مونتوك

لافتة تَعِد بإطلالة على الجزيرة: Overlook. التوقف هنا كان اقتراحه هو. موقف السيارات يسع على الأقل مائة سيارة، الآن خالٍ؛ سيارتها وحيدة فوق الخطوط المرسومة على الأسفلت. الوقت ضحًى والشمس مشرقة. الشجيرات الكثيفة تحيط بالموقف الخالي؛ لا منظر إذن، ولكن هناك دربًا يخترق أدغال الشجيرات. لم يتشاورا طويلًا، سيقودهما الدرب إلى مكان يطلان منه على المنظر الرائع، ثم عادت ثانية إلى السيارة. أخذ ينتظرها، لديهما وقت، عطلة نهاية الأسبوع بأكملها. يقف ولا يعلم ما الذي يشغل تفكيره في هذه اللحظة … في برلين الساعة الآن الثالثة ظهرًا … هو في العادة يضيق بالانتظار. جاءتها فكرة أن تترك حقيبة يدها، فهي ليست في حاجة إليها كي ترى الأطلنطي. تبدو له الأشياء وكأنها بعيدة الحدوث، ولكنه بعد فترة يراها وكأنها حقيقة بسيطة: حفيف الشجيرات، ثم بنطلونها (بالطبع ذو اللون الأزرق الفاتح الباهت) وقدماها على الدرب، وخلف الأغصان الكثيفة والفروع شعرها المائل للحمرة. عاد ذهابها للسيارة عليه بالنفع: Your pipe.١ ثم تسير أمامه مرة أخرى، وتنحني هنا وهناك تحت الغصون المتشابكة، وينحني تحت الغصون نفسها عندما تكون قد استقامت في سيرها خلال الأدغال. طريق كالدرب الضيق، ليس دائمًا واضحًا، درب غير مطروق. في البداية سار في المقدمة؛ فهو الرجل، وهي تجهل المنطقة مثله تمامًا. ذات مرة اعترضتهما حفرة موحلة حيث كان لا بد أن يساعدها، منذ تلك اللحظة تتقدمه هي في السير. هو يفضل ذلك أيضًا. تشي مشيتها الرشيقة السريعة بأنها مبتهجة. لا يمكن أن يكون الأطلنطي بعيدًا. نورس وحيد يطير فوقهما. أثناء السير يحشو غليونه متعجبًا من دون أن يرغب في معرفة سبب تعجبه. في بعض الأماكن يفوح أريج زهور، لا يدري أي زهور هذه فالنباتات غريبة عليه. تعهد لها بأنه سيجد السيارة في أي وقت، ويبدو أنها تثق به. حتى يشعل غليونه كان لا بد أن يتوقف هنيهة. الرياح عاصفة. احتاج إلى خمسة أعواد من الكبريت. في تلك الأثناء كانت قد واصلت سيرها حتى إنه للحظات لم يعد يراها؛ لحظات أحس فيها أنه يتوهم أو يتذكر شيئًا غاب في دهاليز الذاكرة: هذه التمشية مع امرأة شابة. في الحقيقة هناك دروب عديدة ضيقة، أو ما يبدو كالدرب؛ لذا توقفت عن السير: والآن، إلى أين؟ لقد ترك الخريطة التي اشتراها بالأمس في السيارة، ولم تكن لتفيد أيضًا في منطقة كهذه. في اتجاه الشمس يسيران. ليس هذا دربًا لتبادل الأحاديث. حيثما تقل الأشجار يمكن إلقاء نظرة على المنطقة بأكملها، ليست غريبة رغم أنه لم يكن هنا أبدًا. ليست هذه اليونان؛ النباتات هنا مختلفة تمامًا. ومع ذلك يفكر في اليونان، ثم يفكر ثانية في جزيرة زولت في بحر الشمال. الحضور الدائم للذكريات يضايقه. منذ نصف ساعة يسيران. يريدان رؤية الأطلنطي. لا شيء آخر يفعلانه؛ لديهما وقت. ليست هذه كذلك منطقة بروتاني الفرنسية، حيث كان آخر مرة على البحر قبل عام. النسيم الساحلي نفسه. ربما يرتدي القميص نفسه، والحذاء نفسه — كل شيء بعد مضي عام. إنه يعرف أين هما الآن:

Montauk

اسم من لغة الهنود الحمر؛ يُطلق على قمة لونج أيلَند الشمالية، على بعد مائة وعشرة أميال من مانهاتن، ويمكنه كذلك أن يذكر التاريخ:

١١ / ٥ / ١٩٧٤م

تتدلى الغصون فوق الدرب، الأمر الذي يجبرهما على الانحناء عند المرور تحتها؛ أيضًا يعوق سيرهما بين الحين والآخر أحد الأغصان الجافة على الأرض، عندئذ تقفز فوقه. رشيقة للغاية، ولكن ليست جلدًا على عظم. شمرت «البلوجينز» حتى بطن ساقيها. ردفاها داخل البنطلون المختصر الذي ترتديه بلا حزام، وفي أحد الجيوب الجانبية يبرز مشط. ليست أطول منه ولا أقصر. لكنها خفيفة. يصل شعرها عندما يكون محلولًا إلى خصرها؛ لكنها الآن قد عقدته ذيل فرس أحمر يتأرجح عند السير. لا بد من الالتفات إلى الدرب الضيق، إذا كان يمكن تسميته دربًا؛ لذلك، ولأنه كان مترقبًا ربما ليستطيع أن يخمن أي الطرق ينبغي أن يسيرا فيها حتى يخرجا من الأدغال، فإنه لا يرى هيئتها إلا بين الوقت والآخر. يلمح بلوزتها الفاتحة في الشمس. كذلك شعرها يبدو الآن في الشمس فاتحًا. مواصلتهما السير تتوقف في معظم الأحيان على تقديرهما للأمر؛ لا درب هنا. أحيانًا تخطو خطوات واسعة حتى تصل قدمها إلى حجر أو جذع شجرة، ساقاها الطويلان، إلا أن خطوتها واسعة جدًّا حتى إن جسمها العلوي لا يتبعها إلا بصعوبة. لعلها ستقوم بالحركة نفسها إذا كانت بمفردها: حركة الرأس العنيفة هذه، حتى تلقي بذيل الفرس خلف كتفيها. تزداد شكوكهما حول احتمالية وصولهما إلى الساحل، لكنهما يواصلان السير. ثم مرة أخرى، ولبرهة، تبدو وكأنها تسير على حبل، قدم أمام أخرى كراقصة على الحبل، تفعل ذلك وجذعها يبحث بليونة عن التوازن، ويجده. لم تلُح في الأفق بعدُ أي كثبان رملية؛ ولا نَورس في السماء. في إحدى اللحظات ظلت واقفة كي تشمر أكمام بلوزتها؛ الجو حار في هذه المنطقة المنخفضة، لا أثر لرياح البحر. عندما يقفان — مثل الآن — أحدهما بجوار الآخر فإنه يشعر بحضورهما الغريب معًا. يلاحظ أنه يضع يديه في جيبي بنطلونه. الغليون البارد في الفم. وجهها: لم ينسه، لكنها ترتدي تلك النظارة الداكنة الكبيرة التي تخفي عينيها. شفتاها أثناء النهار نحيفتان، وغالبًا ساخرتان.

How did I encourage you?

لم توجه السؤال الآن، ولكن بالأمس أثناء الرحلة إلى هنا؛ من الواضح أن الأمر يدهشها، كما يدهشه عندما — كالآن — يقف بجانبها.

When did I encourage you?

حجزوا له على طائرة يوم الثلاثاء

في البداية اعتقدَ أنها واحدة من المُصوِّرات الساحرات اللائي يرافقنه في مثل هذه المناسبات: تقرفص فجأة ثم تضغط على زر الكاميرا، وتطلب منه أن يجلس بطريقة معينة، وفي كل مرة عندما يكون المرء قد نسيها أخيرًا فإنها تضغط ثانية على الزر، مرة، مرتين، ثلاث مرات، أربع مرات. لكنها لا تحمل كاميرا. إنها فقط تجلس معه وتصمت، لا تزعج، بينما يمطره رجل من جريدة بائسة لمدة ساعة كاملة بالأسئلة، على شاكلة Have you been in this country before?. مقابلة تدور حول شخصه: Are you married, Where in Europe are you living, Do you have children?، إلى آخر تلك الأسئلة. كل هذا أصبحت تعرفه هي أيضًا عنه، هذه الشابة. ذات مرة رفعَت سماعة التليفون عندما رن، إذ كانت تجلس بجواره، وأنهت الأمر على أفضل نحو؛ أشكرُها. ينتابني السرور عندما أسمع هذا السؤال What are you going to write next, play or novel or another diary?، لأنه يكون دائمًا آخر الأسئلة، أو قبل الأخير على أسوأ تقدير. أُصرح للرأي العام الأمريكي: الحياة مملة، لا أمرُّ بخبرات جديدة إلا عندما أكتب. في الحقيقة ليست هذه دعابة؛ رغم ذلك فإنه يضحك. هي لا. فيما بعد، وأنا أمسك لها السترة الوبرية، سألتها تهذبًا عن اسمها مرة أخرى. فأجابت: «لين»، وكأنني لا أحتاج سوى معرفة اسمها الأول. شعرها الطويل المحلول يضايقها عند ارتداء الجاكت، لا أستطيع أن أساعدها هنا، ليس ذلك بمقدور يدي. سؤال آخر، الأخير: Do you consider yourself a doomed man? فيما بعد ألاحظ أنها نسيت سجائرها وولاعتها. تظل الولاعة أسبوعين تحت المصباح، ولاعة رخيصة خضراء.

ما الذي أفعله هنا على وجه التحديد؟

بمقدور المرء السير في الشوارع من دون معطف. عند الوصول هبت عاصفة ثلجية، ثم أصبح الجو ربيعيًّا مرة أخرى … هدموا سجن النساء على الناصية، تلك البناية الضخمة من الطوب البني المحروق، مكانه الآن ساحة رملية محاطة بأسلاك شائكة. الحمام يهدِل في القفص، لكنه يستطيع الطيران وقتما شاء. عدا ذلك لم يتغير سوى القليل خلال عامين. الأشجار الصغيرة في الشارع التاسع التي زرعوها عندما كان موجودًا ما زالت نحيفة وهزيلة، لكنها خضراء. (يا لشجاعة الكلوروفيل!) في السوبر ماركت، حيث أتناول فطوري هذه المرة أيضًا، يقوم الأفراد أنفسهم بخدمة الزبائن. سيارات التاكسي الصفراء، أكياس القمامة السوداء اللامعة في الشارع، صفارات سيارة المطافئ الحمراء. في الفندق تعرفوا على الزبون القديم: Did you have a good time? غرفة أخرى غير تلك التي حصلت عليها قبل عامين، الأثاث هو هو، لم يتغير: الطاولة الصغيرة وعليها لوح من المرمر حيث يستطيع المرء أن يمد ساقيه فوقه، الأباجورات الطويلة الصفراء، فرش السرير الأصفر، السجادة خضراء، كنبة مريحة بلون البول، كرسيان مبطنان من اللون ذاته، الأزيز المألوف الصادر من «الإيركونديشن» الذي يستطيع المرء إغلاقه؛ كما يستطيع المرء فتح النافذتين قليلًا برفع الإطار المتآكل. ألواح الزجاج قذرة دائمًا. لا بد من الاحتراس إذا أراد المرء إلقاء نظرة على تقاطع الشوارع إذ إن حاجز هذه النوافذ منخفض. في الأحلام فقط يستطيع الإنسان الطيران بقوته الذاتية.

May I introduce you? ٢

ثم لا أصغي إلى الاسم، أو أنساه على الفور، أنهض وأجيب. لا أعرف دائمًا هوية مَن أجيبه. لماذا يفعل المرء ذلك؟ لا بد من ذلك (كما ترى دار النشر) من أجل الكتاب.

لين

باستطاعتي أن أتلفن تحت أي حجة متعلقة بالعمل. ربما العشاء معًا. بمجرد أن أُعجب بامرأة أشعر بأنني أكلف نفسي فوق طاقتها.

Hudson

عدة نوارس سمينة على حاجز الأمواج؛ اللقاء مع الانعكاس الزيتي على صفحة الماء. ما زالت الباخرة العتيقة راسية. عَلِقت بالسلاسل لُحى من الطحالب. تطير هليكوبتر، تهب الرياح، والمياه السوداء تصفق حاجز الأمواج الذي كان خشبه متآكلًا منذ عامين أيضًا. ترقد سفينة شحن كبيرة بيضاء هامدة بلا حراك — ربما ستقلع في اليوم التالي، Statendam، في الريح يرفرف علم هولندي. في الخلف الطريق السريع القديم الذي يصلحونه الآن. وما زال هناك أيضًا البار الصغير المظلم حيث يلعبون البلياردو Blue Ribbon، الحروف الضوئية حمراء في لون عصير أثناء ساعة الغسق. أما غربًا فهناك منظر الشمس التي تغرب لتوها بابتذال. أمامه سفينة شحن طويلة سوداء. عدة أفراد على حاجز الأمواج يمشون الهوينى مثلي. شاب أسود يقود دراجته بطريقة لولبية. متحابان، لا تبدو هيئتهما إلا كظل، يجلسان متعانقين متشابكين على حافة الحاجز العريضة. عجوز مع كلب. كلب آخر بلا صاحب. الحبال الطويلة السميكة المصنوعة من القِنَّب. علبة بيرة فارغة من الصفيح تبدأ في التدحرج بفعل الريح.

American Academy of Arts and Letters

أنهضُ وأُعربُ عن شكري.

Museum of Modern Art

أتهرب من الفن وأجلس في الفناء ذي الحديقة طوال الضحى. ربما لا يثير الفن اهتمامي عندما أكون بمفردي. أستمتع بجلوسي هنا تحت الأشجار. أجلس في هذا الفناء (مور، بيكاسو، كالدر … إلخ) منذ عشرين عامًا وأكثر:

١٩٥١م.

١٩٥٦م.

١٩٦٣م.

١٩٧٠م.

١٩٧١م.

١٩٧٢م.

في الطريق ينتابني مرة أخرى الشعور بأن الجسم أصبح أخف، خفيفًا تمامًا، وكأن الجاذبية قد قلت مع السير الطويل: كل ما أراه يبدو سهل التحقق، عليَّ فحسب ألا أبوح، بل أن أفعل.

سنترال بارك:

علمني أحد الحراس أن السنجاب المشهور ليس سنجابًا، وإنما هو نوع من جرذان الأشجار. السنجاب كان يعيش هنا منذ فترة مضت. لون جرذان الأشجار ليس أحمر كالسنجاب، غير أنها ليست أقل رقة. باستطاعة المرء أن يرقبها عدة دقائق؛ إلى هذا الحد تبلغ ألفة الجرذان بالناس. الفارق بينها وبين السنجاب أنها تلتهم السنجاب.

White Horse ٣

يتفادى الكاتب تلك المشاعر التي لا تصلح للنشر. ينتظر عندئذ أن يتناول الأمر بسخرية. ما يستقبله بحواسه، يُخضعه للسؤال عما إذا كان جديرًا بالوصف؛ لا يحب أبدًا أن يمر بخبرة لا يستطيع أن يصوغها في كلمات. مرض المهنة هذا يدفع ببعض الكتاب إلى إدمان الشراب.

Sanitation

ما زلت أستيقظ مبكرًا جدًّا. قبل أن يبدأ الناس برنامجهم اليومي، يسحبون كلابهم عبر الشوارع، صغيرها وكبيرها. يمسكون بالحزام بينما تبول الحيوانات أو تتبرز. ساعة للكلاب صباحًا، ساعة للكلاب مساء. فلتحذر إذن أين تخطو. يلفت النظر مدى تعلقهم بكلابهم. الناس هنا يشعرون باحتياجهم إلى الحب. يتركون الكلاب المتشممة تسحبهم من موضع إلى آخر، وينتظرون بلا تبرم، حتى لو هطل المطر. أمام إشارة المرور الحمراء فقط لا يستجيبون إلى كلابهم ويقاومون الشد والجذب إلى أن يُضاء الضوء الأخضر. الخراء في كل المنطقة. لدى البعض أكثر من كلب واحد. منطقة يملؤها الاحتياج إلى الحب. السيارة البيضاء بالمكنسة الدوَّارة لا تصيب كل الأهداف؛ هناك دائمًا مخلفات.

Long Distance ٤

بكاء امرأة عبر التليفون يشعره بالعجز، العجز التام؛ يشعره باستحالة أن يمسك بمعصمها — ولو أن ذلك لن يغير من الأمر شيئًا.

Fifth Avenue Hotel

يميل لون السجادة نهارًا (بدون ضوء الأباجورة الصفراء) إلى الأزرق وليس الأخضر. في هذه اللحظة تسطع أشعة الشمس فوقها مكونة مربعًا غير متوازٍ، لكن الهواء حول الساقين بارد. كنت أقرأ وأفكر فيما أقرأ: وفجأة ذلك الشعور بذاكرة البشرة: ربيع، نعم، أنت! أشعر بالشمس تحديدًا فوق هذه السجادة التي أعرفها، إذ إنني قبلتها ذات مرة. بك أنت أحسستُ! وفجأة لا تفيد قراءة أي كتاب (Fiction)٥ في مواجهة ذاكرة البشرة هذه التي يزداد شعوري بها بسبب تلك البرودة حول الساقين فوق الجوارب؛ ليس شدو الطير هو الذي ينفذ من الشباك المفتوح، وإنما ضجيج المرور في مدينة كبيرة، ضجيج بعينه يتكون مع انطلاق الباصات عند الضوء الأخضر في تقاطع الميدان الخامس مع الشارع التاسع. مرة أخرى أضع قدمي بالحذاء فوق الطاولة المنخفضة وأتناول المكسرات من كفي الجوفاء.

My greatest fear: Repetition

طالبة أمريكية من مدينة يل لا تسأل تلك الأسئلة المعتادة التي يكررها نقاد أدبي، وإنما تسأل: هل يريد بطل روايتك «شتيلر» خلاص البطلة يوليكا فعلًا، أم أن ما يهمه في المقام الأول أن يكون هو مخلصها؟

Washington Square

لاعبو الشطرنج يقفون على الطاولات الحجرية العامة المزودة بالأشكال الشطرنجية المقاومة لتقلبات الطقس. فوقهم الخضرة وزقزقة الطيور. غالبًا ما أظل واقفًا هناك لمدة طويلة، واقفًا فحسب؛ فأنا لا أجلس أبدًا. اليوم سألني شخص، شخص أسود، إذا كانت لدي رغبة في أن ألعب معه. ليس باللاعب الممتاز، كما لاحظت من قبل، ومع ذلك لا أجرؤ على اللعب معه. هل لا أتقبل الهزيمة؟ أم لا أتقبل النصر؟ لأنه لا يثمر شيئًا؛ على العكس، بعده يمسي وعيي بفشلي المنزلي أكثر إلحاحًا.

Commerce Street 15

لا أريد أن أسكن مرة أخرى في أي من البيوت التي سبق لي السكن فيها، ولا حتى في ذلك البيت المريح. غرفة في كل طابق. في القبو مطبخ مثالي، ومائدة لتناول الطعام حيث يشعر المرء وكأنه في كابينة قارب، لا بد من إشعال الضوء حتى أثناء النهار؛ من خلال النوافذ الصغيرة لا يرى المرء زبد البحر، وإنما الثلج المتراكم فوق الرصيف، سيقان المارة في الجليد والوحل الثلجي، وسيقان الكلاب الأسرع. في أعلى المنزل، حيث حاولت أن أعمل، يشعر المرء بالاهتزاز على أشده؛ ضجيج عربات النقل الثقيلة التي تجر خلفها مقطورات ثقيلة تبدأ قبل انبلاج الفجر بوقت طويل، وعندما تصمت — لأنها مجبرة على الانتظار دقيقة أمام إشارة المرور — يسمع المرء ضجيج مترو الأنفاق. رغم ذلك فإنني أشعر وكأن الهدوء يسود المنزل؛ هدوء وكأنني أصم. أزيز الثلاجة الخافت، خطواتي، خشخشة الورق عندما أقلب صفحات الجريدة. أسمع الخطابات تُلقى من فتحة الباب، أسمع المفتاح وهو يوضع ويدور في قفل باب الشقة. هل كنت أصم؟ أسمع ما يقال لي وأصدقه. استمعت أيضًا إلى أسطوانة عليها صوت هدير البحر الحقيقي (حتى لا يسمع المرء ضوضاء الشارع)، هدية لطيفة.

سمعنا بابلو نيرودا وهو يلقي من أشعاره.

Via Margutta ٦

هذا من تأثير الهواء الدافئ، الضوء: فجأة أنا في روما. الخلفية المعمارية وحدها لا تتناسب مع ذلك، وهو ما ألاحظه. لا أعلم ماذا أفعل في روما؛ فقط أنا الآن، لبرهة، في روما.

Goethe House

الإنسان الناجح ذو المكانة يمكن أن يبدو أبله كفرس النهر. النساء لا يعاشرنه فحسب، بل إنهن — من غير أن يطلب أحد — يُظهرن جاذبيتهن بلا تحفظ تقريبًا. في الشارع، وأنا أسير مجهولًا في الزحام، يعاودني الشعور بأنني أبله تمامًا.

Eight Street Bookstore

أن يستطيع الإنسان أن يقف في دكان يبيع الكتب بالرغم من انتصاف الليل … اشتريت قاموس لانجنشايت الصغير الأصفر، لكي أحرج ذاكرتي في كل مرة أكشف فيه عن كلمة؛ إذ إن المرء كان يعرفها يومًا ما:

Sensible/Sensitive/Sensual

خبر وفاة كونراد فارنر في زيورخ أقرؤه في المصعد من دون أن يفوتني النزول في طابقي. استراح كونراد فارنر من أشياء كثيرة، كدائرة من الأصدقاء يتكاثر الموتى حولي.

Olivetti Lettera

لم أستطع أن أتحكم في نفسي — اشتريت آلة كاتبة صغيرة دون أي نية أدبية. (فشلت للمرة الرابعة في إتمام قصة أدبية تجري أحداثها في إقليم التيسين؛ موقف القاصِّ غير مقنع). هذا الهوس: كتابة جمل على الآلة الكاتبة.

Pro Memoria

أثناء سيره إلى المقصلة طلب أحد النبلاء الفرنسيين ورقًا وريشة حتى يسجل شيئًا، فأُجيب إلى طلبه. يمكنهم أن يعدموا ما سجله إذا كان موجهًا إلى أي شخص. ليس هذا هو الحال. إنها ملاحظة له وحده فقط: للذكرى.

ما يجب عليَّ أن أفعله في نيويورك، كان من الممكن فعله في زيورخ أو برلين أيضًا. لقد فعلته في برتسونا (تيسين)، على ما أعتقد. في روما؟ تلويث البيئة من خلال العواطف التي لا يمكن استخدامها بعد الآن — شيء متعفن لأنني لم أبح به أبدًا، أو لم أكن أبدًا صادقًا بالقدر الكافي، لم أقم بفعل الوداع عن وعي. حان الوقت لذلك. حلمت قبل أمس أنهم سوف يعدمونني الأربعاء القادم، ولا أفهم لماذا الأربعاء القادم، أنا بصحة جيدة، هذا التسلط الظالم من جهة حكومية لا تعلم شيئًا على الإطلاق، جهة من دون عنوان؛ ولا سبيل لتقديم اعتراض.

حلم آخر

يتهامسون. من؟ يقولون إن تابوت أبي تحطم، وهو ما لم أره، ولكنني أتخيل حدوثه. سيُجن المرء من ضيق المكان. يناولونني شيئًا حلوًا مما يعزُّون به الأطفال. مارة. فجأة لا أفهم لماذا ينبغي أن أرقد في التابوت. لقد صعِدوا إلى ما يشبه الزورق، كلهم بملابس سوداء، يقفون في هذا الزورق ومعهم مجاديف طويلة. بحيرة زيورخ. لا أحد يمنعني، أعدو، أجد عارضة خشبية طويلة معلقة على حاجز، خشبة نجاة يمكن استخدامها في الطوارئ مجدافًا؛ لكن الأمر صعب لأن العارضة بلا حافة لجرف المياه. سأريهم. لا أستطيع التذكر على أي شيء أقف؟ جذع شجرة، لوح خشب؟ أقف وأجدف مقتربًا منهم. كشف لي شخص عن وجهتهم. عندما استطعت أخيرًا اللَّحاق بهم والتجديف بجوار زورقهم فإنهم لا يتحدثون معي. أسمع ما يقولون. ليس بكم حاجة إلى الهمس! ولكنهم لا يتهامسون على الإطلاق، يقولون: ستنفجر رئته الآن. لا يراودهم شك في أنني قد انتهيت. هذا ما كان ينقصني — أن أجدف. اعتقدوا أنني سآخذ الأمور على محمل هين، لن أسبب لهم متاعب، لن أقاوم. يبقى الأمر دون تغيير: نُجدف للحاق بالجنازة. لا أفهم ذلك لأنني — كما يرون — ما زلت قادرًا على التجديف. لم يعد أحد يتحدث معي. الوقت ضيق.

