المساحة الحرجة
ظللتُ لا أعرف لماذا كنتُ من صغري أحبُّ التجمُّعات البشرية، كحُبي للأشخاص الأفراد، وأعشق وجودي بينها وإحساسي بها، في الأفراح، والموالد، والأعياد، وحتى في المآتم والجنازات والقهاوي، أحب أن أكون واحدًا من كلٍّ كبير، حلوَ الروح، المرح فيه بحر، أو بحيرة مقدسة كبيرة، ينعم الجميع بالاستحمام فيها؛ إذ هو مرح «عام» وليس مرحًا فرديًّا خاصًّا محدود الأثر.
ظللت لا أعرف لماذا كنتُ، إلى عهد قريب، أحب تلك التجمعات، والآن أصبحت أضيق بها، إلى أن وجدتُ الإجابة في مهرجان جرش.
والحقيقة أني كنت قد سمعت عن المهرجان كثيرًا، وقرأتُ الكثير مما كُتب عنه، ولكني لا أعرف لماذا أيضًا أصبحتُ أشك في كل مدح مبالغ فيه على صفحات جرائدنا العربية، أشم دائمًا رائحة شيء ما ورائه، ولم أكن أتصور أنه سيُقدَّر لي أن أرى المهرجان رأي العين، ولكن هذا ما حدث. فلقد تلقيت دعوة ملحَّة خاصة من الأستاذ محمد الخطيب وزير الإعلام والثقافة الأردني لحضور المهرجان، وكنتُ قد زرتُ الأردن في العام الماضي، زيارة خاطفة، لحضور المؤتمر الوطني الفلسطيني، وكانت تلك أول مرة أرى فيها هذا البلد العربي، ورغم أنَّنا كُنَّا مقيمين في منطقة الفنادق في عمان مُحاطين بالأسلاك الشائكة والحرس المدجَّج حتى داخل الفنادق، تحوُّطًا من أيِّ محاولات إرهابية، رغم هذا، إلا أن اللَّمحة الخاطفة التي رمقت بها الأردن جعلتْني أُلبِّي الدعوة، فأنا أريد مما رأيته وشاهدته أن أعرف عن هذا البلد الشقيق أكثر وأكثر؛ إذ في الحقيقة تلك اللمحة كانت قد بهرَتني تمامًا إذ لم أكن أتصوَّر الأردن هكذا أبدًا، أو بالأصح ما صارت إليه الأردن.
المهم …
كانت المفاجأة الكُبرى بالنسبة لي حين قابلنا وزير الثقافة والإعلام الأردني في المطار أن أجده هو بنفسه، الصديق القديم محمد الخطيب، رفيق أيام الرعب في الجزائر، حين ذهبتُ مع مجموعة من الصحفيين المصريين لتغطية أخبار الخلاف الخطير الذي نشأ بين مجموعة بن خدة ومجموعة بن بيللا عشية حصول الجزائر على استقلالها. كان الأستاذ محمد الخطيب معنا، مندوبًا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية التي كان يعمل بها آنذاك، ومعًا، وبصحبة الزملاء حمدي فؤاد عن الأهرام، وفوميل لبيب عن دار الهلال، ومحمد العزبي عن الجمهورية، ورشاد أدهم عن صوت العرب (بطل الساحة في ذلك الوقت) — حوالي عام ١٩٦٢م — عِشنا أيَّامًا من الهول والإفلاس والخطورة لا تُنسى؛ ذلك أننا وصلنا بلدًا لا دولة فيه، وليس فيه حكومة ولا شرطة، ولا قانون بالمرة؛ إذ كان الصراع حول من يحكم وكيف يحكم قد ترَكَ البلد فارغًا تمامًا، وكان الفرنسيون الذين كانوا يُمسكون بكل شيء، قد فعلوا، مثلما فعل مرشدو القناة بعد تأميمها، وتركوا الجزائر كلهم فجأة وعادوا إلى فرنسا، حتى إن التليفونات نفسها كانت لا تجد من يُحصِّل ثمن مُكالماتها، وأذكر أني كنتُ أفتح الخط على جريدة الجمهورية وأُملي صفحة كاملة من الجريدة حديثًا كان أو تحليلًا قد يستغرق إملاؤه ساعتَين دون أن أجد من يُحاسبني، وكذلك كان يفعل الزملاء.
