اغتيال الزير سالم في صعيد مصر
فالزير سالم انتهى نهاية غريبة، مُنعكفًا في منفاه الاختياري ببئر سبع يُقيم «في الخيام، ويَشرب المدام، وينام وهو لابس آلة الحرب والصدام»، وكما يَصفه النص العامي: «أضناه الدهر وضعفتْ قواه، وظلَّ على تلك الحال إلى أن برزت له أسنان، وصار عقله مثل عقل الولد.»
فالمُلفت أن المهلهل هو الشخصية الوحيدة التي تتبدَّى غريبةً هائمة على طول هذه السيرة الملحمة، الذي هو بطلها المحجَّب، قاتل السباع الذي لا يُقْهَر.
وعلى هذا النحو — أو التمثيل — تَختفي النصوص الفولكلورية العامية به كبطل خارق مُكتمل الصفات، يزخر بالمعاناة والأحاسيس الجياشة والإنشاد التراجيدي العميق، الذي لا يُفصح عنه سوى المراثي والموال الأحمر:
ولعلَّني أعني ما أقول؛ فإن ذلك الشاعر الفاجع المهلهل كان أكبر القوى الشعرية بالغة الأثر على مدى الأزمان التي مرَّت بلغتنا وفولكلورنا العربي، وبخاصة جانبه الشعري، ما تزال محفوظة تعيش مُتواترة إلى أيامنا، وقد جمعتُ له بذاتي (شوقي عبد الحكيم) — خاصَّة ما يتصل بمربعات ومثمنات الشعر الشفهي الفولكلوري — آلافًا مؤلَّفة من مواويل المراثي وأشعار التوجع، والموثَّبات أو الأشعار التحريضية والبكائيات الذاتية.
يأمل مؤلِّف هذا المدخل البحثي — في إطار الأدب الأنثروبولوجي — أن تُتاح له إمكانية نشرها، ومقارنتها بما يُنْسَب إلى المهلهل من مراثي ومعلَّقات الشعر العربي الكلاسيكي.
فيبدو أن أبو ليلى المهلهل في آخر أيامه ضاق بعجزه ووحدته، فطلب من ابن أخيه الملك الجرو أو الهجرس أن «يَسوح متنزِّهًا في البلاد»، فأعطاه الملك هودجًا وعبدين يحرسانه ولوازم سفره، فخرَج سائحًا، وما زال يجول في البلاد إلى أن هدَّ كاهل عبديه، وكان قد وصَل بهما تجواله — كما يذكر النص العامي — بلاد الصعيد، فصمَّما على قتله ودفنه ثم يَعودان إلى أهله، ويخبرانهما بأن أبا ليلى المهلهل أدركته المنية.
ويبدو أنَّ الزير أدرك غرضهما وما ينويان، فطلب منهما الحرص على إبلاغ أمنيته الوحيدة ووصيته إلى أهله، وعاهدهما فأقسما، فأنشد عليهما بيتًا وحيدًا من الشعر:
وكرَّره عليهما إلى أن دخل الليل فذبحاه ودفناه ورجعا إلى ديارهما، ودخلا على سيدهما الجرو فأبلغاه بموت عمه أبي ليلى المهلهل، فبكى وطالبهما بوصيته.
وما إن أنشد العبدان وصيته أو بيت شعره الوحيد على مشهد من الملك الجرْو واليمامة وعِليَة القوم؛ لطمت اليمامة ومزَّقت ثيابها صارخة بأن عمها لا يقول أبياتًا ناقصة أو مهلهلة، وأنه قتيل مغتال، أراد أن يقول:
ثم أنهما قبضوا على العبدَين، ووضعوهما تحت العذاب إلى أن أقرا بما أشارت به اليمامة التي رجَّحنا — فيما سبق — قدرتها الخارقة على البصيرة والتنبؤ — ككاسندرا — وعلاقتها الطوطمية بأبيها كليب؛ حيث إنه تسمى بها، وظلَّت على طول هذا النص في موقع كاهنة أو إلهة قبلية أم تتصدَّر المُحاربين وتقودُهم على طول حرب البسوس، ويستشيرها الزير سالم في الحرب والهُدنة، وحين تُخالفه يخضع لإرادتها بصرامة لا يُغفلها النص مثلما مرَّ بنا حينما زارتها أمها الجليلة وتوسلت إليها بطلب هدنة، فوافق الزير ورفضت اليمامة، فكان أن تجدَّدت الحرب لسنوات طويلة.
