مقدمة
اخترتُ واحدةً من أهمِّ وأخصب سيرنا وملاحمنا العربية «الزير سالم أبو ليلى المهلهل» كفاتحة طريق لإعادة دراسة مَوروثاتنا العربية هذه من السير والملاحم العربية.
فالزير سالم التي ما تَزال تعيش — أشلاءً ممزَّقة أو مُهلهَلةً — على الشفاه على طول البلدان العربية مُتواترةً بالحفظ والحكي، سواء كنصوص وأشعار ومأثورات شفهية فولكلورية، أَم مدونةً في الطبعات الشعبية المُتعاقِبة ربما منذ أول معرفة بالنساخ والمطبعة.
ذلك المُقاتل العربي الفلسطيني الشاعر، قال:
ونسوق هنا افتراضًا إثنوجرافيًّا، نجري التيقُّن منه عبر صفحات هذا المدخل الدراسي لسيرة الزير سالم هذه، بأنَّ الزير سالم هو بذاته ما أعطى المدينة المقدَّسة — القدس أو أورشاليم، ساليم، سالم — نفسه؛ أي: مدينة سالم أو ساليم.
في محاولة لإعادة الاعتبار لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية التي صيغت عبر العصور التي تصل إلى أربعين قرنًا ما بين تاريخ الأدب العربي السلَفي المغلوط، وبين السطو الإسرائيلي وتغيير المعالم التي لا تقف عند الأرض والوطن بقدر ما تَستبيح التراث.
ولعله من المفيد لبحثنا هذا التخلُّص من كل محظورات وتابوات أو محرمات الأبحاث التاريخية التراثية والإنيزيمية الروحية المتَّصلة بمنتجات العقل الغَيبي، وكذا القدري والدهري والوعيدي ومُعطَياته أو مُنزلاته السماوية وغيرها.
نحن هنا بإزاء البحث التراثي التاريخي الذي يُجْرِي تطبيقاته على نماذجه العينية الميدانية، والمُستهدَف إعادة التبصير بالتراث — وصِنْوه التاريخ — من مُنطلقات أثنوجرافية لعلم الثقافة.
مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تخلُّصَنا هذا من بَراثن المناهج السحرية والخرافيَّة أو المثالية التي ترى في الإنسان أنه حقَّق فوزه سلفًا أو مقدَّمًا بشكل أبدي، ومن هنا تجيء معطياته الروحية ممثَّلةً في أساطيره وملاحمه وشَعائره وتمائمه المحجَّبة، والمجهَّزة على الدوام بسُلطة المنع والتحريم، كمناطق محرَّمة أو تابو لا يجوز اجتياجها.
ويصل هذا المنع والتحريم إلى حدِّ علاقات الانتساب أو سلسلة القرابة التي تُضفي الهالات الروحية والمقدَّسة على عائلاتها الحاكمة والمتسلِّطة، وهم لا يَعرفون بالمنسبين، والذين هم بذاتهم موضوع كل هذه السير والملاحم العربية بلا استثناء، بدءًا من سِيَره وملاحمه العربية العراقية، جلجاميش — ٥ آلاف عام — وأترياجيس، وسيرة ذي اليمنَين، والتباعنة ملوك اليمن، وآخرهم التبَّع حسان اليماني، الذي اغتاله في الشام — مع مطلع سيرتنا هذه — كُليب آخر الملوك اليمنيين سيف ابن ذي يَزن الحمْيَري، وعنترة، والسيرة الهلالية، والأخيرة ليست بأكثر مِن تراجم قحطانية يمنية وقيسية نجدية حجازية لأبطالها وشخصياتها من شخصيات أساسية وهامشية.
ولا مفرَّ لأي باحث أدبي أو فولكلوري أنثروبولوجي متقدِّم الفكر والمنهج — حين تَعرُّضه بالدراسة والبحث لهذا التراث — من الغوص في متاهات الأنساب والعائلات الضاربة الجذور على مدى يصل بنا حقًّا إلى ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد؛ أي بتقدير مُعتدل ما يربو على الأربعين قرنًا بالنسبة لمُجتمعاتنا وكياناتنا العربية.