وكم من نوادر وحكايات حدثت خلال الأربعين يومًا التي أمضيناها هناك، تقريبًا بلا أي نقود معنا؛ إذ كانت التحويلات أيضًا مشلولة، ولولا أننا كُنَّا نأكل مع سفيرنا علي خشبة — واحد من أعظم سفرائنا في الخارج — ذلك الذي كان ذاهبًا في مهمَّة قتالية، مصحوبًا ﺑ «بودي جاردز»، لولا أننا كُنَّا نأكل عنده ومعه ويُقرضنا مصروف جيب، لهلكنا جوعًا، وقد تقطَّعت بنا كل سبل الاتصال بمصر.
فوجئت بالوزير محمد الخطيب هو نفسه محمد الخطيب زميلنا في رحلة الهول، وفوجئت به يُذكِّرني بأشياء حدثت في تلك الرحلة لا يتَّسع المجال لذكرها هنا، رغم مدلولاتها الخطيرة؛ إذ كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أُزاول فيها عملًا صحفيًّا حقيقيًّا، وكما يقولون «أُغطي» أخبارًا وأحداثًا وأدخل في منافسات ومسابقات.
وفرحت للمفاجأة حقًّا، فما كنت أبدًا أتوقعها، ثلاثة وعشرون عامًا جعلت من المراسل الشاب لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، رئيسًا لوكالة أنباء الأردن (باترا) ثم وزيرًا. يا له من مشوار!
والغريب في الأمر أن الوزير اعترَفَ لي بكل أمانة أنه تسلَّم وزارة الإعلام والثقافة والسياحة حديثًا — حين كنتُ في أمريكا — على إثر استقالة الوزيرة ذات الموقف؛ السيدة ليلى شرف، وأنها هي، ولَجْنة المهرجان العليا — التي ترأسها الملكة — التي قامت بتنظيم كل كبيرة وصغيرة من شئون المهرجان وبرامجه.
•••
وهكذا وجدتُ نفسي «مُضطرًّا» لمشاهدة المهرجان؛ ذلك أني في الحقيقة كنت ذاهبًا لرؤية الأردن نفسها، وليس لحضور أفراح ومهرجانات، ولكني أشكر الظروف التي «اضطرتني» لحضور المهرجان، وأشكر الوزير الصديق على دعوتي؛ فبعد حفلة الافتتاح الرسمية التي قام بها جلالة الملك حسين والملكة نور، والتي استغربتُ فيها لأن الملك والملكة قد وقَفا أكثر من ثلاثة أرباع الساعة والوفود والفِرَق المشتركة في المهرجان تمرُّ أمامهما، وهكذا اضطر المدعوون — وأنا بالطبع منهم — إلى الوقوف على أقدامهم طوال ذلك الوقت. إنَّ الملك يريد أن يُحيِّي الفن والفنانين تحية احترام عميق لماهية الفن والثقافة حتى — وبالذات — لو كانت ثقافة شعبية أو تلقائية، أعجبتني اللفتة تمامًا.
وبدأت ليالي المهرجان …
وفجأة وجدت الطفل الذي فيَّ يستيقظ و«يتفرج» و«يشارك»، الطفل الذي كان يسهر في ليالي المولد ويُساهم في حلقات الذكر وينبهر بمن يبتلعون النار ويدخلون السيوف في بطنهم، الطفل الذي كان يتصوَّر الغوازي وهنَّ يرقصن ويغنين كائنات خرافية كأنهنَّ جان ولسْنَ بشرًا، اللفُّ والفرجة والضحكة والخفقة والأنوار، حتى ولو كانت بكلوبات، تَخلب الألباب، الطفل في مولد الحسين والسيدة والشيخ الشبراوي، الطفل في التيفولي في الدانمارك حتى لو كان قد أصبح في الثلاثين وهو يَركب القطارات المندفعة، والصواريخ المنطلقة في دائرة لعنان السماء، الطفل ولو كان في الأربعين والخمسين في «ديزني لاند» يَخلع عنه فجأة كل الأقنعة الناضجة المجعَّدة الكئيبة، ويرتدُّ نقيًّا كالبللور، صافيًا كجدول حياة خالية رقراقة، الطفل الذي يحب الجموع كما يحب الوجوه الجميلة، الذي يحب أن يسمع، بل ويشارك ولو بصوت خافت، في الأغاني والموسيقى.
