عاصمة عربية أخرى، لا رحنا ولا جينا. إن آراء الكُتَّاب في بعضهم البعض، وإن اتخذت طابع «الموضوعية» حين تُقال علنًا، إلا أنه حين يُصبح الأمر مسألة نميمة وآراء تُقال في دائرة مغلقة، فإن كل مستور من الآراء يظهر أو بالأصح كل مستور من الغيرة أو الحقد يطفو على السطح ويَنطِق به اللسان. و«دورينمات» كاتب موهوب جِدًّا بالنسبة لبلد أوروبي صغير كسويسرا، لم يُعرَف عنه إنتاج عباقرة الكتابة أو الموسيقى أو التصوير. وقد أخذ «دورينمات» طريقه إلى العالمية بسرعة شديدة؛ فهو يكتب بالألمانية ومن السهل ترجمته. فقد كتب أول مسرحية له اسمها «الأعمى» عام ١٩٤٨ و«الشهاب» وبعد عشر سنوات بالضبط كانت مسرحيته الثانية «زواج مستر مسيسيبي» تُقدَّم في برودواي في نيويورك عام ٥٨، ناهيك عن مسرحيته المشهورة جِدًّا «زيارة السيدة العجوز» التي كتبها عام ٥٦ «وعمره وقتها ٣٥ عامًا» وقُدمت أيضًا في نيويورك وفي كل عواصم الدنيا تقريبًا وتُرجمت إلى العربية وقُدمت هنا عدة مرات كان آخرها في الصيف الماضي. وإنتاج «دورينمات» في المسرح ١٨ مسرحية، فقد كتب أيضًا «علماء الطبيعة»، وقُدمت في مصر من ترجمة الصديق الكبير أنيس منصور الذي زاره وكتب عنه في الستينيات، و«روميلوس العظيم» عن آخر أباطرة الدولة الرومانية، و«هرقل ينظف إصطبل أوجياس» و«فرانك الخامس»، و«آخر حرب الشتاء في التبت»، و«هكذا كتبت»، وأيضًا اقتبس مسرحيات لشكسبير وجوته وغيرهما. تسع مسرحيات للآن، كتبها «دورينمات» ولكنه أصبح بها أستاذ مسرح النصف الثاني من القرن العشرين؛ ذلك أن هذا الرجل يتمتَّع بموهبة القدرة على خلق الأسطورة الحديثة التي يُحرِّك بها الواقع الآسن ويجعل منه فنًّا عظيمًا «وسنأتي إلى هذه النقطة في الحوار معه».
و«دورينمات» كروائي يأتي من الدرجة الثانية من موهبته ككاتب مسرح، وقد كتب عدة روايات منها القاضي والمحكوم عليه (عام ٥٥)، والشك (٥٣)، والإغريقي يبحث عن الإغريقية (٥٥)، واللعبة الخطرة (٥٦)، والالتماس (٥٨).
أجَلْ، ما بهرني في «دورينمات» وإني ككاتب مسرح هو قدرته على اختراع حدوتة مسرحية مُعاصرة، بينما العادة جرت في معظم كُتَّاب المسرح أن يلجئوا إلى الميثولوجيا الإغريقية مثل «أوديب» و«بيجمالون» و«ألكترا» و«الذباب»، يُعيدون كتابتَها برؤيا حديثة ومُبتكَرة، أمَّا أن «تخترع» أسطورة حديثة تمامًا، مُنتزعة من صميم عصرها ومُتناقضاته، فتلك لا بد موهبة من نوع فذ تمامًا.
ومن هنا يَختلِف «دورينمات» عن مُعاصريه من كُتَّاب المسرح العالميِّين مثل آرثر ميلر وتينيسي ويليامز وبيكيت ويونسكو وموروجيك وغيرهم.
إن لكل شيخ طريقته هذا صحيح، ولكن هذا الشيخ نسيج وحده.
