الزير سالم إله مهلهل ممزَّق
ومما تقدَّم يتضح لنا أكثر أننا — كما أشرنا — بإزاء سيرتين قوامهما الشعر الإنشادي الملحمي؛ أولاهما حسان اليماني، تتحدَّث عن أمجاد وفضائل عرب الجنوب الحمْيَريِّين القحطانيِّين، تنتهي — أو هي تُشارف الانتهاء — باغتيال كبيرهم المستبد العادل الملك التبَّع حسان اليماني داخل مخدعه، لاحِظ العلاقة اللغوية بين مخدع وخداع ويخدع الدمشقي، باستخدام أحد أشكال وتنويعات حصان طروادة، وهي «مائة صندوق» جهاز ومجوهرات عرس الجليلة — التي قد يُشير اسمها إلى مناطق الجليل الفلسطينية، طالما أنَّ النص الفولكلوري لا يُخبرنا من أين جاءا بالتحديد — هي وابن عمها أو خطيبها الأمير كليب المختفي في زي مهرج الأمير تحت جلود «الثعالب والذئاب والكباش والبغال»، وهو مأثور تعرَّفنا على أقدم أنماطه من التراث الأردني الفلسطيني الذي دخل الجسد الأسطوري العبري من العصور المتأخِّرة، ويدعم فريزر هذا الرأي بأن سمة عربية بالتحديد — بأكثر منها سامية — واصلت انتشارها من أثيوبيا التي استوطنها العرب الحضرموتيون والعدونيون البحريون سُكان الثغور الجنوبية منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، ونشروا فيها لغتهم الحضرموتية التي ما تزال محفوظة ساريةً إلى اليوم في لغة الطقوس الدينية الجعزية الحبَشية إلى اليوم.
حتى إذا ما خبا ازدهار دولة عرب الجنوب اليمنيِّين بمصرع آخر التباعنة حسان اليماني ابن سالفه الإمبراطور التبَّع أسعد اليماني والأب السلف لتدمُر الابنة وممالكها في الشام والجزيرة العربية وفابيولاتها التي توجدها مع زنوبيا أو الزباء.
وبانتقال المُلْك والسلطة لعرب الشمال «القيسيين»، ممثَّلًا في التحالف الأكبر لهما: ربيعة ومرة، وهم حينئذ ملوك مكة ودمشق وبيروت وعمان والقدس أو بيت المَقدس قبل إنشائه وتسميته أورشاليم أو مدينة سالم، ساليم، سلم، بطل سيرتنا، الذي ما زلنا — فيما تقدم من أحداث — نشهد تنشئته ونموَّه، المُهلهل أو الممزَّق عقب تآمُر زوجة أخيه الأكبر كليب — جليلة أو الجليلة بنت مرة — والتنكيل به وهلهلته بما كانت تُدبِّر وتحيك له من مكائد وبلايا وتقوُّلات جارحة ومهينة، منها الفِسق والفجور مع الرعيان والصعاليك، ومنها محاولة اغتصابها، وهي زوجة أخيه الأكبر الملك كليب الذي تحوَّل — بدوره — إلى مجرَّد ألعوبة في يدها؛ للتنكيل بالزير سالم وطرده ليرعى الجمال والنوق مع الرعيان في الوديان الموحشة.
ويلاحظ أنها خصيصة ملحمية عربية لا يَخلو منها بطل ملحمي عربي تُصاحب منفاه ورعيه النوق والجمال في البوادي الموحشة ونموه الخارق؛ مثل: أبو زيد الهلالي في السيرة الهلالية، وفي قصة أو موَّال أو البالاد الملحمي الغنائي: «عالية»، وعنترة، وسعد اليتيم التي تَجري أحداثها في بادية الشام، وكذا تتردَّد بكثرة مفرطة في الملاحم العربية اليمنية للملوك التباعنة ومنهم «الملك سيف بن ذي يزن الحميري».
فأجدني أميل إلى أنَّ التسمية هنا للزير سالم «بالمُهلهل» إنما تعني مزيجًا من فضائحه وآلامه، وهي هنا أقرب إلى ما يتواتَر شفاهيًّا عندما يتوعَّد إنسان لآخر بأنه يهلهله، بما يعني أنه سيسبُّه ويَفضحه ويمزقه ضربًا أو إربًا.
فالتسمية أو الصفة — المهلهل — الذي اكتسبه الزير سالم يَصلُح — بالإضافة إلى عذاباته — أن يوحَّد مع الآلهة الممزَّقة أو المهلهلة: أوزوريس، تموز، أودونيس، ديونزيوس، ديونزيوس زاجريوس الفريجي، وامتدادًا حتى المسيح والحسين وبيته.
وكمصير محتَّم لمثل هذه الآلهة الزراعية، فالقتل الدموي العنيف هو خصيصتها الكبرى، وهو ما لم يحدث في حالة بطلنا هذا الصياد البري الذي هزم أسود وادي الثعالب أو بير سبع وحلب لبَنها، سوى أن القتل العنيف — ولْنَقُلْ: الاغتيال من الظهر — وقع لأخيه الأكبر «كليب» بدلًا منه، بينما قُدِّر للزير سالم أن يَرتدي مسوخ الأخ المُنتقم لأخيه.