وجدتُ هذا الطفل يَنفض عن نفسه الملابس الشتوية الكبيرة الثقيلة، ويَنزع عنه كل أغطيته ويكاد مع الفرحة يطير، ومع الدقة يَرقص، ومع كل شيء وكل حدث يتوقف، ويستمتع ويُحب.
ذلك الطفل الذي كان قد خُيِّل إليَّ أنه انتهى من زمن ومات لأنه كبر ونضج وتضخم عقله بطريقة ابتلعت بها كل تلقائيته، واندفاعه، وفرحته المستمرة بالحياة، وجدته يعود!
•••
ولكن العقل أيضًا وجدته، ويا للدهشة مع التلقائية والفُرجة والطفولة يستيقظ، بل ولأول مرة يجد «مُتعة» في التفكير والتأمل.
وجاءت الفكرة هادرةً كالمياه المندفعة من السد العالي.
إننا في مصر لا بد أن نصنع شيئًا يُعيد لنا حُبَّنا للحياة.
إنني أمُر في قاهرتنا الحبيبة في الشارع أو في السيارة فأجد ملامحنا منقبضة، حتى ملامح الشبان والفتَيات قاسية تعاني من الضيق.
ذلك أننا وكأنما استيقظنا ذات صباح فوجدنا أنفسنا قد وُضعنا في مأزق حياة، ووجود لا أعتقد أن شعبًا قبلنا ولا شعبًا بعدنا سيوضع فيه؛ ذلك أننا استيقظنا لنجد أننا تضاعَفْنا في فترة لا تزيد عن الربع قرن أربع مرات، في بلاد ورقعة زراعية ومأهولة لا تتَّسع إلا بالكثير لاثني عشر مليون إنسان، أصبح فيها الآن ربما أكثر من خمسين مليونًا من السكان.
هذه المرة ليسَت المشكلة مشكلة فقر وغِنى، مشكلة طبقية أو سياسية، ولكنها مشكلة لم تخطر لآدم سميث مفكر الرأسمالية أو كارل ماركس مفكر الاشتراكية على بال، مشكلة وجود بشري مكثف تكثيفًا هائلًا بحيث يجعل من نفس ذلك الوجود جحيمًا بشريًّا لا يُطاق. إن الإنسان إنسان لأنه «نوع» والنبات والحشرات هكذا لأنها «كم»، والإنسان أبدًا لا يستطيع أن يحيا، بل أن يَسعد ويُزاول كل وظائفه العليا كإنسان إلا وهو يحيا كنوع إنساني، والنوع الإنساني أحد مُتطلباته ليس الطعام فقط أو الأوكسيجين، ولكن «المساحة» أو بالأدق الحد الأدنى من المساحة اللازمة لحركة وتنفُّس ووجود الكائن البشري الحي. وأعتقد أن علماء الجغرافيا البشرية والعلوم الاجتماعية لا بد يُدركون أن هناك «مساحة حرجة» لازمة لوجود كل إنسان على حِدَة ليتكوَّن مجتمع ما، فإذا تضخم العدد بحيث تجاوز هذه المساحة الحرجة، ووصل إلى مرحلة من التلاصُق والتكثُّف غير بشرية بالمرة، لا بد أن تحدث لهذا الكائن البشري تغيرات وأمزجة واتجاهات وتطرُّفات وأنواع من الخبل والهوس والجنون الخفي، على المستوى الفردي والجماعي، لم يعرفها الناس من قبل.
وذلك هو المأزق البشري الخطير الذي نحن عليه الآن.