•••
لم يفعل الحديث الذي دار بعد العشاء، إلا أن ثبَّط همتي تمامًا في لقاء «دورينمات»، مع أني لم أكن شغوفًا جِدًّا بلقائه، فقد علمتني التجربة أن «سماعك بالمعيديِّ خير من أن تراه»، ثم إن خجلي الريفي الذي لم يُزاوِلني أبدًا فعل فعله فخفتُ أن أطلب من السيدة «زايفل» المسئولة عن زيارتنا موعدًا مع «دورينمات» فتَعتذر، ولو بلباقة، كدأبها مع كل مَن يَطلب من الكُتَّاب الذين يَزورون سويسرا، هكذا قال لي الكُتَّاب والكاتبات في حفلة العشاء. صرفت النظر كما قلت.
ولكن أثناء زيارتنا — زوجتي وأنا — لمنطقة سان مورتيز ولقائنا بممثل البروهيلفسيا هناك، الذي اتَّضح أنه من الشعب الرومانشي الذي يَقطن في منطقة جبال الألب، والذي له لغة خاصة وأدب خاص وحركة فنية ثقافية خاصة، والذي لا يتجاوز عدده المليون. وبعد جولة في قمم جبال الألب اصطحبنا المسئول لزيارة صديقة له وصديق يعيشان في وادٍ صغير يقع بين جبلَين بالقرب من سان موتيز. والوادي صغير جِدًّا، والأرض والبيوت فيه غالية الثمن تمامًا، فلا يقلُّ ثمن البيت فيه عن مليون فرنك سويسري مع أنه لا يتعدَّى أي بيت من بيوت الفلاحين الذين كانوا يقطنون ذلك الوادي من زمن غير بعيد.
دخلنا المنزل، فهو بيت مثل بيوت الفلاحين في قُرانا، مصنوع من الخشب ومزوَّد بفرن للتدفئة ولإعداد الطعام، كل ما في الأمر أن الأسرة لا تنام فوق سطح الفرن كعادتنا في الأرياف، ولكنها تنام في الحجرة التي تقع أعلى الفرن مباشرة، والتي تتكفَّل حرارة الفرن بتدفئتها طوال الليل والنهار، وعلى كوب الشاي الذي أعدَّته ربة البيت، ورُحنا نرتشفه بنهم بعد الجولة الحافلة في المناطق الجبَلية الوعرة ذات الهواء البارد تمامًا، عرَّفَها المسئول بنا، وعرَّفَنا بها، وذكر لنا أن أخاها يُعتبر من أهم الناشرين في اللغة الألمانية بسويسرا. وهنا، وفي التو، قرنت بين الناشر وبين الكاتب، وسألتها إن كان قد نشر شيئًا لدورينمات. فقالت: أجل. قلت: إذن تعرفين دورينمات؟
– بالتأكيد!
– أأستطيع أن أعرف منك رقم تليفونه؟
– ها هو ذا، ولكن لماذا؟
وهنا ذكرتُ لها رغبتي في لقائه والحديث الذي ثبَّط همَّتي … إلى آخر القصة.
ولمحت التردُّد على وجهها مخافة أن أطلب منها أن تُحدِّد لي موعدًا معه، فقلت لها على الفور: لا عليكِ يا سيدتي؛ أنا لن أُكلِّفكِ بالاتصال به، سأقوم أنا بهذا وأجرب حظي.
وحين عُدنا إلى الفندق في سان مورتيز، أخرجتُ الرقم وطلبته، ورد عليَّ صوت رجل يتحدث بالألماني، فسألته بالإنجليزية: مستر فريدريك دورينمات؟!
– يا … يا (نعم بالألمانية).
– (مواصلًا بالإنجليزية) أنا اسمي فلان، وأنا كاتب مسرحي مصري وأودُّ لقاءك، ليس لحديث صحفي، ولكن لحوار حول قضايا مسرحية تَشغلُني وتشغل كُتَّاب المسرح المصري والعربي. أفهمتني يا مستر دورينمات؟
قال بإنجليزية متردِّدة جِدًّا: نعم نعم، فهمتك.
– متى أستطيع أن ألقاك؟
قال كلامًا بالألمانية، فناولت السماعة لمرافقِنا الرومانيشي مندوب البروهلفيا، وظل يقول: يا … يا … يا …
وأخيرًا نحَّى السماعة جانبًا وأغلق فوهتها.