Trattoria Da Alfredo

أعترف بأنني لم أكتشف هذا المطعم مصادفة. لقد بحثت عنه وكأن هناك شعورًا لا بد من تعويضه: a cause d’une femme.٧ لا أريد أن يتعرف عليَّ أحد هنا، لذا لا أقف إلا لإشعال الغليون؛ وكأنني أحد المارة الذين لا يعنيهم المكان في شيء. الشعور بالخجل لأنني أقف هنا بعد مرور عامين؛ في انتظار الضوء الأخضر. على فكرة، لم أر المطعم الصغير إلا من الخارج؛ المقاعد فوق الموائد الصغيرة. فما زلنا في بداية الضحى. لرؤية المطعم من الداخل لا بد من تقريب الوجه من لوح النافذة العاكس، ووضع كلتا اليدين فوق العينين لتفادي الانعكاس. لم أفعل ذلك. فزعت عندما رأيت هيئتي على اللوح الزجاجي. عندما تخضر الأشجار فإنني أعرف: حكاية طبيعية. هل أطلقت الرصاص؟ على كل حال نسيت الآن إلى أين كنت أريد الذَّهاب، لكنني أواصل السير. دون معطف. في الجو برودة، ربيع مثل ذلك الربيع، ضحًى ذو سماء زرقاء صافية ورياح بحرية. أثناء سيري أقرأ بتمعن كل إعلانات الدعاية، على الرغم من أن عليَّ فعل أشياء أخرى.

على الإنسان تحمل عبء الحقيقة

لا تطيق هذه الجملة. قول مأثور. تراه قولًا مبتذلًا. ماذا تعني كلمة حقيقة؟! اختلفنا حول معنى الابتذال.

My Life as a Man

هذا هو عنوان الكتاب الذي أحضره فيليب روث بالأمس إلى الفندق. لماذا أخشى عنوان الكتاب مترجمًا: حياتي كرجل؟ أريد أن أعرف أي خبرات سأمر بها — وأنا أكتب تحت ضغط الفن — فيما يتعلق بحياتي كرجل.

جاكومتي

معرضه مُقام في هذا المتحف الذي لا يُطاق ذي الطريق اللولبي الصاعد. افتتاح المعرض بحضور الفنان، آلاف من البدل السموكِنج مع سيدات في فساتين سهرة طويلة؛ ثم صورته الفوتوغرافية كبورتريه بحجم أكبر من الطبيعي: هذا الوجه! … مَن أو ماذا يمنح الإنسان مكانة؟ الإنجاز إلى حد ما. هل يمنح المرء ذاتَه المكانة؟ الفاشل أيضًا قد تكون له مكانة. من خلال ماذا؟ المكانة لا تعني الشهرة. أعرف مَن فَقَدَ الشهرة أثناء حياته؛ لكن بقِيَت مكانته. ليست المكانة هي بريق المنتصر. في أي شيء تتجلى المكانة؟ قابلت أشخاصًا لهم مكانة، رجالًا ونساء، شيوخًا وشبابًا، مشاهير وآخرين. لم ألتقِ جاكومتي في يوم من الأيام. لقاء مَن يتمتع بمكانة (ليس من الضروري أن يكون من التخصص نفسه) يمنح المرء شجاعة غريبة؛ إنهم لا يلجئون إلى المديح حتى يشجعوا الآخرين. سواء كانوا يوافقون أو يعارضون فإنهم يمنحون الآخرين شأنًا؛ ويخوضون معركة أخرى في انتظار الحصول على مكانة. مثل هذا التوقع قد يخيب بالطبع. عند ذوي المكانة لا يكون توقع المكانة بلا تبصر، ولكن بغض النظر عن النجاح أو عدم النجاح: إنهم هم الذين يضعون المقاييس التي يتبعها آخرون. هذا بالتأكيد هو ما يميزهم، أكثر من إنجازهم الذي لا يستطيع الآخر تقييمه في كثير من الحالات. مكانتهم تضفي بريقًا على إنجازهم. ليسوا دائمًا لطفاء، لكنهم واثقون من توقعاتهم حتى عندما يتصرف أحدهم أحيانًا دون مكانته. يأخذون شكوكهم الذاتية بجدية، لكنهم لا ينزلقون إلى اتهام الذات كالآخرين الذين — إذا لم يفرط الآخرون في الاحتفاء بهم — يتخلون فورًا عن توقعاتهم، ويتواضعون بطريقة تستصغر كل شيء؛ كل شيء حقًّا.

ربات الانتقام الإغريقية

إنهن لا يمزقن المرء، يقفن فحسب في ركن ما: هنا في الأعلى، في الطابق الثالث، سكنتَ ذات مرة، Waverly Place/Christopher Street، قبل ثلاثة وعشرين عامًا. كأنني لا أعلم ذلك! لم أُلقِ ولا حتى نظرة إلى أعلى الواجهة، ألحظ أن الدور الأرضي يشغله الآن دكان آخر، آنذاك كانت هناك بقالة، مقززة. كان دخلي مائتي دولار في الشهر، وإيجار الشقة مائة دولار في الشهر. ذات مرة سقط من يدي أصيص زهور كان على حافة النافذة ولم يُصِب أحدًا.

أين ستمسك بخناقي ربات الانتقام؟

وجدنا مؤخرًا كلمة لذلك: نوبة. في كل مرة ينتابها الفزع، أعرف، ولا تستطيع فهم الأمر على الإطلاق. مع أن الأمر لا يسبب أي خطر جسدي يهدد الشريك؛ تخطئ إذا كان هذا ما تخشاه؛ ليس ثمة أدنى غواية لذلك. إذا حدث اشتباك بالأيدي فهو ضدي أنا نفسي: لكي أعبر عن ذاتي. أحسب أنني أفهم، أفكر، أعرف؛ دون مراعاة لأحد. في البداية كنت شبه مسترخٍ، دون مراعاة لنفسي أو لأي أحد. لا أصرخ، في البداية على الأقل، إلا إنني أغدو شخصًا لا يمكن مخاطبته، حتى عندما أصغي لبرهة من الوقت. الحقيقة التي أحاول التعبير عنها، الحقيقة التي أتوصل إليها في تلك اللحظة نادرًا ما تكون حكمًا ببراءتي. قد يكون السبب شيئًا تافهًا، لعله من المثير للاستهزاء مجرد ذكر تلك التوافه. أنا أعتبرها إشارة، وبالتالي ليست من التوافه، إشارة ذات معنًى محدد تمامًا بالنسبة إليَّ، حتى إنني لا أكاد أطيق أي تفسير آخر لها، ناهيك عن أن يكون تفسيرًا مهوِّنًا. لا اتهامات، كلا، أنا أتحدث عن معرفة. هكذا يبدو الأمر بالنسبة إليَّ. في اللحظة الراهنة، دون أي خوف من العواقب التي أراها. الخطاب (المونولوج) الذي ألقيه تفوح منه رائحة الإعدام — ليس بدافع الكراهية. ماذا على الشريك أن يفعل؟ عليه أن يفهم ما لا أقدر التعبير عنه؛ عليه أن يبدي موافقته. لا أطيق ذاتي. عندئذ لا يمكنني أن أستيقظ كالحالم الذي يستيقظ من حلم لا يُطاق. على النحو الذي أرى فيه الأمر في هذه اللحظة، يكون الأمر في الحقيقة، هكذا وليس على أي نحو آخر؛ وأشعر بأنني على استعداد. لأي شيء؟ ثم أكرر نفسي، أعرف. لا عودة إلى العقل، التعقل يجرحني، يهينني، بل ويحرر الغضب من قيوده. مع أنني كنت في البداية مسترخيًا تمامًا؛ ما قصدته ليس اتهامًا، بل هو أهم: الحقيقة، حقيقتي أنا. عندما أمزق قميصي، فأنا أعني بشرتي. أتوجه بالرجاء، ولكن من الواضح أن الوقع على الأذن يكون مختلفًا كل الاختلاف؛ أتضرع. كل ما أقوله الآن لن يكون إلا جارحًا. لا يخطر على بالي شيء آخر. في هذه اللحظة أود الموت مقابل أن أعبر عن نفسي مرة واحدة بطريقة مفهومة، دون أن يطلب أحد ذلك. بعدها أدرك أن غضبي كان هباء، لم يحل أبدًا أي مشكلة — وفوق ذلك عليَّ أن أعتذر.

