مقدمة

اخترتُ واحدةً من أهمِّ وأخصب سيرنا وملاحمنا العربية «الزير سالم أبو ليلى المهلهل» كفاتحة طريق لإعادة دراسة مَوروثاتنا العربية هذه من السير والملاحم العربية.

فالزير سالم التي ما تَزال تعيش — أشلاءً ممزَّقة أو مُهلهَلةً — على الشفاه على طول البلدان العربية مُتواترةً بالحفظ والحكي، سواء كنصوص وأشعار ومأثورات شفهية فولكلورية، أَم مدونةً في الطبعات الشعبية المُتعاقِبة ربما منذ أول معرفة بالنساخ والمطبعة.

وقد تجيء معرفتُنا بها عن طريق الأدب العربي الفصيح أو الكلاسيكي مُتناثرةً مأثوراتها ومُعلَّقاتها وأناشيدها ومَراثيها وموثِّباتها — أي شعرها النضالي والطبَقي التحريضي — تُنسب لأبطالها «البسوس»، وحربها التي امتدَّت أربعين عامًا، أو «كُلَيب» ملك العرب المُغتال ما بين دمشق وفلسطين، أو الجليلة وابنتها اليمامة، والضباع وجساس بن مُرَّة، ثم بطلها ذاته الزير سالم أبو ليلى المُهلهَل صياد السباع البري، الذي صاحبت طفولته إنشاء مدينة بيرشبا١ أو سبأ، التي تواتَرتْ إلى بئر سبع قبل تواجُدها التاريخي، فأصبح إلهها المحلي حين اتخذها موطنًا ومنفًى، إلى أن جاءه خبر اغتيال أخيه الملك كُلَيب إمبراطور العالم القديم على مشارف دمشق عاصمة مُلكه المترامي، فقال قولته الشهيرة: «آه ما أقرب اليوم من غد»، ومراثيه الكبرى:
كُلَيب لا خير في الدنيا وما فيها
إن أنت خلَّيتَها فيمَن يُخليها

ذلك المُقاتل العربي الفلسطيني الشاعر، قال:

ليس مثلي يُخبر الناسَ عن
آبائهم قُتِلوا ويَنسى القتالا

ونسوق هنا افتراضًا إثنوجرافيًّا، نجري التيقُّن منه عبر صفحات هذا المدخل الدراسي لسيرة الزير سالم هذه، بأنَّ الزير سالم هو بذاته ما أعطى المدينة المقدَّسة — القدس أو أورشاليم، ساليم، سالم — نفسه؛ أي: مدينة سالم أو ساليم.

في محاولة لإعادة الاعتبار لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية التي صيغت عبر العصور التي تصل إلى أربعين قرنًا ما بين تاريخ الأدب العربي السلَفي المغلوط، وبين السطو الإسرائيلي وتغيير المعالم التي لا تقف عند الأرض والوطن بقدر ما تَستبيح التراث.

ولعله من المفيد لبحثنا هذا التخلُّص من كل محظورات وتابوات أو محرمات الأبحاث التاريخية التراثية والإنيزيمية الروحية المتَّصلة بمنتجات العقل الغَيبي، وكذا القدري والدهري والوعيدي ومُعطَياته أو مُنزلاته السماوية وغيرها.

نحن هنا بإزاء البحث التراثي التاريخي الذي يُجْرِي تطبيقاته على نماذجه العينية الميدانية، والمُستهدَف إعادة التبصير بالتراث — وصِنْوه التاريخ — من مُنطلقات أثنوجرافية لعلم الثقافة.

مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تخلُّصَنا هذا من بَراثن المناهج السحرية والخرافيَّة أو المثالية التي ترى في الإنسان أنه حقَّق فوزه سلفًا أو مقدَّمًا بشكل أبدي، ومن هنا تجيء معطياته الروحية ممثَّلةً في أساطيره وملاحمه وشَعائره وتمائمه المحجَّبة، والمجهَّزة على الدوام بسُلطة المنع والتحريم، كمناطق محرَّمة أو تابو لا يجوز اجتياجها.