وقال بالإنجليزية طبعًا: إن مستر «دورينمات» يُرحِّب بلقائك يوم الثلاثاء القادم في منزله بنيوشاتل، وهو يترك لك حرية اللقاء حرية الغداء ١٢ ظهرًا أو على مشروب بعد الظهر في الثالثة، فما رأيك؟
– الثالثة يوم الثلاثاء إذن!
وقد كان.
وكان عجبي شديدًا أن تمَّ الأمر بهذه السهولة.
•••
قامت مدام زويفل المسئولة عَنَّا بترتيب كل شيء، آلة تسجيل، كاميرا، مترجم يجيد الألمانية والإنجليزية واللغة العربية حتى، كان عليه أن يَلقانا في محطة نيوشاتل للقطارات في الساعة الثانية بعد الظهر.
ومن أعظم الأشياء الموجودة في سويسرا شبكة السكك الحديدية التي تَحملُك إلى أي بقعة من سويسرا رغم وعورة جبالها وكثرتها وتعدُّد أنواعها، نوع لصعود الجبال، ونوع للسهول، ونوع دولي يحملك إلى أي مكان في أوروبا، والأهم من هذا دقَّتها الشديدة. وقد كان علينا مرة أن نغادر سان مورتيز ونغيِّر القطار الذاهب إلى لوشيانو في محطة ما لا أذكر اسمها، وكنا وحدنا، وسألت مدام زويفل عبر التليفون: كيف سأعرف المحطة؟ قالت: انظر في ساعتك، حين تُصبح السابعة وثلاث دقائق استعدَّ للنزول؛ فالقطار يصل إلى المحطة في السابعة وأربع دقائق. وفعلًا، في السابعة وأربع دقائق كُنَّا نهبط من القطار على رصيف المحطة التي فشلتُ في تذكُّر اسمها، لكأنه نوع من التعرف على المكان بالزمان. إن صناعة الساعات لم تَنشأ في سويسرا عبثًا، وأنا شخصيًّا لديَّ ساعة سويسرية دقيقة لا أحتاج إليها كثيرًا في مصرنا الغالية، لم أحتجْها تمامًا إلا هناك، فخطأ في نصف دقيقة قد يكلفك قطارًا هامًّا يفوتك أو موعدًا لقيام طائرة.
في الثانية تمامًا كان المترجم هناك، بالضبط في بوفيه الدرجة الأولى واقفًا على الباب، ودون أن نتبادل كلمة كُنَّا قد تعارفنا.
كان المطر قد بدأ يتساقط، وما إن خرجنا من باب المحطة حتى أصبح سيولًا، وكان العثور على تاكسي في هذا الجو مسألة صعبة تمامًا، ووجدنا أن خير طريقة هي أن نَنتظر مسافرًا قادمًا بتاكسي لنأخذه، وأفلحت الطريقة، وسألنا السائق عن العنوان فأكَّد أنه يعرفه. وسار بنا في شوارع خلت من المارة تقريبًا إلى أن أصبحنا نَسير في شارع مُوازٍ لبحيرة نيوشاتل، وبدأ السائق يعدُّ أرقام البيوت، وبدأ يُبرطم، فكل الأرقام موجودة إلا رقم منزل «دورينمات». المطر، والبرد، والشارع المُنعرِج كالجبل الملاصق له لا تَلمح فيه أثرًا لإنسان أو لحياة، وتصوَّرت أن السائق سرعان ما يزهق وينفض يده ويعود بنا إلى المحطة حيث كُنَّا.
ولكن يبدو أن الرجل أخذها مسألة تَحدٍّ، فمضى يطرق الأبواب، بعضها يفتح له ويجيب بالتأسف، وبعضها يهزُّ رأسه علامة اللاعلم. ويَروح السائق ويجيء في الشارع المتعرج الطويل، وأخيرًا جِدًّا يَطرق بابًا نلمح من خلفه رأسًا يهتز بالمعرفة، ويعود السائق متهلِّلًا وكأنه «أرشميدس» يقول: وجدتها وجدتها. وبعد دقائق نكون أخيرًا أمام باب «دورينمات».
