عُقدة المشرق والمغرب
الأحداث الأخيرة التي وقعت بين السلطة التونسية وبعض المواطنين المصريِّين لم تكن في خاطري وأنا أُهيئ نفسي لكتابة هذا الموضوع؛ ذلك لأني لا أريد أن أتحدَّث في هذا الموضوع ككاتب مصري، وإنما أريد أن أتناوله ككاتب عربي. فلقد حاولَت بعض الأقلام المصرية أن تستعديَ الحكومة المصرية ضد الفنانين التونسيِّين المقيمين بالقاهرة؛ لمعاملتهم بالمثل ردًّا على ما قامت به السلطات التونسية من منع دخول بعض نجوم الغناء والموسيقى المصريين إلى الأراضي التونسية، وإيقافهم في المطار، ثم ترحيلهم إلى القاهرة على أول طائرة مصرية.
وحَسَنٌ أن السلطات المصرية لم تستجب لتلك الأقلام؛ فهذا هو عين ما يريده بعض المتعصِّبين لتونس من التوانسة؛ ذلك التعصب الخاص الذي أريد أن أعرض له هنا، فلهذا التعصب جذوره الفكرية العميقة.
ولكي أبدأ البداية الصحيحة لا بد أن أقول إني شخصيًّا أكنُّ حبًّا وودًّا لا نهاية لهما للشعب التونسي الشقيق، وقد حكمت عليَّ الظروف أن أكون من أوائل الكُتَّاب المصريين الذين زاروا تونس بعد استقلالها، وكان ذلك في فترة ٦٠-٦١ أثناء اشتعال الثورة الجزائرية. أيامها كان مسئول الإعلام في الثورة الجزائرية هو الأستاذ محمد يزيد الذي عمل بعد الاستقلال سفيرًا للجزائر في بيروت، وكنا قد طلَبْنا منه — وكنت رئيسًا لبعثة أوفدها التليفزيون المصري لتغطية أحداث الثورة الجزائرية من داخل الجزائر، وكنا بهذا أول بعثة تليفزيونية عربية ترى الثورة ومُقاتِليها ومعاركها وتنقل هذا كله بعيون عربية إلى المواطنين العرب والعالم كافة.
كُنتُ قد طلبت من الأستاذ يزيد أن يتصل بجيش التحرير الجزائري ليُسهِّل مهمَّتنا في دخول الجزائر عن طريق الحدود التونسية الجزائرية، وأن يُوصِّلنا بقوته إلى الداخل. واستمهَلَنا محمد يزيد فترة ليقوم بهذا الاتصال، ويأخذ الموافَقة عليه. وهكذا عشنا في مدينة تونس وكافة أنحاء الوطن التونسي فترة امتدت شهرًا، زُرنا خلالها الشمال والجنوب والشرق والغرب، ومن مدينة بنزرت إلى سوسة وصفاقس والقيروان. جولة ملأتني حبًّا للشعب التونسي وتعاطفًا مع إنسانه الرائع. فالحقيقة أن تقسيم الوطن العربي بين الاستعمارَين الفرنسي والإنجليزي، فوق ما أصاب به الأمة العربية من بلاء، مزَّق الوطن العربي شر ممزَّق، وأقام حاجزًا رهيبًا بين المشرق العربي والمغرب العربي، وبالذات بين المغرب العربي ومصر. كانت مصر قد حظيت باستقلال جزئي عام ١٩٢٢ عقب ثورة سنة ١٩، وكانت فرنسا تخشى تمامًا أن تتسرَّب الثورة من مصر إلى بلاد المغرب العربي التي تحكمها بالحديد والنار. ورغم هذا لم تَستَطِع كل هذه القوى الاستعمارية أن تحول بين الشعب المصري وأشقائه من شعوب المغرب العربي. وأذكر أني وأنا صغير جِدًّا عاصرت نفي الملك محمد الخامس ومرور الباخرة التي كانت تَحمله عبر قناة السويس، والهزة العميقة التي حدثت في مصر، شعرًا وتظاهُرات واجتماعات وحرقًا للأعلام الفرنسية، ونحن طلبة في الجامعات كان بيت الشاعر التونسي العربي العملاق أبو القاسم الشابي:
هذان البيتان كانا على لسان المتظاهرين في مذبحة كوبري عباس وشارع القصر العيني وميدان قصر النيل (ميدان التحرير الآن).