Sweet’s

يقولون إنه أعرق مطعم سمك في المدينة. مبنى بسيط في السوق القديمة، آيل للسقوط منذ سنوات. مَن لم يسمع به من قبل، لن يدخل هنا أبدًا. في الظهيرة — عندما يتناول العاملون في «وول ستريت» طعامهم — لا يحصل المرء على مائدة إلا بصعوبة بالغة. لقد أحضرت أصدقاء عديدين إلى المطعم منذ أن عرَفته. إنهم يقدمون هنا — بالإضافة إلى أطباق السمك بمختلف ألوانها — نبيذًا أبيض حلو المذاق، نبيذًا أمريكيًّا ممتازًا. تحت طريق السيارات العلوي يرى المرء البريق: النهر الشرقي East River. لم تكن لين أيضًا تعرف المطعم. إنه يعجبها؛ ليس هو بالمطعم الأنيق إطلاقًا. توسطَت مرة أخرى من أجل حديث صحفي، وظيفتها. شعرها الطليق ونظارتها: حورية، وإلى حدٍّ ما ممرضة. في الصيف ستسافر مع والديها إلى اليونان، نصائحي القيمة احتفظت بها لنفسي؛ Guided Tour. لأن لين لم تقرأ شيئًا مما نشرته، فإنني أستمتع بأن أدعي العكس على طول الخط: السياسة لا تهمني، مسئولية الكاتب تجاه المجتمع، وكل هذا الهراء … الحقيقة هي أنني أكتب لأعبر عن نفسي. أنا أكتب لنفسي. المجتمع — أي مجتمع — ليس رب عملي، لست كاهن المجتمع، ولا حتى ناظر مدرسته. الرأي العام كشريك؟ أقابل شركاء أكثر صدقية. إذن، أنا لا أنشر لأنني أعتقد أنه يجب إسداء النصح إلى الرأي العام أو هدايته، وإنما لأن الكاتب في حاجة إلى جمهور متخيَّل حتى يستطيع أن يتعرف على ذاته أساسًا. ولكنني في الأصل أكتب لنفسي … لين لا تعترض إطلاقًا؛ يقع الكلام على الأذن أكثر إقناعًا (بالنسبة إليَّ أيضًا) مما كنت أعتقد.
You are a rich man, I am sure, but this is a business lunch, you should not pay for this, it’s just silly.٨
مؤخرًا (ها قد مضى على ذلك الآن عدة سنوات) رأيته مصادفةً في أحد شوارع زيورخ (ليماتكفاي)؛ أصبح رجلًا ثقيلًا. كنا زملاء في المدرسة الثانوية نفسها في زيورخ. لا أعرف إذا كان قد تعرف عليَّ أيضًا؛ لم يلتفت، وتأثرت بشدة لأنني لم أسِر وراءه فورًا وظللت واقفًا. وهكذا لم أعد أراه إلا من الخلف. بلا قبعة. كتفان عريضتان، طويل جدًّا، لا يمكن أن يخطئه المرء في الزحام، وأنا رأيته من الأمام. كان يحملق أمامه، غارقًا كما يبدو في أفكاره؛ الآن ينكس بصره إلى أسفل على الأسفلت، وكأنه تعرف هو أيضًا عليَّ. إنه يعرف، وأنا أعرف ماذا فعل من أجلي. إنني حتى لم أنادِ عليه عبر الشارع كي يستدير. ما الذي سيفعله «ف» بالشكر الذي أدين له به مدى حياتي؟ أعرف كذلك أن كفتي على وجه الإجمال ليست راجحة أمامه. كان دائمًا أول الفصل، ليس عن حب في التفوق؛ كان أذكى من الآخرين، شاعرًا بعبء أن يكون أذكى، لذا تميز بالدقة أيضًا، كان مديح المدرسين يحرجه بالأحرى. حتى لا يظهر في صورة التلميذ المثالي كان يتصرف أحيانًا بفظاظة بالغة مع المدرسين. بعد المدرسة كنت أصحبه إلى البيت، وهو ما يطيل طريقي كثيرًا، لكنه كان مكسبًا؛ عن طريقه سمعت لأول مرة عن نيتشه مثلًا، عن أوزفالد شبنجلر، عن شوبنهور. والداه كانا بالغي الثراء. لم يمثل له ذلك أهمية، لم يكن سببًا لثقته بنفسه. أن يقوم برحلة حول العالم مثلًا — ما سيُسمح له به بعد الحصول على الثانوية العامة — كان بالنسبة إليه أمرًا مستبعدًا، السيارة أيضًا؛ كل السطحيات كانت تنفره. كان كائنًا فلسفيًّا؛ كنت أندهش لتنوع الأشياء التي يفكر فيها عقله. كان يتمتع أيضًا بحاسة موسيقية رفيعة، على العكس مني؛ أمسيات بطولها وهو يُسمعني أسطوانات لباخ وموتسارت وأنطون بروكنر وآخرين لم أكن أعرف حتى أسماءهم؛ كان يقول: ليس هناك إنسان عديم الحس الموسيقي. كنت أكتب للصحف، ويملؤني الفخر عندما تُطبع تلك الأشياء الصغيرة؛ حب الظهور لديَّ، أعتقد، هو أول الأشياء التي خيبت أمله فيَّ. كان لا بد أن أكسب نقودًا، بالطبع كان يتفهم ذلك، ولكن ما أكتبه كان مخزيًا بالنسبة إليه. شجعني على الرسم، فالموهبة، في رأيه، لا تنقصني. أحكامه عن الفن التشكيلي كانت كذلك غير مألوفة، ليست ثمرة قراءة فحسب، بل نابعة من حساسيته الخاصة. لكنني لم أتجرأ وأرسم رغم تشجيعه لي، إلا إنني تعلمت منه قراءة اللوحات. سرعان ما غدت الهوة بيننا في المفاهيم الفلسفية أوسع من أن أكون محاوره؛ لم يعد يقول لي ماذا يقرأ في الوقت الراهن إلا نادرًا، ومن المحتمل أنني نسبت إليه هذا الرأي أو ذاك مما كتبه سيجموند فرويد، دون أن يكون قد قصد خداعي. ببساطة كان أمرًا غير مُجدٍ إذا ذكر لي مصادر استشهاداته التي كنت أجهلها. لذا شجعني على الرسم. أما هو فقد توقف من جديد عن عزف التشيلو لأن عزفه — رغم تفانيه في التدريب — لم يصل إلى المستوى العالي الذي طمح إليه؛ يداه، هكذا قال، أثقل من أن يتقن العزف. كان «ف» عمومًا يثقل على نفسه. كان والداه يعرفان بالطبع أنه لن يتولى أبدًا مسئولية قيادة الشركة؛ فقط في الفترة الأخيرة انضم إلى مجلس الإدارة، ولم يفعل ذلك إلا كارهًا. درس الطب لفترة، واجتاز الاختبارات الأولى؛ لم أفهم تمامًا لماذا كان عليه التخلي عن الطب. على كل حال لم يحدث ذلك بسبب رعونته. بعدها انشغل بالرسم، وكان يستولي عليَّ الإعجاب لما يبدعه؛ لم تتسم لوحاته أبدًا بالتفرد، لكن بالجموح. إنسان غير عادي. عبؤه كان ولا شك أثقل منا كلنا. بالمناسبة، كان يفوقني جسمانيًّا أيضًا. كان لوالديه ملعب تنس خاص في الحديقة. أهداني «ف» — لأنني كنت تقريبًا معدِمًا — مضاربه المستعملة حتى نستطيع اللعب معًا. لم يكن يلعب ليكسب، لكنه ببساطة كان يلعب أفضل. تعلمت منه ما تعلمه من المدرب، وأكثر من هذا: علمني أن أخسر، ألا ألعب من أجل النقاط التي لم تمثل له أي أهمية، فقد كان يسجل النقاط، ولم يكن لدي أي أمل في الفوز. استمتعت للغاية بتلك الساعات. عندما يبلغني أن الملعب اليوم مبتل، كنت أشعر بالتعاسة. كنت أحلم ﺑ «ف» عندما أزوره، كانت الخادمة تجيء إلى الباب، وتطلب مني بأدب أن أنتظر في البهو حتى تسأل عنه في الطابق العلوي، وهو ما يولِّد لديَّ بالطبع الإحساس بأنني أسبب الإزعاج، حتى عندما لا يرفض «ف». لم يكن «ف» يبادر أبدًا بالاتصال بي إلا في النادر، لكنه يتعجب مني إذا مرت عدة أسابيع دون أن أتصل به. كان صديقًا ودودًا، صديقي الوحيد آنذاك، فبجانبه لم يكن ممكنًا أن أفكر في صديق آخر إلا بصعوبة بالغة؛ لم يكن أحد ليقف على قدم المساواة مع «ف» بالمناسبة، كان والداه — المهمومان من أجل ابنهما — يظهران دائمًا اللطف البالغ؛ إذا سأل «ف» عن بقائي لتناول العشاء، يأتي الرد دومًا بالموافقة. على فكرة، كان أول بيت ثري أتعرف إلى أهله؛ وكان أرقى من بيوت أخرى تعرفت إليها فيما بعد. باختصار، غمرني شعور مَن يتلقى الهدايا. كانت تواجهني صعوبة شديدة عندما أريد أن أهدي «ف» شيئًا بمناسبة عيد ميلاده أو مولد المسيح؛ هداياي كانت تربكه، لأن ذوقه كان متطورًا بمراحل عني، ونادرًا ما استبقى الهدية ولم يقم باستبدالها. كنت قد خطبت لأول مرة؛ ولم يكن في استطاعتي استبدال الخطيبة. أعتقد أنها كانت تخشى «ف»، لأنها لم تود الاعتراف بتفوقه، وهو ما آلمني. حدث ذلك منذ أربعين عامًا. كثيرًا ما سألت نفسي: ما الصفات التي تعجبه فيَّ؟ كنا نتجول كثيرًا، ونذهب للسباحة. كان يتمتع كذلك بعين بالغة الحساسية نحو الطبيعة. كل الأشياء التقنية في الطبيعة — أسلاك الضغط العالي وما شابهها — كانت تمثل له إهانة تكاد تكون جسدية. عن طريقه — دون أن يلقي عليَّ محاضرات كالمعلمين — تعرفت إلى كاسبر دافيد فريدريش، وكورو، ثم أيضًا إلى بيكاسو والأقنعة الأفريقية. لم يحدثني عن أشياء كثيرة يعرفها. جبت مرة ربوع اليونان، وبالطبع حكيت له عن ذلك، فشعرت أن «ف» كان سيرى أكثر. هذا الشعور، أعتقد، كان لديه كذلك؛ كان يصغي إلى أن يجد نفسه مجبرًا على مقاطعتي كي يلفت انتباهي إلى شيء جدير بالرؤية، لم أكن بالفعل لأراه من دونه، شيء آني، فراشة مدهشة مثلًا. كان يرى ببساطة أكثر مني. شيء واحد فقط لم أتلقَّه منه أبدًا بالعرفان: بدلة كانت أكبر من مقاسي بنمرة. صحيح أن أمي كانت تقصر الأكمام، والبنطلونات أيضًا، بالرغم من ذلك لم تكن على مقاسي. كنت أرتديها فقط حتى لا أجرح مشاعر «ف»؛ نيته طيبة، إذ كان يرى أنني لا أستطيع شراء بدل. قماش البدلة أو المعطف الذي يعطيني كان دائمًا في حالة جيدة. أما لماذا لم يعد يرتدي تلك الأشياء فشيء لا يخصني. لم يكن «ف» أبدًا من المختالين اللاهثين وراء الموضة؛ أعتقد أن خياط والديه الخاص كان يأتي إلى البيت من وقت لآخر. في النهاية كان يهديني أيضًا أشياء أخرى غير الملابس، أسطوانات مثلًا، سيمفونية كاملة. أبدًا لم يكن يوزع هداياه كالأعمى مثل الأثرياء الجدد، أبدًا لم يكن سفيهًا أو مبالغًا بالنظر إلى ظروفي، ولكنه كان يدرك أن دخل الصحفي والناقد الشاب ضئيل، دون أن أجد نفسي مدفوعًا للتحدث حول ذلك. امتلك حسًّا مرهفًا، لذا كان محرجًا أمامي من الترف العائلي؛ وهو ما لم يكن على حق فيه، لأن «ف» لم يجسد الترف في عيني أبدًا. بالأحرى بدا لي في غرفته المطلة على الحديقة والمدينة والبحيرة كأنه الفيلسوف اليوناني ديوجنيس — الاستقلال عن طريق الذهن. كان يتنقل بالترام مثلنا. عمومًا، لم يختر أبدًا الطريق المريح، بل عامل نفسه بقسوة. في أكتوبر، عندما تكون المياه قد باتت باردة، كان يسبح في البحيرة، جيئة وذَهابًا. فيما بعد دفع «ف» لي تكاليف دراسة أربع سنوات كاملة: ١٦٠٠٠ فرنك سويسري (وهو ما كان آنذاك أكثر قيمة من الآن)، أي ٤٠٠٠ فرنك كل عام. أشعر في الواقع بالأسف لأنني تطرقت إلى موضوع البدل. لم أكن أستاء عندما يتعرف فجأة — في منتصف الحديث — على جاكيت له، ويقول إن الأقمشة الإنجليزية لا تفقد جودتها عبر السنين، وستكون خسارة لو … إلى آخره. كان الأمر بالأحرى يثير الضحك. لا أكثر. فترة طويلة كان يدعوني إلى الكونسير، ليس فقط في آخر لحظة عندما لا تستطيع والدته الاستفادة من التذكرة المُشتراة. كان يؤمن فعلًا بأنه لا يوجد إنسان عديم الحس الموسيقي، وبالفعل كثيرًا ما كانت تجتاحني الحماسة، وإن كان بطريقة مَن لا يتذوق الفن، كما أستشِفُّ من تعبيرات وجهه؛ عندئذ كان «ف» يصمت، ليس عن عجرفة، وإنما عن إحراج. ومع ذلك ظل يدعوني من آن لآخر إلى الكونسير، ليس إلى المسرح. لم يتجاهل النشاط المسرحي، لكن عينه كانت ناقدة أكثر. تميز عمومًا بنظرة نقدية أعمق مني. كثيرًا ما قابلته وهو في حالة يأس حقيقي: إنسان لا يأخذ أي أمر مأخذًا سهلًا، ولا يترفق — خصوصًا — مع نفسه. ليس يأسًا هستيريًّا؛ كان يصور بوضوح وذكاء استحالة حل مشكلته. ما أقوله له لم يزده إلا شعورًا بالوحدة. همومنا — مثلًا أزمتي مع خطيبتي اليهودية في الثلاثينيات — لم تكن لتقارن مع همومه، هذا ما شعرت به أنا أيضًا. همومه كانت عامة، أما همي فشخصي بحت ويمكن إيجاد حل له، وهو ما كان يثق بقدرتي عليه بنحو أو بآخر. ليس معنى هذا أن «ف» لم يشاركني همومي، ولم يستطع أحد مشاركته همومه، وخصوصًا والده، ذلك الرجل الطيب الرزين، ولا والدته أيضًا التي كانت تعتبر نفسها مثقفة، والتي كان «ف» يفسر إدمانها للحياة على أنه هروب. بعد سنوات طويلة لم ير فيها أحدنا الآخر (كنت قد عشت عامًا في أمريكا) حدثته عن طلاقي الوشيك، لم يوجه «ف» أي أسئلة؛ صمته وحده أظهر لي أنني أصور الأمور باعتباري على حق. واصلنا غرز أقدامنا في وحل الغابة، وحاول «ف» أن يتحدث عن شيء آخر، لكن لم يكن لديَّ عين أنظر بها الآن إلى فراشات. حتى نظل في موضوع طلاقي سألته عن زيجته؛ رغم أنني أعرف منذ أعوام الحكاية التي أخذ يفصلها الآن؛ ما يقوله كان أكثر أهمية، أكثر تعقيدًا، وأعمق رؤية، لا يمكن أن ينطبق على حالتي. لو كنت تحدثت من جديد عن الصعوبات التي تواجهني لكان الأمر أكثر من مجرد انعدام ذوق. طلاقه كان فريدًا. على الرغم من ذلك أقدمت على الطلاق بعد فترة. لم أنتبه في تلك السنوات إلى أن لقاءاتنا كادت تقتصر علينا فحسب، وأننا لم نلتق أبدًا وسط مجموعة حتى أرى الصديق مُقارنًا بآخرين. لم يرجع ذلك إليه وحده، وهو الذي يتجنب لقاءات السمر، وإنما أيضًا إليَّ. لم أعانِ من تفوقه ما دمنا وحدنا؛ فقد كان بديهيًّا. كان لدي، كما سبق القول، شعورُ مَن يتلقى الهدايا، مَن ينال وسامًا، تمامًا مثل تلك الأيام عندما كان يسمح لي بصحبته من المدرسة إلى البيت. أهداني إقليم الإنجادين. حتى اليوم لا أستطيع السفر في ذلك الإقليم من دون أن أفكر فيه. لا أعني فقط أن الرحلة إلى الإنجادين ستكون باهظة بالنسبة إليَّ. كان يعرف الإنجادين. كان أيضًا المتسلق الأفضل للألب. كان لعائلته مرشد جبلي هناك يعطيه الدروس عامًا بعد آخر. من دون «ف» ما كان لي أبدًا أن أصل إلى هذه الجبال. كان يعرف أين ومتى تنهار الكتل الجليدية، وكيف يتصرف المرء في المناطق الخطرة. كان يربط حبل الإنقاذ الأحمر في شنطة الظهر، ويتفحص بعنايةٍ المنحدر، ويعاين الجليد، ثم ينطلق كالريح متزحلقًا على الجليد إلى أسفل، ولا يتبقى أمامي سوى اقتفاء أثره الجريء، حسبما أستطيع. عندما كُسرت الزلاقة ذات مرة إثر هبوط مفاجئ، اشترى لي «ف» في الطريق زلاقتين جديدتين حتى لا نُضطر إلى قطع الرحلة — لم يشتر أفضل ماركة، وهو ما كان سيحرجني، وإنما على كل حال ماركة أفضل، ذات أربطة أمتن من التي كنت أملكها. فعل ذلك بتلقائية وهدوء، بل لقد بدا عليه بعض الخجل عندما وضع النقود على الطاولة؛ كان سيشعر بالحرج لو أن النقود تترك انطباعًا لديَّ. شكرته بالطبع. لم أستطع في حياتي تعلم التزحلق على الجليد، وما زلت حتى اليوم أتعجب لصبره؛ طبعا كان «ف» في المقدمة، دون أن يقصد ذلك. لم يكن يتعجل، وعندما أصل بعد وقت طويل إليه، شاحبًا إثر السقطات العديدة ومبهور الأنفاس؛ كان دائمًا يقول: على مهلك. لم يكن يضايقه الانتظار. أثناء ذلك كان يستمتع بالطبيعة، يشير بالعصا حواليه ويذكر لي أسماء القمم، يلفت انتباهي إلى صنوبرة قريبة أو إلى الإضاءة الرائعة، تلك الألوان الفريدة في الإنجادين التي كان يعشقها، الطبيعة التي عاش فيها زرادشت، الذي قرأته أنا أيضًا، وربما لم أفهمه تمامًا. أنا، باعتباري الأضعف، كنت أحدد متى نواصل الرحيل، لم يُلحَّ «ف»، رغم أنه — من غيري — كان سيكون قد وصل منذ فترة طويلة إلى بونترزينا؛ إلا إن ذلك لم يكن هو الهدف. أهداني الإنجادين الخاص به. ما زلت أعشقها حتى اليوم. من الصعب أن أقول كيف كنت سأصبح من دون «ف». لعلي كنت سأعقد العزم على فعل أشياء أكثر، ربما أكثر من اللازم. من ناحية معينة كان «ف» دائمًا يشجعني، مثلًا أن أتخلى عن كتاباتي، وأن أتعلم الهندسة المعمارية. لم أنتظر من «ف» أن يشاهد تلك المباني القليلة التي صممتها، أُرجح أنها كانت ستخيب أمله، وعن حق. كان سيتألم أيضًا إذا خاب أمله. على مر عدة سنوات ظللت أحدثه عن العمارة، دون أن أستطيع إقناعه بأساتذتي، أو فيما بعد بمهندسين من أمثال كوربوزييه، وميس فان دير روه، وسارينن. كان يعلو وجهه عندئذ ذلك التعبير وكأنني أتحدث عن الموسيقى التي لا أفقه فيها — كما يعرف «ف» — شيئًا، أو عن الفلسفة. كان «ف» يعرفني من أيام المدرسة. لقد أصبح مقتنيًا مهمًّا. لعلي اكتشفت فيما بعد أنه لم يكن عليَّ أن أسايره في كل شيء، إلا إن ذلك لم يحدث إلا فيما بعد. لم أكره «ف» أبدًا بسبب ذلك، إنه خطئي. في فيلا والديه كانت هناك لوحات، بشعة في رأي «ف»، لوحات عديمة القيمة الفنية داخل أُطر ثقيلة ورثها أبوه. العدد الأكبر من اللوحات كان مخزنًا في القبو. كان أبوه مثل رجال الأعمال المغامرين أواخر القرن التاسع عشر، ولكن بلا حس موسيقي، لم يكن حتى مثقفًا؛ أحببته جدًّا، هذا الرجل، عندما يجلس بجانب المدفأة ويحكي بهدوء عن الصيد. لوحات عديدة كان مرسومًا فيها أيائل وخنازير وديكة وكلاب. دل الاقتراح على نية طيبة من الأب، أو من الأم التي هزأت هي الأخرى بتلك اللوحات، أو من «ف»، لم أعد أتذكر: إذا استطعت بيع هذه اللوحات فسوف أحصل على نسبة من الإيراد، أي إنني ربما أربح بعض المال دون إهمال دراستي. الشرط الوحيد هو ألا يتم البيع داخل الفيلا. الاسم والعنوان كانا سيجذبان مشترين سيتعجبون من الأمر. لم أشعر بالراحة التامة إزاء الاقتراح، من ناحية أخرى رأيت أنه من الصواب أن أسدي جميلًا للبيت الذي أدين له بالكثير. تم تأجير مرأب في حي آخر من المدينة؛ دفعت العائلة أيضًا ثمن الإعلانات التي نُشرت ثلاث مرات أسبوعيًّا في الجريدة: فرصة نادرة: لوحات قديمة من ملكية خاصة. كتبوا لي قائمة بالحد الأدنى من الأسعار؛ وإذا استطعت أن أبيع بثمن أعلى، يعود ذلك — بنسبة مئوية — عليَّ أيضًا بالنفع. ضمت اللوحات على كل حال أعمالًا لرسامين هولنديين صغار، دون توقيع؛ ويمكن الحديث عمومًا عن مدرسة فنية. رأى «ف» أن لعب دور السمسار والتعرف إلى أناس من الممكن أن يكون خبرة طريفة لي. وهكذا قضيت فترة بعد الظهر ثلاث مرات أسبوعيًّا وحيدًا في مرأب مكتظ باللوحات، منتظرًا ساعات تلو ساعات. بالفعل أتى هذا التاجر أو ذاك من تجار الأنتيكات من ذوي المستوى المتواضع غالبًا، ولكن من المحنكين. لم يلتفتوا حتى إلى الإطارات، بل لم أكن في معظم الأحيان محتاجًا إلى ذكر السعر. واصلنا نشر الإعلانات. اشترى أحد المحامين — الذين تربطهم عَلاقة مهنية بشركة الوالد — لوحة كبيرة لمريم المجدلية عارية الثديين، لوحة تصلح لغرفة النوم. أما الأيائل والخنازير فكانت فرصتها أقل. كنت ألفت الانتباه إلى لوحات طبيعية لا تعجب الصيادين فحسب، مناظر طبيعية بطواحين هواء في مواجهة أشعة الشمس، أو أخرى بأعواد الغاب. للرد على السؤال حول مصدر اللوحات كان عليَّ ألا أذكر أسماء: ملكية خاصة؛ إلا إنني كنت أتحدث عن مدرسة هولندية، إلى أنْ ضحِك عجوز رث الثياب في وجهي سائلًا إذا كنت حقًّا أصدق ذلك. أتذكر أننا كنا في الربيع، وفي السادسة — عندما أركب دراجتي بعد انتهاء العمل — كنت أشعر بالسعادة، حتى لو لم أبِع شيئًا. كيف تسير الأمور، سألني «ف» مظهرًا بعض الاهتمام، اهتمام إنساني، إذ إنه لم يكن في حاجة إلى المال. من ناحية أخرى لم يكن «ف» مخطئًا عندما قال: يمكنني أن أقرأ في المرأب أيضًا. استغرق الأمر برمته — على ما أعتقد — ثلاثة أسابيع، أي إن المدة لم تكن طويلة جدًّا؛ وبالفعل ربحت كذلك بعض المال، رغم أنني سرعان ما كنت أهبط بالسعر إلى الحد الأدنى. ليس سمسارًا جيدًا إذن. كنت أشعر بالإهانة وكأن الأمر دون مستواي، طالما كررت لنفسي أن والدي — المهندس المعماري سابقًا — قد عمل في سنواته الأخيرة سمسار عقارات. كان «ف» يعرف ذلك بالطبع. لم يجد في الأمر أي عيب. لم تكن لديه أحكام مسبقة من هذا النوع. فيما بعد لم أستطع إخفاء شعوري بالإهانة، قلت له ذلك مازحًا دون مزاح، عندئذ تألم «ف»، رأيت التأثر العميق على وجهه، فعائلته لم ترغمني وأنا قبلت الاقتراح. كان يجب عليَّ أن أقول ذلك لنفسي. لم يصل الأمر أبدًا إلى شجار. في تلك السنوات لم يكن ﻟ «ف» — إذا لم أكن مخطئًا — أصدقاء آخرون تقريبًا، أصدقاء من العمر نفسه؛ كان يعبد معلم التشيلو، ونحَّاتًا مُسنًّا في زيورخ، وعالمًا كان يتردد على البيت. كانت لديه صديقة، لكنه حرص على ألا أتعرف بها. فتاة غير برجوازية على الإطلاق، لم يتزوجها ولم ينسها أبدًا. غرام تراجيدي؛ طوال عقود و«ف» يحكي عنها. ذات مرة استجبت لطلبه وقمنا برحلة للتجول لمدة ثلاثة أيام في إقليم يورا، إذ إن «ف» شعر بالاحتياج إلى العرض المستفيض لصراعاته. ما أراد البوح به — وهو ما صعب عليه حتى إنه لم يبدأ إلا في اليوم الثاني — أظهر لي مرة أخرى ثراء مشاعره، عمقه غير العادي، شعوره بالمسئولية تجاه الحبيبة وتجاه نفسه كذلك، شعور بالمسئولية غير مألوف على كل حال. أن يشركني «ف» في أزماته المتنوعة اعتبرته وسامًا على صدري، حتى إذا لم يعرفني بها شخصيًّا. طبعا لم يكن لديَّ نصيحة. إحساسه بالأبوة كان أيضًا فريدًا. تعقدت عَلاقتنا عندما بدأت أكتب ثانية، ثم عندما نُشرت كتاباتي أو مُثلت على المسرح، بالرغم من معرفتي لرأيه فيها. نتيجة لذلك لم نعد نتقابل إلا نادرًا، وإذا حدث فدون كلام عن كتاباتي. أخذت أيضًا أنهمك في قراءة ما لا يقرؤه «ف»، لم أستطع إقناعه بشيء؛ اهتمامي ببعض الأدباء كان يجعله ينظر بعين الشك تجاههم، تجاه برشت مثلًا؛ أما إذا اتضح أننا معجبان بالكاتب نفسه، ستريندبرج مثلًا أو أندريه جيد، فإن «ف» يفقد الرغبة في التحدث عنهم؛ لقد اكتشفهم لنفسه، واحتفظ بهم لنفسه. توقفي عن الهندسة المعمارية لم يجعلني في نظره كاتبًا بالطبع، وهكذا لم نتكلم، كما قلت، عن كتاباتي، بل قلَّ حديثنا عن الأدب عمومًا. عَلاقة «ف» بالأدب كانت مختلفة. أدركت أن «ف» لا يستطيع قراءة كتبي. كانت له مقاييس أخرى لا ترقى إليها أعمالي. لقد حاول «ف» مخلصًا. ذات مرة شاهد عرضًا لإحدى مسرحياتي (سور الصين)، وكتب لي خطابًا، لم تكن كتابته هينة عليه، لأن انطباعه — إذا استخدمنا تعبيرًا مهذبًا — كان أكثر من متضارب. بعدها بسنوات عديدة — كما قيل لي بعد ذلك — شاهد عرض مسرحية أخرى (بيدرمان ومشعلو الحرائق). لم يتحدث بعدها عن أعمالي. كنا قد أصبحنا أثناء تلك السنوات كهلين. الأصعب من ذلك كان — كما أرجح — اتجاهي إلى السياسة. لم نتحدث عنها إلا في النادر. الصراعات الاجتماعية، التي كنت أعي وجودها بمرور الوقت، رآها «ف» داخل إطار أرحب؛ كان يصغي إليَّ، إلا أنه كان يرفع حديثنا إلى الأسئلة الفلسفية، وعندئذ لا أكون على مستوى الحديث. أتذكر: أثناء الحرب العالمية التي أجبرتنا نحن كذلك على إظلام المدن، رأى «ف» أنه من السخافة والعبث أن تُنفَّذ تلك الأوامر المملة في فيلا والديه أيضًا المبنية على حافة المدينة؛ إذ إن أضواء فيلا وحيدة لن تعطي الطيارين الأجانب إشارة على وجود مدينة أطفأت أنوارها. ناهض هتلر، لكنه عبر كذلك عن ارتيابه في الديمقراطية التي تعطي لكل صوت الوزن نفسه. بالطبع كان «ف» مدللًا بسبب الوسط الذي نشأ فيه، وهذا تحديدًا ما جعله يعاني أيضًا. أعجبه أنني — وقد كنت زميلًا له في المدرسة وذا مستوى متوسط في الفصل — أكسِب قوتي بعرق جبيني، مهما كان متواضعًا. أعرف، شَغلَه هذا كمشكلة شخصية له. كان بالطبع من السخافة أن يفكر في عدم استطاعته هو الآخر كسب قوته، ولكن الأمر كان يضايقه بين الحين والآخر. لو رضي «ف» بقبول مهام — يُرغَم غيرُه على قبولها لكسب قوتهم — لسهل عليه أن يكسب رزقه. كان يعرف ذلك أيضًا. لم يكن لديَّ على العموم الكثير مما أقوله لصديقي. أحيانًا كنت أوجه له نقدًا، وماذا كان يحدث: يصغي «ف» إليَّ، لكن يتضح أن نقدي بلا وزن مقارنة مع النقد الذي يوجهه «ف» إلى نفسه. لا أثر للغرور لديه. على العكس. كان يعتبر نفسه مهزومًا. أدركت كيف جنبني النقد إلى حد كبير: لم يستخدم «ف» معاييره التي لا يفي بها إنسان واحد تقريبًا إلا على نفسه فحسب، ولم يطبقها عليَّ. طبعًا أصدر «ف» أحكامًا على الآخرين، بل وأحكامًا أقسى مما ينطق به الآخرون، أحكامًا عميقة، ومن ثم معقدة؛ لكنه لم يبح بها، لا للآخرين، ولا لي. لا يريد تدمير أحد. حكمه على شخص يبقى سره الذي يحمله في بعض الأحيان بصعوبة. يشعر المرء بذلك. لا بد أن جنون العظمة لديَّ عذبه كثيرًا. كان عندئذ يقطب جبينه دون قصد، ويصمت. لم أكن أستطيع سوى تخمين حكمه فحسب، أما هو فكان يعتمد على أن الإنسان لا يخمن إلا بقدر ما يتحمل في تلك اللحظة. نهمًا للتقدير من جانبه — وهو الذي يصدر أحكامًا أعمق وأصدق من الرأي العام — كنت بالطبع حساسًا عندما يمتدحني «ف» فجأة، مثلًا لمهارتي في إشعال نار مدفأة إحدى الأكواخ الجبلية، أو عند تصليح دراجتي، أو بعد ذلك أثناء قيادة سيارتي الفيات، أو لدى إعداد وجبة باييلا الإسبانية مع سرطان البحر، أو ما شابه من أفعال. كان مدحًا صادقًا مخلصًا؛ إذ إن «ف» لا يستطيع أن يمدح مدحًا غير صادق. كان «ف» شاهدًا على زواجي، وأنا على زواجه. في السنوات التالية أيضًا، عندما كنا نرتحل للتجول ثانية، كانت لدينا موضوعات عديدة للتحدث حولها لمدة أيام، دون أن يجد «ف» نفسه مرغمًا على التطرق إلى كتبي؛ كانت خبرات «ف» ثرية، ليست مغامرات من النوع الخارجي، وإنما خبرة ذاتية فريدة لدرجة أن الحوادث التي يفسرها الآخرون على أنها مجرد سوء تصرف، كانت تكتسب لديه وزنًا خاصًّا، سواء كان ذلك انفجار ماسورة مياه أو وصوله متأخرًا إلى أحد المزادات، أو سلوك مربية ابنته. لم يخل الأمر من مشقة، إلا إنني كنت أفهم المرة بعد الأخرى سبب إعجابي ﺑ «ف»: قدرته على سرد الأشياء بكل أبعادها وتشابكها لدرجة أن المرء يشعر بعدها أن خبراته الذاتية شبه منعدمة. لن أنسى طوال حياتي وصف «ف» للأسابيع الأخيرة في حياة أبيه الشيخ. الفيلا، التي لم أزرها بعد ذلك، أصبحت في حكايته مليئة بالأشباح، أما استمرار «ف» في السكنى هناك فهو اللعنة. نظرت إليه نظرة جانبية ونحن نسير ونسير وهو يتحدث؛ كأنه لينتس في الجبل.٩ لم يقارن نفسه مع لينتس، ولا مع ستريندبرج، لا مع هولدرلين أو فان جوخ ولا مع كلايست، لكن «ف» — هذا الكيان التراجيدي — كان يشعر بقرابته معهم أكثر من أي شخص آخر. ما زلت حتى اليوم أحفظ رقم تليفونه غيبًا، مر على الأقل ١٥ عامًا على آخر مرة أدرت فيها القرص لأطلبه. لم يحدث أبدًا، أو نادرًا، أن نسيت يوم ميلاد «ف». بمناسبة عيد ميلاده الخمسين أرسلت له برقية من روما. لا أعرف على وجه الدقة متى أصبحت لا أكترث بأمره. من المستبعد أن يكون قد خفي عليه أنني غدوت ثريًّا. ما هو موقفه؟ أحيانًا كنت أسمع عن طريق صديق مشترك — رسام — أن مجموعته الفنية مثلًا تلتهم ماله. هو أيضًا — الرسام — لم ير أبدًا تلك المجموعة الفنية؛ لا بد أنها فريدة من نوعها. فيما بعد تذكرت أنني لم أر قط رفيقة من رفيقاته، باستثناء الفتاة البرجوازية التي تزوجها وظل يكثر من ذكرها حتى بعد الطلاق. الأولى، أعرف، كانت ممرضة. عندما يتحدث «ف» عن رفيقاته فدائمًا بجدية بالغة — حتى وإن تكتم على الاسم: إسبانية في برشلونة. كانت لديه شجاعة خوض الصراعات الكبيرة. ذات مرة أظهرت عنادي عندما قالت لي والدته إنه يتألم كثيرًا بسبب معاناة زوجته، وإنه لذلك لا يكاد يعمل؛ أبديت تعاطفي كذلك مع الزوجة التي تعاني. لا أقصد أن «ف» كان أنانيًّا لا يفكر إلا في نفسه. لم يكن يضحي أكثر منا فحسب؛ بل إن تضحيته كانت أكبر لأنه كان يضحي بنفسه. ذات مرة كان الموقف غريبًا بيننا: مرت سنوات طويلة لم نتقابل، ثم قمنا — كالأيام الخوالي — برحلة للتجول في جبال الألب الأمامية (جروسر أوبريش). صعود الجبل كان أسهل بالنسبة إليَّ، لأنني بأمر الأطباء ظللت طوال نصف عام لا أتناول الكحوليات وأتجول يوميًّا لمدة ساعة. أعترف أنني سعدت لأنه لم يتوجب عليه أن ينتظرني. تخلف عني. لم يبق الكثير حتى نصل إلى القمة، ولكن «ف» فقد الرغبة في المواصلة. أعرف أنه تبسيط ساذج إذا رأيت عَلاقتنا على هذا النحو. لم يكن في ذلك اليوم، في آخر رحلة لنا معًا، في كامل لياقته. الفترة الأخيرة (التي قضيتُها في المستشفى) كانت فترة عصيبة بالنسبة إليه. ثم إننا لسنا رياضيَّين، وإنما كهلان في الخمسين. لم أجرؤ أبدًا، كما قلت، على الحديث عن عملي؛ اشتباهه الصامت في أنني أتصيد النجاح والشهرة، أصبح اشتباهي أنا أيضًا. أدين له بذلك. في الحقيقة لم أستطع الفرح بإنجازاتي إلا عندما أتناسى «ف»، أي من وراء ظهره فقط؛ لم أشعر أبدًا بالارتياح لإنجازاتي وهو يصوب ناحيتي نظراته الزرقاء. بالصمت — المشترك — كنت أشي بفحوى أعمالي. تقابلنا لآخر مرة عام ١٩٥٩م. المرأة، التي أحببتها آنذاك، درست الفلسفة، وكتبت رسالة الماجستير عن فيتجنشتاين، والدكتوراه عن هايدجر. لم يكن له أن يعلم ذلك وهو يراها لأول مرة؛ اسمها كان قد سمع به، لكنه لم يقرأ من أشعارها شيئًا. هي كذلك واجهت صعوبة في أن تكون على سجيتها أمام «ف». كان لديها صعوبة أيضًا في التحدث عن رسالة فيتجنشتاين «تراكتاتوس لوجيكوس» الذي كان «ف» يجهله. صمتُّ حتى لا أضايقهما باعتباري نصف جاهل. أفكار فلسفية من امرأة تعيش معي؛ من الواضح أن ذلك لم يدخل رأسه. لم يشعر «ف» في شقتنا بالراحة. بالرغم من الشمبانيا؛ كنت أعرف أنه يحب الشمبانيا. وهي كانت تعرف كم أنا مدين لهذا الرجل؛ طالما حكيت لها وباستفاضة عن صديقي، دون أن أستطيع وصفه. كان يجلس هناك، ضخم الجسم، وقد أصبح ثقيل الوزن كذلك. لم ينشب نزاع بين الفلاسفة، ولكن «ف» اتكأ على مقعده؛ وبدا لي على نحو لم أره من قبل: رجلًا! لا أقصد أنه، مثل غيره، أخذ يتودد إلى تلك المرأة التي جلست مضطربة بعض الشيء؛ كلا، أخذ «ف» يعاينها فحسب وهي تحاول أن تتحدث. كنا قد احتسينا أول كأس، أي إن الخمر لم تكن السبب. لم يمسك أحد بزمام الحديث. ولأن المرأة كانت تدعي أنها شاعرة — ليس في هذه الساعة ولكن بكتبها — فقد أحب «ف» أن يفصح عن آرائه في الشعر، ليس بنبرة متسائلة بل واثقة على الرغم من أنه، كما قال، لم يعد يجد وقتًا للقراءة لانشغاله في وضع كتالوج لمجموعته الفنية. بالتأكيد كان يرى في هولدرلين شاعرًا أعظم من هانز كاروسا، ولكنه ظل على كل حال يعتبر هانز كاروسا شاعرًا. المرأة، التي لم تعبر عن رأيها، سألته عن مجموعة لوحاته، وعن سبب عدم عرضها، كلا، لن يعرضها حتى عليها. لم يمزح عندما قال إن من حقه تدمير تحف من الصين القديمة، وكذا أعمال فناني القرون الوسطى العظام أو الرسامين الأحياء، لأنه لم يقتنها بالمال فحسب بل أضحت الآن، باختياره لها وانشغاله بها سنوات طويلة، جزءًا من جسده — شعر أن لا أحد يفهمه. رغم ذلك — مثلما عرفت فيما بعد — فقد أعجبته هذه المرأة، على نحو ما. من شخص ثالث سمعت أن «ف» أبدى تعجبه لعثور فريش على رفيقة كهذه. لم أرُدَّ أبدًا المبلغ الذي مكنني آنذاك من الدراسة؛ أعتقد أن ذلك كان حتمًا سيجرحه، سيلغي كرمه. عندما تعرفت مؤخرًا على «ف» في زيورخ تأثرت بشدة تأثرًا نابعًا من العرفان بالجميل، لا من المشاعر التي أكنها له. لم أكتب إليه أنني تعرفت عليه في الشارع. اليوم لم يعد حتى يهمني رأي «ف» في حكايتنا الطويلة. وهذا هو ما يؤثر فيَّ على وجه الخصوص. صداقتي مع «ف» كانت، كما أرى الآن، وبالًا عليَّ. ليس ﻟ «ف» ذنب في ذلك. لو كنت أقل خضوعًا له، لأثمرت الصداقة أكثر؛ له أيضًا.