لأمر ما عنَّ للعقلية الجماعية المصرية أن تتكاثَر وتتكثَّف، دفاعًا مغلوطًا عن النفس ربما، سرطانًا جماعيًّا ربما، جشعًا لحياةٍ لا متعة فيها إلا الطعام والجنس ربما، لا أعرف، والغريب أن أحدًا من علمائنا لا يعرف أيضًا، بل لم تُحاول جامعاتنا أن تدرس هذه الظاهرة، وفيما عدا ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه الدكتور جمال حمدان والذي اصطحبتُ جزءه الرابع الخاص بالسكَّان في مصر معي في رحلة سابقة، وهي دراسة رغم تفرُّده وعبقريتها، إلا أن جمال حمدان يقف أيضًا وهو العالم الفذُّ الكبير، يتساءل حائرًا عن سرِّ هذا الانفجار البشري المصري.
أمَّا السر فنَتركه لبحث علمائنا، إن أتاح لهم ازدحامهم هم الآخرين أن يَبحثوا، أمَّا نتائج هذا الانفجار وما يَفعله فينا وبنا، فتلك أمور لا بد أن نعي بها تمامًا وإلا هلكنا. أجل، أقولها بملء صوتي هلكنا؛ فكثير، بل أقول: معظم ما نشكو منه، مرجعه إلى هذا التضخم السرطاني الهائل في عدد السكان والأفواه، ولولا أننا شعب عريق الحضارة تُشكِّل المادة الحضارية جزءًا أساسيًّا من تكوين أبسط فلَّاحيه وأميِّيه، لكانت قد حدثت لنا أهوال وأهوال. إن معظم الدعاوى والغوغائية السطحية والسلوك الغريب في مدرَّجات الكرة، وحفلات الغناء، والشارع، والنادي، ووسائل المواصلات، كلها راجعة إلى «التلاصُق» الجسدي الذي تعدَّى المسافة الحركة واعتدى على التفرُّد البشري الواجب ليكون الإنسان أو الإنسانة بشرًا سويًّا، وفي مثل ذلك الجو غير العاقل وغير البشري، فأي دعوى حتى لو كانت ضدنا ستجد الاستجابة؛ فالناس من فرط ازدحامها أصبحت تَكره بعضها لله في لله، وتكره وجودَها معًا، وقد ضاق ذلك الوجود إلى حد الاختناق، تتوق إلى مكان أو فرصة تُزاول فيه تفرُّدها وإنسانيتها ونوعيتها البشرية فلا تجد.
أقول نترك دراسة الظاهرة أسبابها وملامحها، وماذا يمكن أن تفعله لنخرج من هذا المأزق الخطير تمامًا، للعلماء وللمُتخصِّصين ونعود للمهرجان.
•••
هنا الازدحام أيضًا موجود، هذا حقيقي، ولكنه ازدحام إنساني وليس تكدُّسًا بشريًّا، البنات والأولاد والأطفال والجدات والرجال والشباب والشابات، خمسة عشر ألفًا أو يَزيدُون، كل ليلة تزدحم بهم ساحة تقلُّ كثيرًا عن ساحة ملعب كرة، ولكن أحدًا لا يصطدم بأحد، وشابًّا لا يعاكس أبدًا فتاة، والأطفال أطفال فعلًا وليسوا شياطين صغارًا، والعُروض كثيرة ومتنوعة، من أربعين دولة وحوالَي مائة وأربعين عرضًا من ليالي المهرجان العشرين، وما أروع لحظة اللقاء بين الفن والناس وبين الناس والفن، ما أروع لحظة التفرُّج والتمسرُح التي أصررتُ عليها في نظريتي المسرحية، هنا الناس جزء من الفُرجة والممثلون والموسيقيون والراقصون جزء من الجمهور، والجميع في حالة عظيمة من النشوة، هنا الجميع أطفالٌ إلى درجة البراءة المحضة، وكبار إلى درجة التصرف المُتحضِّر غير المندفع أو المجنون، هنا الجميع في ساحة واحدة ومُزدحمون، ولكن بقيَ لكلٍّ منهم الحد الدنى من المسافة والمساحة الواجبة أن تتوافَر للإنسان طفلًا كان أو شيخًا ليتنفَّس ويحيا، ويتحرَّك، ويُحب، وينفعل، وينبهر. المزمار الصعيدي والطبلة بجوار الفرقة القومية للفنون الشعبية بجوار الفرقة الأمريكية والباليه الإنجليزي وفرقة الرقص الروسي، والأنوار ساطعة والتِّلال المحيطة بالوادي تَحفل بالنور، النور الصادر حتى من كل عينَين متطلعتَين، هنا الحياة تبدو جميلة جِدًّا جديرة بأن تحيا، والبشر يبدون جميلين جِدًّا جديرين بالحياة وبالفن وبالحب وبالحرية وبالاستقلال وبكل ما يجعل الإنسان إنسانًا، بل وحتى سوبر مان.
