الزير سالم ملكًا على عرش كُليب بالشام وفلسطين
وبالطبع لا يَنسى رواي السيرة الشعبي إخبارنا بالدفنة المهيبة لجثمان الملك كليب، التي بنوا عليها «قبَّة من أعظم القُبب، طلوا حيطانها بالفضة والذهب»، وذبَح الزير سالم على قبره النوق والأغنام، ثم اجتمع بالأكابر والفرسان، وعاهَدهم على الاستعداد لأخذ ثأر كليب، فتحالَفوا معه وعاهَدوه وعلى كرسي المملكة بايَعوه وأجلسوه.
وهكذا ما إن تملَّك الزير سالم ملكًا وآل إليه — كأخٍ أصغر — مُلكُ أخيه حتى طرَد امرأة أخيه الجليلة، والمُلفت هنا أنَّ الزير اكتفى بهذا الطرد للجليلة التي اضطهدته وسامته العذاب، بل هي عادت إلى قبيلتها المُعادية مُكرَّمة بأكثر منها مَطرودةً كما يُخبرنا النص العامي الشعبي.
حيث إنها سارت إلى بيت أبيها مع أهلها وجواريها، سوى مِن تصدِّي بعض النسوة لها — في النص الفصيح — ومُعايَرتها وهو ما أشرنا إليه سابقًا.
ويبدو أنَّ الزير لم يقتلها مراعاةً لأخيه كليب المغتال، ولأنه كان مشغولًا بجمع القادة والفرسان للانتقام والثأر، التي تجمَّعت فملأت الروابي والتلال، وعددهم أربعمائة ألف مقاتل. (ويا له من رقم في إطاره التاريخي!)
وما إن وصَل خبرهم إلى بني بكر حتى خافوا العواقب، فجمعوا نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزلوا بمكان يُدْعَى «الذنائب» يَبعُد نحو ثلاثة أيام عن قبيلة الزير، وكان على رأسهم الأمير مُرَّة رأس البكريِّين ووالده جساس، والذي راعه البطل الزير سالم وجيشه فقال مأثورته: «اليوم تُباع الأرواح بيع السماح.»
وعندما تلاقى الجيشان كانت حربًا فظيعة «يَشيب منها رأس الغلام قبل الفطام» كما يَذكر النص، وكان كلما قتل الزير فارسًا يقول: «يا لثارات كُليب ملك العرب.»
فالأرجوان هنا هو الشعار الدامي للبحَّارة الفلسطينيين واللبنانيين الفينيقيين.
حيث إن الفينيقيين الذين جابوا البحار والمحيطات — منذ أقدم العصور — ونشروا حضارتهم وتراثهم عبر العالم البحري، اتخذوا من الأرجوان الأحمر الدامي شعارًا لهم، وهو اللون الذي تَصبغ به هذه الملحمة بطلها الزير سالم عائدًا مُنتصِرًا كأُرجوان دامٍ، كما أنه ذات اللون الذي ما يزال يَطبع معالمنا المعاشة — وتسميتها بالحمراء — وشوارعها وأحياءها في بيروت، دمشق، عمان، فلسطين، بالإضافة إلى دول وممالك بني الأحمر بالأندلس.
ذلك على الرغم من إقحام النصِّ بين حدث وما يتبعه لخصائص عربية جاهلية؛ من ذلك مُصادَقة المهلهل لشاعر يُدْعَى امرؤ القيس، أصبح لا يُفارق الزير في قتاله الذي دام ثلاثة شهور متَّصلة في بداية هذا النزال القبائلي الملحمي، فقتَل فيها الزير آلاف الأبطال، «وغنم أموالًا غزيرة» ساقها عائدًا إلى قصر أخيه كليب، حيث استقبلتْه اليمامة مرحِّبة، وأطفأ هو لهيبها حين وعدها بقتْل جساس والإتيان برأسه شاهرًا.
إلى أن زاره «تريزياس» هذه الملحمة، وهو الكاهن العابد نعمان الذي سبَق أن صمَّم لأخيه كليب مؤامرة قتل التبَّع، والذي أشار على الزير بغياب مُلكه أو بغيابه عن ملكه سبع سنين منحوسة وأيامها عليك معكوسة، وعليه أن لا يحارب فيها، وهكذا عاد الزير إلى معاقرته لخمره مصطنعًا لنفسه منفًى اختياريًّا.
وعلى عادة تردُّد هذا الموتيف الذي يُصادفنا بكثرة مفرطة — في الحكايات والفابيولات الشفاهية الفولكلورية — لملوك يزورهم متنبئهم وكهنتهم، ويُخبرونهم بزوال ملكهم وجاههم لفترات محدَّدة، أبرزهم هنا فرعون يوسف في مصر وسنواته السبع العجاف، والملك مَعروف في سيرته المهشمة التي سبَق لي — شوقي عبد الحكيم — معالجتها للمسرح وتقديمها عام ٦٧.
وهكذا وقعت الهدنة بين المتحاربين.
بما يُفسِّر ندم جساس ومخاوفه، واستحضاره الكابوس لناقة البسوس التي اقتحمت حِماه، وتسبَّبت في إقدامه على اغتيال الملك كليب، وما جرَّ عليه وعلى قومه من حروب وبلايا وحمامات دم.
ويُخبرنا النص — في آخر السنة السادسة — أن جساسًا تمكَّن من سرقة مُهر الزير سالم «الأدهم المدعو بعندم».
لكن ما إن عاد الزير سالم من رحلة صيده الخلوية وافتقَد مُهره ذاك، عبر حوار شعري يجري بينه وبين اليمامة ابنة أخيه كُليب، التي أخبرته بسطو وسرقة خالها جساس للمُهر حين غاب الزير في صيده وقنصه عشرين يومًا، وكان أن عاود الزير نَصْب الكمائن، واستخدام الحيَل، والتنكُّر؛ لاسترداد حصان أخيه كليب من مرابط خيل جساس، مُصطنعًا هيئة أنه يعمل سايسًا للخيل التي ستُلازمه على طول هذه السيرة: «أنا من بلاد الصعيد، ومِهنتي سياسة خيل الأماجيد.»
ومع اختلافنا مع هذا الرأي حول تسمية المُهلهل وإحاطته بهالة مِن التغريب تبعد بنا كثيرًا عن رُوح هذا النص العربي — إن لم نقُلْ: الفلسطيني الفينيقي — استنادًا إلى أصوله وأرحامه التراثية الأسطورية التي وُلِدَ من رحمها في الشام وفلسطين.