صراع الماء والكلأ في هذه السيرة
وأبرز ما يلفت نظر أي باحث إثنوجرافي لهذه الملحمة السيرة — الزير سالم — هو خلوها — إلى أقصى حد ممكن وبالقياس إلى بقية تراثنا السيري والملحمي العربي بعامة — من الإغراق المباشر في بحار الخرافة ومستنقعاتها الآسنة المصاحبة للعقل الغيبي، كما هو الحال في بقية سيرنا وملاحمنا، بدءًا من سير وملاحم التباعنة، ومنهم التبَّع الطاغية حسان اليماني المغتصب للحما — الذي هو الوطن — باجتياح جيوشه الغازية من أقصى الجنوب اليمني — عدن وحضرموت وسبأ — للشام والحجاز وفلسطين، واغتصابه للزوجة الفلسطينية جليلة أو دليلة، بالإضافة للحما أو الوطن.
ثم سيرة آخر الملوك اليمنيين الملك سيف بن ذي يَزن الحميري، والتي تلعب فيها المردة والجن والسحرة والهواتف والنداهات والحيوانات الخارقة أدوارًا جوهرية في صلب مَسارها.
وفي سيرة الهلالية واستِطرادها القصصي الجانبي للخوارق ونماذج التحوُّلات والسحر والسخط المصاحب لأبطالها على طول أقطار العالم العربي.
خلاصة القول: إنَّنا بإزاء سيرة ملحمية عربية خالية — إلى أقصى حدٍّ — من ذلك العالم الخرافي للجنِّ وعوالمهم.
وإذا ما عرفنا أن هناك مدرسة أثنوجرافية بكاملها — تُعْرَف بالمدرسة الشرقية — ترى في خرافات وخوارق الجان والعفاريت أنها إنتاج آري كامل، من أعلامها العالم العتيد «تيودور بنفي»، يصل بنا القول إلى أن هذه السيرة — الزير سالم — نجت — إلى حد كبير — من تأثيرات هذه السمة الآرية للهند وفارس، ودورهما المُتزاوج الكبير والمؤثر في تراثنا العربي السامي منذ أقدم العصور — الألف الرابع قبل الميلاد — حتى العصور الإسلامية الوسيطة والمتأخِّرة، التي تلعب فيها المؤثرات الآرية الفارسية الإيرانية الأعجمية بالقدر الذي شكلت بمقتضاه مشاركة — وقُلْ: مناصفة — مباشرة للمَلمح التراثي الإسلامي وجانبه التطهُّري والإنيزمي الروحي، بالإضافة طبعًا للدور السياسي، بدءًا من الدولة ونظم الحكم حتى ما نشهده على أيامنا من انتصارات الثورة الإيرانية، وما أحدثته من مؤثرات وهزات جذرية على طول عالمنا العربي والإسلامي في أيامنا هذه.
أقول: إنَّ سيرتنا هذه نجت — إلى حدٍّ ملحوظ — من المؤثرات الآرية، وكذا عالم الآلهة الهلينية اليونانية للآلهة التي تخالط البشر وتزورهم وتَعِدُهم بالنصر، وتعود فتُخْلِف وعدها، وتستخدم في خداعها كل موتيفات خرافية؛ مثل: «طاقية الإخفاء» التي دأبت أثينا كإلهة حرب — للإغريق — قبَلية تُناصرهم ضد أعدائهم الطرواديين «حين لبست خوذة آذس التي تُخْفِي من يلبسها عن الأنظار.»
فالزير سالم تبدو — إلى حدٍّ معقول — سيرةً خاليةً من الخرافة، وكذا عالم القوى الخارقة والعلوية والأرباب والآلهة الطائرة، والتي تزني وتتحوَّل إلى نساء؛ لكي تجرب الشذوذ الجنسي، وحين تُدلي برأيها عن لذَّة اللذة تُفضِّل اللذة الجنسية وهي في حالة وضع الأنثى عن ما كانته في وضع الرجل الذكر، كما في حالة الإله الهندي أندرا، والكاهن الهليني المتنبئ — الموغل في رجعيَّته — تريزياس، الذي كان يحلو له كثيرًا أن يتحوَّل لامرأة أنثى، وحين كانت الإلهة «هيرا» تَحقد عليه وتُعاقبه فإنها كانت تُعيده إلى حالته الأولى، أي إلى رجل مرة ثانية.
ونحن هنا بإزاء سيرة ملحمية عربية لم تُخالطها المؤثرات الآرية الهندية الفارسية، ثم الهلينية فيما بعد.
نحن بإزاء سيرة سامية أكثر منها آرية، إن خالطتْها سمات وخصائص فهي عربية سامية، وليست بآرية.
من هذه السمات: ذلك الصراع الأرضي البشري الذي قوامه هنا الحروب القبائلية والطوطمية التي موضعها الجذري الصراع الاجتماعي، وهو «الماء والكلاء»، وما يفرضه من أمن الدفاع عن الحِما الذي هو صنْو الوطن، وما يَستتبعه من [انصهارات] قومية، أخذًا بمقولة أن العنف مدخل يتطلَّب المزيد من التوحُّد.
فالحروب والإغارات والأخذ بالثأر جميعًا تجيء كنتيجة — وليست كمقدِّمة — للصراع الاجتماعي ولصراع الطعام، وهو الماء والكلأ عصب حياة البوادي العربية والدافع الأول لحركتها وتطاحنها القتالي، وحروبها وهجراتها بحثًا عن الزرع والضرع، ومن هنا تجيء هذه التغريبة اليمنية الحميرية القحطانية إلى الشام وما بين النهرين والحجاز وفلسطين.
