البسوس وحربها المضرمة ٤٠ عامًا
ويذكر راوي هذه السيرة الملحمية — التي يتعاقَب فيها النثر والشعر الإنشادي — أن الزير سالم — أبو ليلى المهلهل — اختار الانعزال بنفسه بعيدًا عن مُلْك أخيه — الملك كليب — المترامي في سوريا الكبرى وعاصمته دمشق، وطال به المقام في عزلته تلك بوادي بير سبع الموحش في فلسطين، فظلَّ في منفاه الاختياري هذا يسمع الأنغام ويُنشد الأشعار ويشرب المدام، لمدة ثلاثة أعوام متصلة، هو وصديقه وصفيُّه الأمير «همام» بن مرة — زوج أخته «الضباع»، وأخ الجليلة زوجة أخيه.
إلى أن جدَّت أحداث أشعلتها العجوز الشاعرة أخت الملك اليمني المغتال «تبع حسان» الذي قتَله كليب ليلة عرسه بقصره بدمشق، حين تسلَّل مُتنكِّرًا تحت جلد الحيوانات الطواطم، وكذلك تسلَّل فرسانه المائة بحيلة تُذكِّرنا بما فعله اليونان لاقتحام طروادة — أي بنفس طريقة مينلاوس في استرداد هيلانة — من أَسر باريس بن بريام ملك الطروادنيِّين.
فالزير سالم دأب على تبرير مَنفاه ببئر سبع هربًا من مُطاردات ومكائد النساء، مُتحجِّجًا لأخيه كليب ومتهكِّمًا بأخذ ثأر حماره: يا لثارات الحمار.
وليس في الأمر تهكُّم إذا ما عرفنا أننا بإزاء سيرة مُوغلة في القِدَم، كما أنها موغلة في الطوطمية والتفكير الغيبي والبدائي الخرافي.
بالطبع تنسج الملحمة للبسوس فابيولاتها الغربية التي توحدها مع المتنبئة الشاعرة الطروادية «كاساندرا»، بل إنَّ قصة حبِّها وزواجها مُشابهة لما وقع بين أبولو وكاساندرا وصاحب زواجهما في النهاية.
بل إنَّ هناك جسدًا لسيرةٍ أو ملحمة تؤرِّخ لهجرةٍ تَقودها كاهنة محرِّضة يمنية قحطانية أيضًا مثل البسوس هذه، لا بأس من التوقُّف عندها قليلًا؛ للتعرف على مدى الخصائص والسمات لتلك القبائل التي تَعبد الإلهة الأنثى الأم، وتُولِي بالتالي «الخال» تقديسها الأسمى.
وهي أسطورة قحطانية عريقة تَستوجب التأنِّي، تُنْسَب أحداثها لهجراتٍ حمْيَرية مصيرية بالنسبة لمَجرى وتاريخ أحداث الشرق الأدنى، ويؤرَّخ لها بما أعقب خراب سد مأرب؛ أي مع مطلَع الألف الأولى قبل الميلاد.
ولعلَّني هنا أرجِّح أن تسمية الزير سالم بالمهلهل مرجعها هذه الشعيرة لهتْك العرش والثياب أو هلهلتها، كشعيرةٍ إحلالية لشعائر وطقوس قتْل الملك الإلهي أو بديله — أي بديل الملك الممزق — في معظم المُجتمَعات خاصة الزراعية.
والملفت أنَّ هذه التقليدة ما تزال سارية في الحواديت والبالاد الشفاهية المصرية والعربية عن هتك العرش أو الملابس وهلهلتها.
فما إن تزوَّج عمرو بن مزيقيا الكاهنة طريفة، وكان عمرو أعظم ملك بمأرب، وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به، فكانت المرأة تمشي وعلى رأسها مقطف فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة، من غير أن تمسَّ منها شيئًا، حتى إنهم دعوا على أنفسهم: «ربنا باعد بين أسفارنا.» إلى أن أرسل الله عليهم السيل؛ فخرَّب السد، وهو ما هتَف به الهاتف أو الآتي وأخبر به طريفة في المنام حين زارها وقال لها: «ما تحبين يا طريفة: علم تطيب به نفسك؟ أو مولود تقرُّ به عينك؟ فقالت: بل علم تَطيب به نفسي. فمر بيده على صدرها، ومسَح بظاهر كفه على بطنها فعقمت، فكانت لا تلد، واتَّسعت في العلم وأُعْطِيَت منه حظًّا عظيمًا.»
وكان زوجها عمرو بن مزيقيا يكنى ﺑ «ماء المزن» أو مأرب، أو «ماه رب»، وهي كلمة أشورية بمعنى البلد والسهل والوادي، كما أنَّ «ماه» بالفارسية تعني القمر.
وأمَرت هذه الكاهنة طريفة — التي تُذكِّرنا بكاهنة سيرتنا هذه البسوس — قومها من العرب الغَساسنة بالنزول إلى الشام، فتملَّكوا عكَّاء بعد أن هادَنوا ملكها «سملقة بن حباب العكي»، ونزلوا غربيَّ عكاء.
