مكائد الجليلة ضد الزير سالم
فما إن استتبَّ الأمر للأمير كليب وزوجته وابنة عمِّه الجليلة بنت مرة، فترامى سلطانه على معظم بلدان الشرق الأدنى القديم — فيما عدا مصر والمغرب العربي — حتى أخذت هذه الملحمة — السيرة — تجمع أطرافها كسيرة عائلية قبَلية، قوامها هنا الملحمة — السيرة — تجمع الرمل والأسلاف وعبادتهم.
وعلى هذا اتَّفق أولاد مرة — وكان عددهم ثلاثة وأربعين ولدًا — على اغتيال الزير سالم منذ المهدِ، وقبل أن يشتدَّ ساعده ويُفنيهم ويُبيدهم عن آخرهم بحسب ما كشف عنه «تخت» الرمل.
فأشارت الجليلة بعدم قتل الزير سالم أو المهلهل وهو ابن عشرة أعوام وإلا انكشف الأمر، وأخذ كليب — زوجها — بثأره منهم، واقترحت عليهم أن تجعل كليبًا ذاته يُلقيه في المهالك، وأنشدت تقول:
فاقتنعت قبيلتها برأيها السديد، ورحلوا بعد أن أسلموا لها قيادة الأمر.
حيث بدأت هي حبك سلسلة مُتوالية من المكائد والشرور ضد الزير، بدأتها متوحِّدة بزليخة؛ حيث «شقت جميع ما عليها من الثياب، وأظهرت الهمَّ والاكتئاب» في مواجهة كليب عبر ردهات قصرها، وكان يُحبُّها محبة عظيمة «لحسنها وجمالها وغنجها ودَلالها.»
ولما سمع كليب شعرها وكلامها، غضب وأرسل مَنْ يُحْضِره، وحين ذهب رسول الملك إليه امتنع عن المثول أمام أخيه الأكبر؛ لأنه كان يُعاقر الخمر من جلسائه، وعاد الرسول إلى كليب وأخبره بما رأى، وبرفض الزير للمُثول والمجيء، فأرسله ثانية فما حضر، فعند ذلك سار كليب إليه وقد عظم الأمر لديه، ودخل عليه خلوته ونهره وضربه حتى آلمه، «ثم نزَع عنه ثياب الحرير حتى صار مَعيرة للكبير والصغير، وأرسله مع الرعيان ليرعى النوق والجمال.»
وحين عاد إلى الجليلة، وأخبرها ما فعل مع المهلهل؛ ازدادت كدرًا واندفعَت تُدبِّر حيلةً جديدةً لشحن كليب ودفعه دفعًا لإهلاكه، فقالت له: إنها بلغها من بعض الرعيان مروق أخيه وتهتُّكه إلى حد اللواط مع البدو والصعاليك، منشدة:
وتُمعن الجليلة مُنشدةً، مُعبِّرة عن تهتُّك الزير وفضائحه مع الرعيان البدو والصعاليك بما أصبح مسيئًا للأرستقراطية الإقطاعية القبلية.
ومرة تالية نجحت في إلهاب قلب الملك كليب ضد أخيه، «فأخذته الحمية وعصفت في رأسه نخوة الجاهلية» كما يذكر النص.
وهنا أشارت عليه بنفي الزير إلى وادي الأسود والنمور، فركب إليه واقتاده كليب — قاطعين البراري والقفار — إلى الوادي المَهجور، وما إن وطأه حتى «شخر جواد كليب ونخر، وإذا بسبع من بطن الوادي ظهر» فقاتله كليب، وأخطأه بحربته، وهجم عليه السبع لافتراسه إلى أن تقدَّم الزير فخلصه منه، وشقَّ السبع بخنجره نصفين، ثم أخرج قلبه فأكله، وودَّع أخاه مطمئنًّا، وهذه أول إشارة إلى توحُّد الزير بالآلهة الشمسيِّين؛ جلجاميش وهرقل وشمشون وبيولف، فجميعُهم قتَلُوا الأسد بأيديهم العارية، أو هراوة كتلك المُرتبطة بهرقل، وبعضُهم أيضًا أكل بعض أحشائه كشمشون وألغازه.
والأمر ليس ببعيد طالما أنَّ أحداثنا تجري ما بين دمشق وأرض فلسطين كما أشرنا، وعلى أقل تقدير فإنَّ بطلنا الممزَّق — أو المهلهل هنا الزير سالم — إنما هو بطل فلسطيني قلبًا وقالبًا، أو لنَقُلْ: مَوطنًا وخصائص.
فالمكيدة الجديدة التي تُضاف إلى ما سبق من مكائد تُدبِّرها الجليلة وتُشير بها — من فورها — على الملك كليب: أن يأخذ الزير فيُلقي به «على نية أن ينشل الماء في «بير صندل السباع» — وهي بير سبع الحالية بالأرض المحتلة — ثم يقطَع الرعاة الحبل، فتُغرقه مياه بئر سبع.»
وهكذا يذكرنا الصراع بين الأخوَين بقصة الدولة الوسطى المصرية الفرعونية المعروفة بالأخوَين أو باتا، والمكائد التي تُلهبها شرور زوجة الأخ الأكبر ضد الأصغر.
وكالعادة استسلم الملك كليب لزوجته الجليلة مُنفِّذًا، وركب جواده ومعه مائة فارس، فوصلوا إلى الزير، وأخذه معهم إلى «بئر صندل السباع»، وعند وصولهم قال كليب: سالم خيولنا عطشت الآن، انزل إلى البير واملأ لها.