والسبب!
أنَّ عدد الناس هنا إذا قُورنوا بمساحة الأرض المأهولة معقول تمامًا، هنا الشارع عريض فسيح جديد وليس حارةً أصبحت تتكدس بالبشر والعربات والخناقات، هنا أُطلق سراح الإنسان ليتحرَّك، فنحن في القاهرة سجناء شوارعنا وبيوتنا ونوادينا، ووسائل مواصلاتنا وانتقالاتنا، سجناء فعلًا لا قولًا، سجناء لأننا لا نستطيع الحركة كما نريد، فنتكدَّس وندبُّها فولًا وطعميةً، وبلا حركة نتْخَن ونتْخَن، ولا رياضة فردية ولا جماعية ولا مكان للسير أو التمشي، بَشَر بَشَر بَشَر، طوفان من البشر، ضللتُ مرة طريقي ودخلت حيًّا لا أعرفه، كدت أُصاب بالذعر من العدد المُخيف من الناس المزدحمين في شارع واحد من حي واحد من مدينة واحدة من مدننا، يا إلهي! ماذا حدث وماذا نفعل، فنحن بهذه الطريقة، وبهذا الكم، لا نحيا، ولا نفرح، ولا نبتهج، ولا نحتفل، ولا نقيم مهرجانات إنسانية حلوة، ولا نفعل إلا أن نستلقي أمام التليفزيون مُستسلِمين لمُتعة سلبية تمامًا، نتفرج على إلكترونات ترسم صورًا وقصصًا، بينما الحياة الحقة هي ما «يُزاولها» الإنسان وليس ما «يتفرَّج» عليها، وكان ازدحامنا وصل إلى درجة التوقُّف أن نحيا، بل حتى أن نُوجد، فوجودك دائمًا مجروح ومُقتحم بوجود لصيق آخر لا تَملِك له دفعًا.
محروسة أنت يا مصر هذا صحيح، ولكن شعبك يَخنُقُك ويختنق بك، وحتى دعاواه مهما تسربلت بثوب من العلم أو الدين فهي دعاوى اختناق بشري وازدحام وجود، وما هكذا تكون الدعاوى أو توجد؛ فالدعاوى يُطلقها البشر لبشر، فإذا كان الطالِقون يَحيون في علبة تونة، فإنها دعاوى اختناق يُرسلونها لمختنقين.
•••
إني مُتأكِّد أن مصر ستَجتاز تلك الأزمة، لا أعرف كيف، ولكني أعرف أن هذا الشعب المجيد قد مرَّ بأزمات وجود طاحنة، مجاعات أكل فيها ما لا يُؤكَل، حتى بعضه أكل بعضَه، وولاة كانوا في أحيان جزارين، واحتلالات مُتعاقِبة لم يرَ مثلها شعب.
أعرف أننا سنَجتاز هذه الأزمة بكل تأكيد، ولكني أصبحت في شك أن يتمَّ لنا هذا الاجتياز في أعمارنا نحن، أو عمري على الأقل، وليس هذا تشاؤمًا، إنه عين التفاؤل، فحتى السرطان الخلوي نفسه قد أصبح يُشفى ويُمكن علاجه، فما بالك بما هو أخف، أخف لأن في أيدينا شفاءه، ولو كنتُ من حكومتنا لعقدت فورًا مؤتمرًا عاجلًا أجمع له أعظم العلماء والمفكِّرين والمتخصصين ويكون له موضوع واحد فقط.
كيف تُحلُّ مشاكل ازدحامنا الوجودي ووجودنا المزدحم بطريقة تُعيد لكل مواطن مِنَّا إنسانيته؟!
حتى نعود نفرح ونبتهج ونُقيم أحلى المهرجانات.