أجل، في ظلِّ الاحتلال كانت الوحدة العربية الشعبية أقوى ما تكون، كُنَّا أيامها شعوبًا تُقاوم بضراوة في سبيل أن تستقلَّ وتحيا، والإنسان حين يُقاوِم تتكشَّف لديه أروع خصاله وأنبل عواطفه.
ولقد جاءت ثورة ٢٣ يوليو لتشكُّل مُنعطفًا أخيرًا في تاريخ الكفاح العربي؛ فقد تبنى جمال عبد الناصر قضية تحرير المغرب العربي كله، وأُنشئ في القاهرة مكتب المغرب العربي الذي ضمَّ بين جنباته الثوار الجزائريين والمغاربة والتونسيين. وعبد الناصر لم يَختلِق هذا الشعور تجاه المغرب العربي، فحين كانت ليبيا تُقاوم الاستعمار الإيطالي الغاشم كانت مصر هي مصدر السلام والمساعَدة لعمر المختار وثوار ليبيا.
وحين قامت حركة الكفاح التونسي للاستقلال بقيادة الحزب الدستوري التونسي وأصبح الحبيب بورقيبة شوكة في حلق فرنسا لجأ إلى مصر والتقى بالنحَّاس باشا رئيس الوفد. ولهذا حين أنشأ عبد الناصر «صوت العرب» كان صرخة مُدوِّية تحمل كل آمال العرب في التحرُّر وطلب الاستقلال. وقصة عبد الناصر مع ثورة الجزائر قصة مشهورة لا داعيَ لتكرارها، وأذكر أني حين انضمَمنا لجيش التحرير الجزائري لتصوير الفيلم كُنَّا نأكل من منتجات مصانع قها المصرية، ونتغطَّى ببطاطين تحمل اسم «عمر أفندي»، ونتدرَّب على مدافع رشاشة من إنتاج المصانع الحربية المصرية.
نالت تونس استقلالها بناءً على مبدأ الرئيس بورقيبة، وهي تتلخَّص في شعار: خذ وطالب. أو كما كان الرئيس بورقيبة يردِّد أمامنا باستمرار «الحلول المنقوصة». وهي نفس الحلول التي أخذت بها بعض بلدان أفريقيا ونالت من فرنسا استقلالها المنقوص. وأذكر أن ذهابنا لتونس كان في بداية عودة العلاقات المصرية التونسية، حتى إننا حضرنا وصوَّرنا السفير المصري الجديد وهو يقدم أوراق اعتمادِه؛ ذلك لأن العلاقات كانت مقطوعة؛ إذ إن عبد الناصر لم يَسترِح أبدًا لتصريحات بورقيبة عن القضية الفلسطينية ومطالبتِه الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل والدخول في مفاوَضات معها.
وبمناسبة عودة العلاقات أجريتُ مع الرئيس بورقيبة حوارًا مُصوَّرًا أذاعته الإذاعة التونسية (إذ لم يكن التليفزيون التونسي قد أُنشئ بعد)، وقد استغرق الحديث ساعتَين. وقبل الحديث وأثناءه وبعده طالت جلساتنا مع الرئيس بورقيبة. والحق أن شخصيته في معظمها أعجبتني تمامًا؛ فقد كانت له طريقته الصريحة البسيطة المباشرة في قول ما يُريد، وكان يذكرني على الدوام بالزعيم المصري مصطفى النحاس. غير أن بورقيبة كان ينفرد بنوع خاص مما يُمكن تسميتُه بالاعتداد بالنفس. ولقد فوجئت حين ذهبتُ إلى تونس منذ بضعة أعوام بتمثال ضخم للرئيس بورقيبة ممتطيًا جواده يحتلُّ أهم ميدان في قلب العاصمة؛ إذ كانت تلك أول مرة أرى فيها تمثالًا بهذا الحجم والضخامة لرئيسٍ حيٍّ — لا يَزال — أقامه بنفسه لنفسه. وهذا ليس إلا مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة يَعرفها التونسيون ويَقبلونها أيضًا، فمكانة الرئيس بورقيبة ليست محلَّ نقاش لديهم.
