عبدة السلف
ولما اشتدَّت على جساس وقومه الأهوال والزير يَرفض كل وساطاتهم وفدياتهم لإيقاف القتال أو حتى قبول الهُدنة.
وكان أن لجأ جساس إلى حيلة تَكشف — بوضوح — عن مدى سلفية تلك القبائل؛ ذلك أن الزير سالم دأب على المرور على زيارة قبر أخيه كليب وإعلامه بأخبار الحرب وعدد قتلى مُغتاليه، سائلًا إياه: هل اكتفيتَ يا أخي؟
وهنا توصَّل جساس إلى حيلة لإيقاف الحرب ونزيف الدم عن قومه؛ بأن وضع رجلًا معدمًا داخل قبر كليب، حتى إذا سأله الزير سالم يُجيبه: اكتفيتُ يا أخي، فأَغْمِدْ سيفك عن قتال القوم.
وعليه فما إن مرَّ الزير سالم بقبر كليب حسب عادته وناداه بصوت عالٍ: «نعمتَ صباحًا يا أخي كليب.»
حتى أجابه الرجل المختبئ داخل القبر: «وأنت نعمتَ صباحًا يا أخي الحنون، يا ساقي الضد كأس المنون.»
ولما سمع الزير أخيه فرح ونزل عن فرسه متقدِّمًا نحو القبر قائلًا: «أنت حي يا أخي ونحن نقاسي الضنك والضير»، ثم نزل إلى القبر قائلًا: إن كنتَ بخير يا أبا اليمامة، فما هذه الإقامة؟
إلى أن واجه الزير رجل جسَّاس المختبئ سأله مندهشًا: مَنْ يكون؟ وهو يجذبه من لحيته تأهُّبًا لقتله، لكن حين استجار الرجل بكُليب أجاره الزير وعفا عنه.
ولما سمع منه حيلته صفَح عنه وأعطاه جوادًا وألف دينار من الذهب، وخرج من القبر ضاحكًا مرحًا قائلًا: «يَحمي اليوم كليب الخائف في مماته كما كان في حياته.»
فكانت قبائل كالب عشائر أدومية، ومنها جاءت تسمية آدم بمعنى الرجل الأحمر، وتوجد إشارات في التلمود إلى أنَّ رأس العيص بن إسحاق — أبي الأدوميين — كانت من انتزاع عيسو أو العيص ودفَنها في عبرون.
فيقال عن تلك العصا: «إنها هدية الرب لآدم عقب طردِه من جنة عدن، وإنها توارثَت من أب لابن، إلى أن وصلت إبراهيم فأورَثها ابنه مدين.»
•••
فيبدو أن ثمة صراعًا قد نشَب بين القبائل العربية البادية والباقية، أو بين قبائل جرهم وقبائل إسماعيل أو الهاجريِّين وبقاياهم إلى اليوم بالسعودية، بنفس ما حدَث مع عرب الجنوب القحطانيين وأسلافهم من العرب البائدة: عاد وثمود وطسم، وما حدَث مع الكنعانيين والعبريين والعمالقة أو العماليق في ربوع الشام وفلسطين، بمعنى حلول أحقاب تاريخية أو حضارية بحسب تفسير هذا التاريخ الأسطوري التخميني.
ويبدو أن ذاك النزاع بين القبائل البائدة والباقية الذي قد يكون على سبيل التخمين نزاعًا ذا طابع حضاري مُغرق في القدم، وأنه كان متبوعًا بانقلاب أبوي — أي نقل السلطة من الأم إلى الأب — مع بدء المعرفة بالزراعة.
بل إنَّ الصراع على التابوت — أو تابوت العهد — يُشير أكثر إلى طبيعة ذلك الصراع، ومعناه أن تلك القبائل السلفية كانت من عبَدة جُثمان آدم، فيقال: إنَّ الجثمان كان مخبئًا في كهف ماكبيلا، وإن قبيلة كالب عبدته.
