الجرو بن كليب المسمى بالفارس الهجرس
ويُمكن إعادة تذكُّر سلسلة المكائد التي لفَّقتها الجليلة زوجة الأخ الأكبر الملك كليب هي وقبيلتها ضد الزير سالم؛ لكي تَهدمه وتقضيَ عليه، والتي اكتملت بإحضار الزير سالم لها بوصفه «لبان اللبؤة»؛ لكي تَحمل وتجيء الملك كليب بابن ملكه المترامي.
يبدو أنَّ الوصفة — الأحبولة الأخيرة — نجحت عقب مصرع كليب على يد أخيها المغتال الأمير جساس، وولدت الجليلة خفيةً عن العيون ابنًا أسمته الهجرس، ولقَّبته قبيلتها التي عادت إليها وتربى في كنَفها باسم «الجرو»، يذكر النص أن جساسًا أحبه إلا أنه كان يخافه، ويخشى سطوته وشرَّه، حيث إنَّ جساس خاله هو قاتل أبيه كليب، وهو الوحيد — بعد الجليلة أمه — الذي يعرف حقيقتَه التي أُخْفِيَت عنه؛ ذلك أن الجرو ما إن اشتدَّ ساعدُه وتبدَّت قدراته الخارقة حتى اصطدم بأبناء أخواله، فكان أن أخذته أمه الجليلة، وهاجرت به ذات ليلة قاطعة البراري والقفار، متخذةً هيئة الأمهات النساء أو الجواري المُضطهَدات، كما لو كانت الربة إيزيس، تُجاهد عبر أعشاب الدلتا في إخفاء طفلها — المُنتقم بدوره لأبيه المُغتال — حورس، وكهاجر زوجة الخليل مع إسماعيل إلى أنَّ حطَّت رحالها بابنها نواحي الحجاز ومكة عند أمير مهيب يُدْعَى «منجد بن وائل»، الذي كرَّمه بين العرب الشماليِّين ونصبه أميرًا، وزوَّجه ابنته الفاتنة «بدر»، ومنجد بن وائل هذا يتوحَّد مع أستروفيوس أمير فوكيس الذي عنده كليمنسترا وعشيقها إيجيست ابنها أوريست عقب رحيل «ملك الملوك» أجا ممنون إلى حرب طروادة لكي يخلو لها وعشيقها الجو في آرجوس.
بالإضافة إلى أن سيرتنا هذه تحفَظ للجرو أو الهجرس أنه صدَّ غزوًا من بعض ملوك العرب المغيرين «في ثمانين ألف عنان» عن بلاد منجد بن وائل «وفعل فعالًا تبقى وتُذْكَر ما دام الشمس والقمر.»
وما إن ذاع صيت الجرو بعد أن كبر وأصبح قبيلة، حتى أرسل إليه خاله جساس، فصالَحه هو وأمه الجليلة، وطالَبه بعدم التخلِّي عن قبيلته في محنتها، مُفهمًا إياه ومضلِّلًا أن له ثأرًا عند الزير سالم الذي سبَق له أن قتل أباه غيلةً:
وعلى هذا نجح جساس — بموالَسة الجليلة — من إخفاء الأمر على الجرْو، وإعطائه حصانه «الأخرج»، ودفَعه إلى الحرب والتصدِّي لقتْل عمه المهلهل؛ دفاعًا عن ثأر أبيه كليب الذي يحارب الزير بدوره من أجله.