إننا بإزاء سير وملاحم القبائل والعائلات المُستغلة الضاربة الجذور في المُجتمَع العبودي الإقطاعي بعلاقاته وتوجيديا قصوره، والتراجم الذاتية لأبطاله وخوارقهم التي تتوازى كل التوازي والتوافُق مع مُنتجَات مثل هذه المجتمعات الروحية في احتوائها وفي تمثُّلاتهم الاجتماعية السالفة والآنية ذات الأصول المُتعالية، وينتهي الأمر بأحبولة سياسية تحفَظ للبِنى الاجتماعية الطبقية دوامها وحفظ سُلطتها وتسلُّطها.
وعلى هذا فنحن بإزاء سيرة أنساب ملحمية قبائلية عربية مُوغلة القدم، وبالتالي ضاربة الجذور الطوطمية، يتبدى فيها الإمبراطور التبَّع والملك والأمير كتجسيد مُباشر للطوطم والأجداد المقدَّسين أو الآلهة الطواطم من حَمير لنوق — تنتسب إلى ناقة صالح — وكلاب وماعز وضباع ولبؤات وحمام ويمام، وهكذا كما سيتَّضح لنا عبر أحداث سيرتنا «الزير سالم».
وهو افتراض متعجِّل أسوقه مع التحفُّظ، ويحتاج الأمر إلى بحث ما إذا كانت «مسميات» «زير» و«زيت» تنتسب إلى أماكن أم معالم أو أشخاص.
ذلك أنني أسوق هنا افتراضًا تاليًا حول تسمية الزير سالم — أو سلم — البطل الإلهي المحلي الذي نشأ واستُقدم من وادي بئر سبع مدينة بئر سبع الحالية بفلسطين، وبين تسمية القدس أو «أور» سالم انتسابًا إليه.
وعادةً ما يتوارى التاريخ في ثنايا مثل هذه السِّيَر والملاحم الأسطورية العربية؛ ذلك أنه تاريخ أسطوري أو طَوطمي، تُخالط الخرافة فيه التاريخ العينيَّ أو الإركيولوجي …
وكما يذكر جوردون تشايلد؛ فقد اعتُبرت الأشعار الهومرية ذاتها فصولًا تاريخية برغم إغراقها في الخوارق وعوالم الآلهة، واتَّخذها الكُتَّاب المتأخِّرون نموذجًا لهم؛ «إذ اعتقدوا أن التاريخ رواية مترابطة تتمُّ داخل إطار فني.»
بل وعلى هذا النحو أيضًا نهج تاريخ «توكتيدس» أعظم مؤرِّخي الرومان للحروب البلوبونزية بين أثينا وإسبرطة عام ٤٣١ق.م.
وعلى هذا فالبحث في إطار سيرتنا الملحمية هذه — الزير سالم — حول كِلا الملامح التاريخية والتراثية ليس بالأمر الجديد، كذلك لا جديد في استخلاص حقائق التاريخ من ثنايا هذا التاريخ الأسطوري الخرافي المُهْمَل إلى حدِّ الاندثار من جانب الباحثين العرب، إلى حد الاندثار.
بل الجديد الطريف هو أن تظلَّ سيرة عالية الهامَة — كالزير سالم — مُهدَرة تُعاني الافتقاد والاندثار إلى أيامنا، مضافًا إليه عدم الفهم والتقدير لدرَّة قد تَصمُد لأي سيرة أو ملحمة في كل ما جاء به العالم القديم، بدءًا من السيرة الهرمونية — الإلياذة — ومرورًا بالملحمة الهندية الآرية الماهابهاراتا، التي تَسمَّى بها الهنود والفرس الآريون، والتي تتلاقى مع ملحمتنا هذه — الزير سالم — في أنَّ كلًّا منهما تؤرِّخ لحروب وهجرات قبائلية موغلة في القِدَم.
