اغتيال كليب ملك العرب
خرَج الأمير جساس من عند الشاعرة البسوس قاصدًا قصر الملك كليب بدمشق، وأطلقت العجوز — بدورها — عبدًا في أثره خفيَةً، إلى أن وصل ودخل قصر الملك وسأل عليه أخته الجليلة، فأخبرته بأنه ركب الآن ليَطبع مهرة في «وادي الحصا والجندل»، وواضح أنه وادٍ مُوحش ومَهجور ملائم لواقعة اغتيال ملك مهيب ككليب.
ذلك أنَّ جساس أطلق عنانه إليه قاصدًا من فوره وادي الحصا والجندل ذاك متبوعًا — دون أن يدري — بعبد البسوس المكلَّف منها بمراقبته، وبأن يأتيها برأس كليب حتى تشفي لهيبها بنار أخيها التبَّع حسان، وعلى أقل تقدير: رأس ناقتها!
ذلك أن كليب ما إن رأى جساسًا مُقدمًا عليه بكامل عدة حربه حتى تعرَّفه، لكن جساس راوغه مخبرًا بأنه كان في طريقه للصَّيد، وما إن مرَّ به حتى جاءه مسلِّمًا ومعاتبًا لقتْل رعيانه لناقة نزيلته «العجوز الشاعرة وبَعلها الأعمى.»
وأجابه كليب بعدم معرفته للأمر، وعرض عليه عوضًا «أربعمائة ناقة، فليس من داعٍ للنزاع والخصام بيننا؛ فإننا أولاد عمٍّ وأصهار.»
يا جساس أنت راكب ظهر القُميرة وأنا راكب مُهرًا جاهلًا.
أسوق أمامك والمهر يسبق الفرس.
وحاول كليب التخفيف عنه طالبًا منه أن يَضربه وينتهي الحال، إلى أن لحق به عبد العجوز بجساس خلسة، ومضى يَشحنه دافعًا إياه لاغتيال الملك من ظهره، وساعده العبد في أن يركب مُستندًا إلى أن باغت كليب «وهزَّ في يده الرمح وطعنه في صدره حتى خرج يلمع من ظهره.»
فسقط كليب يتخبَّط في دمه، فندم جساس وتقدَّم إليه وقبَّله في … وعارضيه وضمه إلى صدره ووضع رأسه على ركبتيه وقال: «سلامتك يا أبا اليمامة، فقد حلَّت بي الندامة.»
وطالبه كليب بشربة ماء وقال معاتبًا مُتحسِّرًا:
وما إن فرغ الملك المُغتال من شعره الدامي حتى ارتعد جساس وذبُلَت أطرافه وهو يُبعده عنه ليَسقيه مرتاعًا.
وتركه هاربًا مُجندَلًا لعبد البسوس، الذي تقدَّم منه ليجزَّ رأسه ويعود به إلى سيدته «الهايلة»، فاستمهَله كليب حتى يكتب مرثيته الذاتية ووصيته إلى أخيه المهلهل، وأنشد من فؤاد متبول كما يذكر النص الفولكلوري:
وما إن انتهى كليب حتى تقدَّم العبد منه، وذبحه من الوريد إلى الوريد، وحمل رأسه في المنديل، وعاد به إلى سيدته البسوس، التي فرحت واحتضنت الرأس، وجمعت لوازمها وبقيَّة قبيلتها وسافرت ليلًا سرًّا، عائدةً إلى مواطنها اليمن.
وفي بعض النصوص الكلاسيكية التقليدية، يُقال: إن عَمرًا — الملقب بجساس أصغر أبناء مرة بن ذهل بن شيبان عم كليب — رفَض أن يَسقيه حين طالبه كليب مُحتضَرًا مجندَلًا: «يا جساس، أغثني بشربة ماء.»
فأجابه جساس مُتشفيًا: «هيهات، تجاوزت شبيثًا والأحص»، ويبدو أنهما سبيلان كانا للماء، والمرجَّح أنهما كانا إلهين جاهليَين طوطميين.
كما تحتفظ هذه النصوص أن مقتل كليب وقع بأرض يقال لها: «الذنائب عن يسار مكة إلى فلجة وفيها قبره» ومُعلَّقاته ووصيته المنقوشة على الحجر.