إلا أنَّ ما بقي علينا مغلقًا — لم يُقاربه البحث — هو تسمية الزير سالم بأبي ليلى المهلهل، وهي تسمية لم تَردْ لصاحبتها ليلى ذكر على طول مختلف نصوص السيرة ومأثوراتها المتعدِّدة من فصحى لعامية، صحيح أنَّ النصوص والفابيولات الكلاسيكية تَحفظ له اسم ابنة وحيدة تُدْعَى «سليمى» لم يُخبرنا أي نص من أين جاء بها المهلهل، سوى أنه سافر أو هاجر بها يومًا ملتجئًا أو مستجيرًا بقبائل بني مُذحَج باليمن، وأقام لديهم فخطبوا — أو هم زوَّجوا سلمى أو سليمى ابنته الدخيلة هذه — ابنة المهلهل لأحد أبناء مذحج قسرًا، إلا أنَّ أعداءه قبائل بكر غضبوا وقتلوا زوجها، بل والغريب أنهم هم أعداؤه الذين أرجعوا له ابنته.
وهي بالقطع حكايات ومأثورات جانبية — ولنَقُلْ: جاهلية فصحى — دخيلة لم تُخبرنا بها أي من النصوص الفولكلورية الشعبية، التي إن حَفظت للمهلهل ابنةً أو تسمية أو شعارًا فهو تسميته على طول السيرة ﺑ «الزير سالم أبو ليلى المهلهل»، ومن هنا يرد اسم الإلهة ليلى هذه في الأشعار الشفاهية الفولكلورية ذات الطابع الشعائري الديني؛ من مربعات قصيرة تتصل بالأوراد والإنشاد الصوفي الديني وأغاني التخمير والزار، بل هم يُطلقون على «ليلى» هذه مسميات طقسية متعدِّدة؛ كأن يُسموها بابنة الزار، أو عروسة السهران، وينسبون لها خوارق ومعجزات إلى أيامنا؛ ذلك أني تنبَّهت لدورها الأسطوري هذا فجمعت بها بضع مئات من أغانيها وأهازيجها الشعائرية منذ عام ١٩٥٣م، وهي مقطوعات شعرية أقرب إلى المربعات وأغاني الحنين والبكائيات الذاتية أو الندب:
وفي المقطع السابق يلاحظ أنها تأتي الأعاجيب، وأن المُدله في تعشُّقها الصوفي اتخذها في النهاية «قِبلة» أو معبودة يتجه إليها في صلاته التي صحت:
•••
•••
وفي المربع السابق تتبدى «ليلى» كإلهة، استضافت أو عزمت مريدتها أو قائلة هذا النص على خبز جافٍّ وسمك، ضاحكة معنية أنَّ الإله اصطفاها، مهددة في ذات الوقت مُحذِّرة من الميل والمروق أو الخروج على الطريقة الصوفية الليلية، وإلا فسيف الطريقة الطويل يقسم مَنْ لامسه وحصله.
ليلى تقول للمريد:
•••
وهي في المقطع السابق تتبدى واضحة كإلهة بحرية عوامة سيدة البحار، حيث إنها تمشي على الأرض والبحور بلا علامة:
فهذه «الليلى» ذات الخصائص البحرية التي تسمَّى بها الزير سالم «أبو ليلى»، والذي هو بدوره محمَّل بالكثير من سمات الآلهة البحرية الفينيقية الفلسطينية؛ حيث إنَّ أخته الضباع كفَّنته في تابوته وألقت به في مياه حيفا، فظل يضرب في عرض البحار، إلى أن وصل مملكة حكمون اليهودي محاربًا كمقاتل عربي، وخوطب باسم الموحد ضد الروم المعتدين على فلسطين.
فيُخبرنا النص الفولكلوري أنَّ الزير سالم — أبو ليلى — أمضى ثماني سنوات وسط البحار غائبًا، حين أنشد في قبائل «بني عامر الفلسطينية» التي لجأ إليها بالقرب من حيفا وفي قومه البكريِّين يُخبرهم بغربته أو موته الاسمي — كأوزير وتموز وأودونيس وديونزيوس — عقب رحلته العبورية الغامضة تلك:
فمن خصائص هذه الإلهة الأنثى البحرية «ليلى» العوامة — التي تَسمى بها الزير سالم — أن تمشي على الماء والبحار، والمقدرة الفائقة على العوم.
