الملك التُّبَّع حسان اليماني
ولن يقدر لنا ويحق تفهُّم أبعاد هذه السيرة الملحمة دون إلمامة لتراث الشق الثاني المهاجر الفاتح للشام وفلسطين، وهم العرب القحطانيون اليمنيون بقيادة ملكهم المتجبِّر «حسان اليماني»، وفي إطار هذا التاريخ الأسطوري أو الذي يُزاوج التاريخ فيه الأساطير والخرافات، والذي يلقي عدم تحقُّقه اليقيني الحفري كثيرًا من غموض الظلال على أحداثه وسيره وتراثه الضارب في القدم والعراقة لملوكه الذين جابوا العالم القديم، وخلَّفوا آثارهم وهجراتهم القارية في الهند وفارس والصين والتبت، والذين كان يحلو للواحد منهم القول: «قد دعتْني نفسي أن أنطح الصين»، وهكذا يمضي مُفتتحًا الصين ومجاهل إفريقيا، ومنهم هذا الملك التبَّع الذي أفنى قبائل وحضارات بأكملها، والذي يظلُّ يتمثَّل فيه أقصى تمثُّل لأنموذج شخصية «المُستبد العادل» أو الطاغية المنصف على المستوى الاجتماعي السياسي لليوتوبيا العربية والإسلامية بخاصة، المُتواترة على طول التاريخ السياسي والاجتماعي ربما إلى أيامنا.
كما تَنسب له الملحمة أنه كان شديد البأس مهيب القامة، لا يعرف الحلال من الحرام، لا يَحفظ العهد والزمام، وكان يحب النساء المِلاح والمزاح، وفي كل ليلة يتزوَّج بصبية من أبناء الملوك، ويَشرب المُدَام في الليل والنهار.
وذات يوم سأل وزيره «نبهان»: هل يوجد مَنْ هو أعظم مني في الأرض؟ فأجابه الوزير: «يوجد خارج البحار عرب مِن أهل الشجاعة، يقال لهم: بنو قيس، وهم مِن أولاد مضر.»
وكان أن صرخ مُقرِّرًا الحرب وتملُّك ديارهم في الشام وفلسطين منشدًا:
وأمر التبع بدق الطبل النحاس «الرجوح» وهو من أعظم الطبول، وكان يدقُّه عشرة من العبيد الفحول، وهو من صنعة ملوك التباعنة العظام.
واجتمع تحت إمرته — كأجاممنون وهو في طريقه إلى حرب طروادة — عشرة ملوك أو «قياقل» بجيوشهم الجرارة، ونصب الملك حسان — ملك اليمن وما يَتبعها — إلى الملك «الصحصاح بن حسان» مكانه، وقصد هو بجيوشه — البرية والبحرية هذه — إلى «بلاد الحبش والسودان»، وما إنْ وصَلوها حتى أرسل وزيرًا بألف فارس ليُعلم واليه وابن أخته الملك الرعيني بقدومه ويُطالبه بإمداد الجيش؛ حيث إنه في طريقه إلى الشام، آمرًا ملوكه العشرة أن «يَنقسموا إلى قسمين: ميمنة وميسرة، متملِّكين ما يقابلهم من مدن بحدِّ السيف المهنَّد، حتى ملكوا أكثر البلاد وأطاعتهم العباد.»
إلى أن تملَّك بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمَواكب والكتائب.
وأقول هذا ردًّا على الدكتور لويس عوض الذي خلال تعرُّضه بالدراسة لهذه الملحمة أو السيرة العربية العريقة التي خلَّفتها الحضارات العربية اليمنية في عدن وسبأ وحضرموت.
والذي افترض أنها سيرة أو ملحمة مُترجمة مُستنِدًا إلى مغالطة الحصار البحري لدمشق قائلًا: «وبالتالي فحديث الملحمة عن «ألف مركب» يُجهزها الوزير نبهان — أو نهبان — لغزو الشام ضرب في المُحال، ولا تفسير لها إلا أن يكون النص مُقتبَسًا محرفًا بما يناسب ضرورات التعريب، وهذا ما يضع الملك حسان في وضع أجا ممنون غازي طروادة.»
وهو — كما يتَّضح — رأي متسرع انفعالي، يستدعي التوقف للتعرف على مجاهل كلا التراث الأسطوري التاريخي للحضارة البحرية اليمنية خاصة في عدن وحضرموت، والذين اقتحموا البحار والمُحيطات منذ أقدم العصور مطلع الألف الثانية ق.م، حتى أُطْلِقَ عليهم بحق «فينيقيو البحر الجنوبي».