•••
وكل هذا جميل.
ولكن ما استغربتُ له حقًّا في حديث الرئيس بورقيبة هو محاولتِه المستمرة لنقد «إخواننا في المشرق العربي» وكان يقصد بالطبع عبد الناصر، وكان كثيرًا ما يقول لي: إخواننا في المشرق العربي لا يَفهمون الأوضاع هنا في المغرب العربي، ولا في تونس. وليس هذا مجال الحديث عن سياسة عبد الناصر العربية واستنكار بعض القادة العرب لها؛ فقد أخذت الأمر في حينه على أنه نوع من التململ من سيطرة عبد الناصر على الجماهير العربية، ولكن ما أذكره تمامًا أن الأمر لم يكن مجرَّد عبد الناصر وإنما كان بالأساس «مصر»؛ فالرئيس بورقيبة كان لا يفتأ يقول: أربعة مليون، ويَعني بهذا صغر تعداد الشعب التونسي وطموحه إلى أن زعامته كان مفروضًا أن تمتد إلى ملايين كثيرة أخرى.
… إنَّ الشرخ الذي أحدثه تقسيم العالم العربي بين فرنسا وإنجلترا في معاهدة ١٩٠٤ والتي تنص على إطلاق يد فرنسا في المغرب العربي في مقابل إطلاق يد إنجلترا في المشرق العربي، هذا الشرخ لم يذهب بذهاب الاستعمار، وإنما ظلَّ قائمًا وموجودًا؛ فالكارثة الكبرى أن ثقافة العالم العربي هي الأخرى قد حدَث فيها شرخ حضاري مماثل، شرخ قسم الثقافة العربية إلى ثقافة تستلهم التراث الفرنسي واللغة الفرنسية من ناحية، وثقافة تستلهم التراث واللغات الأنجلوسكسونية من ناحية أخرى.
وحين جاء الاستقلال، جاء للأسف، لا ليُلغيَ هذا الشرخ وإنما ليُعمِّقه؛ إذ إن المثقفين بالذات في المغرب العربي الذي كان يحتلُّه ويستعمره الفرنسيون استعمارًا شاملًا يريدون اقتلاع اللغة العربية والثقافة العربية والتراث العربي والشخصية العربية وإحلال نمط الحياة والتقاليد والثقافة واللغة الفرنسية محلها.
وهكذا كان توجُّه الرئيس بورقيبة توجُّهًا عبر البحر الأبيض إلى فرنسا، وكانت الحضارة الأوروبية هي قمة التقدُّم. وهو ليس تفكيره وحده، ولكن تفكير جيل بأكمله من السياسيين كان موجودًا في مصر والعراق، وربما في كل مكان من الوطن العربي، يرون في أوروبا قمة الحضارة والتطوُّر ويرون في أوطاننا قمة التخلُّف، ويرون أيضًا، وهذا هو المهم، أن النموذج الأوروبي الغربي سواء كان إنجليزيًّا أم فرنسيًّا هو النموذج الذي يجب أن تأخذ به بلادهم في كافة المجالات.
ومن هنا فيما أعتقد جاء الفرق بين آراء الرئيس بورقيبة كفلسفة وبين الناصرية التي كانت تُريد إنشاء «حضارة» عربية خالصة، تناطح الحضارات الأوروبية، بل وتتفوق عليها. وهكذا بدأ الرئيس بورقيبة يتطلَّع، كما يتطلَّع الأوروبيون أيضًا، إلى المال البترولي العربي، وكان لا بد من قيادة فكرية تُحوِّل الدفة، ووجد الرئيس بورقيبة في الكاتب التونسي محمد مزالي الذي كان ولا يزال يُصدر مجلة ثقافية تتبنَّى كافة قضايا الأدب العربي، وجد في هذا الكاتب مُبتغاه، وعهد إليه برئاسة الوزارة لمدة طويلة جِدًّا، بل كاد يَعهد إليه بخلافته إلى أن تمَّ عزله منذ بضعة شهور.
