هذه الحضارة الكلبية الحميرية وطواطمها
وما إن انتهت الهدنة القصيرة حتى اندلعت تلك الحروب القبائلية المتوالية التي عادةً ما تنتهي بانتصارات المهلهل وسبْي وقَتْل وأَسْر القبائل البكرية أو القيسية.
إلى أن رجحت كفَّتهم لفترة بعودة الأمير شيبون ابن الأمير همام وابن الضباع الذي سبق للزير قطع رأس أخيه شيبان، وتُخبرنا الملحمة أنه كان غائبًا في حملة من الفرسان لغزو بلاد الروم، وعاد من فوره لقتال خاله الزير الذي حاول في البداية إثناءه عن مُنازلته عقب رسالة شيبون له التي فيها سخر من الزير سالم، وعايَره بأنه من قوم يركبون الحمير ويقتنونها.
ويرجع هنا أن هذا هو النص المُستحدث في العصور الوسيطة الإسلامية، أما التصوُّر بالنسبة للنص الطوطمي الأم هو أنَّ شيبون استخفَّ وأهان الآلهة الطواطم لمجموع البطون والقبائل الحميرية الكلبية التي يتزعَّمها خاله الزير سالم، قائلًا:
وهنا أجابه الزير مهدِّدًا ومُنكِّلًا بدوره بآلهة وطواطم ابن أخته ضباع — شيبون — سابًّا آلهته مِن نوقٍ وبعير:
ويتَّضح هنا — بل يمكن القول — ويستشفُّ مدى ذلك التراشق الطوطمي بين الحميريين والجمالة، أو بين الآلهة الطواطم من حمير «أتان» راسخة لا تحمل بذات سهولة البعير أو النوق حديثة الولادة.
وإذا كنا قد تعرضنا في فصول سابقة لناقة البسوس التي من نسل ناقة صالح، وبالناقة — عامة — طوطم الإله هُبَل أو بعل، فلا بأس من الإلمام بالحمار والأتان ودورهما الطوطمي والأثنوجرافي في تراث الأقوام الشامية والأردنية والفلسطينية خاصة.
ويصف سِفْر التكوين — أو الإله يهوه — إسماعيل أبا العرب العدنانيين «كحمار وحشي بين الرجال.»
ولعلَّ في الإمكان تصوُّر أن ذلك الصراع القبَلي الشوفيني الموغل في العصبية القبَلية والقدم، والذي هو صراع بين أبناء العائلة — ولْنَقُلْ: البطن القبائلية الواحدة — ذلك إذا ما اعتبرنا — بحسب الاستقراء المتوفِّر للنصوص التي تسمَح بالمقارنة — أنَّ كليهما — بكر وربيعة — قحطاني يمني.
يؤكد هذا الافتراض — أو الاعتبار — في القول بأن الكلبيين حمْيَريُّون بحسب ما يتيح من اتساق كلٍّ من النسب والطوطم، فمن حمير ملوك بني قضاعة وبنو كلب بن وبرة وهم الكلبيون أو بنو كلاب.
وعلى هذا يمكن القول بأنَّ «كل كلبي هو حِمْيَري»، أو أن حِمْيَر في موقع السلف الأكبر لهذه القبائل الكلبية، انتسابًا إلى ملكهم المُغتال كليب وأخيه بطل سيرتنا هذه — الزير سالم — الذي أسماه العرب الكلاسيكيون بالمهلهل، وفسروا هذه التسمية بأنه كان أول مَنْ هلهل الشعر، وهي تسمية لا تستقيم بالقطع مع شعره الإنشادي ومراثيه ومعلَّقاته التي تُطالعنا، والتي لعبت أعمق الآثار غورًا في بحار الشعر الفولكلوري — المصرية — العربية.