كما أنَّ ملحمتنا العربية هذه تتفوَّق كثيرًا على الملحمة الإسكندنافية الفنلندية — كاليفالا — التي عندما احتفلت فنلندا عام ١٩٣٥م على مرور قرون على أول جمْع لنُصوصها الشفهية الفولكلورية؛ اكتشف أن ما جُمِعَ منها وصَل إلى ١٣٠ ألف نصٍّ مُختلف لذات الملحمة الكاليفالا، ناهيكَ عن الآلاف المؤلَّفة من الدراسات والمعارك المنهجية التي شاركت فيها جيوشٌ مِن العلماء والباحثين الذين تعاقَبوا على دراستها على مدى القرنين الأخيرين.
فيذكر رائد المدرسة التاريخية الروسية — ف. ميللر — في «الخطوط العامة للأدب الشعبي الروسي» أنَّ البحث العلمي المعاصر في ملاحم البيلينا لم يُرضِ بعدُ جميع متطلبات العلم؛ إذ تختفي أسسُ اتصال الملاحم نتيجة الحِجاب الكثيف الذي صنعته القرون الطويلة؛ ذلك رغم ما أُنْجِز بالنسبة لعشرات المناهج والتفسيرات؛ من تاريخية وميثولوجية وتاريخية جغرافية وشرقية وأوروبية سلافية تعود بأصول هذه البيلينات إلى ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى ما أُحْرِزَ من تقويمات وقواميس موسوعية حول هذه الملاحم — القاسم المشترك للشعوب والكيانات السوفيتية — اليوم.
فما بالنا ونحن بإزاء أرض قاحلة لسِيَرِنا وملاحمنا العربية بعامة، وسيرتنا هذه — الزير سالم — بخاصة، وإن حدَث وَوُجِدَت دراسات فهي أدبية مغلوطة إن لم تكن ملفَّقة، بعيدة كل البُعد عن العلمية، والمدى الذي قطعته هذه العلوم الأثنوجرافية.
وإذا ما قصرْنا بحثَنا هذا على قضية بسيطة جانبية مثلًا حول الأصول الفلسطينية الواضحة لهذه السيرة.
فحتى أيامنا لم يُخبرنا باحث أو دارس أو مهتمٌّ عربي إلى أننا بإزاء سيرتَين شبه مختلفتَين للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداهما مُتناثرات فصحى أو عربية كلاسيكية، والأخرى شعبية فولكلورية لطبعات متعدِّدة مُتواترة — ربما منذ دخول المطبعة بلادنا مع جحافل الاستعمار الفرنسي — يَجري تداولاها، ولا تعارُض بينها — أي الطبعات الشعبية — وبين المأثورات الشفاهية الفولكلورية المبدَّدة على طول الكيانات العربية مشوقًا ومغريًا.
بل إنه إلى أيامنا لم نتمكن بعدُ من حصْر جسد هذه السيرة ونصوصها المتعدِّدة من فصحى لعامية، وما داخَلَها مِن سِيَر أسبق، وأخرى لاحقة أو تالية، وكذا كل ما يتصل بشخصياتها: التبَّع حسان اليماني الذي غزا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف مقاتل، إلى أن اغتاله بمؤامرة كليب بن ربيعة الذي اغتاله بدوره جساس بن مرة، فكانت حرب البسوس الشهيرة التي قادها البطل — الفلسطيني المنشأ بِوادي بئر سبع الفلسطينية — الزير سالم أبو ليلى المُهلهَل، والذي ستشغل حروبه — المعروفة بحرب البسوس التي امتدَّت أربعين سنة — الجسد الأعظم لهذه السيرة الملحمية الأسطورية الطوطمية.
والغريب أنَّ الزير سالم — كتجسيد للبطل الشعبي المُقاتل الخارق — يتبدى على طول السيرة متحليًا بكل فضائل وقيم البطل الشعبي الذي يَرفض أن يُطْعَنَ من الظهر أو يتآمَر، أو يغتصب أو يتسلط، حتى ولو كان الأمر متصلًا بتصرُّف أو موقف أخلاقي بإزاء حيوان، أسد جائع صادفه في بئر سبع، أو إنسان ذليل بعَث به عدوُّه ومغتال أخيه كليب ليَرقد في قبره، حتى إذا ما جاءه المهلهل ليَستشير جثمان أخيه، يتصنَّع صوت أخيه الملك كُليب ويُطالبه بالاكتفاء ووقف القتال، وعندما يكتشف المهلهل خدعتَه، ويصارحه الرجل الواجف بالخدعة، وبحاجته لأكل العيش، يضحك ويعفو عنه، ويُعطيه حصانًا ومائة دينار مُطمْئنًا.
