بدلًا من تعذيب النفس، فلنبدأ نفكر
سبَق وكتبتُ أدعو أن نكفَّ عن لطم الخدود وشق الجيوب على أحوالنا العربية المتدهورة، وأن علينا بدلًا من هذا أن نجلس معًا، بجميع اتجاهاتنا، نُناقش في هدوء وبلا أي انفعال أو تبادل اتهامات مشكلة مركبنا العربي الذي أُصيب بطوربيد هائل ثقَبَه من كل نواحيه، وأننا جميعًا في هذا المركب الواحد، المُمتد من عدن الماركسية إلى السعودية الإسلامية، إلى ليبيا المضروبة، إلى العراق، إلى الخليج المهدَّد، إلى مصر المعزولة بالأمر وكجزء من الخطة، نُناقش هذا الذي يصيبنا، تلك الخطة للقضاء علينا، وتشريدنا، وأخذ ما نمتلكه عنوة وتجبرًا، وإضعافنا إلى درجة الصفر. وبعد دراسة هذه الخطة المعادية، نعرف ما طُبق منها، وما الذي في طريقه للتطبيق، ونقوم بإعداد خطة مضادة تُوقف الغرق ونسدُّ بها الثقوب، ونُبقي المركب عائمًا مدة كافية لتصفية الخلافات، والإبحار بالمركب من جديد إلى مرفئه الأمين.
سبَق وأن قُلت إن اللطمَ على الخدود وشقَّ الجيوب، وتمزيق الصدور حزنًا وكمدًا وتأنيبًا لأنفسنا وبكاءً على أطلالنا، هذا كله، جزء من الخطة المدبَّرة لنا، بأن نَنقلِب على أنفسنا نشبعها لومًا وتأنيبًا وتقريعًا. ولوم النفس وتقريعها إلى هذه الدرجة المُخيفة معروف في علم النفس أنه يؤدِّي إلى عكس المطلوب تمامًا؛ إذ هو يؤدِّي إلى مزيد من ارتكاب الأعمال التي تؤدِّي بنا إلى مزيد من تأنيب أنفسنا وإلقاء الذنب على كواهلنا.
أقول هذا بمناسبة فشل انعقاد مؤتمر القمة العربي «الاستثنائي»، وانهيال الكُتَّاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لومًا للعرب وللقادة العرب وللحكومات العربية الفاشلة والجامعة العربية الأكثر فشلًا.
نفْس النغمة عقب كل حادث يقع للأمة العربية أو الجزء منها، ونجد أننا عاجزون عن «فعل» شيء إزاء هذا الحدث أو تلك المصيبة.
وبدلًا من أن نُناقش ككُتَّاب ومعلِّقين أسباب هذا العجز عن «الفعل»، ننهال ضربًا لأنفسنا بالسياط وبسلاسل الحديد، حتى ننزف الدم، ننزف الدم من جسد أمة تعاني بالفعل من فقر الدم، وفقر الفكر، وفقر القدرة على العمل والفعل. والنتيجة أننا نزداد شللًا فوق شللنا، وخيبة فوق خيبتنا.
ولأنني لا أريد أن أفعل كالآخرين، وبدلًا من أن أؤنب أنفسنا أو حكوماتنا أو حكامنا، أنهال بالتأنيب على كُتَّابنا ومعلِّقينا وصحفيينا وقادة الرأي فينا. فسأبدأ على الفور في فتح ملف القضية العربية ومن زاوية جديدة، أو على وجه الدقة، من زاوية دراسة لماذا هذا الوضع الذي نحن فيه؟ ولماذا هذا العجز الفاضح عن الفعل، ولماذا هذا الشلل في الإرادة الذي يصل بنا إلى حدِّ أننا لا نستطيع أن نجتمع كقمة إذا استدعت الحاجة الملحَّة للاجتماع كقمة.
وسأبدأ بالأسئلة الملحة حالًا:
هل السبب هو اختلاف النُّظُم العربية، ومن نُظُم نُسمِّيها رجعية أو قبلية إلى نظم نسميها تقدُّمية أو «صامدة» أو يسارية؟ الجواب بالقطع لا. فأنا أزعم — وقد أكون مخطئًا — أن النظم العربية وإن اختلفت في راياتها والشعارات التي ترفعها، فهي كلها نظم تكاد تكون متشابهة إلى درجة مذهلة.