Overlook

وَعدتِ اللافتة بما ليس له وجود هنا. من فوق ربوة لمحا على البعد سيارة زرقاء؛ ليست سيارتها أو سيارته. National Car Rental، ما زالت السيارة الزرقاء هناك وحيدة في الموقف المشمس. خطر على باله أن لا أحد يعرف أين هو اليوم. أمر يسره. حتى لا يقفا بين أدغال الشجيرات حيث لا يراهما أحد، يواصلان السير بالرغم من تخليهما عن الاعتقاد بأن هذا الدرب سيصل بهما إلى الساحل. عمود برق يطل برأسه عليهما الآن مشيرًا إلى الساحل البعيد؛ US Military Area، قرأ ذلك على الخريطة؛ لا يمكن الوصول من هنا إلى البحر. لقد ضلا الطريق. ليس ذلك مهمًّا؛ إنهما معًا — من دون هدف، معًا. لكي لا يفترشا الأرض، يواصلان السير. سبق له رؤية مناظر طبيعية أكثر روعة، مع ذلك يحاول التقاط الصور بالكاميرا (ميكروفليكس ٢٠٠). في عدسة الكاميرا المقربة: صخرة عليها شجيرات، وأخرى صلعاء، سماء، على البعد منارة غليظة، زووم، لكنه لا يسفر عن شيء ذي بال: المنارة أكثر غلظة. لا يستحق المنظر أن أضغط على زر الكاميرا. يقترب الظُّهر، خسارة أننا لسنا على البحر الآن. اليوم السبت. انحنى ليربط حذاءه الأيسر، تسير متمهلة وتنتظر. مَن يرى الاثنين، لا يعرف على وجه التحديد أي عَلاقة تربطهما: ابنة مع أبيها، أم عاشقان؟ لا يتبادلان القبل؛ للحظة — عندما وصلا إلى طريق أعرض — سارا يدًا في يد، لكن هذا الطريق لا يقودهما إلى الاتجاه الصحيح، لذا يتركانه ثانية. يبدو أن الطريق يؤدي إلى مزرعة، إذ إنهما يريان حصانًا يرعى. على بُعدٍ سيارة منطلقة على «الهاي واي»: من دون ضجيج. يسمعان طيورًا، ليس شدوًا، وإنما زقزقة منبهة. مرة أخرى يخطر على باله أن لا أحد (لا في نيويورك ولا في برلين) يستطيع أن يخمن أين هو في هذه الساعة. لا يمكن الوصول إليهما. في ذلك يشتركان. بين الحين والآخر يقولان شيئًا، يطلب أحدهما النظر إلى شيء: Look at this، حتى يؤكدا لنفسيهما أنهما هنا وليسا في مكان آخر. وربما لا يريد أن يبحث عنهما أحد اليوم. حالفهما الحظ بالنسبة إلى الطقس، إذ كان مطيرًا حتى الأمس. أثناء قفزها فوق حفرة راكدة المياه انحلت عقدة شعرها؛ شعرها الأحمر (في لون زهور الكركديه، لكن أفتح) ينساب الآن طليقًا على ظهرها. تبقى واقفة لعقده ثانية، تقول إنها بدأت تشعر بالجوع: I am getting hungry، ولأنهما ما زالا واقفين فلا بد أن يقول شيئًا. Do you know Donald Barthelme?، يسألها، His work? لا تقرأ كثيرًا. He is a good friend of ours، يقول ذلك حتى لا يظهر بصورة الخبير بالأدب الأميركي. في تلك الأثناء كانت قد عقدت شعرها. سار في المقدمة، لأنه وعدها قبل ساعة أن يجد موقف السيارات. من دون درب. علبة كوكاكولا صفيحية فوق العشب: ليسا إذن أول من يمر هنا. ثم تنفك العقدة مرة أخرى، لا تعقد شعرها من جديد وتتركه الآن محلولًا. أن يتصل أحد ﺑ «لين»، يبدو احتمالًا أقل من أن يتصل به أحد؛ صحيح أنها قالت في المكتب — حتى تنصرف مبكرة — إلى أين سوف تسافر مع أصدقائها، ولكن لو اتصل أحد بكل فنادق «لونج أيلند» فلن يجد حتى اسمها الأول مسجلًا؛ اسمه فحسب، ولا أحد يحدُس بأنهما معًا.

Max, you are a liar

لا تتم كل الأمور في هذا اليوم كما يبغي. صحيح أنه وجد موقف السيارات (في الأحلام فحسب يحدث أنني لا أستطيع أن أجد السيارة ثانية)، والسيارة الفورد الزرقاء في مكانها، ما زالت هي السيارة الوحيدة. المفتاح معها، لين تقود السيارة. سيكفيها سندوتش هامبورجر أو بيتسا. في الخارج، حيث يصل الشارع عند الفنار إلى نهايته، يكتشفان أن المطعم لم يفتح أبوابه بعد، يمكن استخدام التواليت فقط. ينتظر على الشرفة. راية عليها نجوم تتلاعب بها الريح. منظار مكبر يعمل بالعملة المعدنية لا يستخدمه. الرياح هنا قوية. عندما تغيب لين لبرهة وأثناء انتظاره يتشوق إلى رؤيتها ثانية، من دون نفاد صبر. هنا يرى المرء البحر، لكنه يحاول أن يتذكر صوتها. لأنه يعرف صوتها، فهي لا تقول له عندما تتصل به تليفونيًّا إلا: «هاي»! بشرتها (يعرف ذلك): البشرة الشاحبة لامرأة حمراء الشعر، بلا نمش. استند إلى السور، ظهره للبحر؛ سوف تجيء من خلال هذه الشرفة المقفرة، وهو متهيئ للمفاجأة، إنها — أيًّا كانت هيئتها — ستقترب ناحيته ويشعر ببساطة بوجودها. نحن الآن في الظهيرة؛ كل شيء في الخارج: راية عليها نجوم تتلاعب بها الريح، منارة غليظة، نوارس، موسيقى من اتجاهٍ ما صادرة من راديو ترانزيستور، الصفيح اللامع على موقف السيارات البعيد، الشمس، الريح.

لين سوف تبلغ الحادية والثلاثين

قبل عدة أسابيع زرت ابنتي، الكبيرة، بعد أن أصبحت جَدًّا. زيارة حان وقتها، فالحفيدة تتكلم الآن. رأيت أيضًا زوج الابنة الألماني للمرة الأولى. تقابلا في اسكتلندا، ثم أخبرتني عندئذ على كارت سياحي (ربوة خضراء) أنهما سيتزوجان. المقابلة: ليست سهلة ولا صعبة. أخذت الابنة — ولدت في العام نفسه الذي ولدت فيه لين — تشتغل أثناء الحديث بالإبرة في تريكو من صوف غنم غير معالج كيميائيًّا. قبل ذلك كنا قد تمشينا معًا، الأب والابنة، الحديث بالدارجة السويسرية. قبل سنوات كتبَتْ إليَّ وكلها ثقة في رأيي عن أزمتها الصعبة، ورددت عليها. زارتني كذلك مع صديقها السابق الذي أعجبني جدًّا … إنه أول أبناء خطيبتي الأولى التي لم أتزوجها، وهي ابنتي البكر؛ لعلهما لم يتزوجا بسبب ذلك … يقولان إن أحوالهما طيبة. لم يكن واضحًا لماذا فتر حديثنا الآن. كانت قد اشترت زجاجة من النبيذ الأحمر الألماني؛ كلاهما لا يشربان النبيذ، وهكذا تركتُ نصف الزجاجة. بقيتُ عندهم عصرًا وليلة وضحًى. لم يتضح لي الأمر إلا في القطار المتجه إلى هامبورج عندما أردت أن أقرأ. لا أنكر ذنبي الذي لا يمكن محوه بخطابات مطولة تشرح للابنة البالغة طلاقي آنذاك. إننا في حاجة إليه، إلى ذنبنا، فهو يبرر الكثير في حياة الآخرين.

Montauk

يجلسان الآن فوق الحجارة؛ ليسا وحدهما: ثمة متنزهون يبحثون عن المحار عند اقتراب الأمواج من الشاطئ، وثلاثة شبان سود — معهم ترانزيستور يعلو صوته ثم ينخفض من جديد — مروا عليهما دون أن يلتفتوا إلى الثنائي.

Dirty Old Man

لا يشعر في الواقع أنه كذلك.

How do you call those birds?

يسأل حتى يوجها النظر إلى الأفق الرحب فحسب (إنها نوارس عادية)، وحتى ينسى نفسه: رجل ثقيل جدًّا، مع أنه لين الحركة، يرتدي قميصًا من الجينز، ليس لأنه يعتقد أنه سيجعله شابًّا، وإنما لأنه عملي، ما بقي من شعره يبدو دائمًا مشعثًا، حتى عندما تسكن رياح البحر؛ ليس أنيقًا، الشعر يتدرج من الرمادي حتى الأبيض … خطر بباله حين سبح آخر مرة في البحر.

Sables D’or، يوليو ١٩٧٣م

نقرر الانفصال.

الساحل، هنا، تغطيه الأحجار، لا شاطئ: الأمواج متوسطة، لا تَهدِر، تترجرج بين الأحجار المستديرة، ثم تلفُّ تاركة فقاعات من الزَّبَد. بركة بها طين. لسنا هنا على الأطلنطي المفتوح الذي بحثت عنه، وإنما على خليج، رغم أن اليابسة لا تُرى.

What are we going to do?

الحاجة إلى العمل.

ماذا تقول الدلافين؟

أعجبني عنوان الكتاب، وتوقف الأمر عند هذا الحد. وجدته مؤخرًا في دفتر قديم ذي سلك لولبي، كنت قد وضعته في الحقيبة لأنها تضم عناوين الأصدقاء؛ كتبت ملاحظة: رواية توحي بالتفاؤل الحذر، خالية من الأحداث؛ الشخصية الرئيسية، الإنسان الجديد، لا يظهر. تتمتع الدلافين بذكاء على الأقل مساوٍ للبشر، ولكن ليس لها أيادٍ أو أرجل، لذا لم تقم أبدًا بغزو العالم، تقول لين: لأن ليس لها أيادٍ وإنما زعانف، فهي لا تدمر العالم. الدلافين، مثلًا، لم تؤسس دولة قط، وتعطي (وهو ما لا بد من الاعتراف به) بالأحرى انطباعًا بالمرح. لين تتكلم مع الدلافين، هي لا تريد طفلًا على الأرض.

في عام ١٩٧٢م لم أكن أعرف لين

ما زال يتملكه شعور بالمفاجأة لأنه يعرف جسدها هذا. لم يتوقع ذلك. لو لم تعطِ لين بين الحين والآخر إشارة تظهر أنها أيضًا ما زالت تتذكر الليلة، لما جرؤت يداه على لمس رأسها.

في عام ١٩٧٢م كان العالم يشغلني

All Power to the People

الشعارات التي كُتبت على السور آنذاك أصبحت باهتة. يسود لدى المرء انطباع بأنه لم يعد أحد ينتظر أي تغيير. عندما يصعد المرء من نفق المترو ويواجه ضوء النهار، يلاحظ أن الناس كما كانت منذ سنتين؛ الأمور تواصل ببساطة سيرها: الانتظار عند الأحمر، السير عند الأخضر. لا أحد يعرف ماذا يحدث. الصحف تدَّعي المعرفة يومًا بيوم. «ووترجيت» — لو لم تحدث تلك الفضيحة. أصدقائي أكثر شبابًا، لكنهم يعرفون كذلك عجزهم. النساء وحدهن ما زلن يأملن في التغيير. الباقون يسترخون. الميدان الأحمر في موسكو لم يُمسَّ؛ كل شيء في محطة «فريدريش شتراسه» في برلين كما كان عليه، ارتفع ثمن التذكرة فحسب إلى عشرة ماركات. لم يكلف التسلح من أجل شن حرب في التاريخ مثلما يكلف التسلح المتزايد الآن، من أجل تجنب قيام حرب لم تعد قوانا العظمي قادرة على تحمل تكاليفها؛ لا أحد يشكك في إرادة السلام لديها، حتى الإفلاس. السفر؟ لم تعد الظروف تشجع على ذلك؛ في كل مكان التفاؤل الحذر نفسه. لا فوضى. ما زال كل شيء موجودًا، وإلا فلن يكون باستطاعة التليفزيون عرض ذلك: رجال الدولة وهم يهبطون من الطائرة ملوحين، الدبابات في الصحراء، قوات حرس البابا السويسرية، وفاة أحد رجال الدولة، استقالة آخر، ما زالوا يحكمون. بترول الشيوخ والشركات العملاقة هو عزاؤنا المؤقت، العلم يبحث عن مصادر بديلة. فيما عدا ذلك لا يحدث شيء لم يحدث من قبل. حماية البيئة كآخر واجبات الجنس البشري.

٨ / ٤ نيويورك.

١٧ / ٤ تورنتو.

١٨ / ٤ مونتريال.

١٩ / ٤ بوسطن.

٢٢ / ٤ سينسيناتي.

٢٣ / ٤ شيكاغو.

٢٥ / ٤ واشنطن.

ألعب دوري. لا أخلو إلى نفسي برهة إلا في الطائرة وفي الفندق، حيث يحجز لي المنظمون، عندئذ لا أكون في حاجة إلى تصديق أي شيء، آخذ دشًّا أو حمامًا، ثم أقف عند الشباك، وألقي نظرة على مدينة أخرى. في كل مرة أتوتر قليلًا قبل مواجهة الجمهور. أثناء القراءة أنسى بعد كل كلمة ما أقرؤه. بعدها بوفيه بارد؛ لا أجيب دائمًا على الأسئلة نفسها بالإجابات نفسها. لا تقنعني أي إجابة. أثناء حديث سيدة معي أحدق في أسنانها القريبة الجيدة، يناولونني كأسًا وأعرَق. ليست هذه مهنتي، أفكر، ولكن ها هنا أقف.١٠

How do you feel about renown?

لم يكن يعرف هذه الكلمة عندما وجهت لين السؤال؛ كان ذلك في ركن الطبخ بشقتها، أثناء إعدادها الطعام للغريب لأول مرة. قاموس لانجنشايت الصغير ليس في متناول يده. لين تشرح معنى الكلمة. عندما فهم السؤال كان قد استعد لفتح علبة محفوظة، إذا وجد فتاحة. لين تبحث. الفوضى التامة تعم أدراجها، ولكنهما يعثران على الفتاحة؛ سؤالها فقط هو الذي ضاع، يتحدثان الآن عن السعرات الحرارية … كنت أريد أن أصبح مشهورًا: حارس مرمى في دوري الأندية. لم يتبدل الاهتمام فحسب، وإنما سيطر عليَّ الاهتمام بأن أفعل شيئًا. عندما سألني الروائي أوفه يونسون أثناء احتسائنا بيرة ليلية في سبوليتو (١٩٦٢م) بطريقة مباشرة: أستاذ فريش، ماذا تفعل بالشهرة؟ فقد كنت مدينًا بتقديم إجابة. هل يريد اختبار جنون العظمة لديَّ؟ بالطبع يسرني أن مسرحياتي تُمثل، وأن عدد قراء كتبي في ازدياد. لا تغيب عني النتيجة، أي كوني أصبحت كاتبًا معروفًا. في غابة بالقرب من زيورخ يمر علينا رجل وامرأة، ألاحظ أنهما يقطعان حديثهما فجأة؛ بعد عشرين خطوة تنظر هي إلى الخلف، ثم هو. في الساونا العامة يكون الأمر أكثر إزعاجًا؛ العاري الذي تجرأ أخيرًا وسألني أمام الدش: هل أنت السيد فريتش؟ فمن الواضح أنه ليس من قرائي، لكنه يعلم أنني شخصية معروفة، إذ إن التليفزيون كان قد عرض أين وكيف أسكن. عريانان كما كنا، لم يكن لدينا قلم لأكتب له اسمي بطريقة صحيحة. أحيانًا تكون للشهرة مزايا: بعد أن اطلع موظف جوازات ألماني على جواز سفري أصر على عدم النظر في حقيبتي، بل ومساعدتي؛ لا يعرف الاسم فحسب، وإنما يتذكر جيدًا مسرحية أعجبته: زيارة السيدة العجوز. الشيء ذاته يحدث لي دون أي خلط أيضًا،١١ مؤخرًا في لندن على سبيل المثال: Sir, it is a great honor for me، يقول لي موظف جوازات شاب، ويتمهل — رغم الزحام — ويذكر لي ثلاثة عناوين بالإنجليزية، وأيضًا أي الأعمال أعجبه على وجه الخصوص. عندما أحيي سيدة في مطعم، وأبحث عن مِشجب لتعليق معطفها، فإنني لا أفكر بالطبع في أنني مراقب؛ تقول: دعنا نذهب إلى مكان آخر، إنهم هنا يصغون إليك! لفترة طويلة لم أكن في حاجة إلى التصنع، كلا، أنا فعلًا أصمُّ عندما يتهامسون حولي باسمي. بالطبع أعرف أن لديَّ قراءً منذ بضع سنوات، بل ورأيتهم في الصالات أيضًا، لكنني لا أتوقع أن يركبوا الباص عينه. لا أشعر بأنني شخصية عامة عندما أنتظر على رصيف محطة قطار، ولا أحتاج إلى إجهاد نفسي حتى أبدو متواضعًا جدًّا؛ الأمر يشغلني بطريقة أخرى تمامًا. من ابنتي أعرف إلى أي مدًى وصلت شهرتي. الأمر يضايقها: ما تكاد تذكر أثناء الرقص اسمها كاملًا حتى تتعثر الدردشة، بسبب اسمي أنا. شيء لا أستطيع تغييره. بالمناسبة، لم أصبح معروفًا بضربة واحدة. لا أعلم أيهما أفضل: من يستيقظ ذات صباح ويجد نفسه معروفًا، ويرى ذلك من تلك اللحظة فصاعدا أمرًا بديهيًّا لا غير، ولا يتعجب كل مرة مثل الآخر؛ الآخر يزداد تدللًا من مرة إلى أخرى. أفزع قليلًا عندما يخاطبني فجأة شخص لا أعرفه، ثم يتبين أنه أحد قرائي. ماذا يفعل المرء؟ ينظرون غالبًا بعين التقدير إلى أعمال لا أود أن أكتب مثيلًا لها اليوم، أشعر وكأنني خائن؛ عندئذ أتصرف وكأنني في عجلة من أمري. بالطبع يحدث أيضًا أن يضايقني مخمور في أحد البارات، أو على الأقل يحاول ذلك معتقدًا أنني مولع بذاتي. في هذه الحالة لا أستطيع أن أدفع الحساب فورًا وأنهض؛ في هذه الحالة لا أستطيع فعل أي شيء، لا حديث ولا خلافه. ليست طريقتي في التفكير هي ما تثير الرجل على هذا النحو المرير، وإنما هو النجاح؛ وهو في الغالب من بني وطني. ثم أنسى من جديد أن صوري في كل مكان كالمجرمين. غالبية من يتعرفون عليَّ يتصرفون بتحفظ؛ يتركونني أشرب بيرتي في هدوء، إلى أن أفاجأ بشخص ثالث يقول لي أين كنت أشرب بيرة قبل الأمس. لا أريد أن أبالغ، الأمر يختلف من منطقة إلى أخرى؛ في كل الأحياء التي يسكن العمال فيها، أعرف أنني في أمان، من دون أن يسبب لي ذلك بهجة خاصة. من هم قرائي؟ عندما يسألني العامل الذي يكسو الحائط بالورق: هل أنت هو الكاتب؟ فإنني أرى كيف تسره إجابتي بنعم. لماذا؟ الاحتياج إلى إبداء الاحترام والتقدير؛ قرأ الرجل الاسم ولا يشك في أن شخصًا يستحق أن يكون له اسم مشهور، ويرحب بأن الستار ينزاح عن مسرحية لي في برلين، ثم يجيد عمله بشكل متميز. يدللون المرء. الوقوف في طابور أمام الشباك أمر يصيبني بالملل مثل كل الناس، أصبر ككل الناس، ولكن تحت الرقابة. أيضًا هذا أمر يعتاده المرء. نتيجة أخرى: عندما أتحدث مع أناس لأول مرة فإنهم يتجنبون الكلام عن خططهم، ولكنهم يتحدثون عن مؤلفاتي المنشورة. أما عندما يلاحظون أنني لا أنتظر هذا، بل لا أنتظر هذا بالذات، فإنهم يصغون فحسب؛ أجلس في عزلة ليس من السهل دائمًا كسرها، عزلة خطيرة تغري بالتحدث من طرف واحد؛ يصبح من الممل الذهاب إلى الحفلات. رجل يظهر بين الحين والآخر، يبدو للوهلة الأولى مثقفًا: لمدة ساعتين وهو يتصرف كأننا لم نتعارف، ولا ينطق حتى قبل البوفيه البارد بكلمة واحدة. بعد ذلك من الممكن — أثناء محاولتي جاهدًا الاشتراك في حديث — أن يُصغي إليَّ من مسافة تُعفيه من إبداء أي رأي. في تلك الأثناء أكون قد نسيت اسمه بالفعل، وبهذا تبدأ عَلاقتنا بأن أعتذر. لا يجعله ذلك يقترب ما دام الآخرون ما زالوا منهمكين في الحديث. بعد ذلك في المساء لن أستطيع التخلص منه، نقف الآن في أحد الأركان حيث يُظهر لي بعناد أن الاشتهار (هكذا يسميه) لا يترك أي أثر لديه. إنسان ذكي. لفترة لا يريد أن يقول لي ماذا يعمل. وفي النهاية يقدم اعتذاره. من أجل ماذا؟ ليس من المحتم أن نتفق. عندما أرجوه أن يرسل إليَّ مقاله، فإنه يعتبر هذا المقال — الذي سوف يُنشر قريبًا — متقادمًا، ويفضل ألا أقرأ ماذا كتب عني. من الواضح أنه يرجح أنه سوف يضايقني فحسب. لماذا لا يقنعني؟ النجاح لمدة طويلة يسهِّل على المرء ألا يكون مختالًا. هذا هو الجانب المضيء. شيء آخر: لست من هؤلاء الذين تحميهم أسطورة. أحيانًا أشعر بذلك أثناء المصافحة: التصفيق، الذي لا أعرفه، يربك الناس الذين أُقدَّم إليهم. في العادة أنا لا أتحرى عما قالوه، وعندما يتناهى كلامهم إلى سمعي فإنني أعرف عن الآخرين أكثر مما أعرف عن نفسي. الحسد؟ ليس النجاح الأول، ولا الثاني، ولكن النجاح الدائم هو الذي يفجر الغيظ، خاصة لمَن يعبد النجاح؛ يتخيلون أن المرء ليس له أي احتياج أو هدف آخر سوى مضايقتهم بالنجاحات (أيًّا كان فهمهم للنجاح)؛ مع مرور الوقت يبلغ توترهم درجةً لا يهدءون معها حتى إذا فشلت. هناك أيضًا معجبون. منهم شيخ في برلين، أعرف ذلك عن طريق زوجته التي تجبره على أن يعرِّف نفسه أمامي. وجه تلميذة في الشارع، أرى أنني جزء من المقرر التعليمي، تنظر إليَّ وكأنني لا أستطيع رؤية إعجابها الصارخ. وهناك أيضًا مجاملون، بعضهم لا يستهدف أي شيء من وراء ذلك. وهناك أيضًا الأعيان الذين يرغبون لسبب ما في أن أستمتع بالمائدة العامرة، وقريناتهم. شيء آخر: مواطن سوفيتي — شاب صغير كان قد تظاهر عام ١٩٦٨م في الميدان الأحمر وقابلته حديثًا مصادفةً في إحدى الحفلات، يهديني تحيات أحد معسكرات العمل في سيبيريا، شكرًا باسم النزلاء الذين لن أراهم أبدًا؛ هذه التحية غير المتوقعة تؤثر فيَّ كأنها تحذير، تكليف بألا أسمح لنفسي بالسقوط. الشهرة؟ على عكس النجاح فإنها لا تثير حسد أي إنسان. لا تسبب تملقًا؛ حتى لو سمح الشخص بذلك، لارتباكه، فإن الشهرة لا تسمح بالتملق. أفكر في مقابلاتي مع بيكيت: من السهل التحدث معه أو الصمت أثناء لعب الشطرنج، أعماله تبدو بعيدة عنه، وفي الوقت ذاته هو وأعماله واحد. لا يحدث أيضًا أن يشعر الآخر بأن أحدًا يتملقه؛ ليس الجالس هنا نجمًا، ولا شخصًا يتكلف التواضع محاولًا إخفاء ذاته، إذ إن ذلك سيفضح أنه يرى نفسه نجمًا. ينطبق هذا على الشهرة الصغيرة كذلك. لا ينتظر الناس أن يلهث المشهور وراء أن يكون مفهومًا، ناهيك عن أن يلهث وراء المديح، وإذا انتظروا ذلك فسرعان ما يتبينون أنهم على خطأ. بالمناسبة، قد يُخيِّب المشهورُ الآمالَ كشخصٍ، على سبيل المثال لتعاسته. إذا ما لاح أنه قد تراجع عما ورد في بعض أو كل أعماله، فالأمر يخصه وحده. تقييمه لنفسه ليس ملزمًا للآخرين. ينفصل الاسم — الذي حصل عليه عند ميلاده واستخدمه في التوقيع طيلة حياته — عن الشخص، ويغدو صفة لشخصية عامة مؤثرة. لا بد أن يتعلم ذلك. أما إذا لم يتعلمه فإنه لن يكف عن جرح نفسه. الشهرة لا تسبب توقف النقد، ينتظر المرء فحسب — وعن حق — ألا يؤخذ النقد على محمل شخصي، لأنه لن يكون نقدًا للشخص ولعمله، وإنما نقدًا للشهرة. المجتمع في حاجة إلى المشاهير؛ من هم الذين يختارهم من أجل ذلك؟ النقد يصبح نقدًا للمجتمع.

لين

صوتها، عندما لا يسمعه، أكثر حضورًا من وجهها، عندما لا يراه. لا تمد حروف العلة على الطريقة الأمريكية فحسب، بل وتنطقها بصوت رفيع أيضًا. اسمه، منطوقًا بصوتها، يقع على الأذن خفيفًا، حرف اﻟ X الأخير يجيء قصيرًا كما في كلمة إكسيلفون. صوتها لا يلوك الحروف. ليس صوتًا عاطفيًّا. كنغمات أوتار مشدودة تمامًا، ثم الصدى الذي يمنحها جسدًا. يحدث أن يكفيه صوتها في اللحظة الراهنة.