فأشعارها الشعائرية ما تزال تعيش على الشفاه داخل رقعة التصوُّف وجلسات «التخمير» المصاحبة لبطلنا الزير سالم بمنفاه وعزلته ببئر سبع، يتغنَّى بأشعار «ليلى» أو هذه الإلهة «ليليث» التي تصدَّرت كتقليد مَطلع الغناء العربي على مدى كل كياناتنا العربية: «يا ليل»، وما هي إلا الإلهة ليليث التي أجلتْ غموضها الاكتشافات الحفرية الألف الثالثة قبل الميلاد؛ حيث ظهرت في البداية كشيطانة «ليليث» تَسكن الخرائب والأماكن المهجورة، وهي الفكرة المُتواترة اليوم عن سُكنى العفاريت الخرائب، وهو ما كشفه وأوضحه نصُّ القصيدة السومري المعنون: «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر» أو «جلجاميش وشجرة الصفصافة».
وتبدأ هذه القصيدة هكذا: «في قديم الزمان، كانت شجرة الصفصافة مغروسة على شاطئ الفرات، وحدَّث أن هبت عليها العواصف الجنوبية، وفاضت عليها مياه الفرات، فأخذتها الإلهة أنانا إلى مدينتها «أرك» — أو الوركاء — وغرستها في بستانها المقدس، حتى إذا كبرت الشجرة صنعت من خشبها سريرًا وكرسيًّا، وعندما حاولت أنانا قطعها لتصنَع من خشبها سريرًا وكرسيًّا أعجزتها حية شيطانية «ليليث» اتخذتْ منها مسكنها، إلى أن جاء البطل الإلهي جلجاميش فقطع الشجرة وذبح الحية، وفرَّت الشيطانة ليليث إلى الأماكن الخربة المهجورة.»
وبالقطع هذه أول فكرة تاريخية أو حفرية عن سُكنى العفاريت الخرائب.
ومع انتقال تراث السومريين إلى خلفائهم وورثتهم البابليين — الذين عُرِفُوا بالأكاديين نسبةً إلى أكدو عاصمتهم — انتقلت فكرة الشيطانة ليليث إليهم، وليليث كلمة بابلية أشورية، ومعناها أنثى العفريت أو الريح، كما أنها ذُكِرَت مرة أخرى في إحدى القصائد الجلجاميشية البابلية حوالي ٢٠٠٠ق.م، وتحوَّل هذا اللفظ بعد ذلك من ليليث إلى ليل، وهي ما أصبحت تظهر ليلًا، وعُرِفَت بالجنية ليل، تَسكن الأماكن الخربة وموارد المياه، وتظهر كخارقة ليليلة يُغطي الشعر كل جسدها العاري في الفولكلور السامي المُتواتر اليوم بعامة.
ويبدو أن الليليث أو ليلى السومرية هذه — ٣ آلاف عام ق.م — هي نفسها التي أصبحت تصادفنا في الشعر والأغاني الشعبية: يا ليل يا عين. كما أنَّ الليليث — أو ليلى كما أشرنا — توجد بكثرة في الأغاني الدينية الشعبية المَعروفة بأغاني التخمير والزار.
وهكذا تسمَّى بها شاعرنا المقاتل الزير سالم فتصدَّرت اسمه في كل النصوص الفصحى والعامية «أبو ليلى».
ويبدو أنَّ العبريين كانوا قد أخذوها عن الفلسطينيين الذين سبَقوهم في استيطان فلسطين، فليليث في اللغة الكنعانية أو الفينيقية معناها إناثًا أو إناث، ومُفردها أنثى، وهي ما تتوحَّد مع عشترت، خاصة في طقوس العرس المختلط.
أما عن فكرة توحُّد حواء بالحية التي تتوحَّد بدورها بالشيطان، فتتبدَّى بكثرة في أغلب أساطير الخلق الساميَّة.