وعامر الذي تسمى ﺑ «مزيقيا» أو الممزق مرادف المهلهل؛ لأنه كان يطالب قومه موسميًّا بتمزيق وهتْك هلهلة عرشه أو ملابسه وحُلَل عرشه بما يقرب بنا من المهلهل وزهده الذي سنتعرَّفه أكثر من انقضاء سيرته هذه.
فالزير سالم وأخوه كليب كلاهما كلبي حميري قحطاني يمَني المنشأ، أو من أصول يمنية، استوطنت فلسطين والشام بعامة منذ ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد.
والأمر هنا لا يَبعد بنا كثيرًا عما يُورده النسابة الكلاسيكيون العرب في احتفاظهم وتأريخهم الأسطوري في أن قحطان — أبو العرب السبئيين الجنوبيِّين اليمنيين والعاربة أيضًا أو البائدة — وابنه يعرب ابن قحطان — وأول مَنْ تكلم العربية — من نسله جاء سبأ أو ملوك سبأ، وكان رأسهم الملك عبد شمس بن سبأ الذي سُمِّي سبأً؛ لأنه كان يَسبي أعداءه. ومن نسل سبأ انحدر كل من ملوك حمْيَر وكهلان.
فمِن حمْير انحدر الكلبيون، أما من الفرع الثاني «كهلان» فقد انحدرت سبعة بطون تضخَّموا إلى قبائل وحضارات كبيرة مع التوالي التاريخي وهم: طيء، ومذحج، وهمدان بالعراق، وكندة، ومراد وأنمار، والأزد أو الأسديين. فمن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام عقب خراب سد مأرب، وكذلك انحدر منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضًا انحدرت قبائل خزاعة سدنة أو كهنة الكعبة فيما قبل الإسلام.
ولعل عودتي هنا إلى الغوص في بطون مُعضلات الأنساب هذه مرجعها أنها ستُصادفنا فيما سيجدُّ علينا من أحداث هذه السيرة المتناهية الأهمية، والتي تخالط فيها البنية القرابية القبائلية للأنساب من عائلات وفروعها بناءً آخر موازيًا، وله ذات الأهمية في علاقة جدلية وثقى مع سابقه، ذلك هو البناء العقائدي الطوطمي لهذه القبائل المُتحالفة والمتحاربة عبر مسرح صراعٍ بؤرته أرض فلسطين العربية، كما يتَّضح أطرافه هنا أقصى جنوب الجزيرة عدن وحضرموت، بالإضافة إلى مكة والحجاز والشام والعراق.
بل إنَّ هذه القبائل هي ما ستُطالعنا بأسمائها ومحالِّ إقامتها أو أوطانها فيما سيجدُّ علينا من أحداث سيرتنا هذه التي توقَّفنا في سردها عند قدوم الأمير شيبون، الابن الثاني لصديق الزير وصفيِّه همام، العائد بفرسانه من إحدى غزواته لبلاد الروم؛ لينتقم لقبيلته وأخيه شيبان من خاله الزير سالم، وإهانته للزير: «ما يَقني الحمير إلا الحمير.»
فهذان الأخوان: العوص وأخوه، ما هما سوى أدونيس إله الشمس، وطيفون أخوه إله الريح والعواصف والجدب بعامة.
والملفت هنا أن التوحُّد التراثي للتحالُف القبائلي لغرب آسيا من سوريين ولبنانيين وأردنيين وفلسطينيين حين دخلوا مصر تحت اسم الهكسوس، وجدوا ذات التوحُّد التراثي الشعائري في مصر، بما ساعد على إنجاز عمليات التوحُّد والتجانس التراثي التي جرتْ عبر قرنين في مصر.
ففيما قبل عصر الأسرات في مصر، كان الإله ست هو أعظم الآلهة المصرية وكبيرهم، وظل هكذا مُتواجدًا على رأس مجمع الآلهة المصرية على طول مجرى تاريخ الأسرات، تعلو صوره وتماثيل رأسه التي تصوِّر رأس حمار طويل الأذنين، إلا أنه سقط نهائيًّا من منظومة الآلهة المصرية بعد اجتياح الهكسوس لمصر، وحكمها لقرابة قرنين من الزمان، إلى أن تمكَّن ملوك الأسرة ١٨ من طردهم والدفع بهم بعيدًا عن حدودها الغربية.