ويصل هذا المنع والتحريم إلى حدِّ علاقات الانتساب أو سلسلة القرابة التي تُضفي الهالات الروحية والمقدَّسة على عائلاتها الحاكمة والمتسلِّطة، وهم لا يَعرفون بالمنسبين، والذين هم بذاتهم موضوع كل هذه السير والملاحم العربية بلا استثناء، بدءًا من سِيَره وملاحمه العربية العراقية، جلجاميش — ٥ آلاف عام — وأترياجيس، وسيرة ذي اليمنَين، والتباعنة ملوك اليمن، وآخرهم التبَّع حسان اليماني، الذي اغتاله في الشام — مع مطلع سيرتنا هذه — كُليب آخر الملوك اليمنيين سيف ابن ذي يَزن الحمْيَري، وعنترة، والسيرة الهلالية، والأخيرة ليست بأكثر مِن تراجم قحطانية يمنية وقيسية نجدية حجازية لأبطالها وشخصياتها من شخصيات أساسية وهامشية.

ولا مفرَّ لأي باحث أدبي أو فولكلوري أنثروبولوجي متقدِّم الفكر والمنهج — حين تَعرُّضه بالدراسة والبحث لهذا التراث — من الغوص في متاهات الأنساب والعائلات الضاربة الجذور على مدى يصل بنا حقًّا إلى ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد؛ أي بتقدير مُعتدل ما يربو على الأربعين قرنًا بالنسبة لمُجتمعاتنا وكياناتنا العربية.

إننا بإزاء سير وملاحم القبائل والعائلات المُستغلة الضاربة الجذور في المُجتمَع العبودي الإقطاعي بعلاقاته وتوجيديا قصوره، والتراجم الذاتية لأبطاله وخوارقهم التي تتوازى كل التوازي والتوافُق مع مُنتجَات مثل هذه المجتمعات الروحية في احتوائها وفي تمثُّلاتهم الاجتماعية السالفة والآنية ذات الأصول المُتعالية، وينتهي الأمر بأحبولة سياسية تحفَظ للبِنى الاجتماعية الطبقية دوامها وحفظ سُلطتها وتسلُّطها.

وعلى هذا فنحن بإزاء سيرة أنساب ملحمية قبائلية عربية مُوغلة القدم، وبالتالي ضاربة الجذور الطوطمية، يتبدى فيها الإمبراطور التبَّع والملك والأمير كتجسيد مُباشر للطوطم والأجداد المقدَّسين أو الآلهة الطواطم من حَمير لنوق — تنتسب إلى ناقة صالح — وكلاب وماعز وضباع ولبؤات وحمام ويمام، وهكذا كما سيتَّضح لنا عبر أحداث سيرتنا «الزير سالم».

وهي مرحلة مُعاصرة مع عصور ما قبل الأسرات في مصر الفرعونية ٣٦٠٠ق.م، بل إنَّ اللقب الملَكي «زير» الذي اتخذه بطل سيرتنا الزير سالم لم يُعثَر عليه إلا في عصر ما قبل الأسرات البداري، الذي تسمَّى به أول٢ الفراعنة زير وزيت، اللذَين دُفِنَ معهما حريمهما وكافة الإداريين والموظَّفين بحيث بلغ العدد ٦٨ شخصًا في قبر «زير»، و١٢٣ في قبر «زيت»، فلعل زير كان لقبًا لذلك البطل الفلسطيني الزير سالم الذي موطنه «بئر سبع»، كما هو بالنسبة لفراعنة ما قبل الأسرات في مصر، كما يلاحظ أنَّ هناك معالم فلسطينية — إلى أيامنا — ما تزال تحمل اسم «زير» و«زيت»؛ حيث جامعة بيرزيت الفلسطينية الحالية بالأرض المحتلة، وحيث دولة «بنو الزيري» الفلسطينية في شبه جزيرة أيبريا أو الأندلس فيما بعد.

وهو افتراض متعجِّل أسوقه مع التحفُّظ، ويحتاج الأمر إلى بحث ما إذا كانت «مسميات» «زير» و«زيت» تنتسب إلى أماكن أم معالم أو أشخاص.

ذلك أنني أسوق هنا افتراضًا تاليًا حول تسمية الزير سالم — أو سلم — البطل الإلهي المحلي الذي نشأ واستُقدم من وادي بئر سبع مدينة بئر سبع الحالية بفلسطين، وبين تسمية القدس أو «أور» سالم انتسابًا إليه.