فيقال: إنَّ قبائل كالب العربية والعبرية كانت تَعبد جثمان آدم، وكالب اسم أو هو تحالف لقبائل عربية وعبرية وكنعانية، ومن أسمائها بن كلب بن وبرة، و«بني كلب» بن «ربيعة بن صعصعة» و«الكلبيين» و«كليب» … إلخ.
كما يقال بأن الأشياء والمُمتلكات التي كانت قد سرقتها راحيل — أو راشيل أم النبي يوسف الإلهة القمرية الأم لقبيلة يعقوب عقب زواجهما — كان من بينها رأسُ آدم.
فالسلفية كما يُعرفها شيخ المؤرِّخين أرنولد توينبي بأنها سباحة ضد تيار الزمن والتاريخ، فيبدو أن جدلية الحياة — أو حركة التاريخ اليومية — تدعو إلى تزيين السلفية ومن وجوه عدة، لعلَّ أبسطها جاذبية الرخاء القديم الغابر عند العرب عامَّة، ممثلة في الإفراط بكاءً على الأطلال والزمان المنقضي.
ومن جانب آخر تتمثَّل السلفية في سحر اللغة ورونقها، ولنَقُلْ: سحر عصور وأحقاب بعينها لأزهى عصور منقضية.
كما إن أقصى جاذبيتها تتبدى في الأساطير والتحليق في رومانتيكية العقل الغيبي المضاد والمُعادي في ذات الوقت للعقل كهدف أخير للتاريخ.
ويا له من عالم رائع من حيث جمالياته البحتة — عالم الأساطير المكبَّل بسلطان العادة والتوارث — لدى تلك القبائل المُتناحِرة دفاعًا عن وهْم الأسلاف ورِمَمِهم!
منذ أساطير خلق العالم والإنسان الأول أو القديم أو الأديم، المُصاغ من طين سيرتنا العمق ولازبه، في بؤرة العالم القديم أدوم، وحيث مجرى أحداث سيرتنا الملحمية هذه؛ الزير سالم.
فالسلفية هنا جزء من التصوُّر القَبَلي، ذلك الذي لا يقف عند الأحياء، بل هو يمتد خلفًا في أغوار الماضي التاريخي الأسطوري — خاصةً تراثنا العربي السامي — شاملًا الموتى قبل الأحياء، فالأرض هي أرض الأسلاف والأجداد، وهو ما لا يزال يُشاع بكثرة في أغانينا المعاصرة خاصة في ربع القرن الأخير، كما أنَّ مثل هذا التصور لا يَبعُد كثيرًا عن التصور الطوطمي الإفريقي؛ حيث إن طوطم العشيرة البدائية كان رمزًا وشعارًا للعشيرة الخالدة، مُشتملًا على الطوطم السلف والخلف في وحدة شاملة تعبِّر عنها أساطير وأغاني وأمثولات القبائل البدائية.
ومن هنا فكلا الأحياء والأموات يوجدان الجماعة أو الأمة، مع ملاحظة الانتساب اللغوي إلى الأنثى الأم، بل إن أدنى الوحدات الاجتماعية للأمة أو القبيلة يُطْلَق عليه البطن والفخذ والرحم، مثلما ذكر الزير في مأثوراته «أنه سيَضرب بكل عضو من كليب أعداءه»، وكذا استشارته عقب كل غزوة مزار كليب السلف الميت.
ويمكن القول بأن حالة الانجذاب هذه نحو السلفية سماها الكثيرون — بحق — حالة الهستيريا، ومُحاولة استحضار الماضي وطبعه على الحاضر، كما هو في حالة هذه القبائل في تعاملها مع رأس كليب، والتي ستتصوَّره دومًا قائمًا عائدًا منبعثًا: «من وسط المقابر إلى وسط الحياة.»
•••
أخيرًا فلعلَّنا عن طريق استخدام افتراضات ونتائج الدراسات والمناهج المتزامنة من أثنوجرافية وأسطورية وطقسية وطوطمية وسلفية، نستطيع استجلاء غموض وانغلاقات تراثنا العربي هذا الضارب الجذور والعلاقة.