فعدن مثلًا أو اليمن الجنوبي يقول إنه يَتبع النظام الماركسي. حسنٌ جِدًّا. وهذا العراك الدامي الذي دار بين جناحَي حزبه الماركسي، هل كان من الماركسية في شيء أم أنه عراك قبلي دمًا ولحمًا وتوجُّهًا؟
بلاش اليمن الجنوبية أو الشمالية.
فلنأخذ رأس الرُّمح في النُّظُم العربية الثورية، منظمة التحرير الفلسطينية.
هل تلك الخلافات بين فتح والجبهة الشعبية خلافات جذرية عقائدية حقيقية، وهل إذا كانت تلك الخلافات حقيقية فعلًا، هل تستحقُّ التضحية بالإجماع الفلسطيني الواجب لكسب القضية أو حتى لصُنع قوة فلسطينية يكون لها وزن، على ساحة قتال أو على مائدة مُفاوَضات. بل داخل منظمة فتح نفسها، هل الخلاف بين أبو الزعيم أو بين هذا الجناح أو ذاك خلاف علمي حقيقي له جذوره وأسبابه التي لا يُمكن معها عمل نوع من التقارُب والتصالُح حتى داخل المعسكر الواحد؟
الجواب: لا يوجد. إذن ما الذي يوجد، خلافات فردية هي في صميمها تفرُّعات من القبلية الفكرية أو التنظيمية.
وبمثل ما تحدث الخلافات داخل كل نظام أو دولة على حدة، يحدث نفس الشيء بين الدول والنُّظُم العربية المختلفة. فسوريا مثلًا تصل في خلافها مع الأردن إلى حدِّ الصدام المسلَّح عام ٧٠ مرة، ومع منظمة التحرير تصل إلى حدِّ الزواج الكاثوليكي مرة، ثم الطلاق البائن مرة أخرى، ثم يعود الزواج السوري الأردني على حساب الفلسطينيِّين بعدما كان الخلاف بينهما على أشُدِّه حول الفلسطينيين وطريقة حل القضية الفلسطينية.
وقِس على هذا ما حدث بين مصر السادات وليبيا معمر القذافي، من وحدة وشهر عسل، إلى خلافٍ يصل إلى حدِّ هجوم الجيش المصري على ليبيا أيام السادات، ومن وحدة بين ليبيا وتونس، إلى حالة شبه حربية الآن بين البلدين. وكذلك الوضع بين معمر القذافي والملك حسن من عداء ماحق إلى وحدة متحقِّقة، وبين الجزائر والمغرب؛ فالدم الجزائري يُريقه الدم المغربي والدم المغربي يريقه الدم الجزائري، ليس بسبب البوليزاريو، على ما أعتقد، ولكن الخلاف بين القبيلة الجزائرية والقبيلة المغربية كان سيحدث ولو على مواقف مختلفة عن العلاقات مع جزُر القمر.
وانظر إلى لبنان، هل الدائر هناك حرب تحرير؟ هل هو نزاعات حول عدد وزراء كل طائفة، أم أن الدائر هناك حرب قبلية من الدرجة الأولى، حتى داخل المارونيين أنفسهم؟ هناك قبيلة الجميل وقبيلة فرنجية، وداخل الشيعيِّين أنفسهم هناك قبيلة أمل وقبيلة الشيعيِّين التابعين لإيران أو أولئك التابعين لسوريا.
إذن هذه الخلافات العربية — كإجابة على السؤال الذي طرحته في أول هذه النقطة — ليست خلافات أو اختلافات أنظمة، وليست حزازات قديمة — ولا نزاع حول أرض أو حدود أو حقوق — وإنما هو اختلاف قبَلي محض؛ ذلك لأن جميع النُّظُم التي تحكم الأمة العربية نظم قبَلية من ألفها إلى يائها — حتى إننا في مصر ولمدة طويلة ظلت تحكمنا قبيلة اسمها المخابرات — كما أصبحنا اليوم تحكمنا قبيلة من بقايا المخابرات وهيئة التحرير والرأسمالية الملغاة التي قفزت إلى الوجود بجرة قلم، والرأسمالية النَّهِمة الجشعة اللصَّة التي «وصفها» السادات باسم الانفتاح والانفتاحيين.