ناهيك عن أشعاره ومعلقاته ومَواجعه التي وجدت صداها على طول العصور لمُستمعي السير والملاحم في الأسواق والموالد والمنتديات الشعبية، في عصور ما قبل المعرفة بالتليفزيون ومُسلسَلاته الملفَّقة إياها.
حين يُنشد راوي السيرة — متوجِّعًا — مربعاته:
والمُلفت أنَّ المهلهل أو الزير سالم لم يتبدَّ أبدًا في موقف سلطوي أو متسلِّط باستثناء حروبه ومنازلاته وتجبُّره القبَلي الانتقامي، وتعشُّقه الدموي بالحرب وأخذ الثأر، حتى إنَّ الزير سالم قطَع على نفسه أن «لا يهم بصلحٍ، ولا يَشرب خمرًا ولا يلهو بلهو ولا يحلَّ لَأْمَته — أي ما يربط أو يلأم درعه الحديدي — ولا يَغتسل بماء» حتى كان جليسه يتأذَّى منه من رائحة صدأ الحديد.
كل هذه المحرَّمات واللاءات إلى أن يُحقِّق انتقامه من مُغتالي أخيه كُليب وقبيلته.
فكان لا ينسى القتال لومضه، حتى أنه عندما انكسر الكلبيون — أو التغلبيون — بقيادته ذات غزو، وأحاط بالمُهلهَل عقب عودته من الحرب النساء والأبناء يسألونه عن آبائهم، قال مترفعًا قولته المأثورة:
وإذا ما تجاوزنا دوره القتاليَّ القبَليَّ، نجد مواقف الزير سالم وعلاقاته — عادةً — أقرب إلى بُسطاء الناس في كلا منبته ومنفاه الاختياري بوادي بير سبع بفلسطين، فحتى عندما توسَّع إليه أخوه الملك كُليب حين زاره ببير سبع وطالبه بالعودة معه إلى دمشق عاصمة مُلكه المتناهي «من مكة لأرض الروم» لينصبه ملكًا على العرب؛ رفض الزير سالم الملك، وحتى بعد مصرع كُليب ظلَّ طويلًا يَبكيه ويَنعيه في واديه الانعزالي الموحش، يَسكر عن أحزانه إلى أن هاجمه قومُه وبنات كليب بريادة اليمامة، وانتزعوه انتزاعًا من منفاه ببئر سبع، وعادوا به إلى عاصمة مُلكه الجديد: دمشق.
بل وحتى عندما أجبروه على قبول المُلك والجلوس على عرش الإمبراطور اليماني التبَّع حسان الذي ورثه أخوه كليب بالمؤامرة والمَكيدة الطروادية، ظل الزير كما هو فلم يُغيِّره ملْك، بل هو ظل أقرب في كل حالاته إلى بُسطاء الناس من مهانين ومُضطهَدين.
حقًّا ما أشبه هذا البطلَ الشعبيَّ الفلسطيني المقاتل المهلهل بشَعبه الذي نبَت من صفوفه، في افتقاده لكِلا أرضه وتراثه.
وتختلف النصوص حول موت المهلهل واندثاره على عادة الأبطال الآلهة أو المؤلَّهين؛ فالنصوص العامية ترى أنه اغتيل في صعيد مصر، والنصوص الكلاسيكية ترى بأن حدوث موته وقَع بالبحرين، وأخرى باليمامة، ورابعة بفلسطين موطنه.
كما أنه لم يُعْرَف له قبرٌ ولا مدفنٌ مهيبٌ صيغت قبابُه من الذهب الخالص والفضَّة كأخيه كليب ملك العرب.
ولعلَّ الغموض والاختلاف حول موت المهلهل واختفائه أن يمتدَّ ليشمل مجيئه ومولده، الذي لا نعرف عنه كثيرًا في أيٍّ من منظومات هذه السيرة الملحمية ونصوصها المتعددة من شعبية لفصحى.
– «ولي دمي؟»
– «ولك دمُك.»