صحيح أنه تاريخ أسطوري قائم على أشلاء سير وملاحم مُندثرة مثله مثل هذه السيرة «المهلهل أو الزير سالم» والتي وصلتنا كحلقة من رحم سيرةٍ أمٍّ هي — بدورها — مُندثرة لهذا الملك التبع حسان وأبيه التبَّع أسعد، كما سيجيء ذكر تباعنة اليمن في هذه السيرة التاريخية الأسطورية التي تبدأ أحداثها بفتوحات بحرية لمُعظم غرب آسيا أو الشرق الأدنى القديم، عاصمته دمشق.
•••
المهم أنه لم يهدأ للتبَّع الغازي حسان اليماني بال إلا عندما استولت جيوشه البحرية الجرارة على الشام والحجاز وفلسطين، واستقدم الملك عرب الشمال القيسيين العدنانيين «ربيعة المعظم» والد كليب والزير سالم الذي كان قد رفض المُثول بين يديه، وأمر حُراسه بإلقاء القبض عليه «ومَنْ معه من بني قيس الطناجير وقيَّدوهم في الجنازير»، وشنَقه وصلبه على بوابات دمشق.
وابتدأ بتقسيم الإمبراطورية إلى عدة فِرَق، ولى عليها مَن استسلم له من أمراء القيسيين، وأولهم الأمير «مُرَّة» والد جساس مُغتال كليب الذي جعله على الفرقة الأولى «يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع.» وجعل الأمير عبس واليه على فلسطين وبلاد السرْو وعباد وهي مملكة النبطيين أو العرب الأنباط الأردنيين.
ويلاحَظ أن الأردن بالفعل يكثر بها أشجار السرو إلى أيامنا، كما يلاحظ أن الأنباط العرب ما تزال تتواتَر حولهم عديد من المأثورات والأمثلة الفولكلورية حول النبط أو النبطة، والقول بأن فلان نبطي أو مثل النبطة، بمعنى أنه إنسان صلب قوي لا يُقْهَر ولا يلين أو ينكسر، كما أن من خصائصهم المأثورية الفولكلورية: الحنكة والشطارة.
كما أقام التبع الغازي حسان واليه الأمير المُسمى عدنان على الفرقة الثالثة «وأن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»
وهكذا استتبَّ للتبع اليماني المقام بعد أن شتت بني قيس وقادتهم في البراري والتلال، ودام له الحال ثلاثين سنة «تُهاديه الملوك الأكاسرة وتهابه الملوك القياصرة.»
فبنى قصرًا مرتفع البنيان وجعل أبوابه من الفضة والذهب، بناه له بنَّاء فرعون مصر الشهير الذي تَحتفظ الملحمة باسمه «الريان»، الذي تُجْمِع معظم المصادر العربية الكلاسيكية على الاحتفاظ باسمه هذا، وهو فرعون إبراهيم في مصر، بما يشير إلى افتراض أنَّ هذه الأحداث وقعت مُتعاصرةً على وجه التقريب مع مطلع الألف الثانية ق.م؛ أي منذ حوالي ٣٨ قرنًا كما سيتَّضح.
وتَكتمل مأساة هذا التبَّع المتجبر الذي يربط البعض بينه وبين ملك الملوك «أجا ممنون»؛ نتيجةً لمصرعه واغتياله على يد عروسته المُغتصَبة الجليلة بنت مرة — ليلة عرسه الدامي — وعشيقها أو خطيبها أو زوجها الأمير كليب، وما نتج عن هذا الاغتيال الدامي من اندلاع ألسنة لهب حرب البسوس الشهيرة التي ستُطالعنا، والتي امتدَّت تحت تأثير النزعات القبلية والثأرية لمدة أربعين عامًا، كما تَذكُر نصوص هذه السيرة من فولكلورية وتقليدية.
والتي هي — بالتحديد هذه الحروب — الموضوع الجوهري لسيرة الزير سالم، وإحدى حلقات هذه السيرة المهمَّشة التي اندثر جزؤها الأسبق عن حياة وحروب ذلك التبَّع اليمني القحطاني حسان اليماني؛ حروبه ومآثره وشعره عالي الهامة، وتجبُّره كطاغية قبائلي، وزير نساء يتزوَّج كل ليلة بعذراء كشهريار.