وعادةً ما يتوارى التاريخ في ثنايا مثل هذه السِّيَر والملاحم الأسطورية العربية؛ ذلك أنه تاريخ أسطوري أو طَوطمي، تُخالط الخرافة فيه التاريخ العينيَّ أو الإركيولوجي …

بل والغريب أنَّ مخالطة الأساطير للتاريخ — والعكس — كانت على الدوام إحدى سمات حضارات شرقِنا الأدنى القديم أو الأوسط المُعاصر؛ من ذلك تاريخ ما بين النهرَين في كلدة وبابل وآشور، الذي تعرَّف عليه الباحثون من مدوَّنات «ستيزياس»، وكان طبيب إغريقي يعمل في بلاط أحد ملوك بابل واسمه نيمون الثاني، وكذلك كاهن كلداني٣ اسمه بيروز Berose، دوَّنه على هيئة سير أسطورية قد لا تَبعد بنا كثيرًا عن سيرتنا هذه؛ حيث يَكثر الإفراط في نَظْم الأشعار الملحمية والمُعلَّقات التي غالبًا ما تدور حول الإغارات والحروب القبائلية، وهذا ما أفضى إلى ظهور ملاحم البطولة والمعلقات في العصور الجاهلية، ومن هنا دلفت هذه الملاحم وسير الأنساب العائلية والمُعلَّقات إلى معظم المؤرَّخات التاريخية الأولى.
بل وعلى هذا النحو ذاته تعرَّف المؤرِّخون على تاريخ منطقتنا؛ من ذلك قائمة جمعها أيضًا كاتب مجهول في سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، بادئًا تاريخه هذا بقصة الخليفة وأسماء الأُسَر الملَكية، ثم الطوفان وأسماء الملوك الذين أسماهم٤ بملوك العرب، والذين حكَموا العراق الأسفل (بابل فيما بعد).

وكما يذكر جوردون تشايلد؛ فقد اعتُبرت الأشعار الهومرية ذاتها فصولًا تاريخية برغم إغراقها في الخوارق وعوالم الآلهة، واتَّخذها الكُتَّاب المتأخِّرون نموذجًا لهم؛ «إذ اعتقدوا أن التاريخ رواية مترابطة تتمُّ داخل إطار فني.»

بل وعلى هذا النحو أيضًا نهج تاريخ «توكتيدس» أعظم مؤرِّخي الرومان للحروب البلوبونزية بين أثينا وإسبرطة عام ٤٣١ق.م.

وعلى هذا فالبحث في إطار سيرتنا الملحمية هذه — الزير سالم — حول كِلا الملامح التاريخية والتراثية ليس بالأمر الجديد، كذلك لا جديد في استخلاص حقائق التاريخ من ثنايا هذا التاريخ الأسطوري الخرافي المُهْمَل إلى حدِّ الاندثار من جانب الباحثين العرب، إلى حد الاندثار.

بل الجديد الطريف هو أن تظلَّ سيرة عالية الهامَة — كالزير سالم — مُهدَرة تُعاني الافتقاد والاندثار إلى أيامنا، مضافًا إليه عدم الفهم والتقدير لدرَّة قد تَصمُد لأي سيرة أو ملحمة في كل ما جاء به العالم القديم، بدءًا من السيرة الهرمونية — الإلياذة — ومرورًا بالملحمة الهندية الآرية الماهابهاراتا، التي تَسمَّى بها الهنود والفرس الآريون، والتي تتلاقى مع ملحمتنا هذه — الزير سالم — في أنَّ كلًّا منهما تؤرِّخ لحروب وهجرات قبائلية موغلة في القِدَم.

كما أنَّ ملحمتنا العربية هذه تتفوَّق كثيرًا على الملحمة الإسكندنافية الفنلندية — كاليفالا — التي عندما احتفلت فنلندا عام ١٩٣٥م على مرور قرون على أول جمْع لنُصوصها الشفهية الفولكلورية؛ اكتشف أن ما جُمِعَ منها وصَل إلى ١٣٠ ألف نصٍّ مُختلف لذات الملحمة الكاليفالا، ناهيكَ عن الآلاف المؤلَّفة من الدراسات والمعارك المنهجية التي شاركت فيها جيوشٌ مِن العلماء والباحثين الذين تعاقَبوا على دراستها على مدى القرنين الأخيرين.