ملاحظات في الطائرة

الأمر يستحق أن يسافر المرء مرةً بالدرجة الأولى. إلى جانبي مسافر شاب، يتاجر — كما اتضح عند ارتشاف الشمبانيا — في القنابل. الصادق هو من يرتبك قليلًا عندما يقولون له إنه صادق. في هارفارد أستاذة أمريكية في الأدب الألماني تكتب عن إنجبورج باخمان،١٢ عن أعمالها وشخصها؛ تشكرني بشدة للمساعدة التي تقدمت بها: ذكر العناوين في روما. في سينسيناتي يُطرح عليَّ السؤال: ماذا يفعل الكاتب عندما يُواجَه بأعماله المبكرة؟ لا أعرف بماذا أجبت، كان يجب أن أحكي عن الرسام الذي قال بحضور زوجته: ملعونة تلك التخاريف القديمة! ثم بعد ذلك، عندما أرادوا إقامة معرِض له، معرِض استرجاعي، قالت الزوجة حتى تختصر له طول التفكير: دعك من تلك التخاريف القديمة! دون أن تلاحظ أنه لا يحق لها استخدام ذلك الوصف الذي أطلقه هو؛ فهي لم ترسم شيئًا. عندما يقول المرء للأمريكيين: ١٣I am a socialist، فإنه لا يفقد احترامهم، على العكس، إنهم مقتنعون بأن الذي يستطيع تحمل تكاليف ذلك لا بد أن يكون نجمًا. من الطائرة أنظر إلى الخارج: لا أصدق أن يختفي إنسان في مكان ما من هذه الأرض الواسعة بكل أحيائها السكنية ومدنها. يُولِّد هذا الاعتقاد نوعًا من الانتشاء الهادئ. مَن يؤمن بذلك، يُصاب بالحزن العميق إذا وقف في هذه المدينة أو تلك. إنه يشعر بالإهانة! هذا أسوأ من أن نقول: إنه خسيس. فالأخيرة نقولها دون استخفاف مشاعر الذنب، دون أن أعرف ما هو الذنب. مرتين، في مونتريال وفي شيكاغو، يُلقى السؤال في ندوة عامة: أستاذ فريش، هل صحيح أنك تكره النساء؟ العَلاقة بين العمر والجهل: أيُّ منحنًى بياني سوف ينشأ عن ذلك؟ بالرغم من تزايد المعرفة، يتسارع المنحنى مع العمر: الجهل يمسي بلا حدود. هل رأى أحدٌ كلبين يتحدثان عن كلب ثالث عندما يلتقيان، لأنهما لا يعرفان كيف يقضيان وقتهما معًا؟ مثل حكاية شعبية عن صياد يجمع شباكه ويجذبها بكل قوة إلى اليابسة، وهو نفسه داخلها، هو وحده. يتضور جوعًا. عَلاقتها الكاثوليكية بالحقيقة. الخوف من أجل الذاكرة: مثل أن يحاول المرء الكتابة بالطباشير فوق زجاج، لا يتقبل الزجاج سوى آثار من الكتابة، ويحفظها غير مقروءة. أتذكر تمامًا أين ولمن قلت ذلك. خرجنا إلى مرسًى طويل للقوارب. أثناء حديثه أفهم كل شيء. وقفنا عند وصولنا نهاية المرسى. لو واصل سيره وسقط في الماء الراكد لكنت تبعته، ولغرقت الآن؛ لم أعد أعرف كيف شرح الأمر. عنين (لأول مرة) في الخامسة والثلاثين.

Arena Stage

انتشاء عارم لدى رؤية خشبة المسرح الخالية قبل الظهر في واشنطن. مثَّلوا هنا قبل عام أوبريت الدوق الذي قُتل بالبلطة؛ الممثلات والممثلون قدموا أنفسهم بأسماء أدوارهم: كوكو، إلزا، ماريو، أو قائلين: I am the widow, I am the murder. أرى في المساء قدراتهم التمثيلية أثناء عرض: Leonce and Lena.١٤ تجتاحني الحماسة، حماسة مخلصة، وأخبرهم بذلك في غرفة تغيير الملابس، وهكذا أستحق القبلات التي انطبعت على خدي. كان لا بد أن أعدهم بأن أكتب مسرحية وأحضر إلى واشنطن لعرضها معهم على هذا المسرح. أَعِدُهم بذلك. ولكن أي مسرحية؟ مسرحية جديدة، أعني: مسرحية من نوع آخر، مسرحية مرحة، خليعة، ليست بالضرورة مضحكة، ولكن دون هدف تعليمي. دون أمل سوى التمثيل نفسه. لا أعِدُ نفسي بهذا، بل أعد الممثلة التي لعبت اليوم دور روزيتا؛ لا بد أن يقف شخص هناك، جسد، حتى أَصدُق الوعد. على فكرة، هكذا بدأت أشعر بالحاجة إلى كتابة المسرحيات: أرى أجسادًا تستطيع التمثيل، وأرغب أن يمثلوني، أن تكتسي كلماتي جسدًا، أجسادًا عديدة، لذكور وإناث.

لين

ببساطة نزع نظارتها كي ينظر إلى عينيها. ضحكت على إنجليزيته. فعل ذلك دون أن يلمس صدغيها، كالنظاراتي الذي يقوم بخدمة زبونة. تقف في ركن الطبخ في شقتها، في كلتا يديها مواعين، لا حول لها ولا قوة في هذه اللحظة. لون عينيها: كحجر الأردواز الفاتح تحت الماء. يرى أن النظارة لا تناسبها على الإطلاق، وهي ترى أنه يظلمها. تقول: Because I need glasses. إذن يعيد إليها النظارة. تقول: Why don’t you have a seat?. شقة جميلة. But very small، ترد عليه. ومع ذلك يروح ويجيء ويداه في جيب بنطلونه: like a prisoner، تقول له، or like an animal. قامت بدعوته لأنه دفع مؤخرًا غداء العمل ذاك، ولأنه، هكذا ترجح لين، لا يأكل منذ ثلاثة أسابيع إلا في المطاعم. فكرة لطيفة. نالت تقديره بحق. يجلس كأنه ضيف. لين طباخة بطيئة، تفتقد السلاسة، ولا تستطيع الحديث أثناء الطبخ. يمكنه أن يساعدها: تقطيع الطماطم إلى شرائح. يستطيع ذلك، من دون أن يتسخ المكتب الصغير، يستطيع أيضًا أن يتحدث في تلك الأثناء، ولكن لا تخطر على باله أشياء كثيرة يحكيها سوى أن البحيرات في كندا ما زالت متجمدة، تلك البحيرات العديدة المتناثرة مثل أوراق بيضاء، قطع ممزقة كأنما انتزع أحد ورقة من الآلة الكاتبة ومزقها. ينتهي من ذلك أيضًا، ثمرتا الطماطم قُطعتا إلى حلقات. اليوم الأحد، أول المساء، لم يُقبِل الظلام بعد، وهو يعاود الوقوف بينما يسمع الطشطشة في المقلاة. يتفرج على كتبها. يعرف أنه ممل. لقد ثرثر في الأيام الأخيرة عن الأدب بما فيه الكفاية. تسأله: هل يطبخ أيضًا؟ لين لا تملك كتبًا كثيرة، وهو ما يخفف عنه. ليس لديه احتياج إلى الأحاديث الأدبية التي تدور في الغالب حول استعراض المعلومات وإطلاق الأحكام النقدية بلا حساب؛ ولا يحتاج إلى أي أحاديث أخرى. اشترت لين زجاجة نبيذ، يستطيع هو، باعتباره الضيف الرجل، أن ينزع سدادتها، نبيذ (سوترنيه). شيء يفعله، يبهجه ذلك. تسأل: هل هو جائع؟ شعرها، حتى تلك اللحظة، طليق وطويل، يضايقها عندما تنحني لإحضار القشدة من الثلاجة؛ لين تجد نفسها مجبرة على عقد شعرها ثانية قبل مواصلة الطبخ؛ لا بد أولًا أن تغسل يديها، ثم تنشفها. عصبية قليلًا رغم أنه لا ينظر تجاهها. ما زال وقت لتدخين غليون. وهكذا يجلس مرة أخرى على الكنبة. إنه يعرف عمره؛ لقد عزم على قبول ذلك أخيرًا. يشعر بوجوب أن يقول أي شيء الآن. لماذا لا تتكلم لين؟ في صمت يقرر، أثناء حشو الغليون، ألا يبقى طويلًا بعد الأكل، وألا يقبلها على أي حال. يحشو الغليون بأقصى استرخاء، وبأقصى تعقيد. لا يحق لهاتين اليدين لمس خصرها. لين مشغولة بمقلاة أخرى. شقتها أصغر مما اعتقد في البداية، باب يؤدي إلى الحمام، الأبواب الأخرى للخزانات فحسب، أي إن الشقة غرفة واحدة. نافذتان عليهما قضبان حديدية؛ مع ذلك سرقوا تليفزيونها. يبدو أن القضبان لا توفر الأمان الكافي؛ يلاحظ المكان الذي قوست فيه القضبان. تقول: What can you do?. طبعًا يشعر المرء بالخوف في سكنه. ثم تطلب من الضيف أن يصب النبيذ. أمام النافذتين: سلم المطافئ الحديدي، كأنه صُنع خصيصًا للصوص. تطل النافذتان على سور يبعد بالكاد خمسة أمتار، سور بلا نوافذ؛ فوقه بعض من السماء. هل من اللياقة أن يسأل المرء عن قيمة الإيجار. لذيذ ما طبخته وحَمَّرته لين، تجلس الآن مسترخية. لم يقرعا الكأسين، لم تقل لين سوى: «هاي». شهيتها مفتوحة، لكنها تقف مرة أخرى لتشغيل جهاز الأسطوانات: فيفالدي. دخلها الشهري: ١٠٨٠ دولارًا، بعد خصم الضرائب: ٧٥٠ دولارًا. لها أسبوعان إجازة في العام. هذا معتاد هنا. يمكنهم فصلها من أسبوع إلى آخر، إذا لم ترض عنها الشركة التي تملك ناطحة سحاب براقة. هذا هو الوضع هنا.

Money

لم أجرؤ على السؤال الأبوي عن وضعها المالي (فالمدرسة التي تريد تأسيسها للأطفال المعوقين لن تمولها الدولة، لأنها لم تجد أي جهة حكومية تتكرم بالإشراف على كفاءتها التربوية) إلا عندما أصبحنا بمفردنا؛ لعل الابنة، التي أخذت أثناء الحديث تشتغل بالإبرة في تريكو من صوف غنم غير معالج كيميائيًّا، قد أساءت فهم السؤال. ما يدين به الأب نفسيًّا لأطفاله بسبب تركه لعائلته لا يمكن تعويضه بالمال. أجابت: الأمور تسير مؤقتًا. تعبيرات وجهها أقرب إلى السخرية.

It Is Pointless

قالت لين عندما قام رغم ذلك بتقبيلها. حتى تجلس على الأريكة خلعت حذاءها. من دون هذا الكعب العالي المصنوع من الفلين كانت بالطبع أقصر، ليس كثيرًا، أقصر بعض الشيء فقط. فاجأه ذلك. لقد قبلته أيضًا، ثم أزاحت اليدين الغريبتين عن خصرها، ليس على الفور، وإنما بحزم رقيق؛ إجابتها لا تُخجل، لأنها نادته باسمه الأول: إجابة غير محرجة، واضحة فقط. بعد ذلك تحضر ألبومًا. لا يحب التفرج على صور. ولكن لا بد أن يكون ضيفًا. صور عُرس زميلة من المدرسة في فلوريدا: لين ترتدي الأبيض، أقل رشاقة من الآن، حزمة طويلة من الزهور على ذراعها، حفلة زواج تحت النخيل.

I got married as a virgin، تقول، That should not be allowed. تنزع كل صورة من الألبوم حتى يتفرج عليها.

ذكريات

عندما تزوجت أول مرة … يحاول أن يحكي بالإنجليزية: She too was a virgin، ولكن ذلك لا يمت للحكاية بصلة، She was an architect too. يشعر بغرابة الحكاية، ويأمل أن تسعفه إنجليزيته من دون الالتجاء إلى قاموس لانجنشايت الأصفر الصغير، إلا إذا أكثرت لين من توجيه الأسئلة الثانوية. I got married twice، يقول لها، legally، يضيف لكي يختصر ويصل إلى الحكاية؛ واحدة من تلك الحكايات الحقيقية التي لم يكن لها أن تطول. يقول بين الحين والآخر: You know what I mean. ننتقل إلى شقة، ثلاث غرف في الطابق الأرضي مع حديقة صغيرة، كنا سعيدين، يقول: to have got this place. لا يعنيني من يسكن الشقق الأخرى في البيت. مع ذلك يتناهى إلى علمي أن امرأة شابة تسكن في الطابق الأول، أصاب الشلل جسدها كله، السيدة هالر، لذلك فإننا لا نراها على الدرج أبدًا. I was thirty one، يقول لها، exactly your age. في أول صباح بعد حفل زواج من الطراز الأرستقراطي نجد زهورًا أمام باب الشقة. من السيدة هالر في الطابق الأول. لم أصعد لأشكرها، إلا إنني أقابل أحيانًا على الدرج آنسة متقدمة في السن تعتني بالمشلولة؛ اسمها أيشلبرج أو أيشلبرجر؛ نتبادل التحية عند صناديق الخطابات، وفي كل مرة تبتسم الآنسة ابتسامة لا يستطيع سبر غورها. كثيرًا ما تستمع إلى الراديو، المشلولة، ليس فقط إلى الموسيقى — وهو ما يسبب إزعاجًا أقل — وإنما أيضًا إلى تمثيليات ومحاضرات. لا نسمع صوتها أبدًا. نعلم عن طريق امرأة تغسل الملابس أنها لا تستطيع منذ سنوات مغادرة فراشها؛ وأيضًا لن تستطيع في المستقبل مغادرته. incurable، هذه هي الكلمة، incurable. عندما أصعد إلى الطابق الأول، وهو ما يحدث كثيرًا، لأطلب شيئًا من الآنسة أيشلبرج، ملحًا أو فتاحة علب أو شيئًا مما ينقص بيتنا الجديد، فإنني أنتظر على الدرج؛ ألقي نظرة على الدهليز الصغير، وعبر باب مفتوح أرى الحجرة التي ترقد فيها المشلولة. لا أراها هي، ألمح فقط خزانة ملابس وطرف بساط. أعرف الآن أين سريرها. تسمع صوتي. ثم أنساها من جديد. ذات مرة واجهت موقفًا محرجًا: كان لا بد أن أسأل عن منصهر إليكتروني؛ من دون مخزون المنصهر — الذي كنت واثقًا من وجوده لدى الآنسة أيشلبرج، تمامًا مثل ابتسامتها الغريبة — لكنا قضينا معظم أوقات سنوات زواجنا الأولى في الظلام. يُطلَب مني الدخول. أفهم أن السيدة هالر، التي تسمع صوتي منذ عام، ترغب في أن ترى الجار مرة. أكذب على الفور وأقول إن لدينا الآن ضيوفًا. مجرد خمس أو ست خطوات. أقول: بكل سرور مرة أخرى، وأشكرها على المنصهر. فيما بعد أشتري على سبيل الاحتياط عددًا من المنصهرات؛ لم أعد أريد الصعود إليها. لا أعرف على وجه التحديد سبب عدم رغبتي في رؤية السيدة هالر. أطلب من زوجتي، عندما تنسى شراء شيء، أن تصعد هي. لم أصعد إليها لمدة عام. في ذلك الوقت رُزقنا بطفلنا الأول، وأقرر البحث عن شقة أخرى، شقة أكبر، إلا إن النقود تنقصني، وهكذا نبقى. ويمضي عام آخر إلى أن أعرف من هي تريزه هالر. كان شيئًا طبيعيًّا ولا يمكن تجنبه أيضًا، أن تتصادق زوجتي مع الآنسة أيشلبرج هذه التي ترعى طفلتنا أُرزولا في بعض الأحيان، وأن يُطلب من زوجتي الدخول إلى الشقة العلوية؛ لم تقل لا، وتعرفت على المشلولة التي لم تعد تستطيع حتى تحريك اليدين، فقط رأسها. الشلل إثر عملية ولادة. تحكي لي ذلك أثناء جلوسنا إلى المائدة، زوجتي وأنا وطفلتنا على عرشها الصغير. وبينما أخذ لعاب الصغيرة يسيل، يتناهى إلى سمعي من بعيد أن المرأة المصابة بالمرض العضال تعرفني. قالت إننا كنا في المدرسة الإعدادية نفسها. تريزه هالر — موك، منذ سنوات وأنا أرى اسمها على صندوق الخطابات الخاص بها من دون أن أتعرف على اسمها قبل الزواج: «تَزي!». لم نكن فقط في المدرسة نفسها، my first love، يقول، but she could not know this. فتاة بدينة بضفائر شقراء. لم أنفرد بها أبدًا. أفضل أصدقائي، صبي من الطبقة العاملة، كان يحب تَزي هو الآخر. في مقلاة والدته التي كانت تعمل أثناء النهار في مغزل، صنعنا دبلتي زواج من الرصاص. لم تعرف تَزي عن ذلك شيئًا. عدة أيام ونحن نقضي فترة بعد الظهر في صب الخاتمين؛ في مقلاة التحمير كان الرصاص يبدو كالفضة، إلا أنه يفقد بريقه كل مرة عندما يبرد، وإلى أن يتمكن المرء من إدخال الخاتم في الإصبع كان لونه يغدو رماديًّا منطفئًا. لم يتبق أمامنا سوى الإمساك ﺑ «تَزي» في فناء المدرسة وجذبها من ضفائرها. ذات مرة، أثناء رحلة مدرسية، قبلتني على شفتي، الفتاة ذات الرابعة عشرة، وصديقي كذلك … أعدُ بزيارة المشلولة خلال الأيام المقبلة، أنوي فعلًا ذلك. عندما نجلس في الحديقة فإنها من الممكن أن تسمعنا؛ نافذتها في الأغلب مفتوحة. تقول إن معاناتها بلا آلام. حينما قرأتْ في الجريدة أنني حققت نجاحًا مهنيًّا، أرسلت إليَّ تهانيها. ما زلت لم أصعد بعد إلى السيدة هالر. Why not? يرد قائلًا: I just don’t know. في تلك الأثناء كنتُ قد استأجرت غرفة تحت السطح في البيت نفسه، حتى أستطيع العمل مساءً من دون أن أغادر البيت؛ وهكذا أمر كل يوم تقريبًا أمام باب شقتها. It’s a shame، يقول، I know. عدت ذات مساء من ورشة البناء إلى المنزل لأجد باب شقتنا مفتوحًا على مصراعيه، لا أحد في الشقة، والمطر ينهمر؛ لا يمكن أن تكون زوجتي في الحديقة، أنادي بلا نتيجة. لعلها فوق؟ في المطبخ أجد مقلاة فوق الموقد، مقلاة متوهجة. عندما صعدت، فتحت الآنسة أيشلبرج وهدأتني قائلة إن زوجتي قد عادت إلى وعيها. لا أفهم ماذا حدث، وعندما دخلت إلى الشقة، التي تجنبت دخولها منذ سنوات، فقد كنت مستعدًّا في تلك اللحظة لمواجهة أي شيء، إلا السيدة هالر. قيل لي إن البرق صعق زوجتي وهي واقفة عند الموقد. زوجتي مستلقية على فوتيه، ذاهلة تقريبًا عما حولها، شاحبة ولكن واعية. كانت آنذاك حاملًا في طفلنا الثاني. تطلب مني الآنسة أيشلبرج أن أجلس. لم أجلس. أقف بين زوجتي وبين المشلولة الراقدة على فراشها. طفلتنا أيضًا هنا؛ العائلة كلها. السماء ما زالت تبرُق. مرة أخرى يُطلب مني الجلوس. بعد أن استمعت إلى الحكاية بتفاصيلها، أجد أنه من اللائق أن أحيي السيدة هالر؛ أقول: تَزي! وكأنني دخلت لتوي إلى الغرفة. بالمناسبة، سريرها لم يكن في المكان الذي كنت أظنه منذ سنوات، بل في الزاوية اليمنى، الأمر الذي زاد من ارتباكي، وجعلني أنسى في تلك اللحظة ما أعرفه منذ سنين: لتحيتها أمد إليها يدي التي لا تستطيع مصافحتها. لكنها تبتسم. ذراعاها ترقدان إلى جانب جسدها فوق الفراش، ذراعا دمية. تحادثنا من دون رفع الكلفة بيننا. أجلس بحيث لا تحتاج إلى إدارة رأسها أثناء الحديث. ترى السيدة هالر أنني لم أتغير. لها وجه طفولي، تتكلم ببطء، وفرح، بالقدر الذي يليق بحالة زوجتي التي ما زال البرق يرعبها. قامت الآنسة أيشلبرج بإعداد الشاي. فصلتُ التيار الكهربائي عن موقدنا. ترقد المشلولة مرتدية عِقدًا وإسورة وقد صُفف شعرها بعناية وكأنها كانت تنتظر زيارتنا. لم تسأل لماذا لم أصعد لزيارتها أبدًا. طفلتنا أُرزولا تجلس على فراشها. عندما انتهينا من احتساء فنجان شاي، وجدت أن الوقت قد حان لأصحب زوجتي وأنزل بها، رغم أنها هي تحديدًا كانت تستمتع بهذا الجو المؤنس الذي أنساها رعبها قليلًا؛ أقول، كما قلت مرة سابقة: بكل سرور مرة أخرى! بالطبع أشكرها على مساعدتها وعلى كل شيء. لا أعرف كيف أودع السيدة هالر، إذ إنها لا تستطيع أن تمد يدها. هل ألمس يدها بالرغم من ذلك؟ كنا قد تذكرنا اسم صديقي آنذاك: كان يدعى بوندي، إميليو بوندي. تُرى ماذا أصبح الآن؟ لما قمت بتوديعها أخيرًا وبشيء من الفجائية، خاطبتها ﺑ «السيدة هالر». وقع ذلك أفضل على الأذن من «تَزي»، وأكثر دفئًا. لمست يدها الساكنة الملقاة جوار الجسد فوق الغطاء؛ يبدو أنها لم تشعر بيدي. وانصرفنا. كشف الطبيب على زوجتي الحامل ووجد كل شيء على ما يرام. لم تتذكر ذلك إلا في الساعات الأخيرة قبل الوضع، كانت ليلة ممطرة من دون برق أو رعد، فجأة اجتاحها خوف هائل من أن تلد كائنًا مصابًا — منذ لحظة الولادة — بمرض عضال. أشعر بالذنب. أرى على وجه زوجتي أنها تفكر في ذلك هي الأخرى، إلا إننا لا نعترف بأفكارنا لنفسينا. أُمسك بيدها العرقانة إلى أن يطلب مني الطبيب أن أتركها؛ ينصحني بالجلوس في غرفة الجلوس، وتناول كأس من العرق، سوف ينادونني. إلا إن زوجتي تريد أن أكون موجودًا عند الوضع. أبقى حتى تلد. طفل في صحة جيدة، ولد. ظللنا نسكن لبضع سنوات في تلك الشقة، ولكني لم أزر السيدة هالر ثانية. نويت فقط. فيما بعد (١٩٥٥م) تركت الشقة.

Max, You Are a Monster

وسكنت بمفردي: غرفتان في بيت فلاحين، مطبخ وحمام، وجهاز أسطوانات سُمح لي باستخدامه حتى العاشرة ليلًا. ليس المرء في حاجة إلى فرد ذراعيه حتى يلمس سقف الحجرة. الفلاحة العانس بالأسفل تسمع كل خطوة، حتى عندما يخلع المرء الحذاء. الصوت الخافت في الفرن الذي يعمل بالزيت. ثلاثة أشتية وأربعة أصياف حافلة بالعمل.

