مأساة الجليلة بنت مرة
فبينما يتبدَّى مصرع كليب كمَلِك أو إله ذبيح ممزَّق أو معذَّب، طُعِنَ من الظهر غدرًا في النصوص الشعبية، يتبدى موته كطاغية يَحرم قومَه من الماء والكلأ في الأدب العربي الكلاسيكي.
كذلك زوجته الجليلة بنت مرة التي تتبدَّى شريرةً مُطارِدة مُنكِّلةً ببطل السيرة وشخصيتها المِحوَريَّة — الزير سالم — في النصوص الشعبية الفولكلورية مثلها مثل سارة مع إسماعيل، وزوجة الأخ الأكبر في قصة الأخوين الفرعونية، ودليلة مع شمشون الفلسطيني.
فبينما لا يَحتفي ويذكر النص العربي الفصيح مكائدها واضطهاداتها للزير سالم، بل هو يُصوِّرها — أي الجليلة — وينسب لها أعنف وأصعب المواقف التراجيدية عالية القيمة، التي عرفها الشعر العربي ومعلَّقاته على الإطلاق.
فعندما ناحت النساء على كليب وخمشْن الوجوه ونثرْن الشعور وخرجت معهنَّ الجليلة بنت مُرَّة تَبكي زوجها ورجلها معهنَّ، فقلْنَ لها: «ابعدي عنا فإنكِ شامتة، وقد حرَّضتِ أخاك على قتل سيدنا.» بكت الجليلة منشدة معبرة عن موقفها الأصعب على طول هذه السيرة:
•••
•••
ثم خرجت حتى لحقتْ بأهلها.
لكن يستوي في كلا النصَّين — الفصيح والعامي — وصول خبر مقتل كليب للمهلهل في قصره ببئر سبع، وقولته المأثورة: «اليوم خمر وغدًا أمر»، ثم انسحاب صديقه «همام» الأخ الأكبر لمُغتال أخيه جساس، ثم تخلي الزير سالم عن كأسه وطاسه، قائلًا:
ثم أنشد مرثيَّته الكبرى، في رثاء أخيه المُغتال كليب:
فحرَّم اللهو وشرب الخمر والتزيُّن، وأن لا يدَّهِن «حتى أقتل بكل عضو من كليب رجلًا من بني بكر بن وائل.»
وهنا يحقُّ لنا التريث أمام مقولة الزير سالم المُثكل التي فيها يتوعد قبائل بني بكر بن وائل بأنه سيضربهم بكل عضو من كليب أو قبائل كليب أو الكلبيين أو بني كليب، بما يؤكد أن كالب وكليب قبائل تَنتمي إلى التحالف الكنعاني الفينيقي أو البحري من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين بأكثر من انتمائهم وسلَفهم المُغتال كالب إلى شمال الجزيرة العربية في نجد والحجاز، وهو الخلاف الجوهري لموطن وجغرافية هذه السيرة — الملحمة — ما بين معالم نجد والحجاز والمأثورات الفصحى، والشام وفلسطين من النصوص الفولكلورية.
فمِما يؤكد العودة بمسرح أحداث هذه السيرة إلى ربوع الشام وفلسطين، وهو — كما أسلفنا القول — ما يتبدَّى جليًّا إلى حدِّ وثوقي في نصوصها الشعبية الفولكلورية في مواجهة مأثوراتها المُتناثرة العربية أو الفصحى، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ التحالف الكالبي الطوطمي البحري للفينيقيين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، الذين وصلتْ هجراتهم وفتوحاتهم وشتاتاتهم منذ أقدم العصور مطلع الألف الثانية قبل الميلاد إلى إنجلترا وأيرلندا وبعض دول الشمال الأوروبي عامة، كذلك كان للكلبيِّين شتاتاتهم وقبائلهم في الجزيرة العربية نجد والحجاز، بالإضافة إلى تواجُدهم في مصر حين الْتقى بهم المؤرخ بليني القرن الثاني ق.م حول بحيرة مريوط، ووصفهم بأنهم أغرب أقوام دينيَّة صادفها.
وقبل العودة إلى أحداث ملحمتنا، أودُّ أن أشير إلى أنَّ مجرى الأحداث المركزية لها، سيعود بالسيرة — عقب مصرع كليب — سيعود بنا أكثر إلى ربوع الشام وفلسطين والأنباط الأردنيِّين.