ونفْس الشيء بالنسبة للقصص الشعرية — البالاد — الروسية المَوطن، المعروفة بالبلينات، بدءًا من أقدمها «بلينا كييف» Byline وهي أشلاء سير ومَلاحم وحكايات الشعوب والكيانات السوفيتية اليوم، تلك التي كانت تُنشدها المداحات الروسيات، ويتَّضح فيها مدى المؤثِّرات الشرقية — خاصة السامية العربية الإسلامية، والآرية الهندية الفارسية — بالإضافة — طبعًا — للمؤثِّرات التركية والمغولية، شارك في جمع ودراسة هذه المدائح أو البيلينات أجيال من الباحثين الفولكلوريين؛ منهم: ستاسوف Stasov بسلاييف، ميللر، شفنر، بيسونوف، فسيلوفسكي، سوكولو، زدانوف، والعشرات غيرهم.

فيذكر رائد المدرسة التاريخية الروسية — ف. ميللر — في «الخطوط العامة للأدب الشعبي الروسي» أنَّ البحث العلمي المعاصر في ملاحم البيلينا لم يُرضِ بعدُ جميع متطلبات العلم؛ إذ تختفي أسسُ اتصال الملاحم نتيجة الحِجاب الكثيف الذي صنعته القرون الطويلة؛ ذلك رغم ما أُنْجِز بالنسبة لعشرات المناهج والتفسيرات؛ من تاريخية وميثولوجية وتاريخية جغرافية وشرقية وأوروبية سلافية تعود بأصول هذه البيلينات إلى ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى ما أُحْرِزَ من تقويمات وقواميس موسوعية حول هذه الملاحم — القاسم المشترك للشعوب والكيانات السوفيتية — اليوم.

فما بالنا ونحن بإزاء أرض قاحلة لسِيَرِنا وملاحمنا العربية بعامة، وسيرتنا هذه — الزير سالم — بخاصة، وإن حدَث وَوُجِدَت دراسات فهي أدبية مغلوطة إن لم تكن ملفَّقة، بعيدة كل البُعد عن العلمية، والمدى الذي قطعته هذه العلوم الأثنوجرافية.

وإذا ما قصرْنا بحثَنا هذا على قضية بسيطة جانبية مثلًا حول الأصول الفلسطينية الواضحة لهذه السيرة.

فحتى أيامنا لم يُخبرنا باحث أو دارس أو مهتمٌّ عربي إلى أننا بإزاء سيرتَين شبه مختلفتَين للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداهما مُتناثرات فصحى أو عربية كلاسيكية، والأخرى شعبية فولكلورية لطبعات متعدِّدة مُتواترة — ربما منذ دخول المطبعة بلادنا مع جحافل الاستعمار الفرنسي — يَجري تداولاها، ولا تعارُض بينها — أي الطبعات الشعبية — وبين المأثورات الشفاهية الفولكلورية المبدَّدة على طول الكيانات العربية مشوقًا ومغريًا.

بل إنه إلى أيامنا لم نتمكن بعدُ من حصْر جسد هذه السيرة ونصوصها المتعدِّدة من فصحى لعامية، وما داخَلَها مِن سِيَر أسبق، وأخرى لاحقة أو تالية، وكذا كل ما يتصل بشخصياتها: التبَّع حسان اليماني الذي غزا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف مقاتل، إلى أن اغتاله بمؤامرة كليب بن ربيعة الذي اغتاله بدوره جساس بن مرة، فكانت حرب البسوس الشهيرة التي قادها البطل — الفلسطيني المنشأ بِوادي بئر سبع الفلسطينية — الزير سالم أبو ليلى المُهلهَل، والذي ستشغل حروبه — المعروفة بحرب البسوس التي امتدَّت أربعين سنة — الجسد الأعظم لهذه السيرة الملحمية الأسطورية الطوطمية.