كذلك يُلاحظ أنَّ من سمات آلهة الاخضرار — من زرع لضرع هذه — هو إشراك الأنثى من حبيبات وزوجات في دمها المراق.
وبما أننا هنا بصدد التعرف على المَنبت الممزَّق أو المهلهل المصاحب لعذابات النمو الخارق لبطل ملحمتنا هذه — الزير سالم — نذكر بأن الموت الدامي الممزِّق لم يلحقه — على الأقل — حتى هذه الأحداث، بل إنَّ الموت الدامي سيلحق أخاه كليب بدلًا منه على يد الأمير جساس — سيد بني مرة على بيروت والبقاع وأخ زوجته الجليلة — بدلًا من الزير سالم الذي سيُواصل حروبه الانتقامية التي ستمتد أربعين عامًا، والمعروفة بحرب البسوس.
فالزير سالم الذي تسلَّطت عليه زوجة أخيه «جليلة» (دليلة) مُلقيةً به إلى المهالك بإلقائه في «بير صندل السباع»، وبطلب «حليب السباع» لكي تَحمل وتخلف ولدًا يَرث ملك أبيه الممتدَّ المترامي «من مكة لأرض الروم».
يتوحَّد هنا مع سلفه «إسماعيل» حين نَفَتْه سارة وأمه هاجر بوادٍ مُقفر: «رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المقدس»، تذكر المصادر العربية — سِفْر التكوين — أنه نفس برية بئر سبع بالنسبة لإسماعيل أبو العرب، حيث كان مَنفاه هو وأمه هاجر قبل الإسراء إلى مكة أو برية فاران.
ومن طرفٍ مقابل تتوحَّد كلتا: «سارة» و«جليلة» في أنَّ كلتاهما عاقر، أو تعاني من الخلف والإنجاب، سارة العاقر التي حُرِمَت من الخلف والإنجاب حتى إنها هي التي دفعت بإبراهيم إلى الزواج والدخول على جاريتها وأَمَتها «هاجر».
والجليلة التي رُزِقَت من الملك كليب سبع بنات في مجتمع يئد البنات، فمأساتها تَكمن في أنها لم تُرْزَق ولدًا ذكرًا يَرث الملك كليب «قيدوم السرايا» الذي يحكم كملك وإمبراطور ذلك العالم القديم «شرقًا وغربًا من أرض الروم للكعبة دوامًا.»
فمن هنا يمكن تمثُّل تراجيديا شخصية «الجليلة» في اضطهادها وتنكيلها للزير سالم منذ طفولته ومطلع شبابه بما يَتقارب مع مولد وشباب إسماعيل، دافعة إياه لخوض كل أهوال؛ للحصول لها على ما وصفته لها دايتُها لكي تحمل ولدًا وليًّا للعهد، قائلة: «لبان لبوى بصوفه»، وكأنها إنما تطلب لا لبن العصفور — لكي تحمل — بل لبن اللبؤة الأسد.
كما أن كلاهما: الزير سالم وإسماعيل أبو العرب العدنانيين نما كصياد أو رامي قوس في البرية.
أما مَنفى الزير سالم فهو — كما يذكر نصُّ ملحمتنا عشرات المرات — ببير سبع، كما كانت مكة موطن ومنفى إسماعيل.
ومن هنا يجيء افتراضنا بأنَّ الزير سالم هو الإله الشمس الفلسطيني المحلي لبئر سبع، وأنه هو البطل الأسطوري الفلسطيني الذي يُنْسَب إنشاء القدس أو أورشاليم له كما ذكرنا.
على اعتبار أن «أور» كلمة سامية عربية أكثر منها عبرية مثل: أورورو — أو الوركاء — الحالية بالعراق، وأور الكلدانيين التي اكتشفها قنصل إنجلترا بالبصرة عام ١٨٥٤م، وعُرِفَت بمدينة إبراهيم.
بل إنَّ الزير سالم ذاته كان دائم التفضيل لأن يظلَّ يُعاشر الحيوانات وينمو معها كصياد أسود، فهو كأنكيدو — صديق جلجاميش وخصمه الحيواني — الذي تربى مع الحيوانات، يَستقي معها عند منابع الماء.
إلا أنَّ توحُّده الأعظم بإسماعيل يجيء من أنَّ كليهما؛ الزير سالم وإسماعيل، يرتبط اسمه بإنشاء مدينة إسماعيل، الذي كبر في برية فاران التي أصبحت مكة، وأصبح أُمةً، ونبعت له بئر زمزم، والزير سالم، مع بئر سبع الذي فضَّل عقب انتصاراته على سباعها سواء أكانوا أعداءً حيوانيين أم بشريين أن يتَّخذها مأواه أو منفاه، حين طالبه الملك كليب أن يتمنى عليه فيُعطى، فلطب منه سُكنى بير سبع، خاصة وأنَّ له فيها ثأرًا، وقال متهكمًا: «يا لثارات حماري»، وكان أن بنى فيها قصره الذي شاده من جماجم السباع واستوطَنها.