Montauk

لا تتم كل الأمور في هذا اليوم الصحو كما يريد. اقتراحه بعد أن اطلع على الخريطة: Culloden Point. بماذا يُمنِّي نفسه: قرية، قرية صيادين صغيرة على ميناء، صوارٍ، بيوت، سكان (كالعام السابق في منطقة بروتاني)؛ ثم يكتشف أن المكان لا يستحق مجرد التوقف: أرض مسطحة عليها أكشاك خشبية، إلى حدٍّ ما متآكلة، قوارب بمحركات بجوار الشمندورات، أخرى على الأرض للتصليح، مواقف سيارات، محطات وقود تزينها أعلام، كُومة من إطارات الكاوتشوك المستهلكة، منطقة مليئة بالنُّفايات من كل نوع، وبالحفر أيضًا: للبيع For Sale، اللافتات المشهورة: Texaco, Pizza, Shell, Blue Ribbon, Humburger, Real Estate. انتصف النهار الآن، ربما تفضل الشابة، المدعوة لين، أن تكون بمفردها في مكان آخر … Amagannsett: اسم من لغة الهنود الحمر أيضًا؛ يهبطون من السيارة رغم عدم وجود قرية هنا: نجيل يحيط بفيلات خشبية بيضاء، نجيل وأشجار، كل شيء مُعتنًى به، ثم لافتة: For Rent. لا أسوار خشبية؛ كلهم ميسورو الحال في هذا الحي، لديهم جميعًا زهور، الطبيعة عنوانًا للرخاء. حتى السماء الزرقاء تبدو مُعتنًى بها. كل بضعة أمتار سيارة ليموزين. رشاشة مياه وسط النجيل لطرد الملل الأخضر. ماذا يفعلان هنا؟ سيان إذا سار المرء في هذا الاتجاه أو ذاك: نجيل وأشجار، وفيلات بيضاء. العلم الأمريكي، راية بنجوم، معلق في مكان ما؛ مركز المدينة على ما يبدو. يشعران بالوداعة، كل شيء هنا براق ووديع تمامًا كما في الإعلانات. يسمعان تغريد طيور. وفجأة يشعران بالخواء الذي يجعل الحديث عن أي شيء مستحيلًا. يقرآن لافتات: Chutrch, Liquor Store, Antique Shop, Botique. قد يتغلبان على ذلك لو اشتريا شيئًا يشعران بالاحتياج إليه. على الأقل بدأت لين تتفرج على البنطلونات والأحزمة، لا تبحث شيء بعينه؛ تقلب في ما هو موجود. لن تشتري شيئًا؛ لن ترغب في شراء شيء، إذ إنها لا تريد أن يهديها إياه. يشعر على الفور بالملل الذي يصيبه دائمًا عندما تتفرج امرأة على أشياء لن تشتريها أبدًا. لا يذكِّر لين بجوعها. هو بالأحرى عطشان. الفتاة، التي تدير البوتيك أو على الأقل تعمل فيه، لم تنهض من مقعدها؛ قارئة حافية. لا يسببان لها أي إزعاج، حتى عندما توجه لين سؤالًا بدافع التهذب وتتلقى إجابة عنه. ما تقرؤه في الكتيب يبدو أكثر أهمية لها من البوتيك. لا يدري لماذا ينظر إلى قدميها، قدمي قارئة. أسماك زينة في حوض زجاجي. خسارة الوقت. لين تقف الآن عند القبعات. يتعجب لأنه لم يصبح عصبيًّا. يفكر الدماغ دائمًا في شيء ما، غالبًا الشيء ذاته، لذلك لا يهتم المرء بما يفكر فيه. عندما اختار حزامًا ليعاينه من وسط مجموعة أحزمة بأبزيم ثقيل وعابس قالت له لين: Much too expensive. ولا هذا يزعج القارئة. يمكنهما الذَّهاب إذن. يقول: «باي»؛ لم ترفع القارئة بصرها، ولكن تقول: Have a nice day. في السيارة (لين تقود) يعرف فيما كان يفكر أثناء وجوده في البوتيك: أرغب في وصف هذا اليوم، هذا اليوم لا سواه، نهاية الأسبوع معًا وكيف حصل ذلك، وماذا سيحدث بعد ذلك. أرغب في القص من دون اختراع شيء. موقف ساذج من القاص.

لماذا نهاية هذا الأسبوع بالذات؟

بدلًا من وصف أول أشياء اشتريتها في السوق الصغيرة الأسبوعية في برلين، الشقة الخاوية حيث أنتظرُ العمال أثناء النهار. ابتداء من الغد سيكون لدينا ماء ساخن. الشوارع في هذا الشطر من برلين، وحانات برلين، ونصف نهر الهافل بها، وأشجار صنوبرها تحت السماء الشمالية. بعد الظهر في المدينة بغرض شراء أجهزة للمطبخ؛ إنها المرة السابعة التي نؤثث فيها مطبخًا. تقع الشقة على طريق مطار تمبلهوف؛ من الغرب تهبط وتقلع الطائرات على ارتفاع منخفض، لذا يدوي ضجيجها في الفناء الخلفي؛ ما بين الهبوط والإقلاع سكون، حي «فريدناو». نحتاج إلى أكثر مما اعتقدنا: ستارة شفافة تسمح بنفاذ شمس الصباح إلى المكتب. أثبت في الحائط خمسة مشاجب لتعليق الملابس. كنا نقول حتى أمس الأول: سأذهب الآن إلى الشقة. اليوم نقول: أنا ذاهب إلى البيت. كراتين من كل لون تسلك سلوك قطع الأثاث. دولاب قديم يعجب الزوار على الفور: من وجده؟ أنتِ وجدتِه. من وجد المائدة الطويلة؟ أبحث عن خوابير بلاستيكية. في أنحاء الغرف البيضاء الخاوية تتردد أنغام موسيقى من ترانزيستور صغير. هذه بالضبط هي الشقة التي بحثنا عنها في زيورخ بلا طائل: بسيطة ولكن بغرف ذات سقف عالٍ. ها نحن إذن في برلين. أما الأسباب فمتنوعة: الحياة مع الجدار، بعض الأصدقاء يعيشون في الناحية الأخرى، منهم من يخجلني بشجاعته، شجاعة كبيرة. يوم الأحد على قبر الأديب كلايست. أفضل ديكور داخلي للمعمار الحديث رأيته في قاعة شارون الفيلهارمونية. فبراير بارد؛ الهواء الخفيف. أول ما يتم تأثيثه هو المطبخ؛ موقد بالغاز. يجب ألا تزدحم الشقة بالأثاث، هذا هو رأيي كذلك، ولكن المرء يحتاج إلى مقاعد. التليفون على الأرضية الباركيه. طاولة مستديرة صغيرة تُذكر بمقاهي الحدائق أو المطاعم الصغيرة. ثريا على طراز الشباب،١٥ كان قد أحضرها يوريك من جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وثريا أخرى من الطراز نفسه أعجبتك أنت أيضًا. أوزفالد فينر يشرف الآن على حانة، «المنفى»، نشعر فيها بالراحة. عثرتِ على كراسي، الواحد بخمسين ماركًا، كنت معجبة جدًّا بالدكان الذي يقوم بالبيع فيه طالبان ملتحيان؛ أقف هناك لأفحص الكراسي، وأنت أدرت وجهك عني، وكأن لا عَلاقة لي بالكراسي؛ زبون آخر. الملتحيان، اللذان يعرضان علينا نبيذًا، يتعاملان معنا كزبونين أتيا معًا. نقضي عصرًا على بحيرة شلاختين؛ عندما تشعرين بالسعادة أنسى لبرهة تعاستك معي …

Journal Intime ١٦

عندما أقرأ فيه، مثلًا لاحتياجي إلى تاريخ معين أثناء حديثنا، تتولاني الدهشة: لقد توصلت قبل سنتين أو خمس سنوات إلى الرأي نفسه؛ نسيته مرة أخرى فحسب، لأنني لم أتمكن من أن أعيش وفق آرائي؛ بقدرة خارقة عشت العكس تمامًا.

It Is Pointless

كان يتوقع أن تتصل به من البهو. في الخارج أمسية صيفية. وإذ بأحد يدق على باب الغرفة، ولين تقف أمامه. تقول له في الحجرة بعدما أغلق الباب: «هاي!» لا تخلع السترة الوبرية لأنهما بالطبع لن يبقيا في الغرفة. يسيران من دون الإمساك باليد. لم تجد لين اليوم وقتًا لتمارينها الروحية اليومية. عشرون دقيقة قبل كل إفطار، عشرون دقيقة على كرسي المكتب بعد العمل. اليوم استدعاها الرئيس: اجتماع. لا تحتاج الآن إلا إلى مقعد وعشرين دقيقة. ليس من اللازم أن يغادر الغرفة، وجوده لا يضايقها ما دام لا يتكلم. بعدما وضعت حقيبتها على البساط، حقيبة كبيرة كأنها مخلاة، جلست من دون كلمةٍ مغمِضة العينين، باسطة راحتيها باسترخاء فوق بنطلونها. يمكنه أثناء ذلك قراءة الصحيفة، Book Review. أخذ يعبث في المطبخ الصغير حتى يكون بعيدًا عنها من دون أن يخلع الجاكت. لم يكن يراقبها إذن وهي تجلس، وتتنفس؛ الكف ساكنة ومسترخية. تتنفس. لا شيء غير ذلك. تتنفس بسهولة، ثم — هكذا يبدو له — ببطء وانتظام يتزايدان. ألقى نظرة على ساعته ليحسب العشرين دقيقة. ساقها اليمنى تنحرف قليلًا من دون أن تلاحظ ذلك، كالنائم أثناء الجلوس. لين غير نائمة. أخذ يفكر خلال الدقائق الأولى التي مرت بطيئة في أنها تقوم بعرض فحسب: Show. وقف بعدها عند النافذة، مديرًا لها ظهره، ويداه في جيبي بنطلونه. مرة أخرى يلقي نظرة من الطابق الحادي عشر على تقاطع الطريق. منذ عامين كان في الطابق السادس عشر. الناس من هذا الارتفاع قبعات بأكتاف، ملونون، مسطحون كأزرار، ظلهم الطويل يرافقهم عند سطوع الشمس أو تحت ضوء المصابيح، ثم يدور الظل حولهم، يقصر ثم يطول ثانية. عندما ينتظر المرء أحدًا (كما حدث قبل عامين)، ويريد التعرف على الشخص القادم، فإن الأمر صعب: قبعة بنية تجعل المرء يفكر على الفور في أنها جاءت، لم تتأخر، لا داعي للشك. إلا إن المرء قد يُخدع، وتذهب القبعة إلى مكان آخر. حتى لا يجترَّ الماضي مرة أخرى، يترك النافذة أخيرًا: مرت الآن اثنتا عشرة دقيقة، وما زالت الغريبة تجلس على المقعد، الرأس مستقيم، شفتاها مضمومتان ونحيفتان، عيناها مغمضتان. inconnue de la seine، يحاول أن ينظر إليها بسخرية. ولا هذا يضايقها. يجلس أخيرًا على المقعد الآخر ليحشو غليونه. هو في الحقيقة لا ينتظر. إنه يجلس هناك فحسب، واضعًا مرفقه فوق الركبة، وفي اليد الغليون المنسي. من دون احتياج إلى نشاط ما. لا يسود السكون في الغرفة: الأزيز الخفيف لجهاز الإيركونديشن، بين الحين والآخر باصات، وذات مرة صفارة سيارة الشرطة. يتفحص بساط الغرفة. يبدو أن كل الغرف هنا بها البساط ذاته. حتى هذه الخاطرة واتته كثيرًا. رقد مرة وهو سكران على هذا البساط القذر بذراعين ممدودتين تمامًا، وأخذ يقول: أشعر باستدارة الأرض، أشعر باستدارة الأرض، كان ذلك بعد انتصاف الليل عندما عادت إلى الفندق، ولم تكن في حاجة إلى ذكر من أين أتت أو سبب مجيئها متأخرة، كان مبتهجًا لأنه وجد أحدًا يقول له: احضن الأرض! لم يقطع عليه شخص نشوته؛ ولا كلمة عتاب لأنه لم يرقد على الفراش وإنما على البساط؛ أُلقي الغطاء الأصفر، الذي كان على السرير، فوقه بعناية حتى لا يصاب بالبرد فوق البساط بجانب السرير، احضن الأرض! كان سعيدًا … يرن الآن التليفون الأبيض؛ يتردد، لكنه يرفع السماعة حتى يوقف الرنين. لا يتحدث بصوت أخفت من المعتاد، ولكن الجمل أقصر. بالألمانية. موعد للغد. بعدما وضع السماعة أخذ يتأملها: عنقها الشاحب، منبت الفك اللطيف الصارم، الأذن؛ كانت قد ألقت شعرها إلى الوراء. انفرجت شفتاها الآن قليلًا. بان عليها التعب عندما وصلت. الكل يعرف أنها مدينة مجهِدة. تمسح بيدها ذات مرة على شعرها من دون أن يتحرك رأسها أثناء ذلك؛ يبدو هذا عجيبًا: ما هو الشخص — يد أم رأس؟ ثم تستريح هذه اليد على البنطلون مرة أخرى. فخذاها نحيفان. ينظر إلى ساعته. الزمن لا يقف، إنه يصبح زمنًا آخر فحسب. يجلس من دون أن يحشو غليونه؛ يتجه ببصره إلى الأشياء: آلتي الكاتبة الصغيرة، أوليفتي ليترا، المصباح الأصفر، صحن من البلاستيك، ولاعتها الخضراء، حقيبتها جوار المقعد على الأرض؛ ثم يحول نظره إلى النافذة المفتوحة: واجهة المبنى المقابل، Brownstone، خزانات المياه السوداء منتصبة فوق الأسطح تجاه السماء الصفراء. لم تُظلِم الدنيا بعد. يسدد بصره إلى قدميها الحيويتين. كانت قد خلعت حذاءها حتى تكون حافية؛ يبدو أن ذلك مألوف في التدريبات. قدماها، يداها، جبهتها، أذنها. كل شيء ساكن. ولكنها تتنفس، تتنفس. جسد حي. يمكنه أن يشاهد هذا المنظر طويلًا. لما فتحت عينيها ولم يبد عليها أي ارتباك لوجود شخص في الحجرة، ثم ارتدت بلا كلمات حذاءها، عندئذ نظر في ساعته (دون أن تلاحظ لين ذلك): عشرون دقيقة بالضبط، تقريبًا بالضبط. إلى أين نذهب لتناول الطعام؟ تريد أن تدخن سيجارة أولًا. تقول: I am hungry، ولكنها لا ترفع حقيبتها من على الأرض. ترغب عندئذ في الذهاب إلى الحمام. ينتظر وفي يده مفتاح الغرفة. مستبشرًا. رفض دعوة، دعوة جذابة، كي يكون وحيدًا مرة أخرى، يفرحه أن لين ترافقه. عندما عادت من الحمام يلفت انتباهها إلى الحقيبة. تقول: I’ll take it later. تبقى حقيبتها في غرفة الفندق.

I Like Your Sense of Humor

وسط الصحبة (Pen Club) تضحك لين كما ينبغي. How funny، مع أنها لا تطيق الناس. على انفراد تضحك في المواقف التي لا يتوقعها. ضحكتها رنانة نسبيًّا. لا يستطيع أحد أن يجعلها تضحك. هي أيضًا لا تستطيع كبت ضحكتها. تضحك كامرأة فوجئت. يغير هذا من ملامح وجهها في اللحظة الراهنة، غالبًا ما يشعر عندئذ بأنه لم يقل شيئًا يستدعي الضحك. هي لا تضحك لأنها سمعت نكتة. لا تطول ضحكتها أبدًا، إلا أن وجهها يبقى لفترة مشرقًا، وكذا نظرتها.

You Have an Open Face

هذه الكلمة لم تُنطق أبدًا:

I Love You.

«عن الحب، كعَلاقة بين الجنسين، لم يعد هناك جديد يُقال، لقد استنفد الأدب تناول هذا الموضوع من كل جوانبه، لم يعد ذلك موضوعًا بالنسبة للأدب الذي يستحق هذا الاسم — يقرأ المرء مثل هذه الأحكام التي تتجاهل أن العَلاقة بين الجنسين تتغير، أن قصص حب أخرى تنشأ.»

Woman’s Liberation

يقول إنه يؤيد ذلك بكل قوته، وأن لا شيء أكثر إلحاحًا بالنسبة لمجتمعنا. هل عاش مع امرأة متحررة؟ السؤال لا توجهه لين، ويندم لأنه سأل نفسه هذا السؤال؛ الآن تريد لين معرفة الإجابة بينما أخذ هو يصب الشاي. امرأة متحررة؟ إنهما يأكلان باستخدام زوجين من العيدان في مطعم صيني، يُوفَّقان حينًا، ولا يُوفَّقان أحيانًا، تلتقط العيدان حبات الأرز الجاف الخفيف، بينما تنزلق شرائح الخيزران. لا يفقد المرء الشرائح فحسب، بل أيضًا موضوع الحديث …

الإله الطيب من مانهاتن١٧

كنت لأسباب مهنية في راديو هامبورج، هناك استمعت إلى التمثيلية الإذاعية، ثم كتبت خطابًا إلى الشاعرة الشابة التي لم أكن أعرفها شخصيًّا: كم هو جيد، كم هو مهم أن يعبر الجانب الآخر، المرأة، عن نفسه. كنت أعرف أنها تستمع إلى المديح بما فيه الكفاية، إلى مديح فائق، رغم ذلك وجدت نفسي مدفوعًا إلى كتابة الخطاب. كنت أريد أن أقول: نحتاج إلى تصوير الرجل من خلال المرأة، تصوير المرأة لذاتها. ردها المكتوب أذهلني: سوف تسافر إلى باريس وتمر على زيورخ، إلا إن وقتها محدود، أربعة أو خمسة أيام. ماذا تقصد بذلك؟ إلا أنها لم تجئ. لم يكن لديَّ عنوانها في ميونيخ أو في باريس؛ إذ كنت أرسلت إليها عن طريق دار النشر. عندما سافرتُ بعدها إلى باريس، عرَفت هي ذلك عن طريق الصحف، واهتدت إلى محل إقامتي، Hotel du Louvre. حضرت لتشاهد عرض مسرحيتي، Theatre des Nations، مرتدية ملابس تناسب الجلوس في اللوج. غمرتني السعادة عندما جلسنا في مقهى أمام المسرح وشربنا كأسًا من «البرنو»، قلت لها: ليس من الضروري أن تتفرجي على المسرحية. تجاهلت قولي، وانشغلت بحقيبتها وقد استولى عليها الارتباك لأنها لم تعثر على شيء ما. لم تكن عندي تذكرة لدخول اللوج، ولكن تذكرتان للبلكون. لماذا قلت ذلك؟ الممثلون في انتظاري، أول عرض في باريس، أول عرض لي، كان رأيي أن العرض ممتاز، ومسرحيتي جيدة، ولكن عندما حان وقت الدخول كررت عليها: إنجبورج باخمان، ليس من الضروري فعلًا أن تتفرجي على المسرحية. بدلًا من دخول المسرح ذهبنا إلى أول عشاء لنا معًا. لم أكن أعرف شيئًا عن حياتها، ولا حتى شائعات حولها. هل تعيشين طفلًا؟ سألتها في البداية، وكانت مسرورة، مستغربة، سعيدة لأن أحدًا لم يكن يعلم أي شيء عنها.

Mintauk

بالأمس أثناء سفرهما إلى هنا تحدثا قليلًا، لين أمام عجلة القيادة، بينما هو منشغل بالخريطة: You have to navigate، يُضحكه تعبيرها. في نهاية الأسبوع الماضي كانت الشمس ساطعة. الآن بدأت تمطر. تمكنت لين من مغادرة المكتب مبكرًا، في الساعة الثالثة ظهرًا. قد يكون الطقس على الأطلنطي — هكذا يعزيان نفسيهما — مختلفًا تمامًا. الطقس مهم. بإمكانهما، إن لم تمطر، التنزه على الأقدام، عندئذ لن يبدو المبيت كهدف. Sunrise Highway، بعد هذه اللافتة لا يمكن أن يضلا الطريق؛ يمكنهما الآن إذن أن يتحدثا، وأن يتبادلا الحكايات. في الغالب يأتي متأخرًا؛ لين تمسك بولاعتها في يدها. سألته مرة: Do you snore? طريق السيارات الآن جاف؛ إنها لم تمطر هنا على الإطلاق. يشعرهما ذلك بالراحة، لكنه لا يجلب مادة للحديث. استقالة المستشار الألماني فيلي برانت: ليس موضوعًا يكفي للتحدث فيه بضعة أميال … قبل بضعة أيام لم أستطع بعد منتصف الليل مقاومة الاتصال بكريستا فولف١٨ في أوبرلين بأوهايو: في أي شيء تفكر حكومتكم، لا، أعرف يا كريستا، لا ذنب لك في هذا، كريستا، أعرف، كريستا، أنا آسف … يمينًا ويسارًا أرض خلاء مقفرة، هنا وهناك بعض المباني، أنطولوجيا اللاعمارة البشعة. يشعر بالسعادة إذ ما زال أمامهما سفر لأميال عديدة. ماذا يمكن للمرء أن يفعل هنا؟ يرى أن لين تجيد القيادة. تسأل ما إذا كان دائمًا بهذا التهذب عندما يجلس بجوار سائق. ذات مرة أدارت رأسها وتطلعت إليه: I do not know you at all، قالت، ثم سألت عن عيوب الغريب الذي يجلس جوارها. Are you a sadist? بعدها بقليل تلوح لأول مرة لافتة: Montauk. الآن يغلب عليه التأكد من فشل هذه الرحلة، كان يفضل أن يكون في نيويورك. قام بشراء الخريطة، الأشياء الأخرى قامت بها لين: National Car Rental, Gurbey’s Inn، الحجز مع سداد جزء من الفاتورة عن طريق التلغراف. ترجوه رجاء يمكن تحقيقه: ألا تقف بجواره وهو يسجلها في الفندق تحت اسمه. يتذكر الأيام الخوالي. في تلك الأثناء تمشط لين شعرها في السيارة. يبدو أنها تعرف هذا الموقف، ولا تحبه أيضًا. عندما جاء صبي ليأخذ الحقيبتين الصغيرتين من السيارة، ظلت صامتة. لغته الإنجليزية، ولغتها الإنجليزية، لا يمكن أن يحملا الاسم ذاته. Okay، يقول في الغرفة من دون أن ينظر حوله، ثم يعطي الولد، الذي أراد أن يريه الحمام، بقشيشًا. تظل لين صامتة إلى أن ينصرف الصبي. Well، تقول من دون أن تخلع سترتها الوبرية. كلاهما أكثر ارتباكًا مما يكونان في الشقة. يقف أمام الستائر الشفافة عابثًا. غرفة بشرفة تطل على الشاطئ القريب. سريران، بينهما طاولة صغيرة فوقها أباجورة. يخرجان على الفور إلى الشرفة. في الخارج بعيدًا في الأطلنطي تبرق الشمس. لين تقترح الخروج للتمشية، وهو يرحب موافقًا؛ قبل الخروج تريد أن تغسل يدها.

هناك أيضًا طاولة تنس

لين تعرف الفندق من رحلة نظمتها الشركة التي تعمل بها؛ فندق بين الكثبان الرملية. كان ذلك في الصيف. عندئذ يزدحم المكان بالناس، هذا إذا كان الجو يسمح بالسباحة. ما زال الطقس أبرد من أن يستطيع المرء السباحة، لكن من الممكن التمشية، إذا لم تمطر غدًا.

هل يدري عمَّ يتحدثان في اللحظة الراهنة؟

لن تتعرف لين على عيوبه. ليس لديها الوقت لذلك. الأمر في حاجة إلى زواج، زواج طويل، حتى تظهر العيوب … لم أعاملها كخادمة (بين الحين والآخر كنت أغسل الأطباق أيضًا، وأفرغ القمامة في الصناديق المخصصة لها بأسفل المنزل، وأتسوق … إلخ). لم أضرب أبدًا المرأة التي أحبها؛ شكواها من نوع آخر، شكوى تصيبني في الصميم. كنت في حاجة إلى عام حتى أعترف بذلك. في البداية وجدت الأمر مضحكًا، ملخص ما قالته: إنني لم أساهم بأي شيء طوال عشر سنوات في سبيل أن تحقق ذاتها. تتحدث بكل هدوء. حملتها على يدي: أكثر الطرق راحةً للتعامل مع امرأة، وأسوؤها أيضًا. أعترف بهذا. أثر فيَّ اتهامها بطريقة مختلفة عما قصدت هي. يبدو أنني تصرفت منذ البدء وكأنني الله الآب، أو على الأقل آدم الذي خُلقت الأنثى من ضلعه: هيا، اتبعيني، سأقودك! لم تكن المرأة ناكرة للجميل، لكن يائسة. كيف كنت أنظر إلى سنواتنا الجميلة — فجأة تبدو لي كأنها سنوات ضائعة. عيبي: Male chauvinism. سلوكي فقط، منذ البداية ويومًا بعد يوم، جعل امرأة ذكية تعتقد أن تحقيقها لذاتها أمر يقوم به الرجل، الرجال.

هنا تكمن أخطائي

شاطئ مترامي الأطراف لا تُرى له نهاية، يضيع الشاطئ عند الحافتين عندما يحتويه الضوء البنفسجي الحليبي للماء المتبخر. الجو تقريبًا حار رغم الريح. في الرمال كرسيَّان من كراسيِّ البحر عليهما وسادتان باهتتان، ليس ثمة كراسيُّ أخرى على مرمى البصر؛ من يمتلكهما؟ ولا إنسان على مرمى البصر. يستخدمان الكرسيين من دون أن يغيرا مكانهما: متوازيان تقريبًا، المسافة الفاصلة بينهما أكبر من ذراع. كانا قد قاما بتشمير البنطلون قبل أن تغوص أقدامهما في المياه. قد يتحمل المرء ذلك لفترة. الأمواج المتكسرة سوف تجلد الجسد. ليس معهما لباس البحر، وهكذا يستلقيان على الكرسيين، تفصلهما مسافة تزيد قليلًا عن ذراع، ينظران إلى ناحية الأطلنطي الداكن وإلى أربعة أقدام عارية؛ الآن لم يعد الرمل يلتصق بالبشرة، الرياح تأخذه بعيدًا … أثناء سفرهما بالأمس إلى هنا، وعند المرور على المدافن اللانهائية في كوينس، تسأله: Do you want to get buried or cremated? يتبنيان الرأي نفسه، وبكل تصميم … الساحل هنا مختلف عنه في بروتاني قبل عام، أما الأمواج فترتطم به كما في كل مكان. تمر الآن بعض السحب البيضاء؛ تنعكس صورتها في ضحكة الأمواج الزرقاء المتلاطمة بالساحل، ثم يهبط بخار الماء، ويتحول لون الرمل إلى الرمادي، إلى أن يمد الزبد لسانه من جديد، ويتألق مرة أخرى لبرهة.