وعلى هذا فهناك أكثر من نص مدوَّن لهذه السيرة الملحمة، على اعتبار أن نصوصها الشعبية أو الفولكلورية لم تصلنا إلا مدوَّنة، سوى من بعض الشذرات الشفهية الفولكلورية من مأثورات وشعر شعبي.
إلا أنَّ الملاحظ أن الصيغة العربية أو التقليدية الأدبية تُحرِّك مسرح أحداثها إلى مكة وتخومها، بينما تحفظ الصيغ الفولكلورية والطبعات الشعبية مكان الأحداث ومسرحها يجري ما بين الشام دمشق وفلسطين، حيث بئر سبع أو السباع منشأ وموطن بطلها الزير سالم أبو ليلى المهلهل، وحيث العاصمة دمشق.
فنَسبت له هذه المصادر الأدبية الأسطورية العربية مصادرته لكلا مصدر الحياة في البادية، وهما: الماء والكلأ، فاتخذ جرْوَ كلب، فلا ينزل مكانًا به كلأ أو ماء إذا ما أطلق جروه فيعوي فيه، فلا يَرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، فضُرِبَ به المثل: «أعز مِن كليب وائل»، بل إن من نفس هذا المدخل، ويمكن القول — التحريض الطبقي — دلفت البسوس المنتقمة المحرضة منه، حين رمى كليب ناقتها بسهمه فأصاب ضرعها، فمضى يشخب دمًا ولبنًا، وكان أن صرخت البسوس في قبائل بني مرَّة محرِّضة: «هذا الباغي الذي حَمى عليكم الماء والكلأ.»
وراحت تُنشد ما عرَفه العرب بالموثِّبات:
إلى أن طمأنها جساس بن مرة: «أقصري يا خلتاه، فسيُقتَلُ غدًا جمل أعظم من ناقتك.»
وعلى هذا الحال قتل جساس كليبًا ولم يَسقِه، بل إنَّ وفود الرعاة كانوا يهربون من منظر احتضاره «وكليب يُشير إليهم بيده أن يَسقوه فلم يَسقِه أحد حتى مات.»
وعلى هذا فالاختلاف بين النصَّين — أو النصوص — من عربيٍّ أدبي تقليدي أو رسمي تتناثر مأثوراته في تراث الأدب العربي، ومن شعبي فولكلوري عامي من حيث اللغة يتبدى واضحًا ليس فقط من حيث اللغة، مِن فصحى في الحالة الأولى، وعامية ولهجاتها بحسب كل موطن عربي، بل إن هذا الاختلاف يمتدُّ مشتملًا أبنية السيرة ذاتها، سواء القرابية القبائلية العشائرية وما يتبعها من تفريعات — أي مِن رأس لبطن لفخذ — أو حتى بالنسبة للشخصيات وفضائلها.
من ذلك تصوير الأدب العربي الرسمي وتاريخه لموت كليب الذي نفَق عطشًا، ورفض رعاة البهائم أن يسقوه، والنظر إليه كمَلِك طاغية، ونفس هذا الرفض — ويمكن القول: التشويه — لحقَ أخاه الزير سالم، وهو على العكس الكامل من جانب المنظور الشعبي الجماعي الفولكلوري خاصَّةً بالنسبة لبطله الشاعر المُقاتل الزاهد — بل الأقرب للثورية — الزير سالم — أبو ليلى المهلهل — الذي سيَقتلعه مصرع أخيه الملك كليب واغتياله من مَنفاه وعزلته الاختيارية ببئره بئر سبع بفلسطين.
وتفضَح هذه السيرة الملحمية فصولها التالية الرئيسية للزير المُحارب ومراثيه الشهيرة في كليب: «كليب لا خير في الدنيا ومَنْ فيها.»
بل إن كليب ذاته حذَّره في وصاياه العشر أن «لا يُصالح» أبدًا، والذي تُشير رأسه المنتزعة عن جسده المغتال من الظهر إلى توحُّده برأس «آدم» أبو البشر لدى تلك القبائل الأدومية التي كانت من أقدم عبدة «الجثمان» السلفي لكالب — الأب — المُغتال، رأس تلك القبائل الكالبية التي تأكَّد وثبت تواجدها التاريخي منذ مطلع الألف الثانية ق.م.