والغريب أنَّ الزير سالم — كتجسيد للبطل الشعبي المُقاتل الخارق — يتبدى على طول السيرة متحليًا بكل فضائل وقيم البطل الشعبي الذي يَرفض أن يُطْعَنَ من الظهر أو يتآمَر، أو يغتصب أو يتسلط، حتى ولو كان الأمر متصلًا بتصرُّف أو موقف أخلاقي بإزاء حيوان، أسد جائع صادفه في بئر سبع، أو إنسان ذليل بعَث به عدوُّه ومغتال أخيه كليب ليَرقد في قبره، حتى إذا ما جاءه المهلهل ليَستشير جثمان أخيه، يتصنَّع صوت أخيه الملك كُليب ويُطالبه بالاكتفاء ووقف القتال، وعندما يكتشف المهلهل خدعتَه، ويصارحه الرجل الواجف بالخدعة، وبحاجته لأكل العيش، يضحك ويعفو عنه، ويُعطيه حصانًا ومائة دينار مُطمْئنًا.

ناهيك عن أشعاره ومعلقاته ومَواجعه التي وجدت صداها على طول العصور لمُستمعي السير والملاحم في الأسواق والموالد والمنتديات الشعبية، في عصور ما قبل المعرفة بالتليفزيون ومُسلسَلاته الملفَّقة إياها.

حين يُنشد راوي السيرة — متوجِّعًا — مربعاته:

ما تجيش بلا طب
لو وصل درهمي دينار٥
إياك تلوم المبالي يا خلي
دي نار
قوم شد على بكْر شامي
في دجى الأسحار
اسعى وهاتلي دوا
يقطب عليه جرحي
دا أنا جرحي حير
جميع الطب والأسحار

والمُلفت أنَّ المهلهل أو الزير سالم لم يتبدَّ أبدًا في موقف سلطوي أو متسلِّط باستثناء حروبه ومنازلاته وتجبُّره القبَلي الانتقامي، وتعشُّقه الدموي بالحرب وأخذ الثأر، حتى إنَّ الزير سالم قطَع على نفسه أن «لا يهم بصلحٍ، ولا يَشرب خمرًا ولا يلهو بلهو ولا يحلَّ لَأْمَته — أي ما يربط أو يلأم درعه الحديدي — ولا يَغتسل بماء» حتى كان جليسه يتأذَّى منه من رائحة صدأ الحديد.

كل هذه المحرَّمات واللاءات إلى أن يُحقِّق انتقامه من مُغتالي أخيه كُليب وقبيلته.

فكان لا ينسى القتال لومضه، حتى أنه عندما انكسر الكلبيون — أو التغلبيون — بقيادته ذات غزو، وأحاط بالمُهلهَل عقب عودته من الحرب النساء والأبناء يسألونه عن آبائهم، قال مترفعًا قولته المأثورة:

ليس مثلي يُخبر الناس عن
آبائهم قُتِلُوا ويَنسى القِتالا

وإذا ما تجاوزنا دوره القتاليَّ القبَليَّ، نجد مواقف الزير سالم وعلاقاته — عادةً — أقرب إلى بُسطاء الناس في كلا منبته ومنفاه الاختياري بوادي بير سبع بفلسطين، فحتى عندما توسَّع إليه أخوه الملك كُليب حين زاره ببير سبع وطالبه بالعودة معه إلى دمشق عاصمة مُلكه المتناهي «من مكة لأرض الروم» لينصبه ملكًا على العرب؛ رفض الزير سالم الملك، وحتى بعد مصرع كُليب ظلَّ طويلًا يَبكيه ويَنعيه في واديه الانعزالي الموحش، يَسكر عن أحزانه إلى أن هاجمه قومُه وبنات كليب بريادة اليمامة، وانتزعوه انتزاعًا من منفاه ببئر سبع، وعادوا به إلى عاصمة مُلكه الجديد: دمشق.

بل وحتى عندما أجبروه على قبول المُلك والجلوس على عرش الإمبراطور اليماني التبَّع حسان الذي ورثه أخوه كليب بالمؤامرة والمَكيدة الطروادية، ظل الزير كما هو فلم يُغيِّره ملْك، بل هو ظل أقرب في كل حالاته إلى بُسطاء الناس من مهانين ومُضطهَدين.

حقًّا ما أشبه هذا البطلَ الشعبيَّ الفلسطيني المقاتل المهلهل بشَعبه الذي نبَت من صفوفه، في افتقاده لكِلا أرضه وتراثه.