– «أنا المهلهل، خدعتُك والحرب خدعة.»
ولما أطلَقه الحرث، طالبه بأن يدلَّه على فارس مهيب يَقتلُه انتقامًا لولده البجير، فكان أن دلَّه على أعز أصدقائه المقرَّبين؛ «امرئ القيس».
على هذا النحو من الخسَّة يتبدى المهلهل في أدبنا العربيِّ الرسميِّ كشخصية ميكيافيلية داهية، كثيرًا ما يقع في الأسر والإهانة، وما الحرب سوى جزء من جلده الأقرع، بل تفسير النصوص والمأثورات العربية الفصحى الوسطوية تسمية المهلهل بأنه كان أول مَنْ «هلهل» الشعر العربي، وهو أبعد ما يكون عن شعره التراجيدي الرصين الذي حَرصْنا على إيراد معظم نماذجه من هذه الدراسة عنه وعن سيرته.
وهو بالطبع ما يتعارَض بالكامل مع اختفاء النصوص الشعبية الفولكلورية بشخصية الزير سالم كبطل شعبي خارق مُكتمل الفضائل، بل هو أبدع «أنموذج» للفارس المُقاتل المتَّسق مع ما تهفو إليه وتتمثَّله بسطاء الناس من مهانين ومُضطهدين وواجفين، كما سيُطالعنا في سيرته هذه التي حرصت على الحفاظ في سَردها على كل سمة وخصيصة موضوعية لذاتها، تَرِد في مختلف النصوص — الطبعات الشعبية والفصحى — ومأثوراتها وموتيفاتها، وبخاصة الشعر الملحمي والمواويل والمعلقات والمراثي أو البكائيات قدر الجهد.
فلعلَّ ما يُعوزني رصده وتسجيله هو في المقام الأول توصُّلي المضني إلى التعارُض الكبير بين النصوص الفولكلورية للزير سالم، ونظيرتها من مأثورات الأدب العرب على طول تاريخه المَغلوط، بما يشير إلى أننا بإزاء اكتشاف أكثر من سيرة أو ملحَمة للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداها عربية أدبية كلاسيكية، والثانية شعبية فولكلورية.
بينما تتخذ النصوص الفولكلورية من بئر سبع بفلسطين موطنًا ومَنفى للزير سالم، يتَّسع ليشمل سهول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومكة، أما مركز أحداث هذه السيرة وعاصمتها فهي دمشق؛ حيث تجري حروب قبائلية قارية لمئات الألوف من المُتقاتلين، وحصار بحري قوامه ألف سفينة، يتقدَّمها تُبَّع أو إمبراطور يمني غازي.
ومن هنا يُمكن طرح التساؤلات على النحو التالي: هل نحن بإزاء سيرة واحدة، أم سيرتين إحداهما للمهلهل — نرجِّح أنها الفصحى — تجري أحداثها بين عرب الشمال الجاهليِّين، والثانية فولكلورية للبطل البئر سبعي الفلسطيني المُنتقم لمصرع أخيه الملك كُليب، تجري أحداثها ما بين الشام ولبنان وفلسطين؟ ولا بأس من أن تمتد الأحداث الرافدية الجانبية لتشمل مكة وما حولها.
أخيرًا … فلعلَّنا بإزاء ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، بطلها الزير سالم أو سلم، الذي يشير إلى تسمية القدس أو أورشاليم سالم أو مدينة سالم، كما أنه نبَت وتربى في وادي بئر سبع — أو بئر سبع — قبل تواجُدها التاريخي الفلسطيني الحالية، واتخذها — كما ستُخبرنا السيرة — موطنًا ومنفى.
ولعلها دراسة يجيء توقيتها من مواجهة الادعاءات الصهيونية الملفَّقة حول التهويد، وتغيير المعالم الفلسطينية العربية داخل الأرض المحتلَّة، تُضفيها وتضيفها هذه السيرة الفلسطينية شديدة القِدم والعراقة، والتي لم تسلم أيضًا من عبث وتلفيق النساخ اليهود من القرون الوسطى بها، كما سنَتناوله بتفصيل من هذه المُحاوَلة الدراسية.