كليب الفلسطيني ملك العرب
وتبدأ سيرتنا — الزير سالم — عقب مصرع الملك التبَّع الطاغية الغازي حسان اليماني للشام وفلسطين، فما إن جزَّ الأمير كليب رأسه، وانضمَّ إليه فرسانه المائة خارجين من الصناديق مندفعين في ساحات قصر التبع المُغتال إلى ساحات دمشق وباحاتها، مشرعًا كليب رأس التبع حتى أعلن نفسه ملكًا مكانه.
فاجتمعت بنو مرَّة وأكابر العشائر وأعيان الشام وقواد العساكر وألبَسوه تاجًا مرصَّعًا بالجواهر، وأجلسوه على كرسي المملكة، وحكم كليب مُعاملًا الناس بالجود والكرم، مُنصفًا المظلوم ممَّن ظلم.
وفي الليلة التالية اجتمع شيوخ القبيلة، وزفُّوا عليه ابنة عمه الجليلة.
•••
وهكذا لم تُرْزَق الجليلة من كليب بولد سوى بسبع بنات، أشهرهنَّ الإلهة القمرية اليمامة، لكنها لم تُرْزَق بابنٍ يَرث ملك كليب المترامي.
وذات يوم زاره عمه وحموه أبو الجليلة — الأمير مُرَّة — وطلب منه الرحيل بقومه ورجاله وماشيته ونوقه وجماله، ونزل في وادي مخصب لم تذكر الملحمة اسمه، برغم ما أخبرتنا به سلفًا من أن مُرَّة وابنه الأمير جساس كان قد ولاهما التبَّع حسان اليماني «نواحي بيروت وبعلبك والبقاع»؛ أي لبنان وتخومها، أي العراق وما بين النهرين، فالمرجَّح هنا أن مرة عاد فارتحل إلى غور الأردن وفلسطين، وأنه أقام ابنه الأمير جسَّاس بدلًا منه حاكمًا على بني بكر، فامتد سلطانه وكانت تَقصده الشعراء والفرسان.
أما أخوه الأصغر — صاحب هذه السيرة — المهلهل — الذي لُقِّب بالزير — فكان ابن عشرة أعوام، وكان شجاعًا فصيحًا مُنعكفًا على شرب المُدام وسماع الأصوات والأنغام، يُنشد الأشعار البديعة، ويأتي بالمعاني النفسية الرفيعة.
•••
فصمَّم ابن عمه «عمران القصير» على غزو بني قيس بمائة ألف مقاتل ركب فيهم وجدَّ الطريق إلى بلاد الشام.
ويلاحظ هنا تحيُّز هذه السيرة العائلية في الالتجاء إلى العرب القيسيين الشماليين في مواجهة عرب الجنوب — الجزيرة — اليمنيين منذ مصرع تُبَّعهم المغتال، التبع حسان اليماني، وفي الحروب التي أعقبت موته بمائة ألف جندي، وألف سفينة مدجَّجة لاستعادة مَمالكه المترامية في سوريا ولبنان والعراق والأردن، وشمال الجزيرة السعودية اليوم وفلسطين، بالإضافة إلى الحبشة والسودان، مُضافًا بقية إمبراطوريته التي شملت آسيا الصغرى إيران وتركيا وكذا أواسط آسيا، كما سبَق أن أخبرتْنا سيرته، التي كما قلنا: إنَّنا لم نلحقْها هنا سوى في المَقتل.
أي إنَّ كل ما تبقى من سيرة التُّبَّع حسان اليماني المندثرة — الذي يقال بأنه آخر التباعنة ملوك اليمن الغابرة — هو ما يتَّصل بسيرتنا هذه — الزير سالم — فهو مجرَّد فتوحاته الأخيرة في غرب آسيا التي مركزها دمشق، والتي اكتملت بمصرعه ليلة عرسه، على يد زوجته الجليلة أو جليلة الفلسطينية وابن عمها الأمير كليب، باستخدام خدعة الجند داخل الصناديق، بما يُذكِّرنا بحصان طروادة، وخديعة ملكها بريام وبيته، سوى مِن فارقٍ أساسي بين كلتا الخدعتين الحربيتين؛ إذ بينما لجأ التحالف القبَلي الهليني الأثيني إلى إحداث غزو خارجي لأعدائهم الطرواديين الأناضوليين.
بما يشير إلى أننا بإزاء ملحمتين أو سيرتين التقتا وتزواجتا بشكل متعسف أولاهما: «ملحمة حسان اليماني» الحمْيَرية القحطانية، وثانيتهما «الزير سالم» أو المهلهل سيد بني ربيعة، ملوك شمال الجزيرة والشام وفلسطين في ذلك الوقت، اندثرت أولاهما — «حسان اليماني» — ولم يتبقَّ منها سوى آخر حلقاتها: مصرع تُبَّع حسان في دمشق على يد أبطال سيرتنا هذه.
ويُمكن تأكيد هذا الرأي، إذ ما عرفنا أنها خصِّيصة سامية عربية تتَّضح أكثر في السيرة الهلالية، وفي صراعَي قحطان وعدنان داخل التحالُف، على طول أحداث السيرة وهجراتها وحروبها على طول الشام والمغرب العربي ومداخل أوربا الجنوبية.
كل هذا بالإضافة للأحداث التاريخية والهجرات والأنساب وغيرها مجالها الذاكرة والتواتر بالحفظ، وكل هذا أدى إلى توحُّد الملك بالكاهن بالمداح أو الشاعر والساجع على طول تراثنا العربي، كما أدى إلى توحُّد الكاهن ورجل الدين بقدرته على الحفظ للنصوص الدينية ومأثوراتها بمراكز السلطة المتعاقبة حتى أيامنا الماثلة.
بما يفترض في مثل هذه الحالة لغة شعرية أو سجعية أسطورية إيقاعية، ميسرة الحفظ، تَمتلك قدرات البقاء والتواتُر الشفهي داخل مُجتمعات السير والملاحم والبالاد في عمومها التي من خصائصها: تفشِّي الأمية وعبادة الأسلاف، وحيث تكون الأغاني القصصية ملحمية في نبراتها ومقسَّمة إلى حلقات، فنجد أن الأمير/الملك فيها يُشبه أشد الشبه الملك الملحمي في أغاني شارلمان أو آرثر؛ فهو شخصية رياسية يتسيد مجموعة من الأبطال، لكلٍّ منهم شهرته التقليدية وحكاياته الخاصة كما يَذكر كراب.
ومن المعروف أن اللقب «زير» الذي يتسمى به يلازمه منذ طفولته — عشر سنوات — ويصاحبه، وسنتعرض له لاحقًا خاصة أنه يبدو لقبًا ملكيًّا؛ حيث تسمى به ملوك ما قبل التاريخ أو الأسرات المصرية ما قبل الألف الرابع قبل الميلاد في تاسا والبداري كما ذكرنا في مقدمة هذه الدراسة.