فتحَت لنا الباب سيدة شابة، حسبتُها أول الأمر زوجة دورينمات الجديدة، ولكن اتضح فيما بعد أنها «شغالة» البيت، ومن مَمرٍّ ضيق نفَذنا إلى حجرة واسعة منخفضة بضع درجات، وكان دورينمات جالسًا إلى مكتبه، قام وتقدَّم ناحيتنا مرحبًا ومسلمًا.
الرجل في تمام صحته، قصير القامة، في الخامسة والستين يبدو، نشط الحركة، ليس سمينًا أو زائد الوزن كما قالوا، ولا يَمشي على عكَّاز كما زعموا، أشيَبُ الشعر، يضع منظارًا وعلى وجهه آيات ترحيب صادقة، ترحيب مُتواضِع أشدَّ ما يكون التواضع.
ولم يكن «دورينمات» أول كاتب ملأت شُهرته الآفاق أقابله؛ فمِن قبله لقيت سارتر وإيليا أهرفيورج في النمسا، وآرثر ميللر وجون إبدايك وسل بيللو من أمريكا، وكل منهم كنت أحسُّ لديه بكمٍّ ما من الشعور المغتربة للذات وبالذات، إلا هذا الرجل الذي بدا لي شيخًا صغيرًا طيبًا، فيه من ملامح الطفولة أكثر مما فيه من ملامح الشيوخ.
كان حائط بأكمله من حجرته مصنوعًا من الزجاج ويطلُّ من علُ على بحيرة نيوشاتل والجبل المنحدر إليها. مكان عمل جميل جِدًّا لفنان رسام وكاتب معًا.
رُحت أتأمل الرجل. هذا هو «دورينمات» إذًا الذي خلبَت أفكاره لبِّي، وجعلتني أتساءل عن كنه ذلك الكاتب المسرحي الذي «يَخترع» تلك الأفكار.
– أستاذ دورينمات، أنا شديد الإعجاب بمسرحك لسبب قد يُخالفني فيه الكثير من نُقَّادك، فنُقَّادُك يُشيدون بك لأنك أحللتَ الصدفة محلَّ القدر الإغريقي القديم، وجعلتَ التفكير العقلاني فكرة في أحيان كثيرة موجات من العبثية واللامفهومية. وفي مثل هذا الجو غير المعقول لا يُمكِن وجود الأبطال، ويقولون إنك حطمتَ النظرة المنمَّقة المرئية للعالم المُتمدْيِن بما أدخلته عليها من النظرة النسبية للحقائق، وفي مكان البناء السليم المتكامل والقوانين الأخلاقية المطلقة، في مكان هذا حلَّت بيروقراطية المجتمع الحديث لتصنع رؤيا عينية للكون حيث يستحيل فيه الإنسان ومأساته إلى سخرة «فارس» اجتماعية. نُقَّادك يُقدِّرونك لهذا ولكني معجب بك لسبب آخر تمامًا.
أجاب «دورينمات» بابتسامة ماكرة: أي سبب؟
قلت: لأنك كمسرحي، خالق لما أُسمِّيه الأسطورة الحديثة؛ فالواقع كما هو أنت تعرف وأنا أعرف لا يَصلُح بذاته كمادة مسرحية، لا بد من حيلة مسرحية يلجأ إليها كاتب المسرح ليجعل هذا الواقع إمَّا أن ينقلب رأسًا على عقب وإمَّا أن يَعتدِل إذا كان مقلوبًا لنستطيع أن نراه في ضوء جديد تمامًا وبرؤيا جديدة تمامًا؛ فمثلًا في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» أنت تريد أن تتحدَّث عما يُحدِثه العامل المادي في النفوس البشرية وكيف يتسلَّط عليها ويغيرها، غيرك كان يلجأ لعرض هذا الموضوع في قالب درامي مهما بلغت درجة إتقانه فسوف يكون مباشرًا، أنت اخترعت قصة السيدة التي غادرت القرية منبوذة من حبيبها والتي عادت إليها بعد أن أصبحت غنية جِدًّا ورصدت مليون دولار لمن يَقتُل لها حبيبها السابق. هذه «الاختراعة» المسرحية جعلتْنا نرى الموضوع بطريقة مسرحية مُثلى، وجعلتنا نراه وكأننا لم نرَهُ من قبل، مع أننا نراه كل يوم. أردتُ لقاءك إذن ومناقشتك لأننا في العالم العربي نُعاني ككُتَّابِ مسرح (وأنا منهم) لخلق هذه الاختراعات المسرحية المصرية والعربية الحديثة لنرى واقعنا وواقع العالم اليومي على ضوئها.