وباختيار تونس مقرًّا للجامعة العربية، تكامَلت للطموح التونسي كل الأركان اللازمة لتوثيق العلاقات مع العواصم العربية الأخرى.
ومهما قيل في الجوانب السياسية للرئيس بورقيبة إلا أنه كان دائمًا وأبدًا راعيًا للحركة الثقافية والإبداعية التونسية، وهذه نقطة تحضُّر للرجل ما في ذلك شك، نقطة تسبَّبت في ازدهار هائل للكتابة التونسية، بعكس الكتابة في بلاد الشرق العربي وعلى رأسها مصر؛ فقد حوربت الكتابة العميقة حربًا مستمرة طوال سنوات ما بعد الاستقلال، ودخلت السياسة في الثقافة فأمرَضَتها بجميع أمراض السياسة، وصحيح هناك رقابة في تونس، بل هناك حزب شيوعي علَني قانوني، فالدستور التونسي يُبيح تعدد الأحزاب، ولكن عَمليًّا لا توجد أحزاب، ولا حتى الحزب الحر الدستوري الاشتراكي.
ازدهرت كما قلتُ الحركة الثقافية في تونس، خاصة وتاريخ تونس العريقة، شكرًا لجامعة الزيتونة ولبقاء اللغة العربية حيَّةً نشطة تُرسل إشعاعاتها إلى كافة أرجاء المغرب العربي، هذا التاريخ كان عاملًا محفِّزًا لمزيد من الإبداع والابتكار.
•••
ولكنه ابتكار في أي اتجاه؟
تلك هي المشكلة.
لقد بقيَ عدد من الكُتَّاب في المغرب والجزائر وتونس يكتبون بالفرنسية إلى الآن. ولأن الأدب لا ينفصل البتَّة عن اللغة، فقد كان أدبهم في الحقيقة رافدًا جديدًا للثقافة الفرنسية، ويكاد يكون بعيدًا عن المجرى الأصيل للثقافة العربية.
ولكن بازدهار اللغة العربية بعد الاستقلال تشجَّع العارفون بالعربية على الكتابة باللغة العربية، ووصَل إنتاجهم إلى المشرق العربي أيضًا، وأصبح الكثيرون منهم نجومًا لامعةً في السماء العربية.
كل ما في الأمر أنه، عميقًا إذا حفرت عميقًا، تجد الأثر الفرنسي كامنًا هناك، بل وتجد الطموح الفرنسي نفسه، فأقصى آمال أي كاتب هناك هو أن يُصبح مترجمًا ومشهورًا في فرنسا، وفرنسا وإن كانت قد جلَت عن الغرب العربي كله، إلا أن الحبل السري الذي كان يربطها ببلاد المغرب العربي لا يزال هناك، وبالذات في المجال الثقافي، وكما أن هدف أي لاعب كرة في المغرب العربي أن يَلعب لنادي في فرنسا، فأيضًا هدف أي كاتب هناك أن يشتهر في فرنسا، كذلك هدف أي مُخرج سينمائي وأي رسام، باختصار هو نفْس التوجه عبر البحر الأبيض المتوسِّط إلى الشمال، إلى أوروبا من خلال فرنسا.
وفرنسا هي الأخرى تدرك هذا، وهي ترعى الأدب في المغرب العربي وتوليه عناية خاصة، وعدد المترجم والمنشور لكُتَّاب من المغرب العربي في فرنسا يَزيد عشرات المرات عن كل الكُتَّاب العرب الآخرين. ولا تزال تلك الصلة الثقافية الخاصة بفرنسا تعمل عملها في عملية الإبداع والتوجه نفسها.
•••
قرأتُ في العدد الأخير من مجلة الدوحة، وقد أزعجني وأزعج كل كاتب ومثقَّف عربي خبر إغلاقها، وحبذا لو كان الخبر غير صحيح، فهي مجلة خدمت الثقافة العربية خدمة عجزت عنها حكومات عربية بأكملها.