ورفض ثعلبة العنقاء قتالهم مُتمثِّلًا قول سلفه يعرب بن قحطان: «ويل للمَنزول عليه من النازل.»
وكانت في كل مرة تقول هذه الكاهنة كلامًا مسجوعًا، كأن تقول: «خذوا البعير الشدقم، فأنجزوه وخضِّبوه بالدم، حتى تأتوا أرض جرهم»، ثم حاربوا قبائل جرهم وبني إسماعيل، «فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.»
وكانت مكة آخر مطاف تلك الهجرة القحطانية التي تزعَّمتهم هذه الإلهة الكاهنة الأم المدعوة طريفة، مثلما تزعمت سارة — الإلهة الأم — لقبيلة إبراهيم القبائل العبرية الرعوية، وضرَّتها هاجر قبيلة الهاجريِّين والإسماعيليِّين، ومثلما عبرت الأمازونيات المحاربات الليبيات بالقبائل الليبية … إلخ.
ويُنْسَب لطريفة هذه أنها أول مَنْ سمعت العروبة قبل موتها:
كما يُنْسَب لها تقديس ليلة الجمعة التي ماتت فيها طريفة ودُفِنَت بعقبة الجحفة.
•••
وإذا ما عدنا إلى سيرتنا هذه وكاهنتها البسوس حين زارت الأمير جساس، فأنشدته ما يُفيد «بدوام أيام الأمير جساس بن مرة، ورفع على ملوك الأرض قدرك ومكانك، ونصَرك على حُسَّادك وأعدائك.»
وما إن تعجب جساس من فصاحتها وسألها عن حالها، حتى قالت بأنها: «شاعرة أطوف القبائل والعشائر، أمدح السادات والأكابر.»
ورحَّب بها جساس ودعاها للعيش في دياره وحمايتها من كل مُعتدٍ عليها بقتله، وهنا كانت البسوس قد بلغَت مرادها، فأقامت عنده شهرين تنشر الفتنة بين القبائل والقوَّاد والأمراء، مثيرةً الأحقاد بين البكريين على حُكامهم التغلبيين أو بني ربيعة، وملكهم كليب مغتال أخيها التبَّع حسان اليماني.
وعندما وصلت ذروتها في تحريض القبائل، ووصل الأمر إلى أميرهم جساس، وملأته — بدوره — الشكوى من التغلبيِّين وتعدِّيهم على قبيلته منذ أن تملَّك عليهم كليب بعد قتل التبَّع حسان.
واتخذ جساس قراره بضرورة الاجتماع بابن عمه — زوج أخته الجليلة الملك كليب — وإعلامه «بتعديات قومه وجورهم» ومعرفة رأيه وتصرُّفه، وعلى ضوء هذا التصرف يحق لجساس التصرُّف بدوره.
إلا أن فتنة البسوس كانت قد استفحلت إلى أن وصلت مسامع الملك كليب ذاته، وتبني بني مرة لها، فتضايق وأرسل بدوره إلى أميرهم جساس لتحذيره ومطالبته بإيقافها داخل «حركات البكريين وإخراج العجوز من القبيلة.»
وواضح أن كلتا السلطتين القبليتَين لكلا البكريين والتغلبيين كانت تتوجَّس وتتجسس على الأخرى.
وهنا تأكَّد لجساس كلام قومه ومخاوفهم، فرفض الإذعان لمطالب الملك كليب وإبلاغه وكذا طَرْد العجوزة، وبدلًا من هذا واصل تجميع الجموع وتفريق السلاح على قومه وتقويتهم بآلات الحرب والكفاح، وحرص جساس على أن يجري هذا الاستعداد سرًّا بعيدًا عن عاصمة الملك كليب وعيونه، دمشق.
ولما أبلغ كليب أخذته الهواجس وازداد كدرُه وملأته الحيرة، فتذكَّرَ أخاه الزير سالم، وركب إليه في جماعة من فرسانه، وزاره في موطنه ومَنفاه الموحش «بير السباع» أو بئر سبع بفلسطين.
فاستقبَله الزير سالم مرحِّبًا، وكان ثملًا، وما إن أجلسه في مكانه اللائق حتى أخبره كليب أنه إنما جاء ليأخذه إلى القبيلة، «وأقيمك ملكًا مكاني»، فكليب قد أضحى طاعنًا في السن ولا قُدرة له على الحكم والسلطان بعد أن تغيَّرت الأحوال ووقع النزاع بين القبيلتين، وأنشد كليب:
وكما يذكر الراوي لم تُفلح استجارة كليب بأخيه الزير سالم سوى أنَّ الزير ضحك مستهينًا بتصوُّرات أخيه الملك، مشيرًا إلى قصره الذي شاده من جماجم أعدائه السباع التي قتَلها أخذًا بثأر حماره.
وأجاب الزير أخاه الملك كليب منشدًا بدوره:
ويلاحظ رفض الزير سالم للمُلْك والسلطان، ونصيحته لأخيه الملك كليب: «احكم في القبائل بالسويا.»