بمعنى أنَّ كليهما — الزير والجرو — يُحارب الآخر؛ دفاعًا وأخذًا لذات الثأر — ولنقل: لذات الطوطم السلف كليب — الذي واصل — كما يذكر النص — البعث بأشعاره وموثَّباته ومَواجِعه من القبر إضرامًا لنيران الأخذ بثأره من جساس مُغتاله، يقول كليب:
فينشد الزير مجيبًا على قبره:
فتجيبه بناته كمثل كورس وأولهن اليمامة:
فدفاعًا عن ذات الجرو — أو السلف المغتال — التقى المحارِبان؛ الزير والجرو بن كليب، ويبدو أنَّ الجرو أو الهجرس كان عاتيًا في منازلته لعمه الزير، لدرجة جعلت كليهما في ساحة الحرب والنزال يتوجَّس من الآخر، فكان أن دقت طبول الانفصال، وعاد الزير مشتَّتًا مُثقلًا يستفسر من اليمامة وبنات كليب عن هذا الغلام الذي له عزم كالصخر منشدًا:
وكان أن أشارت اليمامة بمُنازلته هي و«ملاعبته» بلعبة كانت تلاعب بها أباها كليبًا — التفاحات والسهم — وذلك بأن تَضربه بأربع تفاحات وترى كيف يتصرف.
وهكذا نازلته هذه القائدة الكاهنة القمرية اليمامة التي أصبحَت مُدنًا، بل إليها وإلى مدنها انتسبت القبائل الكلبية، أو بنو كليب، الذين كان لهم — حتى مجيء الإسلام — دولة بمدينة أو مدن اليمامة تُعْرَف باليمامة، كما يذكر القلقشندي.
وكانت وسيلة التعارف بالتفاحات والسهام عند اليونان، كما يوجد في «أوديسا» هوميروس، هي الوسيلة التي عرَفت بها بنيولب عودة زوجها المتنكِّر الغائب أوليس (أوديسيوس) إلى قصره بإيثاكا في زي سائل، ولعلها موتيفة نُقِلَت إلى ابنه تلمياك من بعده بخيال الرواة، وهذا ليس بعيدًا كل البُعد عما نحن فيه من أحداث، فقد كان أوديسوس المخاطر والبطل اليوناني في غزو طروادة، هو صاحب حيلة حصان طرواة الشهيرة التي تمكَّن عن طريقها الإغريق من التسلسل إلى داخل أسوارها بعد أن أعياهم حصارها عشر سنوات.
وكليب — كما رأينا — هو صاحب حيلة الخيل حاملةً الرماة في الصناديق التي بها استطاع بنو قيس وكالب عرب للشمال أن يتسلَّلوا داخل أسوار قلعة التبَّع حسان اليماني وحاضرة ملكه دمشق، التي جاءها التبَّع محاصِرًا وغازيًا.
وهكذا نازلته في اليوم التالي اليمامة، قائلة: أنا أقاتلك اليوم دون المهلهل.
وهكذا رجع الهجرس متوجِّسًا إلى أمه الجليلة — كمثل أوريست — يَنوي قتلها إنْ هي كتمت عنه حقيقته، فأنشدت الجليلة باكية:
ولمَّا أن فرغت الجليلة من شعرها واعترافها، حتى خرَج الهجرس ومعه عبده أبو شهوان، فزار «قصر أبيه المصفَّح بالذهب» فبكى أباه وانتحب طويلًا، ويلاحظ هنا أن قبر كليب كان مُلحَقًا بقصره، وهي عادة — شعيرة — سلفية حمْيَرية تُتيح للخلق استشارة الموتى السلف، خاصة إذا ما كان المرحوم مهيبًا كالملك كليب.
وبنفس السرية والحذر تسلَّل الجرو إلى قصر عمه المهلهل، فقبَّله طويلًا ورحب بعودته، وعاهده الزير سالم على أن يكون هو الحاكم الملك بعد أبيه كليب وبعد قتل جساس، وأنشد المهلهل:
واتفق الجرو مع عمه الزير على خطة مؤدَّاها أن يُنازلهم الجرو محقِّقًا عدة انتصارات وهمية، يعود في أثرها إلى خاله جساس بالأسلاب، إلى أن يوهمه بأنه سيأتي إليه برأس الزير، بينما يضع الزير سالم قربة دم تحت جواده يطعنه فيها الجور ليَسيل دمه، حيث يتقدم جساس لقطع رأسه فيَقتلانه.