قرأت في هذا العدد حديثًا لواحد من أعلام الكُتَّاب التونسيين هو الدكتور عز الدين المعرفي، وهذا الحديث هو ما دفَعني لكتابة هذا الموضوع، وليس أبدًا حوادث المطارات وتلك المعاملة الخَشِنة التي لاقاها بعض المصريين، فأنا كما قلت لا أكتب هنا كمصري، وإنما كعربي، والفرق بين الاثنين هو الفرق بين حديث عز الدين المعرفي عن «التونسية» وأي حديث لي أو لغيري عن المحلية. فليس معنى وجود عروبة وعرب وثقافة عربية إلغاء للثقافات الوطنية في كل بلد عربي. بالعكس، إن الوصول إلى العروبة، مثله مثل الوصول إلى العالَمية هو بالضرورة مرورٌ بالمحلية. ولكن هناك تفكيران إزاء فكرة المحلية، فهناك محلية مُغرقة في محليتها متقوقعة على نفسها، بحيث لا تمتدُّ أبعد من تلك الرؤية الضيقة، وهناك محلية تتعمَّق الوجود الإنساني داخلها بحيث يُوصِّلها هذا التعمق ليس بالعروبة فقط ولا بالعالمية الآتية فقط وإنما بالوجود البشري كله، فهي محلية مفتوحة تفتح على الدنيا كلها ولا تَنغلِق على نفسها.
خذوا مثلًا هذا الجزء من حديث الدكتور المعرفي ردًّا على سؤال من أحمد محمد عطية مُجري الحديث:
«قلتَ في بيانك الثاني عن الأدب التجريبي: إن المبادئ الأساسية التي يعتمدها الأدب التجريبي هي رفع الحواجز الفكرية التي ظلت تُهيمِن على القرائح والمواهب طيلة سنوات وتُعطِّلها في سيرها نحو الخلق، وتبعث فيها عُقَد النقص ومركبات الاحتقار الذاتي. فهذه الحواجز التي كانت تَرِد إلينا من أوروبا الغربية (وبالخصوص من فرنسا) ومن المشرق العربي (!) هي التي كانت لها النصيب الأوفر في تثبيط العزائم الصادقة، وهي حواجز لا بدَّ من كسرها ورفعها لأنها كانت مهيمنة على الأذهان. وكان من مبادئ بيانك الأوَّل سلوك طريق ثالثة هي طريق الواقع التونسي والمجتمع التونسي والتاريخ التونسي، والمعاصَرة التونسية والخلق التونسي، هي طريقة التونسية بكل اختصار، فماذا تقصد بهذا الهجوم على الثقافة في المشرق العربي؟ وموازاتها بالثقافة الغربية الاستعمارية، وتأكيدك الإقليمي على التونسية والشخصية التونسية، وهل يتَّفق هذا مع دعوتك لتأصيل الثقافة العربية ومسرحياتك المُستمَدَّة من التراث العربي الواحد؟»
ويجيب الدكتور عز الدين المعرفي قائلًا:
«هذه الأفكار كتبتها منذ خمسة عشر عامًا. ولهذا لا بد من أخذها في نطاقها التاريخي؛ فلم يكن هناك في تونس سوى أدب قليل تونسيًّا. كان هناك كُتَّاب يُكافحون ويناضلون من أجل خلق أدبية فكرية تونسية، فلا مراجع فكرية غير كتب مشرقية (!) وكتب غربية، لا أَعني بذلك أن أهاجم الشرق، ولكن المعنى هو حين يأتيك ناقد من تونس ويقول لك إنك ليس عندك كلام أمام العقاد وأمام طه حسين، وليس عندك أي شخصية، معناها تقديم الشرق من خلال بعض الناس المُتمشرقين بتحيُّز لطمس معالم الفكر الثابت في تونس.»