•••
والقبيلة نظام بدائي للوجود، لم يختصَّ الله به العرب وحدهم، ولكنه موجود في مجتمعات أفريقية بدائية أخرى، ولقد وُجدت القبلية قبل الإسلام بكثير، وجاء الإسلام ليُلغيها، ولكن هذا الدين العظيم بكل قداسته وقدرته وقوته وقَف أمراءُ مؤمنينه وخلفاؤه عاجزين أمام القبلية العربية فلم يَستطيعوا إلى الآن إلغائها.
ولقد قرأتُ مرة لمؤرخ ألماني — لا أذكر اسمه الآن — كتابًا خطيرًا عن دولة العرب في الأندلس، من أول قيامها إلى سقوط غِرناطة.
وليس هذا مجال عرض ما جاء في هذا الكتاب الجليل، ولكن هذا المؤرخ الجاد العميق استطاع أن يصلَ إلى لبِّ مأساة الأندلس، باعتبار أن الدولة الأندلسية ظلت تعاني من الصراع القبلي الذي جاء مع القبائل العربية، وبالذات تلك القبائل القادمة من اليمن، حتى وصل ذلك الوالي إلى تقسيم الدولة إلى إمارات، ظلت تحارب بعضها البعض، بل وحتى تستعين على بعضها البعض بعدوِّ المسلمين في ذلك الوقت — الإسبان المسيحيين — حتى اندثرت الدولة عن آخرها، وانتصرت إسبانيا المسيحية في النهاية بفضل القبلية العربية، والتحارب بين القبائل، وليس لأي سبب آخر.
حادثة أخرى سمعتها في الأردن.
ذات يوم بدأ الكُتَّاب يُهاجمون القبلية، ويُنادون بإذابة القبلية في دولة عصرية يصبح كل مواطن فيها عضوًا في قبَلية أكبر وأشمل هي الدولة.
ولكن قيامة زعماء القبائل قامت، وهاج القبَليون وماجوا وتظاهَروا حتى أجبروا الملكَ أن يظهر في التليفزيون ويُعلن لمواطنين أنه أبدًا ليس ضد إلغاء النظام القبلي، وأنه هو شخصيًّا يَفتخر بالقبلية؛ فهو فردٌ في قبيلة، ويعتز بها كل الاعتزاز. وهجعت خواطر القبَليين، وسكت المنادون بالدولة الحديثة، ولم يعودوا إلى الموضوع أبدًا.
•••
وما العيب في القبلية، وهل هي سيئة إلى هذه الدرجة؟!
أبدًا. لا يوجد أيُّ عيب في القبلية بشرط واحد، أن تكون عائشة في عالم قبَلي، وحولها مجتمعات قبلية. حينذاك قد يُكتب لها البقاء؛ فالقبيلة تستطيع أن تحارب أي قبيلة تناوئها، أمَّا أن تحارب القبيلة دولة، مهما كانت قوة القبيلة، فالدولة هي الأقوى وهي التي ستَنتصِر.
وهذا هو الفارق الأساسي بين القبائل (أو النظم العربية) وبين القبيلة اليهودية الإسرائيلية.