وكذا تغريبة الملك سيف من نفس الموطن — الجنوب العربي — إلى إفريقيا الوسطى — أثيوبيا — والسودان ومصر، بحثًا عن كتاب النِّيل ومنابع الماء والكلأ.
يُضاف إليهما تغريبة التحالف القبلي القمري الهلالي لعرب الجزيرة الهلالية وحروبهم وهجراتهم إلى دلتا النيل وتونس الخضراء، حين حدث جوع في الأرض؛ أرض نجد والحجاز.
بالإضافة إلى بقية الهجرات العبرية الثلاث إلى مصر حين حدث ذات الجوع في الأرض، وهي هجرة قبيلة إبراهيم ويوسف ويعقوب.
فالملك التبَّع حسان اليماني يجيء إلى الشام والحجاز وفلسطين — بلاد العسل واللبن — أملًا في التسيُّد، وما إن يتحوَّل إلى طاغية مُغتصِب لكلا الأرض والزوجة حتى يُقْتَل بالحيلة والغفلة، ويعلِّق كليب رأسه على بوابات العاصمة دمشق.
ثم يجيء الدور ذاته على كليب، فما إن يتحوَّل بدوره إلى طاغية، يتخذ له حيًّا في أرض تُدْعَى العالية، لا يطؤه أحد إلا بإذنه، ولا يورد أحد إبله مع إبله، ولا يوقد نارًا مع ناره، وهكذا إلى أن استفحلَ خطرُه بشكل لا يُطاق، فكان أنْ حقَّ اغتياله كطاغية قبائلي طبقي.
بل إنَّ الأسطورة الطوطمية المصاحبة له — والمفسِّر لتسميته «كليب» — تكشف وتُوضِّح أبعاد القوة الباطنة الدافعة للصراع الطبقي وتلك الحروب القبائلية التي يقال: إنها امتدَّت أربعين عامًا، مما دفع تلك الكاهنة البسوس إلى استيعابها واستخدامها في تحريضها الاجتماعي الطبقي ضد الملك الطاغية كليب بن ربيعة: «هذا الباغي الذي حمى — حرَّم — عليكم الماء والكلأ.»
فتنسب المصادر الكلاسيكية العربية مُرجعة تسمية كليب إلى أنه اتخذ جرو كليب كشعار أو طوطم، فلا يَنزل مكانًا به كلأ أو ماء إلا ذا ما أطلق جروه فيَعوي فيه، فلا يرعى أو يستقي أحدٌ، فضُرِبَ به المثل «أعز من كليب وائل»؛ أي أنْ لا أحد أعز من جرو بني وائل.
ومعروفٌ أنَّ أول أفكار عربية مصاحبة لمفهوم الوطن والوطنية عند العرب من بائدة وجاهليين؛ هو ذلك الحما الذي ما يزال محفوظًا مُتواترًا داخل اللغة الفصحى، بما يوصِّلنا إلى الحماية والحمية والحما مرادف الوطن.
وكان ذلك الحما يُحدِّده للقبيلة أو العشيرة نباح الكلب، ومن مجموع العشائر المتحالفة رُفِعَت تلك الشعيرة الطوطمية لتُصبح شعارًا عامًّا لمجموع القبائل خلال تجوالها وهجرتها بحثًا عن الماء والكلأ، وما يَفرضه من حما وأمن، وهم ما عُرِفُوا بالكلبيين.
فالأصل في مثل هذه السِّيَر هو أن تجيء — بادئ ذي بدء — سيرة عائلة. إنها بمثابة التراجم التاريخية للأشخاص من ملوك تباعنة وأمراء وشيوخ قبائل، مع إضفاء الاهتمام الأقصى برواية أنساب عائلةٍ حمْيَريَّة أو قيسية حروبها وانتساباتها وهجراتها ومنازعات بلاطها وأنماط زواجها وميراثها وتوارُثها.
ذلك دون عُزلة عن مضمون الصراع المُستهدِف للسلطة والتسلط، والمرتبط بمصالحه فيما يحيطه، وعبر كفاحه الشاق في سبيل البقاء، ولو كان ذلك البقاء الذي يسوده الطوطم كمُنتَج روحي أو دين بدائي.
فحتى الطوطمية الموغلة في الكلاب والحمير واليمام والنوق وأم قويقات جميعها لها دورها الاجتماعي والطبقي؛ مثل منبت الصراع الذي أفضى إلى مصرع ناقة البسوس الذي يحفظ الأدب العربي برمَّته اسمها سراب أو الناقة سراب، والتي اقتحمت حما كليب أو الملك كليب أبا اليمامة، وكسرت بيض حمامة كان قد أجارها، وكان أن رمى الناقة سراب بسهم شخَب لها ضرعها بالدم واللبن، فنشبت الحرب بين بكر وتغلب طوال تلك السنوات العديدة أربعين عامًا، حتى أفنى البطنان بعضهما بعضًا.
وعلى هذا النحو الحيواني يسوق الأدب العربي على طول تاريخه هذه السيرة الملحمية دون إدراك لجذورها الطوطمية وبقية أبنيتها؛ من عرابية قبائلية واجتماعية طبقية، تجري أحداثها على أرضِ حدقة عين العالم القديم؛ أرض فلسطين العربية منذ أقدم العصور.