يعني الدكتور المعرفي أن أولئك الطليعيِّين والقارئين لأدب طه حسين والعقاد وجميل مردم أناس «مُتمشرِقون»، ويا لغرابة التعبير والرحمة، وكأنه يريد إقامة حائط فكري بين المشرق والمغرب العربيين ﻟ «يصنع» ثقافة تونسية أو بالأصح ليَصطنع ثقافة تونسية غير متأثِّرة بتاريخ الأدب العربي في المشرق، وحتى ليست مُتأثِّرة بأي اتجاهات من فرنسا أو من غيرها. هذا هو ما أسميه المحلية المنغلقة. والغريب أن المدني حين أراد أن يؤلف لم يجد إلا هذا التراث العربي من الجاحظ «المشرقي!» ومن غيره ليستوحيَه ويَنسج مسرحياته على منوالهم.
ويسأله السائل عن مسرحي وعن الدعوة التي توجهتُ بها إلى الكُتَّاب المسرحيين العرب للبحث عن الجذور المسرحية في حياتنا الشعبية واستيحائها لخلق مسرح عربي جديد معاصر، تلك المقالات التي نشرتها في مجلة الكاتب عام ١٩٦٣، وعلى أثرها قدَّمتُ مسرحية الفرافير، وكانت أول مسرحية تستوحي الشكل والمضمون المسرحي الشعبي المصري العربي، يقول سيادته: هناك أناس آخرون سابقون عليه (أي على شخصي).
نحن نعرف في التاريخ الأدبي لتونس مثلًا أن هناك دعوات لتأصيل المسرح العربي في الثلاثينيات. ويمضي قائلًا: ويوسف إدريس لم يُبدِع مسرحًا عربيًّا. أمَّا عن أسبقيته في الدعوة لمسرح عربي فأقول بأنه في الأدب والفن لا توجد أسبقية ولا أقدمية.
وهكذا يستن الدكتور المعرفي قانونًا غريبًا على التراث الإنساني، فلا أسبقية لأحد على أحد لأننا لسنا كقُدماء المحاربين، وإنما المسائل فوضى، ومن حق كل إنسان أن يدَّعي لنفسه ملكية ما قدمه مَن قبلَه دون وازع من ضمير أو خجل.
إلى هذا الحد يصل التعصُّب لفكرٍ تونسي غريب على الشعب التونسي العربي الأصيل. لقد عشت مع هذا الشعب وخَبِرته ووجدت أنه في كافة نواحي حياته لا يُفرِّق أبدًا بين ما هو تونسي عربي وبين ما هو مشرقي عربي، سواء كان مصريًّا أم سعوديًّا أم عراقيًّا أم كويتيًّا. ووجدت في أقصى جنوب الصحراء التونسية مقاهٍ خاصة لسماع المطربة «المشرقية!» أم كلثوم وعبد الوهاب، قبل ظهور محمد عبده وطلال مداح.
أمَّا فكرة الأصالة، فهي لم تأتِ من مصر عبثًا، وهي فكرة لا يمكن أن تخطر لمُثقَّف أو كاتب جالسًا على مقاهي باريس أو حانات مرسيليا، إنما هي فكرة فجرتها الثورة العربية الحديثة منذ ٢٣ يوليو ٥٢؛ فقد صاحب هذه الثورة السياسية الاجتماعية اتجاهٌ عميقٌ لدى الكُتَّاب الثوار في مصر في كل مكان من مغرب أو مشرق عربي، اتجاهًا عميقًا للأصالة والبحث عن الجذور الحضارية العربية والإسلامية، فحدث للفكر المصري ومِن ثَمَّ للفكر العربي ثورة زلزلت قلاع الخاضعين تمامًا للفكر الأوروبية والفلسفة الأوروبية والناسِجين في إبداعهم على منوال موباسان وبلزاك، وتشيكوف، وأقامت صرحًا عربيًّا أصيلًا للقصة القصيرة والمسرحية والرواية، وحتى للاشتراكية العربية.