وهنا تقدَّم الملك كليب عائدًا متوجِّسًا من تهاون أخيه الزير سالم، الذي رفَض التخلي عن عزلته هذه في بئر سبع، والعودة معه لمشاركته الكارثة القادمة التي حلَّت بحكمه وإمبراطوريته، وهو الذي لم يُخلِّف بعدُ وريثًا لعرشه المترامي من زوجته الجليلة التي يناوئه قومها وأخوها جساس.
•••
وعلى المستوى القصصي الروائي — والذي هو ليس موضوعنا — يمكن تذكُّر أن كليب بعد أن تحوَّل إلى مجرد مخلب قطٍّ للبطش بأخيه الأصغر الزير سالم من جانب زوجته الجليلة المشحونة — بدورها — من أهلها ضد الزير، على اعتبار أنه الأخ الأصغر الذي يحقُّ له الميراث، كما هي عادة مجتمعاتنا هذه السامية في وراثة الأخ الأصغر، أَضِف إلى هذا أنَّ الجليلة كانت تَنتمي في ولائها القبائلي إلى قبيلتها مُرَّة بدلًا من قبيلة زوجها الكلبية، فهي التي أشارت على إخوانها وبيت أبيها بعدم إقدامهم على قتل أيٍّ من الأخوَين؛ زوجها الملك كليب أو أخيه الأصغر الزير سالم، على اعتبار أنها هي التي ستُوقع الفتنة بين الأخوَين بدفع زوجها الملك لقَتله، سواء بتقمُّص دور زوجة الأخ الأكبر «أنبوا» في قصة الأخوَين الفرعونية الأسرة ١٨، أو زليخة في يوسف وزليخة، حين ادَّعت اغتصاب الزير سالم لها، وما أعقب هذه مِن مُطالبته بإحضار — المستحيل — لبن اللبؤة؛ لكي تَحمل وتُخلِّف ابنًا يرث ملك التبَّع كليب — قيدوم السرايا — المترامي (من أرض الروم للكعبة دوامًا)، كما يَذكر النصُّ الفولكلوري.
ومن هنا فالجليلة في كل حالاتها تعمل — بكل حِيَل الأنثى الحَقود — على سلب إرث الأخ الأصغر المُهلهل، فسواء نجحت أحابيلها ومكائدها في التخلُّص من الزير سالم بقتله، أو بأن تلد ولدًا ذَكَرًا لكليب، فهي في كل حالاتها تتحرَّك لصالح قبيلتها وسلطتها وتسلُّطها بدلًا من قبيلة الزوج كليب بن مرة.
حتى إذا ما فشلت أحابيلها هذه، سوى مِن هدِّ كاهل زوجها الملك كليب، وإبعاد الزير سالم بوادي بئر سبع الموحش، مثلما فعلت سارة بإزاء الابن البكري إسماعيل حين أبعدته بوادي بئر سبع أولًا، ثم مكة المُوحش «غير ذي زرع».
هنا عاودت قبيلتها التدخُّل ومناوءة الملك المتصلِّب كليب الذي طعن في السن وحلَّ قتله أو هَتكُه أو هلهلته، وسلب البكريين بأميرهم الشاب جسَّاس لملكه وسلطته المترامية.
وعاد يعقوب ذاته فكرَّر هذا الاستلاب مع أصغر أبنائه «يوسف»، الذي كان «ابن شيخوخته»، ففضَّله على أبنائه الكبار الأحد عشر، حين خصَّه بالرداء متعدِّد الألوان الذي ميَّزه عن إخوته، فكان أن حقدوا عليه ليُميتوه بنفس ما حدث مع الزير سالم — أي داخل البئر — بإيعاز من الجليلة، وبتضامُن خفي من جانب قبيلتها القيسية على أن يُوكل بمهمَّة التنفيذ للأخ الأكبر الملك كليب ذاته، حتى إذا ما نجح الزير سالم من الإفلات من حبائل الجميع؛ القبيلة والزوجة المغتالة والأخ الأكبر الغافل، والعودة لهم بمطالبهم، وهو دواء الجليلة ومطمع إنجابها — لبن اللبؤة — وتحقَّق له الفوز؛ كفُّوا عنه، وأولهم الجليلة التي يبدو أنها شُفِيَت وأنجبت الابن الذكر الأصغر الوريث — وهو «الجرو» — سرًّا فأبعدته مُخفِيةً كإيزيس ووحيدها حورس.
ومن هنا يتضح أن زيارة الملك كليب لأخيه الأصغر المهلهل، ببئر سبع؛ ليَهبه حقه الطبيعي في العرش والعودة به إلى القبيلة وتنصيبه ملكًا بدلًا منه، يَحمل الكثير من التكفير، وهو ما لم يَستجب له الزير سالم ويُدركه إنقاذًا لحق حفظ الميراث داخل القبيلة.
الذي لا بد وأنه كان الهدف الأقصى أو الأعلى لذلك العالم القبائلي الغابر، ومطمح سيره وبطولاته وملاحمه؛ ذلك أنَّ حفظ الميراث — وصنوه السلطة — هو الهدف الأقصى لكلا تراثنا وواقعنا العربي الماثل، فما بالنا ببؤرة العالم القديم؟