عصرية طويلة وخفيفة

هرميس يمر

عنوان إحدى الأوبرات التي كنت أريد كتابتها: عاشقان يهربان إلى متحف، ثم تدخل مجموعة مع دليل يقوم بالشرح التفصيلي لأحد التماثيل، لا أحد يلاحظ أن التمثال ليس موجودًا على الإطلاق؛ لقد نزل هرميس١٩ من فوق قاعدة تمثاله حتى يقود العاشقين داخل المتحف — كوميديا مليئة بمواقف سوء الفهم وبالأخطاء … غدًا الأحد، في المساء لا بد أن تكون لين في المدينة، ويوم الإثنين في المكتب، يوم الثلاثاء يطير هو إلى أوروبا.

Hi، تقول، What are you thinking about?

ما يصمت عنه: كيف أسير ليلًا بالبيجاما في حي فريدناو؛ لا شهود عيان في الشارع، فقط الفوانيس في المطر، المطر المرئي تحت الضوء، ثم سيارة، لكنها لا تقف، أسير فوق الرصيف بالبيجاما حافيًا، لكن الجو بارد، فبراير في برلين، بلاط الرصيف المبتل، البيجاما التي تقطر ماء، لا أبعد كثيرًا، لأنني أرتعد بدلًا من أن أخجل من نفسي …

وقف مرة ثم سار إلى الشاطئ، شمر البنطلون عن ساقيه إلى أعلى، إلى أعلى ما يستطيع، يستمتع بالوقوف في الماء. يشعر بالرغبة في أن يتعرى ويسير بين الأمواج المتلاطمة، لكنه لا يجرؤ على فعل ذلك؛ جسده ليس جميلًا إلى هذه الدرجة. يجد خشبة ويقذف بها بعيدًا، بعيدًا جدًّا. ينشرح صدره عندما لا يعرف في أي شيء يفكر الآن، وعندما لا يذكره الزبد والرمل بأي إنسان. يريد الحاضر فقط. الخشبة تجرفها المياه على الرمال من جديد، يلتقطها مرة ثانية، ويطوح بها بعيدًا مرة ثانية. يريد الرؤية فقط. على المياه قارب صغير لخفر السواحل. الساعة الثالثة ظهرًا؛ ما زال أمامه وقت طويل. عندما تلتف المياه حول ساقيه يشعر بالبرد، كاد مرة أن يختل توازنه. لا يلتقط الخشبة التي جرفتها المياه على الرمال من جديد. الخطوط الرفيعة في الرمال، محارة هنا وهناك. يشعر بالراحة. عندما عاد إلى الكرسيين، أراها محارة، محارة كآلاف المحار. لين تستلقي على الكرسي؛ جسدها، الذي يعرفه، وعليه ثياب. يحتاج إلى أن يظل واقفًا.

لن تتعرف لين على نوباته الهستيرية

ذات أمسية في برلين، لما لم أستطع إقناعها (وهو ما أصبح القاعدة في السنوات الأخيرة) وعندما لم أتحمل أن يقاطعني أحد بمجرد أن أفتح فمي، وحينما لاحظت أنني لا أقنع نفسي، ذهبت إلى المطبخ وأحضرت صندوق القمامة، ثم جلست إلى مكتبي ثانية، ووضعت الصندوق فوق رأسي قائلًا: واصلي التحدث! — من فضلك.

ترقد على الكرسي وقد دهنت وجهها، وأيضًا رقبتها، ثم وضعت نظارتها الداكنة ثانية على عينيها وقالت: I am sleepy، لأنه لا يقول في أي شيء يفكر. إنها لم تنم بالطبع. فالضوء هنا ساطع للغاية. كان قد انتهى من إفراغ الغليون، أخذ يفكر: حُك الغليون جيدًا، دق عليه مرة أخرى لإفراغه، ثم انفخ فيه ثانية (ربما يكون بداخله رمل) وعندئذ، وبدلًا من أن تتحدث والغليون في يدك، ضعه خاليًا بين الأسنان، الغليون، حتى تجد التبغ، ثم قم بحشو الغليون بالإبهام الأيمن بتأنٍّ يملأ اللحظات، لحظات بلا ذاكرة، وعند ذلك ضع الغليون المحشو في الفم بطريقة لا تجعل الكلام مستحيلًا، ولكن غير لائق، ثم انظر ناحية البحر بينما تشعل عود ثقاب، ثم عودًا ثانيًا، ثم ثالثًا، الرياح شديدة على البحر، ثم اسحب بتأنٍّ أول نفس، نفسًا قصيرًا، ثم نفسًا ثانيًا، طويلًا، إلى أن تعي اللحظة تمامًا. ليس من أحد سواهما الآن على الكرسيين اللذين لم يضبطا ارتفاعهما، لأنهما لا يمتلكانهما. هناك كلب يتسكع. لين تقرأ أوراقًا خاصة بعملها في المكتب إذ إنها انصرفت بالأمس قبل الثالثة، وبين الحين والآخر تتوقف عن القراءة، في هذه اللحظة تمشط شعرها الطويل ضد اتجاه الريح، مشروع فاشل، جميل النظر إليها. ثم تمر طائرة شراعية حمراء على ارتفاع منخفض، وكأنها تنوي الهبوط الآن، تطير عبر الساحل الخالي كله، ثم تختفي … يتحدث الآن عن ميكونوس، الجزيرة اليونانية ذات البيوت البيضاء وطواحين الهواء البيضاء. ويحكي عن القارب الصغير ذي المحرك الذي أقلَّنا إلى ديلوس، كيف كان يقفز بنا بين الأمواج، ورذاذ الماء يتطاير داخل القارب. ولكن من استقل القارب إلى ديلوس؟ ولا كلمة عن المرأة التي تعيش اليوم وحيدة إلى حدٍّ ما. ولا كلمة عن ست سنوات بلا خصام، بلا غيرة، بلا حرب أعصاب؛ لم يسكنا معًا — ميكونوس، لا، لن تذهب لين إلى هناك في هذا الصيف … ذات مرة يحدثها عن روما، المدينة، عما شاهده وسمعه خلال خمسة أعوام. تعرف لين أن روما لا بد أن تكون جميلة. لا يتحدث عن أبشع أنواع الموت.

لين ترغب في الجري الآن

هو يبقى هنا.

الزمن الحاضر حتى الثلاثاء

جسدها العاري جسد بنت صغيرة، وجهها أكبر قليلًا. تغمض عينيها عندما تدرك أن أحدًا يرى نهديها لأول مرة، وتقول: They are very small. كان المساء الذي أرادت فيه إحضار حقيبتها من الفندق. We can’t make love، قالت، not tonight. سبب موضوعي. الطريقة التي فرشت بها سريرها لأول مرة، بعد أن نزعت الأريكة عن الكنبة: خبرة مع الرجال، ربما ليس مع كثيرين. تتعرى، الفستان ثم الملابس الداخلية: بتمهل. تحرر شعرها من المشبك، تجلس كأنها وحدها، كأنها ذاهبة إلى فراشها كالمعتاد؛ إنها تعرف نفسها وهي عارية. لكنها تصمت وهي تمشط شعرها؛ ثم تهز رأسها مطلقةً شعرها حرًّا، ربما كما تفعل دائمًا. ليس عندها ستارة، ولا حاجة لها في هذه الشقة ذات النافذتين المزودتين بالقضبان، والمطلتين على سور قريب. وماذا عن الضوء؟ هي لا تنظر تجاه الرجل الغريب، الذي لا يعرف أين زر الضوء في مطبخها حتى يطفئه، تخبره أين يجده. يأمل ألا ينزلق إلى تمثيل دور بعد أن كان الحديث بينهما صادقًا. يمكن تبين جسدها بوضوح، إذ إن العتمة كانت محدودة، الضوء فوق المدينة، يمكن تبين وجهها بوضوح، ولكنه وجه آخر. مرة أخرى لا يجد كلمة إنجليزية. Your English is excellent، وتقصد بهذا: لا يمكن قول أكثر من هذا حتى بلغته، بينما الأجساد في انتظار التلاقي. تقول: Just relax. كل مرة أولى مع امرأة هي أول مرة من جديد؛ التعجب بلا تذكر. بعدها تظل عارية، لين في المطبخ الصغير، بينما يجلس هو — الضيف المرتدي ثيابه — إلى المائدة ويتحدث الآن مبتهجًا باللغة الأجنبية التي تمنحه الشعور بأنه يقول كل شيء لأول مرة. خلال ذلك يأكلان فراولة. لم يكن يقصد أنه يعرف لين بعد هذه الأيام والأمسيات: لين كحورية وإلى حدٍّ ما ممرضة. يبدو له الأمر الآن وكأن هرميس قد استبدلها؛ إنها امرأة أخرى بذات الشعر، حورية فقط، بالرغم من أنها تتحدث الآن عن تربيتها المتزمتة. للأسف إنه الإثنين؛ يجب أن تنام بضعة ساعات. لا بد من غسيل الأطباق في المساء. يساعدها؛ لا يستطيع أن يبقى جالسًا إلى المائدة ويرى العارية تشتغل. عندما يقوم بتجفيف ما تغسله فإنها لا ترى الأمر بديهيًّا. مطبخها ضيق إذا وقف فيه شخصان ليس من المفروض أن يتلامسا؛ ولكنهما ينجحان في ذلك. لم يعد يتحدث. أين يضع الكئوس؟ وأين يضع السكين؟ لا تريد أن تقول له ذلك، تشكره بالقبلات؛ سيكون الأمر عائليًّا جدًّا إذا عرف أين يضع كل شيء.

عصرية طويلة وخفيفة

حذاؤها في الرمال، لين ما زالت تعدو بعيدًا، في هذه اللحظة لم يعد يستطيع رؤيتها إلا بصعوبة، هناك، حيث تجري الآن، يلمع البحر تحت الشمس ويعمي البصر. تجري عائدة، كما يبدو. ثم تتضح هيئتها: تجري في أقواس كالمتزحلقين على الجليد، من المرجح أنها تجري حول ألسنة الزبد التي يخلفها الموج، ذات مرة فردت ذراعيها كالجناحين. بدافع من الرغبة.

Deja Vu

٢٢ / ٩ / ١٩٦٢م على البحر المتوسط. كيف كانت تسريحة شعرك: مرفوع لأعلى، كل الشعر، الأذنان مكشوفتان، رقبة بنت صغيرة، عارية، وعندما تخلعين مشبك الشعر، شعر غزير طليق، شعر أسود.

يظل جالسًا

أثناء سيره في الشارع نهارًا بين الزحام، أو في المصعد حيثما يرى المرء أشخاصًا عن قرب، يحدث أن يجد نفسه مرغمًا على مقارنة لين مع أخريات من بنات الجنس الأنثوي، مقارنة شعرها مع شعر الأخريات، مقارنة وجهها — الذي يكاد ينمحي فجأة من ذاكرته — مع وجه الأخريات. وكأنه يختار أجمل الجميلات! لا ينظر بتطفل، فقط بإمعان: منبت الشعر خلف الأذن، الصدغ، الرقبة، الشفاه، الأنف، الهيئة العامة، طريقة السير. ينظر حتى يفحص إذا كان يقصد لين حقًّا بعواطفه الرقيقة … أم أنني أكذب علينا؟ … يظل جالسًا مرسلًا البصر بلا تحديد. لا يفتح الكتيب الذي يحمله في يده. صوت ارتطام الأمواج وطرطشة المياه قد لا يكون مزعجًا عندما يقرأ المرء؛ ولا الطائرة الشراعية الصغيرة التي تطير عائدة بمحاذاة الشاطئ الطويل الخالي؛ ولا الكلب أيضًا. كذلك يستطيع المرء رفع بصره من على الكتاب، وأن يقول لنفسه: فترة العصر على الأطلنطي، الساعة الآن تمام الرابعة والنصف وخمس دقائق بعد الظهر. الأدب يلغي اللحظة الحاضرة، لهذا تم اختراعه. للأدب زمن آخر، ثم موضوع يمس الجميع، أو كثيرين — وهو ما لا يستطيع المرء قوله عن حذائها في الرمل …

أن تكون في العالم. أن تكون في النور. أن تسوق الحمير (كالعجوز مؤخرًا في كورنثوس) في مكان ما، مهنتنا! — ولكن في المقام الأول: مقاومة النور، مقاومة الفرح بالمعرفة، إنني أنطفئ في النور فوق نباتات الجنيستا، أسفلت وبحر، مقاومة الزمن، أو الأبدية في اللحظة. أن تكون أبديًّا. أن تكون ماضيًا.

الحياة في قول مأثور

عندما تشعر البشرة بالرمل وهو يجف فوقها، بالشمس، بالريح، عندما تشعر البشرة والمخ أيضًا بذلك … لا ينسى دوره، ولا الارتباطات القادمة الناتجة عن هذا الدور؛ المواعيد، ولا حتى وضع العالم ينساه. عديدة هي الأشياء التي لا ينساها في هذا الحاضر الهش.

Monte Alban

وادٍ عالٍ في المكسيك، واسع وأجرد، وعند المساء يتلون باللون البنفسجي؛ في منتصف الوادي جبل، عرش طبيعي؛ فوقه أكروبوليس أهل زابوتيكا، معبد رحب ومتشعب وفق نظام هندسي صارم، ساحة بأسوار عالية للعبة الكرة المقدسة: المنتصر لا بد أن يموت، لأن الآلهة تختار خلال اللعبة الشخص الذي يستحق الوسام، وهكذا يُضحَّى به، بالمنتصر، للآلهة. هذا ما يقوله على الأقل كُتيب أمسك به في يدي. الأمر مفزع، مقنع؛ شيء آخر يفعله شعب المايا يجعلني متحمسًا، من دون أن أفزع (هذا إذا صدق الكتاب): إنهم يقومون بين الحين والآخر بتهشيم كل الأواني والأطباق، وذلك حتى يصنعوها من جديد، الأواني والأطباق التي يستخدمونها يوميًّا؛ إنهم أيضًا هجروا معابدهم بناءً على نصيحة الكهنة، حتى يواصلوا التَّرحال ويجددوا أنفسهم في الأدغال (Yucatan, Guatemala)، لم يكونوا في حاجة إلى تدمير معابدهم القديمة حتى يبدءوا في مكان آخر؛ تركوا المعابد للأدغال (Paleque) وعوامل التعرية الطبيعية … ما قرأته وجعلني متحمسًا قد يكون أيضًا غير صحيح … Monte Alban: هنا فوق سور قديم تجلس مَريانَّه، من مواليد عام ١٩٣٩م، طالبة فلسفة، استولى عليها الذعر بسبب رجائي؛ لديَّ الشجاعة الكافية لتركها عندما أدرك أنني أصبحت أكبر منها بكثير. بعد عامين؟ بعد ثلاثة أعوام؟ تتردد بحكمة. تلحق بي إلى روما، وتظل مترددة طوال الصيف. بعد ذلك بيت صيفي، ثم نسكن معًا في شقة صغيرة في زيورخ، ثم شقة أخرى، شقة كبيرة، ورحلات معًا، يستمر بنا الحال تسعة أعوام، أطول مما خطر لها على بال.

أنا لم أعش معك كمادة أدبية. أمنعك من أن تكتب عني

عندما ينظر إليها وقدماها تغوصان الآن في الرمال، هناك، حيث الرمال جافة غير متماسكة، ويراها تسير أبطأ وبمشقة، منهكة قليلًا من الجري الطويل، مطوِّحةً ذراعيها، لأنها لا تستطيع أن تطوِّح قدميها، مائلةً أحيانًا إلى الأمام عندما تغوص قدم في الرمال، ثم تلقي شعرها الأحمر مرة أخرى فوق هذه الكتف أو تلك، فإنه ينظر إليها بإعجاب. لعلها تعرف ذلك؛ ترسل بصرها الآن في المكان. عندما تستلقي بجواره على الكرسي فإنه يفكر في شيء آخر. عندما تصعد الدرج الخشبي في الفندق الخشبي، فإنه لا يتابعها ببصره، يتخيل كيف تحرك ذراعيها، رشاقة وخفة لا تخلو من مرح. لا يستطيع نسيانها، مثلًا عندما يجتمع بآخرين. ينظر إليها بإعجاب عندما تتناول الطعام؛ هذه الشهية غير النهمة التي يتمتع بها النحفاء. عندما تغيب، لا يستطيع تذكر ضحكتها إلا على وجه التقريب؛ يسمع ضحكتها التالية بإعجاب. في المدينة، عندما لا تكون قد رأته وتعبر الشارع، لين وسط المارة الكثيرين: الطريقة التي تحرك بها ذراعيها النحيفتين، كيف تتردد ثم تشق طريقها في الزحام، كيف تحرك رأسها. ليس عاشقًا. يبتهج لرؤيتها. عندما تهبط الدرج الخشبي في الفندق الخشبي لا يفكر في الليل؛ إنه يتأمل بإعجاب قفزاتها فوق الدرج، ثم تعثرها (لولا الدرابزين الخشبي الذي أمسكت به في اللحظة الأخيرة لوقعت).

عصرية طويلة وخفيفة

آن له أن يعرف ذلك، فقد سمعه مرات عديدة: لين ولِدت في فلوريدا وليس في كاليفورنيا. دخلت المدرسة الثانوية في كاليفورنيا. الزواج تم في سيدني؛ ترشه بالرمال عندما يوجه سؤالًا ليس من المفروض أن يكرره. لا تعرف لين أين يعيش طليقها الآن. ما زالت ترش بالرمال؛ لا ترشه هو، بل تلهو فحسب. مستقبلها؟ ستتزوج ثانية، تقول لين، ولكن بحذر — وربما تنجب طفلًا، في … لا تحكي كثيرًا، ولا هو أيضًا، يتبادلان الحديث:

Do you believe

What do you think

في ريتشارد نيكسون مثلًا؟ لا بد أن يُحاكم، تقول لين. الرياح قوية، ربما يشعر بذلك لأنهما لا يطيلان التحدث في موضوع واحد أبدًا؛ ملأت الرياح حذاءها بالرمال. لا أعرف كيف عرج بالحديث إلى بودلير، Fleurs du Mal،٢٠ لين لا تعرف هذا الديوان. للإجابة عن سؤالها: أنا لم أنشر أي أشعار. يبقى حديثهما محصورًا في المواضيع العامة. مخدرات؟ كذلك لين، ليس لديها خبرة كبيرة فيها. لغته الإنجليزية متواضعة؛ أعرف بالطبع ما يود أن يقوله. يحدث أنْ لا يترجم، بل يقول بالإنجليزية ما لن يقوله المرء بلغته الأم، سواء بالفصحى أو بالعامية؛ يدهشني بطريقة تفكيره وبالموضوعات التي يفكر فيها. أستمتع بهذا؛ اللغة الأجنبية تفضح رأيه الحقيقي. فجأة يضحك على أشياء لا يضحك عليها في المعتاد. يبدو أن لين لا تجده مملًّا. يقول مثلًا إنني لم أكن في حياتي في بيت دعارة؛ ثم يضيف: لذلك فإنني لست سياسيًّا، إذ إنني أستبطن كل شيء. إلا إنه لا يعرف الكلمة بالإنجليزية. الاستبطان؟ لا بد من شرح ما يقصده، لين لا تفهم العَلاقة، ولكنه يقنعني. Sexuality، كما تنطق لين الكلمة، موضوع عام هنا. آراؤها في هذا الموضوع: أتعجب منها. عندما بلغ الابن الخامسة والخمسين قالت أمه بنبرة لا تخلو من صرامة: لا تكتب دائمًا عن النساء، لأنك لا تفهمهن. لا يذكر هذا للين. لا تعرف لين سويسرا. يوفر عليه ذلك خُطَبًا تصيبني بالسأم. ما رأيه في المحللين النفسيين؟ لا يمكن القول إنه تعرَّف شخصيًّا إلى ك. ج. يونج؛ استمع إلى محاضراته فحسب. لا بد أن ذلك — تستطيع لين حساب السنوات — كان منذ سنوات طويلة. لعله كان من الأفضل ألا يتحدث عن ذلك. في المدرسة الثانوية حصلت لين على جوائز في رمي الرمح، في سيدني مارست الفروسية. يعتقد اعتقادًا راسخًا أنهم أسقطوا أليندي في تشيلي بدعم أمريكي، يدعي ذلك ولا يستطيع الإثبات. الشيوعية والرأسمالية؛ محاولته الطويلة لكي يشرح الفارق بين الاتحاد السوفيتي والاشتراكية.

إلخ …

ربما لأن الإنجليزية وحدها هي وسيلة التخاطب بينه وبين لين — ما يجعله بدافع الكسل لا ينطق بهذا الشيء أو ذاك مما قد يبوح به بلغته — يفكر وهي معه في أشياء ما كانت تخطر له على بال لو كان يستطيع البوح بها. ثمة فرق بين أن تصمت بلغة أجنبية، وأن تصمت بلغتك أنت: صامتًا بلغة أجنبية أكبتُ أفكارًا أقل، ومن الذاكرة تتسرب أفكار أكثر … حضرت مرتين عملية ولادة؛ بناء على رغبة زوجتي. لم أكتب عن ذلك أبدًا. رغبت زوجتي في ألا أكتب عن ذلك. وأعتقد أنني لم أتحدث عن ذلك أيضًا. أرى ما حدث فحسب. مر على ذلك وقت طويل.

ما أكثر ما لم يصفه:

أربع مرات إجهاض لدى ثلاث نساء أحببتهن. ثلاث مرات من دون شك في صحة قرارنا. لم يخل الأمر أبدًا من الرعب. دور الرجل الذي يقوم عندئذ بدفع أتعاب الطبيب. مرةً: لأنني متزوج، وهي ترغب في الزواج من صديقي. ذات مرة سبب آخر: لقد فات الميعاد بالنسبة إلينا. بقينا صديقين. مرة أخرى كان خطأ؛ خطيئة، كما اعتقدت بعد ذلك، خطيئتي. لم أكن شجاعًا لأطلب الطفل؛ أراها غير مترددة (وإن كان الخوف بالطبع يسيطر عليها) وأشعر بالتأثر. فقط أكرر السؤال: أنت فعلًا لا تريدينه؟ تعرف أنني أود أن نظل معًا. إنجاب الأطفال لم يكن من أمنياتي الملحَّة عندما كنت شابًّا؛ ولكن مجرد خبر الحمل كان يسرني: من أجل خاطر المرأة. في السنوات التالية يتغير الأمر، ولكنني لا أفصح عن رغبتي بوضوح كافٍ، لا أجرؤ، لأنني أرى الحبيبة غير مترددة. ثم أقف في شارع ليلي بعد أن سألتها مرة أخرى، وأنتظر أن تشفق عليَّ. كل شيء آخر سيكون ابتزازًا. مر على ذلك أيضًا وقت طويل. الابتزاز كان من الأصوب (في هذه الحالة). مرة نصح الطبيب بالإجهاض ضد رغبتنا.

How do you know

تسأله لين، لأنه يدعي أن الغيوم من ذلك النوع لا تعني شيئًا على الإطلاق، وأن الغد (الأحد) سيكون أيضًا صحوًا. يستلقيان على الكرسيين اللذين لم يحركاهما، المسافة الفاصلة بينهما أكبر من ذراع. مَن وضعهما هنا، هذين الكرسيين، في مكانٍ ما على شاطئ خالٍ مترامي الأطراف؟ لا أحد سواه يمكنه أن يفعل ذلك: هرميس. إنه مسرور لوجود لين. كان سيشعر بالخواء الفظيع من دون هذه الشابة الغريبة، البحر، واليابسة ذات الكثبان والريح. لا يستطيع الجلوس هنا طويلًا، لا بد أن يذهب. بلا هدف. الرمل كأنه على جزيرة زولت (١٩٤٩م) وزرقة البحر كما في شاطئ سبيرلونجا (١٩٦٢م)، والذكرى. حتى عندما لا ينظر تجاهها: إنها تصنع الحاضر، جسدها على الكرسي الآخر. لا تعرف فيما يفكر، لا يعرف فيما تفكر. لا يشعر بالاحتياج إلى لمس جسدها. يود بالأحرى أن يرسمه. (أتقن الرسم إلى حد ما، ولكنني لم أمارسه منذ مدة طويلة. يزعجني أن الأمر يصبح دائمًا مجرد سرقة فنية، سرقة رخيصة؛ عندما أرسم أفقد ما أرى.) أسندت رأسها إلى الخلف، وجهها ينظر إلى الاتجاه الآخر، بلوزتها مفتوحة قليلًا، يداها على البنطلون عند خصرها، وركبتها مشدودة إلى أعلى؛ بشرة قدميها وبطن ساقيها شاحبة. تستسلم للشمس. يجلس مستقيمًا، قدماه في الرمل، يرسل بصره في الغالب إلى البحر وقت الأصيل. صوت مكتوم يأتي من الأعماق يتخلله هدير الأمواج. ليست نائمة. الرياح شديدة. استقام رأسها، وأرسلت النظر في اتجاه ما. ضحكت عندما لاحظت أنه يراقبها.

My life as a man

عندما أرى مصادفة أم أولادي، في قاعة كونسير مثلًا: وجهها حييٌّ يبوح بالهم الذي كان دائمًا هناك، وجه طيب أصبح في السنوات الأخيرة أكثر إشراقًا، ولكنه سيظل إلى الأبد وجهًا مفعمًا بالبراءة المغدورة — فإنني أشعر بوخزة في قلبي؛ أنظر إليها بكل احترام، وأتعجب من أنني والد أطفالها الثلاثة.

