الزير سالم
بادئ ذي بدء يتحسَّر المرء كثيرًا على أننا نصل مُتأخِّرين اليوم في إعادة الالتفات العلمي العقلي لتراثنا العربي المُهدَر؛ من تقليدي مدوَّن، وشعبي فولكلوري شفهي في مجمله، يعاني اليوم والآن سكرات الاحتضار المحقَّق.
وأخصه هنا مخلَّفات العصور المتعاقبة على بلداننا العربية، والتي خلَّفت أحداثها وبصماتها على إبداعاته التي يُخالط التاريخ فيها الأساطير، وهي محصلة السِّيَر والملاحم، المترامية الأشلاء والمقاطع والأحداث ما بين وطن عربي وآخر.
من ذلك السيرة الهلالية التي لن يتحقَّق لها التكامل من جمعٍ وبحث إلا على المستوى القومي؛ أي بدءًا من جميع مَواطن الجزيرة العربية والشام مرورًا بمصر وانتهاءً بالمشرق العربي في ليبيا وتونس والمغرب والجزائر حتى الأندلس ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة.
ونفس الشيء يَسري وينطبق على سيرتنا هذه — الزير سالم أبو ليلى المهلهل — والتي تَشمل رقعة أحداثها المركزية فلسطينَ والأردن وسوريا ولبنان، بالإضافة إلى الجزيرة العربية بكامل أوطانها وكياناتها، بدءًا من عدن وحضرموت والبحرين، وانتهاءً بمكة والطائف.
بالإضافة إلى أنَّ هذه السيرة أو الملحمة — الزير سالم — والتي حُفِظَت بالتدوين ربما للمرة الأولى بإحدى طبعات الصنادقية الشعبية بالقاهرة في القرن الماضي بعد أن اندثر وتلاشى الجسد الشفهي الإنشادي الموسيقي الأعظم منها، هذه السيرة تؤرِّخ لهجرات وحروب ومنازعات قبائلية عربية حقيقية، مركزها الجوهري هنا هو أرض فلسطين وشعبها العربي منذ عصور موغلة في القدم، فالزير سالم ذلك البطل العربي الفاتح قد يكون هو مُنشئ مدينته التي أعطاها اسمه أورشاليم أو ساليم — سالم — كما ذكرنا.
برغم أنه كان قد اتخذ من دمشق عاصمةً لدولته، بل إمبراطوريته العربية المتوحِّدة، أو تلك التي كان يجاهد في توحيدها بحد السيف والحرب منذ حوالي ٤ آلاف عام كما سيتضح.
فساحة أحداث هذه السيرة الكبرى إذن تبدأ من اليمن بمجيء التبَّع حسان اليماني أو الملك حسان ويُكنَّى بالتُّبَّع اليماني، وتَصفه الملحمة بأنه كان أول اليمنيين القحطانيين، وهم ملوك دول حِمْيَر وسبأ وذي ريدان وكهلان وقتبان وحضرموت ومعين، والدولة الأخيرة امتدَّ سلطانها حتى شواطئ البحر المتوسط والخليج الفارسي وبحر العرب، بالإضافة إلى الجزيرة العربية بكاملها.
وتَرجع أولى ممالك وحضارات العرب الجنوبيين القحطانيين اليمنيين إلى مُنتصَف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وبالتحديد ٢٣٥٠ق.م.
فمن حمير ملوك بني قضاعة وبني كلب بن وبرة وهم الكلبيُّون أو التغلبيون سكان الثغور الفلسطينيون، والذين ينتمي إليهم بَطَلَا سيرتنا: كليب وأخوه المنتقم لاغتياله الزير سالم.
أما من كهلان انحدرت سبعة بطون، تضخموا إلى قبائل وحضارات كبيرة فيما بعد، وهم: طيء ومذحج وهمدان وكندة ومراد وأنمار والأزد، ومن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام عقب خراب سد مأرب، وكذلك انحدرت منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضًا انحدرت قبائل خزاعة سدنة أو كهنة الكعبة فيما قبل الإسلام.
فقبل أن نَستطرد في التعرُّف بهذه السيرة العربية التي تؤرِّخ لحروب وهجرات قبائلية قادها التُّبَّع حسان اليماني، من المفيد التعرُّض بالتعريف للصراع الأزلي القبلي بين كلا عرب الجنوب القحطانيين اليمنيين ومُنازعيهم العدنانيين القيسيين، ومَنزلُهم الشام والحجاز ونجد والعراق، وهم — بدورهم — يَنقسِمون إلى فرعين عظيمين؛ هما: بنو ربيعة، وفارسهم هنا هو بطل سيرتنا هذه الزير سالم «أبو ليلى المهلهل بن ربيعة»، ويُعْرَفون أيضًا بالتغلبيِّين أو بني تغلب، أما الفرع الثاني فهم بني مُرَّة أو بني بكر، وكلاهما يمتدُّ نسبه إلى وائل، فهم إذن أبناء عم، أو أنَّ الملك ربيعة كان أخًا للأمير مُرَّة كما يَذكر رواي السيرة، وتحفَظ لنا السيرة بدورها.
قال الراوي: «وكان ربيعة في ذلك الزمان من كبار أمراء العربان، وكان أخوه مُرَّة من الأمراء والأعيان، وكانا يَحكمان على قبيلتين من العرب؛ وهما: بكر وتغلب، ووُلِدَ لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار، وهم: كليب الأسد الكرَّار، وسالم البطل الشهير الملقَّب بالزير، وعدي ودرعان وغيرهم من الشجعان.»
كما كان لربيعة «بنت جميلة الطباع تُعارك الأسود والسباع، اسمها أسمى وتُلَقَّب بضباع.»
وأما أخوه الأمير مُرَّة فله — بدوره — عدة أبناء شجعان منهم: همام وسلطان وجساس وبنت نبيلة يقال لها: «الجليلة»، وكعادة الزواج القبائل المتبادل بين أبناء العمومة، تزوَّج الأمير كليب الجليلة، وتزوَّج الأمير همام بأخته الضباع.
وإذا ما انتهينا من البنية القرابية القبائلية — التي ستُطالعنا كثيرًا من سيرة الأنساب هذه — نعود إلى الملك التبَّع المُغير حسان اليماني.