لقد عاش اليهود كقبيلة واحدة متَّحدة مذ أوتهم مصر في عصر الفراعنة، وحين خرجوا من مصر جعلوا من العهد القديم «التوراة» وطنَهم القبلي. وهجرة كهذه، وعصر الشتات هذا الذي عاشوه، لم يُضعفهم أبدًا، بالعكس، قوَّاهم إلى درجة غير معقولة؛ فقد تفرَّقوا في أنحاء العالم كله، يتعلَّمون من تقدمه العلمي ويَزدادون التصاقًا بتوراتهم ووطنهم التوراة، حتى يَحيَوا في «جيتو» واحد، مما جعلهم يمتصُّون تمامًا أحدث ما وصل إليه العقل من عزِّ ازدهار العقل الإسلامي، وأعظم ما تفتَّق عن العقل المسيحي، بغربه وشرقه في عصر النهضة المسيحية، جعلهم يدرسون تلك المجتمعات وعيوبها ومزاياها ويأخذون المزايا، ويتركون العيوب، جعلهم يستفيدون من المزايا الاجتماعية التي تمنحها تلك الدول المسيحية لأفرادها، فيتعلَّمون وينبغون، حتى استطاعوا أن يُسيطروا على أهم شيئين يُسيِّران العالم؛ المال، والعقل، والعقل هنا هو وسائل الإعلام من الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما، وصناعة نشر الكِتاب. وما دامت قبيلة، حتى ولو كانت متفرقة في جميع أنحاء الأرض، قد استطاعت أن تتَّحد في هذين الهدفين فقط؛ السيطرة على الجيب، والسيطرة على العقل. فقد كان من المحتم في النهاية أن يستطيعوا إخضاع تلك الدول الكبرى لرغبات هرتزل، ويَعقِدوا مؤتمرهم الأوَّل، ثم يحصلوا على وعد بلفور من الإنجليز، ثم في النهاية يُنشئوا دولتهم إسرائيل على أرض عربية فلسطينية مُغتصَبة، ثم يبدءوا يَضربون جيرانهم العرب ويحتلُّون أراضيهم، ويُشعلون نار الفتنة القبلية الدفينة بين شعوبهم وأنظمتهم إلى أن وصلنا إلى هذا الوضع الذي نحن عليه من تشرذم وتمزُّق وانهزام وركوع.
بهذه الطريقة حدَّث (بتشديد الدال) اليهود من قبَلِيَّتهم، رفعوها ليس فقط إلى مستوى الدولة وإنما إلى مستوى الحزب المُترابط الواحد، مهما بدا بين الليكود والعمل وبين أفنيري وشارون، إلى درجة حتى تشجيع أجنحة منهم تُمثِّل دور المعارضة لما تقوم به «الدولة» الإسرائيلية لكي يَبدو الفرد الإسرائيلي — في نظر العالم — إنسانًا شريفًا غير متحيِّز، ديمقراطي النزعة والعقيدة، وليس كما هو في الحقيقة صهيوني، يحسُّ أنه أرقى شعوب الدنيا ومن واجبه وأهدافه أن يحكمها حتى ولو باستعمال أسفل الطُّرُق الفاشية وأبشعها.
•••
أمَّا القبيلة العربية فقد بقيَت على ما هي عليه، حتى داخل الحزب الواحد «كما في الحزب اليمني وحزب البعث»، حتى داخل النظام أو المنظمة الواحدة، بمعنى أنه بينما كان اليهود بقبليَّتهم يتطوَّرون إلى مراكز علمية ومعاصرة كُنَّا نحن نَنحدِر إلى الأكثر تخلُّفًا وانحطاطًا.
•••
ومن باطن الأرض تفجَّر لنا — نحن العرب والمسلمين — كنز كان مفروضًا.
ألا يفنى أو يتبدَّد.
معجزة الطاقة.
البترول.
توقَّعْنا جميعًا أن يتولى البترول القيام بدور المعجزة، التي عجَز الخلفاء والحكم الإسلامي عن حلِّها. مشكلة القبلية. ولكن البترول، أثبَتَ أنه لعنة، زادت قبليتنا تحجُّرًا وتجمُّدًا، ولم نتوقَّف بها عند حدود قبليتها الأولى، ولكنها خلقت أو بالأصح شوَّهت قبليتنا الأولى، وخلقت من هذا الكنز مخلوقًا بَشِع الملامح، أنشب مخالبه في مجتمعاتنا العربية، حتى غير البترولية منها، وجرَّنا إلى أسفل وأسفل.
كيف حدث هذا؟
وهنا يأتي سؤالنا التالي:
هل البترول هو المسئول عن التمزُّق العربي والكارثة العربية، أم إن الأمر أخطر بكثير من مجرد الثروة الطارئة والبترول الخارج من باطن الأرض؟
وهذا هو موضوعنا، إن شاء الله.