قال: إنه لشيء غريب، ولكننا في خلقنا للأسطورة الحديثة، كما تُسمِّيها نجد أنفسنا في النهاية وقد عُدنا إلى أساطير الأقدمين، إلى الميثولوجيا الإغريقية مثلًا. إن النظرة الكونية الشاملة المتكاملة كانت منذ خمسين عامًا مضت لا يُمكن الوصول إليها على وجه الدقة، ولكننا الآن نستطيع أن نقول إننا نقف على أرضية نظرة كونية ثابتة. نحن لدينا اليوم فكرة شبه يقينية عن ماهية المادة.
قلت: إنني سعيد بسماع هذا؛ فأنا أحتاج وأنا أكتب مسرحياتي إلى أن أقف على أرضية كونية ثابتة، وحين كنت أكتبُ مسرحية لي اسمها «الفرافير» احتجتُ أن أعثر على قانون واحد يشمل كل مادة الكون من أصغر ذراتها وإلكتروناتها إلى أكبر مجراتها.
قال: وهل وصلت إليه؟
قلت: وصلت إلى ما تفضَّلتَ وأسمَيتَه أنت «شبه اليقين». فبإمعان التفكير وصلت إلى أن المادة في حالة نبض مستمر، تتجاذب مكوناتها، من مكونات الذرة، إلى مكونات المجرة، وتظل تتجاذب إلى أن تصل إلى ما أسميته المسافة الحَرِجة لتبدأ قوى التجاذب تتحول فجأة إلى قوى تنافر منفجر هائل، وهذا القانون يشمل حتى العلاقات البشرية من تقارب وحب ثم تنافر وتباعد، ومن العلاقات داخل المجتمعات، وبين الدول، وهكذا.
قال: وماذا دفعك للبحث عن ذلك القانون الجديد؟ أوَلم تكفِكَ القوانين الحالية لتفسير السلوك البشري؟
قلت: إن القوانين الحالية لعلم الطبيعة والكيمياء والبيولوجي والأنثروبولجي لم تكن لتُسعِفَني لتفسير العلاقة بين السيد والفرفور (وهنا تكفَّل المُترجم بتلخيص مسرحية الفرافير التي يعرفها ودرسها، وقد سعدتُ بهذا لأنني هنا أمام كاتب قد قرأتُ معظم وأهم أعماله بينما هو بالكاد لا يعرف إلا أني مجرد كاتب مسرحي مصري، فكان ضروريًّا أن يعرف شيئًا عن إنتاجي).
قال: أنا لا أستطيع أن أُناقشك في تصوُّرك عن هذا القانون الكوني الواحد، ولكني شخصيًّا أؤمن بقانون واحد آخر هو قانون الصدفة. إن العالم الذي نحيا فيه بما يحتويه من بشر ليس له قدر محتوم يَسير إليه ويَنتهي بنهايته. ولهذا نحن لا يمكن أن نتنبأ بما سيحدث لهذا العالم غدًا؛ لأن العالم يسير بطريق الصدفة العشوائية، ولا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سوف يحدث؛ فالأمر متروك لقانون الصدفة المحضة.
قلت: هل تعتقد يا أستاذ دورينمات أن المسألة مجرَّد صدفة، حتى لو كانت قانونًا.
قال: نعم. أنا أعتقد أن الحتمية — حتى التاريخية منها — قد استبدلت بالاحتمالية، بمعنى أن هناك «احتمال» أن يحدث هذا الشيء أو ذاك.
قلت: ألا يُمكن أن تكون الاحتمالية طريقًا للحتمية أو بالأصح هل من المُمكِن أن تؤدي الاحتمالية إلى الحتمية؟ (سألت المترجم: هل سؤالي مفهوم؟) قال المترجم: لا.