وعندما تحقَّق تدبيرهما وطعن الجرو الزير على مرأى من خاله جساس، فنزل يتخبَّط بدمه، ونزل أو هو تدلى عن ظهر فرسه، عندئذ تقدَّم منه جساس ليجزَّ رأسه، فهجم عليه الزير، ووضع الجرو الرمح بين كتفيه، فتهاوى جساس ومضى يَستعطِف الجرو أحرَّ الاستعطاف:
فأجابه الجرو ساخرًا متهكِّمًا:
ثم تقدم الزير سالم فقطع رأس جساس «ثم وضَع فمه على عنقه، وجعل يمصُّه حتى شرب جميع دمه.»
وشهر رأس أمير بني مرة — جساس — وأشبَعوهم قتلًا، إلى أن استسلموا على أن يكونوا مثل العبيد، وهذه هي شروط الاستسلام التي أَمْلَتْهَا قبائل بني كلاب: «لا يَنقلون سلاحًا، ولا يَحضرون حربًا ولا كفاحًا، ولا يوقدون نارًا لا ليلًا ولا نهارًا، ولا يُعْرَف لهم قبرُ ميت في جوار، لا في مقبرة ولا في دار، إلا مشتَّتين في البراري والقفار، يقضون حياتهم بضرب الطبل ونفخ المزمار، وإن غابت نساهم طول النهار لا يسألها أين كنتِ؟ بل يسألها إيش جبت؟ وليس لهم سوى الرقص والخلاعة.»
وتلك كانت شروط الاستسلام في تلك المُجتمَعات العبيدية الإقطاعية الموغلة في تجبُّرها القبائلي.
وهكذا نصِّب الجرو ملكًا على فرش كليب، وتسلَّط على كل القبائل، وخلعت بنات كليب السواد، واستقبلنهنَّ بالأناشيد البعثية:
كما إن هذه السيرة — ذات الجذور الضاربة العربية الفلسطينية — ما تفتأ تُشير إلى شتاتاتهم حتى في خلفائها بني هلال وسيرتهم على النحو التالي:
فحين كبر عامر تزوَّج بامرأة من أشراف العرب، فولدت له غلامًا في نفس الليلة التي مات فيها جدُّه الجرو، فدعاه «هلال» وهو جد بني هلال، ولما كبر هلال تزوج وأنجب المنذر، واتفق أن الأمير هلال نزل مكة مع رجاله أيام ظهور النبي محمد، وتشرَّف بمقابلة النبي وقبَّله بين عينيه، وصار من أعوانه، فأمر النبي أن ينزل الأمير هلال في وادي العباس، فلما كان النبي يحارب بعض العشائر قاتل معه هلال ورجاله، ورأت فاطمة الزهراء هول المعركة فجنحَت بجملها لتَبتعد عن حومة القتال، فشرَد بها في البراري والفلوات، فدعت على الذي كان السبب بالبلاء والشتات، فقال لها أبوها: «ادعي لهم بالانتصار؛ فإنهم بنو هلال الأخيار، وهم لنا في جملة الأحباب والأنصار، فنفذَت فيهم دعوتها بالتشتيت والنصر على طول الدهر.»
ويلاحظ أن هذه الأسماء تشير إلى رءوس قبائل — خاصة الأوس — رأس الأنصار من «الأوس والخزرج»، كما يُلاحظ عبر قصة استطرادية ترد في آخر هذه السيرة أنها فابيولا مهاجرة من بالاد، مفتقدة عن «الأوس ومي» التي اغتصبها أحد ملوك اليمن واسمه الصنديد، وكافح الأوس طويلًا كما حدث مع جدِّه كليب في استرداد الجليلة من التبَّع اليمني، إلى أن استردَّ مي الجميلة تلك.
وهكذا تَستدرجنا السيرة في آخر فصولها حول فروعها وبطونها القبائلية دون ذكر يُذْكَر لبطلها الزير سالم أبو ليلى المهلهل، الذي عاود منفاه ووحدته وعجزه، تمهيدًا لاغتياله ودفنِه في صعيد مصر، كأوزوريس المَدفون بالعرابة المدفونة، مع ملاحظة تسمية «العرابة» والعرب ربما منذ مطلع الدولة القديمة في مصر العربية.