وتتَّضح ذروة مواقفه التي يخالط فيها الزهدُ الثوري قيمَ الفارس المقاتل رمحًا وكلمةً حين أسلم من فوره عرش المَلِك كليب إلى ابنه «الجرو» حالما الْتقى به في ساحة القتال وتعرَّفه سمحًا راضيًا مُنزويًا عن ساحة القصور ومؤامرات المضاجع، ومضى من فوره فقيرًا جوالًا كأوديب عقب عقابه وعمائه، إلى أن اغتاله خادمه غريبًا معوزًا في صعيد مصر؛ حيث دُفِنَ هناك كأوزوريس، وجاء مدفنه بالعرابة المدفونة.٦

وتختلف النصوص حول موت المهلهل واندثاره على عادة الأبطال الآلهة أو المؤلَّهين؛ فالنصوص العامية ترى أنه اغتيل في صعيد مصر، والنصوص الكلاسيكية ترى بأن حدوث موته وقَع بالبحرين، وأخرى باليمامة، ورابعة بفلسطين موطنه.

كما أنه لم يُعْرَف له قبرٌ ولا مدفنٌ مهيبٌ صيغت قبابُه من الذهب الخالص والفضَّة كأخيه كليب ملك العرب.

ولعلَّ الغموض والاختلاف حول موت المهلهل واختفائه أن يمتدَّ ليشمل مجيئه ومولده، الذي لا نعرف عنه كثيرًا في أيٍّ من منظومات هذه السيرة الملحمية ونصوصها المتعددة من شعبية لفصحى.

والمفترض هنا بالتالي أن نكون بإزاء أكثر من شخصية للمهلهل أو الزير سالم؛ إحداها عربية فصحى كلاسيكية تتبدى في تراث الأدب العربي مجهلة للزير باهتة، وفي معظم الأحيان بغضية إن لم تكن سالبة شريرة حتى أن العرب لقَّبوه ﺑ «الداهية»، يمارس الحرب على أنها خدعة، وكثيرًا ما يقع في أسر أعدائه، مثلما حدَث له في حرب «الحرث»٧ الذي حاربه مرة انتقامًا لابنه «البجير» الذي قتله المهلهل غيلةً، ولم يكن الملك الحرث أو الحارث يعرف الزير سالم حين احتضنه، وعاد به إلى قومه أسيرًا، وسأله: «دلَّني على المهلهل.»

– «ولي دمي؟»

– «ولك دمُك.»

– «أنا المهلهل، خدعتُك والحرب خدعة.»

ولما أطلَقه الحرث، طالبه بأن يدلَّه على فارس مهيب يَقتلُه انتقامًا لولده البجير، فكان أن دلَّه على أعز أصدقائه المقرَّبين؛ «امرئ القيس».

فجزَّ الحرث ناصية٨ المهلهل وأطلقه، وقصد الحرث امرأ القيس فشدَّ عليه وقتله.

على هذا النحو من الخسَّة يتبدى المهلهل في أدبنا العربيِّ الرسميِّ كشخصية ميكيافيلية داهية، كثيرًا ما يقع في الأسر والإهانة، وما الحرب سوى جزء من جلده الأقرع، بل تفسير النصوص والمأثورات العربية الفصحى الوسطوية تسمية المهلهل بأنه كان أول مَنْ «هلهل» الشعر العربي، وهو أبعد ما يكون عن شعره التراجيدي الرصين الذي حَرصْنا على إيراد معظم نماذجه من هذه الدراسة عنه وعن سيرته.

وهو بالطبع ما يتعارَض بالكامل مع اختفاء النصوص الشعبية الفولكلورية بشخصية الزير سالم كبطل شعبي خارق مُكتمل الفضائل، بل هو أبدع «أنموذج» للفارس المُقاتل المتَّسق مع ما تهفو إليه وتتمثَّله بسطاء الناس من مهانين ومُضطهدين وواجفين، كما سيُطالعنا في سيرته هذه التي حرصت على الحفاظ في سَردها على كل سمة وخصيصة موضوعية لذاتها، تَرِد في مختلف النصوص — الطبعات الشعبية والفصحى — ومأثوراتها وموتيفاتها، وبخاصة الشعر الملحمي والمواويل والمعلقات والمراثي أو البكائيات قدر الجهد.