فما إن سمع الملك حسان أنَّ للأمير مُرَّة — واليه على بيروت والبقاع — بنتًا فاضلة جميلة تُدعى جليلة، مخطوبة لابن عمها كليب بن ربيعة الذي سبق له — أي الملك حسان — قتل والده الملك ربيعة حتى رغب في الزواج منها.
ونفَّذ كليب بن مرة كل هذا باتفاق الجليلة وقبيلتها وأبيها بالطبع، بما يَعني استعدادهم المُتآمر لاغتيال وقتال التبَّع — على المستوى القومي — في كلٍّ من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.
وهكذا أعطى الكاهن نعمان — أو عمران — سيفًا خشبيًّا لكليب، وتقلَّد هو بسيفه الفعلي تحت ملابسه، وأرخى له سوالف طوالًا من أذناب الكُبُش والبغال، وركب قطعة قصب، وحمل دبوسًا من خشب، ولبس فروًا من جلود الثعالب والذئاب، ومضى يقود زمام قافلة الجليلة أمام فرسان القبيلة، وعندما تساءل وزير الملك حسان — المسمَّى نبهان — عنه أجابوه بأنه مُهرِّج الجليلة بنت مرة، واسمه «قشمر بن غرة».
وهكذا تنكَّر الأمير «كليب» الذي يُشير اسمه — وكذا موطنه — إلى أنه كان كلبيًّا، أي منتميًا — طوطميًّا — إلى قبائل كالب.
وكالب كانت خليطًا قبائليًّا ساميًّا تَسكن فلسطين والبوادي الأدومية منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كما ذكرنا، ومنهم ملوك أدمة أو أدماء ما بين الأردن وبادية الشام، ومن أسمائها: كالب وكليب وبنو كلب وبنو كلاب، وكلاب بن وبرة بن صعصعة … إلخ، وجريًا على عادة الملاحم والسير العربية في احتفاظها بموروثات العقل القدري الغيبي، لجأ التبَّع حسان وحاشيته إلى الرمل وضاربيه لمعرفة أمر صناديق الجليلة المئة قُبيل دخولها باحة قصر الملك، وأشار أول رمَّال إلى الخديعة، أما ثاني ضاربة ودع أو رمل — وكان اسمها «حجلان» — فقد تمكَّن القيسيون من رشوها «بثلاث بدلات حرير»، فقرَّرت مساعدتهم على اغتيال التبع الطاغية، فدخلت على الملك والرمل بين يديها واصفة محاسن الجليلة وفتنتها:
فتنكَّر كليب باستخدام جلود الحيوان خاصة الكبش، وبذا يحقُّ له عبر هذه الشعيرة أن يُصبح خليفة شرعيًّا للتبَّع المغتال وهو ما حدث بالفعل كما ستُبصرنا الملحمة.
ويبدو أنها عادةٌ سامية راسخة؛ عادة — أو شعائر — التمثل أو التنكر بجلود الحيوانات، خاصة طبعًا إذا ما كانت طواطم؛ ذلك أنها ستُطالعنا كثيرًا عبر أحداث هذه السيرة الملحمية، وهي منتشرة بكثرة بين قبائل إفريقيا الشرقية، وكما يَذكر فريزر أنها «لعبت دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية والدينية عند قبيلة «أكيكويو» التي تسكن إفريقيا الشرقية، والتي ترجع — فيما يبدو — إلى أصل عربي، إن لم تكن تَرجع إلى أصل سامي.
فالمُعتقَد هنا بالنسبة لشعيرة التنكُّر تحت جلد الحيوان هو اكتساب صفاته وقواه الخارقة.
فالشخص بارتدائه جلد الحيوان يُطابق بين شخصه والحيوان الضحية، والذي يكون بمثابة الحاجز بينه وبين إيذاء القوى الشرِّيرة بتخليصه من هذه القوى الغريبة التي تتملَّكه عبر شعائر التحول، والتمثُّل بالمولود الجديد من الجدي أو النعجة أو الكبش والذئاب في حالة كليب المتنكِّر باكتساب خصائصها من وداعة وافتراس.
وعلى هذا النحو واصل كليب تحولاته أمام التبَّع ليلة عرسه، مُظْهِرًا فزعه أول الأمر من تلك السلسلة النحاسية — الطلسم — الذي كان قد حذَّره منها كاهنه العابد نعمان كما في مأثورات سحر الاتصال والمشاركة وتابواته، فكأنَّ هذه السلسلة هي بمثابة حاجز كهربي سيَصعقه فور دخوله مخدع الملك التبَّع، فتظاهر بالفزع الطفولي منها، وأخذ يتكلم بكلام مجهول يقول: ما هذه الحيلة التي أراها وأنا خايف من شرِّها.