قلت: بمعنى آخر: الاحتمالية مهما كَثُرت فلها حدود، فهل يُمكِن أن تؤدِّي الاحتمالية في النهاية إلى الحتمية؟
سألته هذا السؤال وفي خلفية تفكيري ما يقوله النُّقَّاد عنه من أنه نظرًا لما أصابه من إحباط نتيجة لانعدام العدالة الكونية، وثبوت أن الفلسفات كلها غير يقينية، أصبح يؤمن أن البطولة في العالم انحصرَت في تمرُّد المعزول ضد النبوءة الميئوس منها، وعلى هذا الأساس بنى عملًا من أعماله الفذة التي سنتحدَّث عنها فيما بعد وهو «التِّيه».
قال: لنَعُد إلى قانونك الذي تصوَّرته عن الكون (قانون النبض الكوني أو التجاذب للتنافر): أنا آخذ هذا القانون مأخذًا عِلميًّا جادًّا أو بالأصح افتراضًا علميًّا جادًّا، فمن المعروف أن الكون الآن في حالة تمدُّد (حسب نظرية أينشتين) أو ما تُسميه مرحلة التنافر، فهل هناك قوة داخلية فيه تستطيع أن تبدأ مرحلة التجاذب.
أسعدني أنه عاد ليُناقشني في افتراضي ويأخذه ذلك المأخذ الجاد.
قلت: إنه لا يتحدَّد — حسب افتراضي — من تلقاء نفسه، إنه يتحدد لأنه بالضرورة ينجذب أو تنجذب أطرافه إلى أكوان بعيدة أخرى، بمعنى أن المادة الكونية كلها — من الذرات إلى المجرات — تتجاذَب بنفس السرعة، بل وتقطع في انجذابها نفس النسبية من المسافة، إلى أن تصل إلى النقطة الحرجة فتَنفجِر مُتنافِرة ثم تعود لتتجاذَب وهكذا.
فالقوة أو القانون الأساسي ليس شيئًا من خارج الكون ولكنه كامن داخله، التجاذب للتنافر.
قال: إنه احتمال وارد، بل هو في الحقيقة تَفسيرنا نحن الكُتَّاب أو افتراضاتنا عما يجري داخل الكون ومادته. إن فكرة الكون نفسها هي تصوُّرنا نحن عن الكون. إن فكرة «جاليليو» عن الكون كانت صحيحة في عصرها تمامًا، ولكنه لم يكن يَملك الأدوات أو الأجهزة التي تُمكِّنه من إثباتها عمليًّا والتأكد من صحتها وصحة أن المادة تدور في حلقات وحول نفسها، ونحن الآن عائدون إلى تصورات أخرى عن الكون، وما الفن إلا تجسيد لتصورنا نحن عن هذا التصور.
قلت: لو أخذنا «دورينمات» حين بدأ يرسم ويكتب في أوائل بداياته عام ٤٣، ٤٤، ٤٥، وأخذنا تصوره للكون، هل تغيَّر هذا التصور؟
وواصل «دورينمات» قائلًا: إنَّ الحرية الحقيقية هي في إدراك مَحدودية القدرة البشرية على فهم الكون.
قلت: نعم، فلقد جعلت الصراع في مسرحيتي بين رغبة الإنسان العارمة في التحرُّر من النظام الكوني «السيد» وبين قدرته المحدودة على الفكاك من أَسرِ هذا النظام نفسه؛ إذ لو فك منه تمامًا لفقد صفته البشرية ونظام وجوده.
قال: ولكن النظام ليس خارج الإنسان، إنه داخل الإنسان نفسه.
قلت: ولكن كنتُ أتحدَّث عن الوجود الإنساني في هيئة جماعة بشرية، فالإنسان لا يحيا بمفرده، ولا يوجد مكون بمفرده أبدًا، حتى الذرات توجد في مجتمعات ولا بد من نظام يحكم وجودها الجماعي.
قال: أنت تقول إن الإنسان لا يُمكن أن يعيش خارج نظامه الإنساني وإن النظام لا يُمكِن أن يعيش خارج الإنسان، فكيف عالجت هذه المعادلة المستحيلة.
قلت: بالصراع حول من يكون السيد: النظام، أم الإنسان؟
وضحكْنا، طويلًا، وكثيرًا.