مع التبصير باستخدامي لمَنهج بنائي تطوُّري، يمكن أن يُعفينا مزالق الوقوع في براثن اتجاهٍ بدوره، من أسطوري لتاريخي، لتاريخي جغرافي، لأثنوجرافي للغوي لكوني أو طقسي.٩
ودون عُزلة عما أَسْدَتْهُ هذه الاتجاهات النظرية لحقول البحث الفولكلوري الأثنوجرافي، ودون عزلة أيضًا عن جدلية الربط بين الماضي العربي الطوطمي الآفل ذاك، والذي يتبدَّى كل التبدي طافحًا على الحاضر العربي الماثل، وعلى اعتبار أنَّ «الماضي يُفسِّر الحاضر الذي ما هو سوى صورة مُتطوِّرة منه» كما يُشير آرثر تيلور.١٠

فلعلَّ ما يُعوزني رصده وتسجيله هو في المقام الأول توصُّلي المضني إلى التعارُض الكبير بين النصوص الفولكلورية للزير سالم، ونظيرتها من مأثورات الأدب العرب على طول تاريخه المَغلوط، بما يشير إلى أننا بإزاء اكتشاف أكثر من سيرة أو ملحَمة للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداها عربية أدبية كلاسيكية، والثانية شعبية فولكلورية.

ومما يُعمِّق هذا الانقسام والتعارض بالنسبة لشخصية المهلهل أو الزير سالم خاصة والمتبدي واضحًا في النصوص الأم Version العربي الفصيح والعامي الفولكلوري، هو أولًا وقبل كل شيء يجيء من اختلاف موطن وجغرافية هذه السيرة الملحمية الزير سالم — أي مَجرى الأحداث ومسرحها — حيث تجري في النصوص العربية الكلاسيكية في مكة وما حولها، وبشكل محدود مُتقوقع بدوي قبائلي هزيل.

بينما تتخذ النصوص الفولكلورية من بئر سبع بفلسطين موطنًا ومَنفى للزير سالم، يتَّسع ليشمل سهول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومكة، أما مركز أحداث هذه السيرة وعاصمتها فهي دمشق؛ حيث تجري حروب قبائلية قارية لمئات الألوف من المُتقاتلين، وحصار بحري قوامه ألف سفينة، يتقدَّمها تُبَّع أو إمبراطور يمني غازي.

ومن هنا يُمكن طرح التساؤلات على النحو التالي: هل نحن بإزاء سيرة واحدة، أم سيرتين إحداهما للمهلهل — نرجِّح أنها الفصحى — تجري أحداثها بين عرب الشمال الجاهليِّين، والثانية فولكلورية للبطل البئر سبعي الفلسطيني المُنتقم لمصرع أخيه الملك كُليب، تجري أحداثها ما بين الشام ولبنان وفلسطين؟ ولا بأس من أن تمتد الأحداث الرافدية الجانبية لتشمل مكة وما حولها.

وإذا ما عرفنا أن «المبكى» أو ضريح المَلك المغتال كليب، يشير مباشرةً إلى أنه سلف أو إشارة سلفية للقبائل «الكلبية»١١ التي عُرِفَت منذ ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد١٢ بشعوب البحر أو الشعوب البحرية الذين تَعرَّف عليهم الأنثروبولوجيون، حين وصلت هجراتهم وغزواتهم إلى إنجلترا وأيرلندا ومعظم دول الشمال الأوروبي منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد ٤ آلاف عام، وهم ما لقَّبهم اليونان — فيما بعد — بالفينيقيين أقدم شعوب العالم القديم البحرية اقتحامًا للبحار والمُحيطات، من سوريين ولبنانيِّين وفلسطينيين، والأخيرون كما يقول جريفز١٣ — وهم الفلسطينيون — هم بذاتهم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون١٤ وَجُودا أو اليهودية بالضفة الغربية، وكانوا يضمُّون داخل تحالفهم القبلي عشائر أدومية١٥ من أردنيِّين وسوريين، المعروفين بالكلبيِّين.
وظلَّ الإسرائيليون في أَسْرِهم لمدة مائتي عام، وهو ما يعرفه التراث العربي بالأَسْرِ الفلسطيني الأول، إلى أن تحرَّر الإسرائيليون بعد أن اكتسبوا الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني، ومنه بالقطْع هذه السيرة الملحمية التي تشير بعض حلقاتها إلى فابيولات شمشون ودليلة، والكثير من الفابيولات والمأثورات العبرية المُغتصَبة مثلها مثل الوطن، الأموية الكلبية.١٦
ويلاحظ أنَّ هذه القبائل العربية المتحالفة — منذ ٤ آلاف عام — تحت اسم أو شعار طوطمي «كالب» Caleb، ظلُّوا يحتفظون بتسميتهم هذه الكلبية حتى أواخر الدولة الأموية التي كانت تُسمَّى بالدولة الأموية الكلبية.