وحين أمر الملك برفع السلسلة اندفع كليب مازحًا راقصًا بسيفه الخشبي، فكان تارةً يُبحلق عينيه، ويرفص الأرض بيديه ورجليه، وتارة يقول: أين الفرسان الفحول؟ وأين ابن عطبول؟ وأحيانًا يرقص ويَضحك بلا سبب، وهو راكب الفرس القصب ويسوقها بذلك الدبوس الخشب، فاندهش تبَّع من أعماله، واستغرب أحواله وأقواله.
وحين ابتهج الملك التبع من الخلبوص، عاجله قشمر قائلًا: إن كنتَ تريد الطرب الآن، فمُرْ سيدتي الجليلة تغنِّيك؛ فإنَّ صوتها مليح ولفظها فصيح.
وما إن طالبها التبع أن تغنِّي حتى طلبت — بدورها — إغلاق الأبواب حتى لا يُسْمَعَ صوتها حياءً وتدلُّلًا.
وحين تطوَّع قشمر بهذه المهمة في إغلاق باب المخدع، غنَّت الجليلة أغنيتها المطلسمة الملغزة:
ويلاحظ في أغنية الجليلة مدى الحسن النسائي، الذي هو سمة من سمات الأصالية الفولكلورية، كما يلاحظ بقايا اللغة السحرية والقدرة العقلية خاصة في شطرته الأخيرة: «وإن فرطت في الطير طاره» وكأنها تستفزُّ كليبًا من جانب أن يَحذر فرارها وطيرها من يده، ثم العلاقة الاشتقاقية بين الطير والثأر أو التارة والتار، على اعتبار أن التبَّع قتل أباه «ربيعة المعظم»، ومن هنا فهي تَختتِم أغنيتها ﺑ «طاره» أو ثأره، بما يعني أنها نقطة أو لفظة اتفاق بينهما عبر هذه الخطة — للعُرس الدامي — بالغة الدقة.
وحين طرب تبَّع زاد به الوجد والغرام قائلًا: «مثلك مَنْ تكون من النساء؟ فقد زاد سرورُنا هذا المساء.»
وواصل كليب لعبه ومزاحه بسيفه الخشبي إلى أن داعبه تبَّع: عيب عليك يا قشمر أن ترقص بهذا السيف أمام الملك الأكبر.
– أعطني إذن حسامك وأنا ألعب به أمامك.
وهنا توسَّلت الجليلة: بحياتي عليك.
ويتَّضح من مرثية التبَّع الإمبراطور المُغتال انفتاحها التنبؤي، الذي ترك الباب مفتوحًا بدوره لإضافاة الرواة والمُنشِدين المُجهتدين عبر العصور، وبما يُعْرَف بالإضافات الاستطرادية أو التراكم الملحمي.
فالتنبُّؤ هنا خصيصة أو شعيرة مُصاحبة لأبطال هذه السير والملاحم من ملوكٍ وتَباعنة وشيوخ قبائل وقياقل كهنة، أو هم من العادة يجمعون بين كلتا السلطتين؛ الدنيوية السلطوية، الكهنوتية، التي تملك قدرات التنبؤ السياسي، كما يتَّضح من مرثية تبَّع حسان، التي يتضح فيها ظهور حكام على مدى عشرات القرون، فهكذا جاء ذكرُهم في الملاحم كما يذكر التبَّع «وعندي قد تبيَّن بالملاحم»، كما لا تنسى المرثية ذكْر الملك الجرو ابن كليب — قاتل خاله جساس — وسيف بن ذي يزن وعنترة وأبا بكر الذي «يموت بلسعة حية»، واسم قاتل علي ابن أبي طالب «ابن ملجم».
فمثل هذا التنبؤ المتعارف عليه بالتراكم الملحمي — أي ما يُلحق عادة بالسير والملاحم — يُضيفه الرواة والنساخ عبر العصور التي فيها تُواصل السير والملاحم تواترها.
والمُلفت هنا أنها خصيصة عربية من تراثنا السِّيَري والملحمي تُلازم الأبطال ساعة موتهم أو اغتيالهم أو انقضاء أجلهم؛ ذلك أن الأمير كليب — بدوره — سيُنشد مرثيته أمام مغتاله من الخلف؛ جساس بن مرة، وكذا جساس في مواجهة الابن المنتقم لأبيه «الجرو بن كليب».