وهكذا نسَبوا إلى ست — أو طيفون — «رياح السموم» أو الخماسين الصحراوية، والتي تهبُّ على مصر وليبيا وجنوب أوربا موسميًّا.
ويَنسب المؤرخ الهليني اليهودي «فلافوس جوزيفوس» أن الملك ألكسندر جيناوس كان يعبد إله دورا الفلسطينية الأدومي الحمار بالقرب من عبرون.
فأول ملوك إسرائيل «صول» — أو شاول — اختير ملكًا؛ لأنه جدَّ في البحث عن الحمير الشاردة ممثَّلة في الحمار الذي كان لإبراهيم عندما كان يَبغي التضحية بإسماعيل كما ينسب العرب، وإسحاق في حالة اليهود، وهي ذات فك الحمار التي هزم بها البطل الأسطوري الفلسطيني شمشون أعداءه، وكذلك حمار النبي بلعام بصَوته البشري الحكيم.
وكذلك تَصف التوراة أولاد أسباط إسماعيل ابن هاجر الاثنتي عشرة قبيلة: اثنا عشر حمارًا وحشيًّا بين الأمم (تكوين ١٦).
بما يُشير إلى أن ثمة تحالفًا دينيًّا عقائديًّا أو طوطميًّا لحوالي ٣٠ قبيلة وحضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم منذ حوالي ٤ آلاف عام تحت قيادة القبيلة المُنتسبة إلى ست، والذي قد يكون هو بذاته إسماعيل أبو العرب، كما قد يكون حميره — ابن قحطان — الذي منه انحدر الكلبيون الذين تحدَّد أساطير أرض ميعادهم العربية أنهم نزلوا الثغور أو الموانئ البحرية، وسماهم المصريون القدماء ﺑ «الشعوب البحرية»، وهم الذين وصلت طلائعهم البحرية إلى إنجلترا وأيرلندا منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، كما أسرتْ طلائعهم البحرية — وهم الفلسطينيون — القبائل العبرية في عبرون حوالي ٨٠٠ق.م.
وعلى هذا، فإن البنية القرابية القبائلية لهذه القبائل الحمْيَرية يجيء متسقًا مع بنيتها الطوطمية؛ بمعنى أنَّ الكلبيين حمْيَريُّون كما أوضحنا سلفًا.
فمن حمْيَر انحدر الكلبيون أو الشعوب البحيرية العربية بفلسطين وسوريا ولبنان، وظلت طلائعهم البحرية الفلسطينية ممثَّلة في تحالف قبائل بني كلاب وبني عامر التي ذكرنا مرارًا مُعاوَدة الزير سالم لذكرها بالاسم والانتساب.
خاصَّة عقب حادث تغريبته أو موته الموسمي، حين كفَّنته أخته ضباع وألقت به في اليم لمدة ثمانية أعوام عبر رحلة «عبورية»، وأَسْر يُخالطه حرب مع ملك يهودي يدعى حكمون.
لكن ما إن انتهى نفْيُه أو أَسْره ذاك، وأنزلته موكب حكمون في حيفا، حتى نزل من فوره إلى قبائل «بني عامر» التي عنهم يذكر القلقشندي موضِّحًا الكثير، وفاكًّا بعض أحجية هذه السيرة — الملحمة العربية الزير سالم أبو ليلى المهلهل — التي ضُيِّعت ملامحها الفلسطينية ما بين تاريخ الأدب العريق الغيبي السلفي المغلوط برمته، وبين السطو اليهودي وتغيير المعالم التي لا تقف عند الأرض والوطن بقدر ما تَستبيح التراث.