أخيرًا … فلعلَّنا بإزاء ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، بطلها الزير سالم أو سلم، الذي يشير إلى تسمية القدس أو أورشاليم سالم أو مدينة سالم، كما أنه نبَت وتربى في وادي بئر سبع — أو بئر سبع — قبل تواجُدها التاريخي الفلسطيني الحالية، واتخذها — كما ستُخبرنا السيرة — موطنًا ومنفى.

ولعلها دراسة يجيء توقيتها من مواجهة الادعاءات الصهيونية الملفَّقة حول التهويد، وتغيير المعالم الفلسطينية العربية داخل الأرض المحتلَّة، تُضفيها وتضيفها هذه السيرة الفلسطينية شديدة القِدم والعراقة، والتي لم تسلم أيضًا من عبث وتلفيق النساخ اليهود من القرون الوسطى بها، كما سنَتناوله بتفصيل من هذه المُحاوَلة الدراسية.

١  مكانها الآن مدينة بئر سبع الفلسطينية بالأرض المحتلة Bathseba أو بيت سبأ.
٢  التطور الاجتماعي جوردون تشايلد، ترجمة لطفي فطيم، الألف، القاهرة، ١٩٦٦م.
٣  لُقِّب بالبعل في بعض الأحيان.
٤  ملوك معين Mymmae، وقيتبان Kataban، وأوشان Ousan.
٥  لاحظ العلاقة اللغوية — الإيستمولوجية — بين الدينار ودي نار، وهو موال شفهي يُنْسَب للزير، جمعتُه عام ١٩٥٥م من مصر الوسطى، ونشرته في كتابي «أدب الفلاحين» عام ٥٧؛ شوقي عبد الحكيم.
٦  التي من المرجَّح أنها استمدَّت اسمها من دفن الزير بها، كما أن هناك الكثير من الأماكن والبلاد التي تحمل اسمه وذكرياته، من ذلك ما ذكره لي القصاص فهمي حسين من أن مَعاصر كروم الزير سالم كانت بإحدى قُرى الزقازيق بالدلتا.
٧  أحد ملوك بني الحرث أو الحارث الكلابي ملوك الأنباط الأردنيين، وتَرِدُ أسماؤهم التاريخية الحفرية بالحارث Aretas منذ ما قبل الألف الأولى قبل الميلاد سواء في نصوص رأس الشعرا بالقرب من اللاذقية أو نصوص البحر الميت باسم الملك الحارث، كذلك يَرِدُ ذكرُهم بكثرة في سيرة الأميرة ذات الهمة الفلسطينية.
٨  أي إنَّ الملك الحارث جزَّ للمهلهل ناصية إحدى جدائل شعره؛ امتهانًا بحسب شعائر الحلاقة التي كانت تُمارَس — بكثرة — كطقوس عند العرب الجاهليين.
٩  من نظريات فلكية تقويمية، شمسية ميلادية، أو قمرية للسنة الهجرية.
١٠  The Jather of British Anthropology.
١١  Calebites ir Dog men.
١٢  People of the Sea—W. 2, 60.
١٣  White godess – Robert graves, p. 60.
١٤  Hebron in Southern Judea.
١٥  Edomite Clan of Caleb.
١٦  كما لا ننسى «الكلبية» زوجة الخليفة الأُموي الأول معاوية، وكذلك بقية السير الفلسطينية مثل: الأميرة الفلسطينية ذات الهمَّة، التي فتحت القسطنطينية، وأصبحت أول إمبراطورية عربية عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