فدلُّوه إلى عمق البئر في حبل، وأخذ يملأ وهم ينشلون ويسقون حتى ملئوا الأرض على باب البير، وجاءوا بالخيل ليَسقوها فتزاحمت على بعضها البعض وأخذت بالصهيل والعنف والازدحام، وعجز كليب وجماعته عن ردِّها، إلى أن سمع الزير وهو في البير صهيلها وتمرُّدَها، فصرخ عليها الزير سالم صوتًا مثل الرعد، فارتجَّت له الوديان والفرسان؛ فجفلَت الخيل وتأخَّرت وانفصلت عن بعضها وهدأت واستكانت.
فتعجَّب كليب وأخرج أخاه سالمًا من «بير صندل السباع» وازدادت محبَّته له، ورجع به إلى الديار، وجليلة التي غابت عن الوجود من شدة الغيظ حين شاهدته راجعًا فحدثها كليب بما رأى منشدًا:
وفهمت الجليلة باطن كلامه، فأظهرت السرور ومازحَتْه، وصبرت عليه أيامًا ثم عاودتها مكائدها، وفي هذه المرة ادعت المرض ورقدت في الفراش، وقالت لكليب: لي حاجة إليك لا يقدر عليها سوى أخيك الزير، أريد مقدار كأسين من حليب السباع؛ لأنه يُقوِّي الأعصاب.
فلما فرغت الجليلة مِن شِعرها، صدَّق كليب مقالها وأرسل في طلب الزير كما أشارت في آخر أنشودتها السالفة المهمَّة، التي يصحُّ أن نتوقف عندها، خاصة بالنسبة لهذا الإمبراطور العربي الجاهل كليب، الذي أنجب منها سبع بنات، ولم يتسمَّ إلا باسم صغراهنَّ «اليمامة»: «أبا اليمامة».
فاليمامة — كما يتبادر إلى الذهن — رمز أو شعار طوطمي عربي إسلامي، تسمَّت بها عدة مدن عربية في شمال الجزيرة وجنوبها اليمني، ارتبطت بفابيولا زرقاء اليمامة المتنبئة بجيش الشجر الجرار الزاحف على مدينتها، ويلاحظ أن نفس الأمثولة استخدمها شكسبير في ماكبث الذي قد يتشابه من أحد جوانبه بالملك كليب، فكلاهما تسلَّطت عليه امرأته الدموية تسيِّره.
وعندما تعجَّب كليب من بطولته وسأله، أنشد الزير:
وحين وصل الزير سالم إلى مقولة مأثورة: «فأهل العقل لا تَسمع لأنثى» أدركت الجليلة ما يَعنيه، وأنه إنما يُلمِّح لها، وعادت فأضمرت له الشر الدفين، بل هي وصفته «بالقبيح»، ومن جديد واصلت مكائدها وإلحاحها، إلى أن استقرَّت على مكيدة أن يمرض كليب، ويزوره الزير في الفراش، ويطلب منه أن يشرب من بئر السباع أو بلدة «بئر السبع» الفلسطينية التي سيتخذها الزير سالم مأوى ومنفى له، حيث سيقيم له قصره فيها من جماجم سبوعه أو أعدائه.
فحين وافق الزير سالم على إحضار ماء بئر السباع، أخذ حمارًا وقربة ماء، واندفع من جديد مخاطرًا في وادي السباع الموحش.
بل إنَّ في اتخاذ الزير سالم للحمار ومواجهة الأسد في بير السباع — أو بئر سبع — ما يوحده بالإله الشمس الفلسطيني شمشون، ذلك إذا ما أضفنا تآمر وإلحاح الجليلة — أو جليلة — المتوحِّد — إلى حدٍّ مُلفت — مع إلحاح دليلة من شمشون، «ولما كانت تُضايقه كل يوم بكلامها وألحت عليه ضاقت نفسه إلى الموت» (قضاة: ١٦).
وهكذا ركبه الزير وساقه عائدًا إلى العمران حتى دخل المدينة والناس في عجب، وما إن شاهداه من شرفة قصرهما كليبٌ والجليلة في موكبه ذاك، حتى بكى كليب فرحًا، أما هي فاشتعل قلبها واتَّقد، ولم يهدأ لها بال إلا حينما دبَّرت مكيدة أخيرة.
أما الزير سالم فإنه أنزل القربة عن ظهر أسده المُستأنَس المقهور، ثم ضربه ألقاه قتيلًا، مغمغمًا: أخذنا بثأر الحمار.
وهنا أمَر كليبٌ خدمه أن يُدْخِلوا الزير إلى الحمام، فدخل واغتسل ولبس «حُلَّة من الأرجوان»، ومعروف أن الأرجوان الأحمر القاني كان الشعار الدامي لفينيقيا منذ أقدم العصور.
مع ملاحظة أن فينيقيا هنا تعني الطلائع البحرية من بين الكنعانيين؛ من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، سكان المدن البحرية الدول التي عرفت جوهر الهلينية كمُجتمعٍ ثقافيٍّ مُستنير هدفه الأخير الإنسان حقوقه وواجباته، قبل أن يَعرفها الهلينيون أنفسهم بأكثر من ألفي عام، كما يذكر شيخ المؤرِّخين أرنولد توينبي.
فضحك كليب وتعجَّب وأعطاه ما طلب وودَّعه، وسار الزير سالم حتى وصَل إلى بير السباع، ونصب صيوانه الذي أصبح قصرًا من جماجم الأسود، والذي كان كلَّما قتل أسدًا منهم يقول مازحًا: يا لتارات الحمار.
واتخذ له صديقًا وفيًّا — هو ابن عمه «همام» أخو الجليلة والأمير جساس — فانعزلا في بئر سبع هذه في فلسطين يَشربان المدام ويسمعان الأنغام لمدة ثلاث سنوات.