ففي أغلب الأساطير والشفاهيات العربية خاصة يُغوي الشيطان المرأة زوجة الإله أو البطل، مثلما حدَث حين تسلَّطت الجليلة — زوجة الأخ الأكبر كليب — ضد الزير سالم الذي كان دائم القول «بأنَّ أهل العقل لا تسمَع لأنثى»، ومثلما حدث مع زوجة نوح حين مكَّنته من تخريب الفلك ثلاث مرات.
ومن أساطير الخلق الأولى، اكتملت المُعتقدات التي ما تزال شائعةً حول أضرار الشيطانات — الليليث — والأرواح الخفية بالأطفال الحديثي الولادة، فكان من المتبع رسم دائرة سوداء على حائط حجرة العُرس، يُكْتَب داخلها: «آدم وحواء» اغربي يا ليليث. أما عندما تتمكَّن الليليث أو ليلى من الاقتراب من الطفل الوليد، فإنها تَشغف به حبًّا، وفي هذه الحالة ينبِّه الطفل بوضع أصبعه في فمه.
وفي القرن الرابع عشر الميلادي وحَّد «هيرونيموس» بين الليليث أو ليلى الساميلاة واللاميا اليانانية، واللاميا أميرة ليبية هجَرها الإله زيوس بعد أن سرقت أطفال زوجته هيرا، فكان أن واصلت انتقاماتها بسرقة زوجات الآخَرين مِن أزواجهم، واللاميا تُغْوِي الرجال الفرادى النائمين، فتمتص دماءهم وتلتهم لحمهم، وهي ما أصبحت في تراثنا الفولكلوري الندَّاهة والسلعوَّة، وفي الرسوم الحائطية الهليلنية صُوِّرت اللاميا وهي تفترس أحد المسافرين وهو مضطجع على ظهره … مثلها في هذا مثل سابقتها الرسوم الحائطية الكنعانية السورية التي تَرجع إلى ما قبل القرن الرابع عشر ق.م، والتي تُصوِّر الإلهة العارية إناثًا — أي الأنثى أو الليليث أو ليلى — طائرةً في الهواء، لامسةً مُقبِّلة عشيقها النائم الإله «موت»، وفي صورة حائطية أخرى يبدو موت — أو آدم الكنعاني — يَحفر تحت الضلع السادس لآدم الكنعاني؛ ليخلق ليليث أو ليلى أو حواء الأولى هذه.
فيلاحظ أنَّ ليلى أو ليليث أو إناثا الكنعانية الفلسطينية ذات المَنبت السومري اللا سامي، التي دخلت التراث العربي والإسلامي فيما بعد على هيئة «تجريد» للأنثى أو حواء الأولى، هي بذاتها التي تَسمَّى بها الزير سالم «أبو ليلى»، وذلك بعد أن تخلَّت عن خصائصها الشيطانية الأولى، واكتست مسحة شعائرية مصاحبة لأغاني التخمير والزار؛ حيث كثيرًا ما تتبدى جميلة وكثيرًا «ما تُصبح مغنية» و«راقصة عارية» تغوي الرجال النائمين الفرادى أو العزاب غير المتزوِّجين، مثل بطلنا هذا الزير سالم، الذي يرجَّح أنه كان — وظلَّ — أعزب في مجمل النصوص والذاكرة الجمعية الشعبية العربية.
يُضاف إلى هذا أن هذه الإلهة التي تحدَّد عمرُها بأكثر من خمسة آلاف عام «ليليث» أو ليلى «إناثا» الكنعانية الفلسطينية، من خصائصها أنها تتبدى خارقةً ليليلة معطية لمن تُخاويهم أو تعاشرهم أو تتعشَّقهم، يضاف إليه ارتباطها بالشعر والغناء والوحدة، وكلها كانت من خصال بطلنا الشعبي العربي الفلسطيني المنشأ، والذي ربما أضافت دراسات الأجيال القادمة لسيرته الملحمية هذه ما يُبْقِي على افتراضاتنا، وأخصُّها أنه الإله الشمسي المحلي لكلتا بلدتَي: «بئر سبع» والقدس قبل إنشائهما أورشليم الذي نرجِّح أنه هو الذي أعطاها اسمه الفلسطيني، وأنه لعب أكبر الأدوار في كلا التراثين العربي والعبري، بخاصة أكثر في فابيولات شمشون الإله الشمسي الفلسطيني.
وما هذا سوى مدخل أو مبحث لسيرته في إطار السمات القومية لفولكلورنا العربي.