ذلك أنَّ هذا الشاب اليافع «شيبان» فضَّل البقاء مع خاله الزير سالم حين ساءت الأمور بين القبيلتَين بكر وتغلب متخليًا عن أبيه همام وقبيلته، مبقيًا على قبيلة خاله، اتساقًا مع هذه القبائل الأمومية في الانتماء إلى قبيلة الخال الكلبية أو تقديسها.
ففي محاولة من شيبان الصغير لشحْذ قوى خاله الزير سالم في الانتقام من قبيلته — أعمامه — أغضبت الزير سالم، فأمسك بابن أخته وضرب به الأرض حتى مات، فقطع رأسه وأرسله إلى أهله وأخته ضباع على ظهر جواده، الذي سار به إلى أن أوصله إلى قبيلته وأهله، وما إن تلقَّته أمه الضباع حتى شقَّت ثيابها ورحلت إلى الزير سالم وقالت: أتَقتُل ابن أختك بثأر أخيك؟
وظلَّت منذ هذا الحادث الفاجع تضمر لأخيها الزير سالم كل حقد، بل لعلَّ في موقف هذه الأخت الإلهة — الطوطم — ما يجيء سرطانيًّا مُخالفًا للنسيج القبائلي المشكِّل لمُجمَل هذه السيرة بعاداته وطقوسه، فكيف قُدِّر لضباع — الأخت الثالثة لكليب والزير سالم — الانحياز لقبيلة زوجها القيسية بدلًا من قبيلتها التغلبية أو الكلبية، خاصَّةً بعد مصرع أخيها الملك كليب؟
وهو على العكس التام طبعًا من موقف الجليلة التي عادت منتميةً إلى قبيلتها بدلًا من زوجها.
وهو تساؤل نرجئ الإجابة عنه مع توالي أحداث الضباع والزير سالم.
ذلك أن الضباع ما إن استخرجتْ رأس ابنها شيبون من خارج حصانه، حتى أنشدت تقول مفصحة عن فاجعتها بفقد الأخ والابن:
فأجابها الزير بهذه الأبيات:
وهو — كما يتَّضح — شعر ركيك أو دخيل، إلا أنه يفصح عن توعُّد الزير سالم ومعاناته التي صاحبت تحوُّله المتردِّد في الانتقام.
والملفت حقًّا هنا هو ذلك الموقف الذي اتخذته الضباع — الأم — عقب سماعها للزير قاتل ابنها شيبان، وكيف أنها استبشَرت بتوعُّده للحرب فكان أن «زالت عنها لوعتُها وخفَّت الأحزان» عقب سماعها لشعره المتوعد بأخذ الثأر.
وعلى هذا عادت الأم إلى قبيلتها أو قبيلة زوجها همام المعادية، والمطلوب هنا هو بذل الجهد في تصور هذه المواقف القبلية من حيث الانتماء والولاء، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل ما يُمكن أن يُشكِّل موقفًا مع القبيلة وضد الأمومة كما في حالة الضباع هذه، وحالات أخرى مماثلة لها ذات الصعوبة ستُطالعنا هنا ونحن بإزاء مقتل كليب الذي يُبدع في نثره راوي السيرة، والذي يستشفُّ من نصوصها الشعبية مدى المؤثِّرات اللهجية السورية والفلسطينية واللبنانية بأكثر من العربية الحجازية أو المصرية.
إنَّ اغتيال كليب يوازي اغتيال سلف أب، مثل اغتيال إله.
وعليه فمن واجبنا هنا التذكير بأننا لسنا بإزاء تصرُّفات وممارسات ومواقف وعلاقات — بالمفهوم الأنثروبولوجي — بشرية، بقدر ما نحن بإزاء مواقف وعلاقات وممارسات طوطمية أو إلهية؛ ذلك أنَّ معظم الأسماء التي توردها نصوص هذه السيرة المختلفة أسماء لآلهة وأصنام وطواطم عربية أو سامية أو جاهلية بحسب التسميات التلفيقية، سواء أكان كليب أو سالم أو ضباع أو البسوس سعاد مؤنَّث الإله سعد الصنم الجاهلي البعل سعد، وكذا الجرْو، ثم اليمامة التي أصبحت مدنًا وقبائل ومواطن.