هروب جساس وقومه إلى الحبشة والسودان
وحين تجدَّدت الحرب كسر الزير سالم أعداءه بني مُرَّة أشد انكسار، وعقب كل غزوة تلقاه
«اليمامة» مع كورس نسائها سائلةً: «هل أتيتَ برأس خالي جساس؛ حتى نخلع السواد ويطيب
الفؤاد؟»
أما جساس وقومه فوصَل بهم الحصار والضيق إلى اجتماع شيوخ قبائلهم، وعقدوا العزم بالهجرة
إلى
«بلاد الحبشة والسودان»،
١ حيث لجئوا إلى ملك الحبشة الذي يُدْعَى الرعيني، وحيث تشفَّعت الجليلة لقومها
عنده، بعد أن كاد أن يَقبض على أمرائهم ويَفتك بهم؛ لأنهم من قوم قتلة خاله الملك التبَّع
حسان
اليماني.
ونجحت الجليلة التي تلعب الآن دورها ككاهنة أو إلهة قمرية تتقدَّم القبائل المُهاجرة،
وتحلُّ
مآزقهم.
كما هو بالنسبة لابنتها اليمامة مع الزير وقومه الكالبيين.
ذلك أنها ما إن واجهت الملك الرعيني — وهي في أبهى زينتها كالطاووس — لابسةً أفخر
الملبوس
«حتى أقنعته باستبقاء قومها ومُعاونتهم في حربهم المَحتومة.» فنادى على أخيه غطاس ليجمع
الجنود
ويُهيِّئ الرحيل للزحف والرحل.
فنجحت الجليلة على هذا النحو في حمل الملك الرعيني على تقدُّم فيالق جيشه، والزحف
به إلى
الشام، فخرجت بقية التحالُف البكري لاستقبالهم بالترحاب والابتهاج.
كل هذا والزير سالم غائب في ملذاته وخلواته، إلى أن قصَده في منفاه أحد إخوته، واسمه
٢ «عدي»، فأعلمه بوصول الملك الجبار الرعيني، وانضمامه إلى جساس وأعدائهم، وهنا
انقضَّ الزير مُتبدِّيًا بحسب ما يذكر النص:
تبدى الزير حالًا ثم قال
تخاف من العدا وأخوك سالم
أنا وحدي ألاقيهم بعزمي
أنا الدعاس في يوم الزخايم
ويبدو أن الرعيني وجيوشه نزلوا البصرة؛ ذلك أنَّ الزير ما إن احتال متنكِّرًا في
زي شاعر
عربي مداح جوال،
٣ يطوي الأراضي وهو ماشٍ على عكاز،
٤ وظل يجوس في مضاربهم إلى أن وصَل والْتقى بالملك الرعيني ذاته وتعارَفا، فأجابه
الزير عن حاله: «أنا شاعر جوال أمدح الأمراء، علمتُ أنك في بني مرة، فأتيتُ أقصدك في
مدينة
البصرة.»
وأنشد حين طالبتْه «بدور» زوجة الرعيني مِن وراء خبائها:
قال الأديب الذي طالب إحسانك
جرحي بوسط الحشا والقلب نزاز
يا بو فهد يا رعيني استمع ما أقول
يا من قلوب العدى بالروع هزاز
قد كنت قبلًا في خير وفي نِعَم
مستور بين أهلي ما أنا معتاز
فصرت شاعرًا على الأجواد أقصدهم
أطوي الأراضي وأنا ماشي على عكاز
قالوا: فسرْ للرعيني مقصد الشُّعَرا
فذاك جواد يعطي كل معتاز
فجئت طالبًا إحسانك وإكرامك
يا مَنْ حويت المكارم في عطا المعتاز
وما إن انتهى حتى فاجأ الجميع واستلَّ سيفه وقطع رأس الرعيني، ولحقتْ به جيوشه المتأهِّبة
واشتعلت الحرب — من جديد — التي خرج منها الزير سالم مضيفًا لقبًا جديدًا إلى ألقابه،
فتسمى
ﺑ «المهلهل فارس العرب والعجم».