ولعل هذه السيرة الملحمة — الزير سالم — أن تقودنا إلى فاتحة إعادة التعرُّف على الجسد الأهم للتراث الفولكلوري والأسطوري الفلسطيني، الذي يستحوذ جانبه الملحمي — خاصة — على عيون الأعمال الكبرى العربية من سير وملاحم، عُمِّمَت فأصبحت مع توالي العصور تراثًا عامًّا للأمة العربية.
فانتقلت ذات الهمَّة على رأس الجيش العربي المتطوِّع والمُمثِّل في قيادة التحالف القبَلي لبني كلاب إلى منطقة الثغور، حيث اتخذت من ملطية عاصمة لها.
فلولا إشارة من القلقشندي عن هجرة ذلك التحالف الكلبي الفلسطيني لبني كلاب إلى منطقة الثغور، والدور الذي لعبوه في الحروب العربية البيزنطية لما تعرَّفنا على جذور ومنشأ هذه السيرة الفلسطينية للأميرة ذات الهمة.
وسيرتها التي تحفظ لهذا التحالف الكلبي الفلسطيني دوره الطليعي والمقوم للدولة العربية، من أموية لعباسية خارجيًّا وداخليًّا؛ فالسيرة مثلًا تَذكر أن نكبة البرامكة حلَّت بهم؛ لعلاقتهم ببني كلاب كطلائع غيورة على الأمة العربية. وإذا ما اكتفَينا بهذا القدر، وعاودنا الالتزام بسرد سيرتنا — الزير سالم — حيث توقفنا عند عودة شيبون بن الضباع من حروبه من بلاد الروم، فعقبَ إهانات شيبون ذاك لم يجد الزير سالم بدًّا من منازلته وقتاله، وهكذا «ضربه على رأسه فشقَّه إلى تكَّة لباسه.»
ولما رآه المهلهل مُجندلًا ندم وتحسَّر، وأنشد أعظم مراثيه الطبَقية الثورية التي كان لها أكبر التأثير وأرسخه في الشعر الشعبي الفولكلوري — خاصة الموال الأحمر — على امتداد الوطن العربي؛ حيث يقول: «المال يبني بيوتًا لا عماد لها»، وإن «العز بالسيف ليس العز بالمال»، والتي فيها يواصل دوره كبطل شعبي ثوري حتى في تصدِّيه للنسب والأنساب التي تصل في تلك الأيام وإلى أيامنا إلى حدِّ التقديس حين يقول: «العم مَن أنت مغمور بنعمته، والخال مَنْ كنت من أضراره خالي»:
واكتملت فاجعة هذه الأسرة «الضباعية» نسبةً إلى الضباع أخت الزير سالم التي سبق أن كفَّنته في تابوته، وألقت به في البحر بدلًا من أن تَحرقه بالنار كما ادعت على قومها — قبيلة زوجها — أنها أحرقته، فكانت رحلته العبورية الغامضة تلك إلى ميناء حيفا ومملكة حكمون.
وصلت مأساة هذه الأسرة إلى ذروتها بقتل الزير سالم لصديقه وصفيه وصهره الأمير همام، حين نازله انتقامًا لولدَيه؛ شيبان وشيبون.
ولعلنا في فصلنا التالي بإزاء ما يُعْرَف عادةً في نهاية كل سيرة عربية أو ملحمة قوامها الهجرة والإغارات والحروب القبائلية لحضارات شرقنا العربي، لعلنا بإزاء ما يُعْرَف ﺑ «الأيتام»، أو عصر الأيتام للأجيال المنتقمة التي أَوْدَت بآبائها وأسلافها تلك الحروب الطاحنة القبلية.
وها نحن بإزاء الأمير جرو ابن الملك المغتال كليب، الذي سمَّته أمه الجليلة بالهجرس بعد أن أخفته عن العيون حتى إخوته البنات السبع ومنهنَّ اليمامة.