من أجل هذا، فإن إثبات السبق ليس مجرد تزود أو مسألة لا تقدم أو تؤخر، إنما هي تأريخ للحقيقة، والأسبقية هنا نتيجة لسَهر ليالٍ وكدح ودم وعرق، ولم يَجِدْها صاحبها ملقاة في عرض الطريق، ومن هنا جاء تغيير حق الملكية الأدبية الذي لا يَتنازع فيه أحد. وهي ملك للتاريخ وحده، لا يُمكن لأيٍّ ممَّن يخطر على باله أن يدَّعيَه لنفسه أن يفعل. وحين قلت أن المخرج المغربي الطيب الصديقي يدَّعي لنفسه كل الفضل والسبق في البحث عن أشكال مسرحية عربية والدعوة لهذا، كنت أقصد هذا المعنى. وحين اتهمتُه بالتزوير والنصب لم أكن مغاليًا على وجه التحديد؛ فإن كلمة أي كاتب مغربي أو تونسي سواء كان الطيب الصديقي أم عز الدين المعرفي أو غيرهما لن تقصر أبدًا؛ إذ هو اعترف أنه بحث عن جذور المسرح العربي في بلده تأثُّرًا بالفكرة التي تفجَّرت في القاهرة، بل — وأرجو عفو القارئ — تأثيرًا بتفكيري واكتشافاتي بالذات في المسرح، بل وتأثرًا بالفرافير ذاتها التي نفَى عنها الدكتور المعرفي كل أصالة وكل شعبية وكل عروبة، والتي جاء الطيب الصديقي والمعرفي وغيرهما بعد أكثر من خمسة عشر عامًا يدَّعون لأنفسهم السبق والأصالة … إلخ.
إني لا أستطيع أن ألوم أي كاتب إذا هو تعصَّب أو تحيَّز لبلده الصغير، أمَّا ما ألومه عليه حقًّا فهو أن يُلغي الآخرين تمامًا من طه حسين إلى يوسف إدريس ويُسميهم «المشارقة»، وكأنما يَصِمهم بوصمة. في حين أن ديدن هؤلاء الكُتَّاب مثلما كان ديدن جميل مردم وعبد السلام العجيلي وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، والطيب طالح وحنا مينا وأبو القاسم الشابي وغيرهم، وكل هؤلاء المتمسِّكين تمامًا بأوطانهم الصغيرة ومحليَّتهم، ولكنهم في نفس الوقت يرون الكل الكبير ويَطمحون إلى الكل الكبير طريقًا إلى العالم وبقية البشر، بصراحة لا يَملك الإنسان إلا الإحساس بالشفقة تجاه هذه الظواهر المتعصِّبة؛ إذ إنها في حقيقتها علامة من علامات ضعف الثقة الشديد بالنفس وبالموهبة وبالقدرة.
كل ما في الأمر أن دعاوى من هذا النوع، لها تاريخ طويل كما ذكرتُ، تفور دائمًا في النفس، وتخلق التباعُد والتجافي، ثم في النهاية تؤدي إلى ترحيل الرعايا، ومن يدري ماذا سوف يؤدي إليه هذا الاتجاه.
تذكرت هذا الحديث، وتذكرت كل تلك الوقائع وأنا أقرأ على لافتات الإعلانات في الإسكندرية حين أقضي الصيف إعلانات عن مسرحية الدكتور عز الدين المعرفي «التربيع والتدوير» التي قدَّمها مسرح الطليعة المصري، دون عقد، ودون أن يَعتبره كاتبًا «مغربيًّا» يُشكل حاجزًا «لا بد من تحطيمه» في رأي الدكتور المعرفي.
إنها عقدة، وليَسمح لي بعض الإخوة والزملاء المثقفون في تونس، وبعض أمكنة من المغرب العربي الكبير، عقدة، ربما كانت موجودة لظروف معينة، والسبب في وجودها كما رأينا هو تبين غير واع أو واع للفكرة الاستعمارية نفسها تلك التي أقامت حائطًا رهيبًا بين المغرب العربي الذي كان الاستعمار الفرنسي يُريد اجتثاث مكوِّنات وجوده العربي، وبين ما يُسمونه المشرق العربي، وهي تسمية المقصود منها دمغ هذا الشرق كما رأينا، والبُعد عنه، وعزله.
أم أن الأفكار الاستعمارية لا تزال تُسيِّرنا رغم كل ما نراه من العلامات الخارجية للاستقلال ونفْض التبعية؟!