ولما عَظُم الأمر على جساس وضاقت به وقومه السبُل؛ لجأ إلى الحيلة — كعادته — لإيقاف
الحرب
أو نَيل هدنة قصيرة، يرفع فيها سيف المُهلهل عن قومه، فزار العابد نعمان بالهدايا، واستعطفه
وطالبه بالتدخُّل لدى الزير لإيقاف الحرب.
وحين رقَّ قلب نعمان ذاك ذهب من فوره إلى المهلهل ورجاه وقْف القتال.
لكنَّ بعض الغموض الملحوظ يشوب النص عقب تدخُّل ذلك الكاهن وفرضه وقف الحرب إن لم
يكن معظم
النصوص من عامية لفصحى؛ حيث يمرض المهلهل خلال هذه الهدنة ويلزم فراشه، ويصل خبره هذا
جواسيس جساس، فيُدبِّر حيلةً لاختطافه، نفَّذها أخوه الأمير سلطان بني مرة، حيث داهموا
قصر الزير
سالم ليلًا بثلاثة آلاف فارس، وداهموه في الفراش فأثخنوه بالجراح، وأسالوا دمه كالمطر،
ووضَعوه في «جلد جاموس» بما يُشير إلى مهانته وتوحُّده بجلد الجاموسة.
وذهبوا به ليلًا إلى أخته «ضباع»
٥ التي أظهرت لهم السرور صارخةً: «إن جزاء الغدار الحرق بالنار» ووعدتهم بحرقه،
وما إن تركوها وساروا — مُعلنين خبر القضاء على المهلهل — حتى داهمتْها الحيرة، صحيح
أنه قتَل
ولدها، لكنَّ أخاها الزير «شيد للقبيلة ذكرًا لا يبور مدى الدهور.»
وهنا يذكر النص صحوة المهلهل «وهو على آخر رمق»، وما إن عَلم بما أصبح فيه، حتى
أنشد:
قال الزير أبو ليلى المهلهل
ونار الحزن توقَد في حشاه
فكان كليب ملك للبرايا
أتى جساس فغدره بالفلاه
جلست مكانه أخذًا لثأره
وكنت أنعيه صباحًا مع مساه
فقال الشيخ: كف الحرب عاجل
ولا تنقل لسيف أو قناه
وقومي كلهم للصيد راحوا
فعرف القوم مع باقي العداه
أتوني والمقدر كان كائن
وحلَّ بي كل ما أنت تراه
أتوا بي لعندك يا أخت حتى
تنالي الثأر يا غاية مناه
كليني يا ضباع أو اقتليني
أنا أخوك إذا احتبك القناه
فأنتِ تشبهي اللبوات حقًّا
وأنا مثل سبع للفلاه
فألقيني بصندوق مزفت
وارميني ببحر مياه
وهنا يلاحظ أن الزير سالم يبدأ إخبار أخته الضباع بما حدَث واصفًا أخاها المغتال كليب
بأنه كان «ملك البرايا»، ثم يعرِّج على وصف «الضباع» بأنها «تشبه اللبؤات حقًّا.»
ويلاحظ أن اللبؤة على عكس الضبع في قائمة الحيوانات والطيور السامة تصنَّف مع الطيور
الملكية، رغم أنها حيوان أو طائر نجس محرَّم Taboo، مثلها مثل
البجعة والطائر أبيس — أبو قردان — والنسر والغراب، فهم جميعًا ليسوا من أصول سامية،
رغم
أنهم كانوا مقدَّسين عند اليونان والرومان والفراعنة.
كذلك يلاحظ أنَّ الزير هو الذي أشار إليها بإلقائه في البحر مثله مثل الآلهة الممزقة
— خاصة
أوزيريس — ذلك أن بكائيات الضباع هنا تتقارَب مع ندب إيزيس، وهو ما لا يزال محفوظًا داخل
البكائيات الجنائزية، وتحفظه الندابات
٧ المعاصرات:
تقول ضباع من قلب حزين
أيا عيني فزيدي من بكاها
وقلت له: روح يا جمل المحامل
أيا عامود بيتي انحناها