لأنك لا تفهمهن

الأم، ٨٨ عامًا، في روما — تريد رؤية كل شيء، فهي لأول مرة في روما، لم تكن تشعر بملل أو كلل. تسجل لنفسها كل ما تراه يومًا بعد يوم، تنتهي كراستها بجملة: روما — كان وقتًا بالغ الغرابة؛ مكتوبة بخط عتيق مزخرف. بعدها بثلاث سنوات، في بيت المسنين بإحدى المدن، تريد الموت، تريده بتصميم، وهكذا جاء الأطباء بتلك الحقن. رقدت في غرفتها ثلاث نسوة أخريات يبدون أحيانًا عند الدخول إلى الغرفة كالمحتضَرات: بفم مفتوح. بلا حشرجة. بلا أي حَراك. أحيانًا تكون مضطربة (لأنني عائد لتوي من أوديسا حيث كانت تقطف وهي فتاة صغيرة، ١٩٠١م، ثمار القَبَار)، ثم يصفو ذهنها: سأموت الآن، تقول، أشكركم. ولكن ذلك يستغرق نصف عام. يشرح لي الطبيب الذي نقلت له رغبتها لماذا سيكون موتها معذبًا لها من دون حقنة: الموت خنقًا. عدت إلى زيارتها ذات مرة فقادوني إلى الغرفة التي تُحتضَر فيها. ثلاثة أيام وثلاث ليال ونحن نتبادل السهر عليها: أخي وأختي — وهي ليست ابنتها — وأنا. بين الحين والآخر قد يستطيع المرء تبادل كلمة معها. ما يشغلها: ما إذا كان أحد سوف يهتم بحالة الجواكت التي أرتديها. يشغل بالها أيضًا أننا نضيع وقتًا طويلًا بهذه الزيارات. حتى ذلك الحين لم أكن قد حضرت أبدًا وفاة شخص. أحيانًا تبدو وكأنها ميتة. وعندما يحدثها شخص تتعجب لأننا ما زلنا موجودين. هناك قس تحت الطلب. أعرف كيف كانت غاضبة بسبب عظته في عيد ميلاد المسيح؛ ينسبون إليه القول: نأمل إذن أن نحتفل بعيد الميلاد القادم معًا أيضًا. لأنهم يقولون إن الناس في ساعاتهم الأخيرة غالبًا ما يغيرون تفكيرهم، فإنني أسألها ما إذا كانت تريد رؤية القس. كانت مستيقظة، فهمت السؤال، وأخذت تفكر، ثم تساءلت: لماذا؟ عندما ودعتها في مرة أخرى قلت لها: أنت امرأة جميلة. لم تجد هذا التصريح في غير محله، لذا سألت: لماذا إذن لا نأخذ صورة؟ لا يلاحظ الطبيب أيضًا أي تغير في حالتها. ذات مرة لا أحضر لزيارتها في المساء لأن زميلًا لي يقرأ من روايته الجديدة في بيت الحرفيين «تسور مايزه» (زيورخ)، كان عليَّ أن أقدمه بكلمات لطيفة. ليس أمرًا صعبًا، ومع ذلك كنت أرتعش من مواجهة الحاضرين. انتهت الليلة بحالة سكر بين الزملاء؛ في الصباح التالي، لما قرأت البرقية، لم تسمح حالتي بأن أظهر أمام مُتوفاة …

Happy

هذه هي الكلمة بالضبط:

Fun

أن ترى ما هو كائن الآن:

Montauk Beach

لم أقم أبدًا بمحاولة جدية لإنهاء حياتي، ولا حتى بمحاولة غير جدية. فكرت في ذلك كثيرًا فحسب، في كل مرحلة من مراحل العمر. مثل خبير ألمح في كل مكان الفرص العملية المتاحة. أرى عمودًا خشبيًّا يصلح لذلك. في الأبراج السكنية تخطر الفكرة على بال كل إنسان تقريبًا؛ المهمة تبدو هنا بسيطة وأكيدة المفعول. ليس لديَّ مسدس في المنزل، لأنني لست على الدوام رزينًا، والانتحار يجب أن يكون فعلًا رزينًا. عاينت مرة شارعًا جبليًّا، وأعرف ثلاثة أماكن على الأقل لا وجود فيها لحاجز قد يمنع المنتحر رغمًا عنه؛ خصوصًا في الضباب، حيث من الممكن أن يبدو الأمر هناك كأنه حادث. ليس من النادر أن أشعر بالاستعداد لذلك، استعداد عقلاني بلا مسبب مباشر.

لين

تحدثت عن عملها، تعمل بالقطعة، استمع إليها، كلا، بلا أدنى تشتت؛ إذا استعصى عليه فهم شيء فإنه غالبًا يسألها. يسهُل عليه فهمها عندما ينظر إلى حركة شفتيها. قرَأَتْ كتابًا عن الدلافين؛ تعرف لين عن الدلافين أكثر منه. ثم يحدث مرة أخرى أن يتوقف الكلام بينهما فجأة — مقابلاتهما أثناء النهار: ليست مملة، أرى كلاهما من الخارج فحسب: لن يتعرف أحدهما بالآخر … ما زالا على الشاطئ، لعل الموج يقترب الآن أكثر منه قبل ساعتين، لا أقوى ولا أضعف. ما زالت الشمس في كبد السماء. الجو لطيف الآن، أقل حرارة. يظهر البحر، خلف زبد الموج الأبيض الذي ينكسر قبل الوصول إلى الشاطئ، وكأنه حبر أزرق داكن. صوت الأمواج الذي لا ينقطع. شبك يديه تحت عنقه حتى يرفع الرأس قليلًا، حتى يتبين ملامح الأفق؛ ليس صامتًا، لكنه لا يتحدث عما يؤثر فيه. ليست مأساة. كل شيء مفهوم، بل بديهي. وصحيح. لقد توقع ما حدث، كل شخص توقع ما حدث. لا يتبقى سوى أن يقبل الأمر الآن. بلا شكوى. وهو ما يستطيعه المرء؛ بيدين مشبكتين تحت العنق، لرفع الرأس قليلًا.

في مَن تفكر لين؟

مؤخرًا ضاعت منها سلسلتها. لحسن الحظ فإن الفتيات السوداوات اللائي ينظفن الغرفة في ذلك الفندق لا يمسحن الأرضية تحت الفراش. لا يعرف للوهلة الأولى لماذا تَعتبر السلسلة، الذهبية لا تعوض. عندما وجدها — ليس في ركن تعليق الملابس، ليس على الطاولة ولا على الأريكة الصفراء — اتصل بها فورًا في المكتب. تنفستِ الصُّعَداء على السماعة. ليس ذلك هو المكان الذي تفقد فيه السلسلة … على العشاء تظهر لين بفستان آخر لا يعجبه كثيرًا؛ وبنظارتها الرقيقة مرة أخرى. شعرها معقود. أخذت خادمة المطعم، التي لم ترد تحيته، تصب الماء مع قطع الثلج في الكأسين. الناس حواليهما: من ذوي الدخل المرتفع، قمصان بأكمام، نفر قليل من الشباب. (تقول لين: Too expensive) الكثرة من الزوجات والأزواج المتقدمين في السن والخبرة، سنوات طويلة مرت عليهما معًا، بالكاد يتبادلون كلمة؛ ومن العائلات عالية الصوت التي يتصرف أفرادها وكأنهم في بيوتهم. غروب الشمس للجميع. ضيوف عرس لين، وهما أيضًا يمكنهما أن يصمتا بعض الوقت. محدود هو عدد الأشخاص الذين يعرفانهم معًا. النميمة من شبه المستحيل. طلبا سرطان البحر. كيف يتعامل المرء مع الأطراف الشبيهة بالكماشة؟ لين تفترض أنه سيريها ذلك. تبالغ في تقديره. بعض صفاته الشخصية تثير عجبها، يلاحظ ذلك. عندما بدأ في الحديث (قبل وصول النبيذ) افترضت هي أن ما يقوله قد يهمها، لذا لم تقاطعه بعد أول جملة. الآن يتذوق النبيذ، ويومئ برأسه. له في ذلك بعض الخبرة. لا يلاحظ ما إذا كانت تقاطعه، وكم مرة تفعل. تم فصل أول مقص من مقصات السرطان، لين تستطيع ذلك أفضل منه. عندما تسأله عن رأيه في شيء ما فإنه يبدو عليها أنها لا تستبعد أن يقنعها شرح مسهب من جانبه (وبإنجليزيته). يقول أشياء تفاجئه. يجعله ذلك مرحًا. يخفف عنه أيضًا استعداده للتعلم. على فكرة، يشربان قليلًا. تغرز لين شوكتها في السرطان على طبقها، لكن ليس لأنها لا تريد أن تصغي إليه. بالطبع لا يهمها كل ما يخطر على باله (مثلًا عن فن العمارة). ليس في السرطان الكثير الذي يمكن أكله مثلما قد يعتقد المرء في البداية؛ الغشاء الأحمر على الطبق، منظر جميل. لين مستعدة الآن لتناول الحلو. إذا اتفقا على شيء يشعران بالبهجة؛ لا تفوح في الجو رائحة تلك الاتفاقات الحامضة العاقلة، بل يواصلان الحديث، بالرغم من اتفاقهما. الخادمة الشابة، ربما طالبة، تعاملهما على المائدة معاملة خاصة، وكأنها تشارك في احتفال ما. لا يتبادلان على المائدة القُبَل أو اللمسات الرقيقة؛ فقط رجل وامرأة لا يشي وجههما بالنفور المكبوت، بلا تلك النظرات القصيرة التي لا ينبغي على الشريك أن يلحظها عندما تُسدَّد إليه من الجانب، تلك النظرات، عندما لا تعود بينهما أسرار، شعورهما العميق بالامتنان، من دون إعجاب.

Central Park

مثل اليوم قبل أسبوع: لا يستلقيان على النجيل محتضنًا أحدهما الآخر مثل الثنائيات الأخرى، بل يجلسان. لو لم يكن على لين أن تعمل لسافرا إلى البحر؛ لين تعرف أين تقع الأماكن الجميلة: مونتوك. تثق بعض الثقة في أن الطقس جميل على البحر، لذا يتشجع ويقترح السفر نهاية الأسبوع القادم، آخر أسبوع له هنا. لا يرتبطان بوعد، بل يفكران في الأمر. يجلس بينما تستلقي لين فوق النجيل بجانبه. أخذت تلعن شركتها لأنها يجب أن تعمل مع أن اليوم أحد. أحد مشمس؛ الحديقة العامة تكتظ بأناس يرتدون ثيابًا ملونة، لم يعد هناك هيبيز. حينما نهضا وسارا، لأن الوقت قد حان بالنسبة إلى لين، فإن لين هي التي شبكت ذراعها في ذراعه؛ يشاهدان معًا — متعانقي الذراعين — كلبَ بحر أسود، هذا الحيوان الذي لا أذرع له، وهو يتمرغ ويبرق فوق صخرة اصطناعية سطعت الشمس فوقها. رائحة سميط محروق يُباع هنا. يواصلان السير ويتفرجان: يلعب صبية البيسبول، بينهم سود كثر، هنا وهناك أب يُطيِّر طيارة ورقية ملونة لأطفاله، القوارب الصفيحية على البحيرة الصغيرة بين صخور مانهاتن السوداء … قبل عامين (بالضبط في هذا الفصل من العام، لكن الأفرع كانت أكثر اخضرارًا) وقفت هنا أمام كاميرات التليفزيون الألماني؛ المصورون — الذين كانوا يبحثون عن شخصيتي على طبيعتها — كانوا سعداء بوجود ياكوف ليند الذي أطلق الضحكات من فمي. لم ترغب مَريانَّه أن تظهر في الصورة؛ عندما حاول المصور خداعها اعترضتُ؛ كنت أفهم أن مَريانَّه لا تريد الظهور معي. دارت الأسئلة (كالمعتاد) حول عَلاقة الكاتب بالمجتمع.

My Life as a Man

أحيانًا يبدو لي أنني أفهمهن، النساء، وفي البداية يعجبهن اختراعي: إنني أضع نموذجًا لتحليل شخصيتهن؛ على الأقل يتعجبن عندما أرى فيهن ما لم يره السابقون. هذه هي طريقتي عمومًا في كسب وُدِّهن. لم أستطع أبدًا التحدث مع رجل مثلما تحدثت معك، سمعت هذه الجملة أكثر من مرة في مواقف الوداع. التملق يستطيعه كل شخص، لست في حاجة إلى ذلك؛ ولكن يداعب غرورهن عندما يَريْنني أبذل جهدًا قهريًّا لاكتشافهن. لفترة من الوقت يقنعهن ما أقوله عنهن؛ لا أرى النساء ككائنات بسيطة، بل كائنات مفعمة بالتناقضات. لم يسبق لأحد أن قال لي هذا، هكذا يقلن، ولكن ربما تكون على صواب. تحليلي لهن ذو طابع قاهر. ككل نبوءة. أتعجب أنا نفسي من سلوكهن الذي يؤكد ما خمنته. بالطبع لا أستخدم النموذج عينه لتحليل كل امرأة. لا يهدأ لي بال حتى أعرف مَن أحب. أتحاشى أن أطبق الخبرات التي اكتسبتها مع رفيقة على رفيقة أخرى. أما إذا انزلقت إلى ذلك سهوًا، فإنني أعرف أني على خطأ. إذا تكررت سلوكيات مشابهة معي، وغالبًا بكل حذافيرها، فإن السبب لا بد أن يكمن فيَّ أنا. مع أن الخيال — هكذا أعتقد — لا ينقصني؛ أخترع لكل رفيقة أزمة أخرى معي. مثلًا، أن تكون هي الأقوى، أو أكون أنا الأقوى. يتصرفن وَفقًا لذلك، على الأقل أثناء حضوري. عندما أراهن يعانين، فإنني أقول من أي شيء يعانين، أو ربما لا أقول ذلك، لكنني أعتقد أنني أعرف السبب. من وحي جنوني. إنه لا يتركني؛ كل ما يناسب تحليلي أستمده من ملاحظاتي. أرى ما يحدث، أسمعه، وإذا كنت غير حاضر فإنني أستطيع أن أتخيل ما يحدث تقريبًا. لا بد أن أتخيل ذلك؛ ليس على وجه التقريب، بل بدقة. بالطبع أشك في صحة تخيلي الدقيق. هذا تحليلك أنت، يقلن؛ هن لسن في حاجة إلى تحليل. يتساوى الأمر، أكان ما أنسجه حول الحبيبة يعذبني أو يبهجني؛ المهم أن يقنعني. ليست النساء هن اللاتي يضللنني؛ أفعل ذلك بنفسي.

Max, did you love your mother?

نعم.

You did not like your father?

هزة كتفين.

Why not?

لم يشغله الأمر كثيرًا حتى الآن.

You are very fond of your children?

لم يعودوا أطفالًا، كلهم أصبحوا بالغين، كبالغين يختلفون بالطبع عن البالغين الآخرين؛ يشق عليهم أن ينسوا أنه أبوهم، وهو لا يعلم بالضبط ما الذي يفعله المرء حتى يظل أبًا لبالغين … من الواضح أن ما يخلط الأمور على لين هو هذا العرس:

Did you get a wedding like that?

ليس في المرة الثانية … Casa Comunale،٢١ حيث ينعقد أيضًا الفصل الدراسي لتلاميذ القرية، إيل سينداكو الذي يعمل لاصقًا لورق الحائط هو الذي قرأ الوعد البسيط بالزواج الذي ألفه بنفسه وكتبه بعناية، لاصق ورق وأديب شهدا على الزواج، عدد المدعوِّين لم يتجاوز سبعة أصدقاء؛ وقع الاثنان على طاولة خشنة بلا آمال خادعة، Auguri، Auguri، Auguri، Auguri،٢٢ ثم دخل الجميع إلى بيتنا (منذ ثلاث سنوات ونحن نسكن فيه معًا) لتناول شراب مع أناس من القرية.

Max, are you jealous?

سؤالها مع طبق الحلو. اليوم السبت، ويوم الثلاثاء سيطير؛ وما زالت لين تريد كشف عيوبه. على فكرة، اتفقا على عدم التراسل؛ فقط كارت يوم ١١ / ٥ / ١٩٧٥م، إذا لم ينس الاثنان. سؤالها كأحد أسئلة استطلاع الرأي إذن:

Are you jealous? And in case you are: could you kill a person? And if so: Her or him? And if not–
كتب بغزارة عن الغيرة. من أجل ذلك فحسب حَرَّمها على نفسه. كل شكل من أشكال الغيرة في السنوات الأخيرة. لن تكون خبرة جديدة بالنسبة إليه إذا استمالته الغيرة مرة أخرى؛ لقد استنفد الموضوع ككاتب، ولن يكتشف شيئًا جديدًا. يمل مما كتبه حول ذلك، تلك الحكاية في فينيسيا التي يرد فيها ذكر قماش الفستان بلون اللحم … إلخ.٢٣ ليس هو بالكاتب واسع الخيال، هذا صحيح. لذا فإنه لا يسمح لنفسه أبدًا بمشاعر معينة — مخافة أن يصفها عدة مرات كمشاعر شخصية من شخوصه. هذه هي فائدة الكتابة (من ذلك النوع) بالنسبة إلى الكاتب كفرد؛ عليه أن يتغلب بطريقة أخرى على أفعال معينة تتكرر في حياته — حتى يظل كاتبًا … طاولة تنس الطاولة؟ خالية هذا المساء. كان على لين أن تخلع سترتها الوبرية أولًا، ثم أن تشمر أيضًا كمي بلوزتها؛ يشعر الآن بفائدة امتلاكه لطاولة تنس في بيته، عبر الأطلسي. لين أسرع، لكنها لا تصد الكرة، وتغضب عندما لا تستطيع صد كرة مردودة؛ غضبها يساعده. في الوقت نفسه يسرها أن «الماتش» ساخن. صوت ارتطام الكرة — تيك تاك — في الغرفة الصلعاء يبعث على المرح. ما يصعب عليه في بلده، يتمكن منه هنا على نحو شبه دائم: الكرات القادمة، الطويلة، يصطادها عندما تهبط ثانية، غالبًا تحت مستوى الطاولة. يُتاح للمرء عندئذ وقت أطول، ولا يكلف الأمر نقاطًا، عندما يكون، وهو البدين، أقل سرعة. بالطبع تستغل الفرصة في كل مرة تقريبًا، وترسل الكرة قصيرة خلف الشبكة تمامًا، إلا إنها لا تنجح كثيرًا في تسجيل نقطة لأن كراته قوية. قميصه، الأبيض، الأفضل بين الاثنين اللذين أحضرهما معه لنهاية الأسبوع، تشبَّع عرقًا، إذ إنه ينحني في كل مرة تتدحرج فيها الكرة تحت صندوق من الصناديق. لم تتوقع لين أن تخسر أول مباراة، ثم التالية. لم يُحسم الأمر بعد. قبلها لا بد أن تعقد لين شعرها من جديد، وأن تضع مضربها الأزرق على الطاولة، حتى تتحرر يداها وتربط شعرها؛ يصمتان أثناء ذلك … قيل إنه يكثر من الكلام وكأنه يعرف كل شيء. لم يسأل: أين كنت؟ تعصر له برتقالًا قبل أن تغادر البيت. تميل إليه. منع نفسه عن السؤال والاستقصاء؛ يحبها. بين الحين والآخر يمزح معها حتى لا يأخذ شكه مأخذ الجد؛ يريح نفسه. يُسهِّل هذا الخداع اليومي؛ ليس من اللازم أن يكذب المرء كثيرًا، الصمت يكفي. على فكرة، يعرف الرجل الآخر وينظر إليه بتقدير كبير. إذا كان ثمة حب آخر — هكذا يفكر — فسوف يُخبَر بذلك آجلًا أو عاجلًا. آنذاك كانت في غاية السعادة، هذا واضح لكل إنسان، له أيضًا. ما يجعل الأمر صعبًا على المرأة: إنه يأتي دائمًا بخطة لرحلة مشتركة، محاولًا استمالتها وهو يجهل الموقف. لماذا لا يسأل بلا لف أو دوران؟ تقول لنفسها: إنه لا يريد أن يعرف. ينظر إلى الصديق في عينيه ويرى أن الصديق يعامله بتقدير؛ هذا صحيح أيضًا. شيئًا فشيئًا يتخلى عن كل شكوكه. إنه خطؤه، ليس رجلًا رقيقًا ذلك الذي لا يلاحظ أن امرأته عائدة من فراش آخر. لا يلاحظ سوى أن عمله لم يعد يثير اهتمامها إلا قليلًا. يقبل دعوة لإلقاء محاضرة في أوستين كي يرى أمريكا الأخرى، تكساس ونيو أورليانز؛ لا يمكن التغلب على خوفها من الطيران، وهكذا يسافر وحده. يعطيه الصديق عناوين ناس طيبين في تكساس. مرة أخرى يغلب عليهما الاقتناع بأنه يعرف، ويحترمانه لسلوكه السامي. يعود مبكرًا من رحلته، ولكن بعد أن يخبرها، ويُستقبل بحرارة. في الصيف، في بلده، في أوروبا، يشاركها حماستها لنيويورك؛ وتسعد عندما يُظهر استعداده بأن يقضي شتاءً ثانيًا في نيويورك. نيويورك مهمة بالنسبة لدراساتها، لدرجة أنها تتغلب على خوفها من الطيران وتسافر قبله بشهر، إذ لا تزال لديه التزامات في أوروبا. رسائلها مكتوبة بحماسة، ببهجة وحب. بعد هبوط طائرته بقليل يسمع حكاية الوفية: واحد اسمه جاك، لا يعرفه بعد، حاول إغراءها، بل اغتصابها، حتى أنها كان لا بد أن تتصل تلفونيًّا بأصدقاء كي يخرجوا هذا الجاك السكران من غرفتها. يشاركها في عملها، لكنها في حاجة إلى مساعدين آخرين، يتفهم ذلك؛ فإنجليزيته لا تسعفه. لم يعودوا يتقابلون رُباعًا: هي وهو والصديق وزوجته الشابة التي بات من الصعب التعامل معها. ماذا يلاحظ سوى ذلك؟ يلاحظ أنه لم يعد يستطيع إقناع زوجته إلا بصعوبة، أيًّا كان الموضوع؛ طوال الوقت وهي تعلم أنه طوال الوقت يجهل حقيقة الموقف. كيف لها أن تصدق أنه لا يخطئ في كل شيء إذن؟ يلاحظ أنه كلما تمسك بأنه على حق، زادت أخطاؤه بالفعل. شتاء سيئ. ما ذنبها حيال شعوره بالقلق وعدم الثقة في عمله؟ مرة أخرى يجلس مع الضيوف (هي تطبخ) ويتحدث بلا روية في حضور صديقها الصامت، ولا يلاحظ أنه لن يتحدث بهذه الطريقة إذا كان يعرف حقيقة الموقف. نظرتها الجانبية ليست نظرة لوم، كما يعتقد، ولا تخلو من المحبة، نظرة عاجزة فحسب. لا يقنع الآخرين. ليس السبب لغته الإنجليزية. إنه لا يقنع حتى نفسه. تتمنى له النجاح في باريس، Theatre National de L’odeon، لديه من الأسباب ما يجعله فخورًا، بدلًا من ذلك يضايقه مرة أخرى خوفها من الطيران، نوع من رُهاب الأماكن المغلقة، ولذلك لا تستطيع أن ترافقه إلى باريس. لا يعرف ماذا حدث له. الطبيب، الذي نصح به الصديق، لا يجد شيئًا على الإطلاق. هل يبالغ في تقدير ذاته؟ ينتظر احترامًا. يثير سخرية الآخرين بالذات لأنه — فجأة — يعتقد من جديد أنهم لا يأخذونه مأخذ الجد. هذا مؤلم أيضًا للصديق الذي يكن له التقدير. ذات مرة، يقف الصديق، ويسير إلى الباب، ويذهب إلى غير رجعة. يأمل ألا يحدث له شيء في الشوارع الليلة، إذ عليهم عندئذ أن يعتنوا به. ثم يتبين أن للصديق الآن شقة ثانية، شقة صغيرة، لأنه لا يستطيع أن يعمل بهدوء في بيت الزوجية، وهناك يجلس على السرير: Sorry، يقول، I am drunk. شيء من الممكن حدوثه. في مرة أخرى أحضر تورتة عيد الميلاد وعليها ٣٣ شمعة، ثم ركع مازحًا كالفارس أمام زوجته في حضور الآخرين؛ ولم تكن هذه أيضًا هي اللحظة المناسبة لإخباره — تفعل ذلك بعدها بعام (١٩٧٣م) خلال حديث على مائدة حجرية. ليس اعترافًا؛ حديث حول تحقيق المرأة لذاتها. تذكر الأمر عرضًا. لا يسقط من فوق حصانه كالفارس أمام البحيرة، وإنما يذهب إلى العمل؛ مراسلات مهنية. حكاية طبيعية. ليس هناك الكثير مما يقال حول ذلك. استمرت القصة عامًا كاملًا، قصة حب كبير؛ كانا يودان الحياة معًا. لمَ لمْ تستطع قول ذلك؟ يفهم الآن السبب: لم يعرفا إذا كان سيتفهم الأمر؛ لم يقدم ضمانًا أنه — ابن الستين — لن ينتحر بإطلاق الرصاص، أو بسمٍّ أو شنق نفسه … والآن: تناولت لين المضرب الأزرق، سيواصلان اللعب. ماذا يمكن أن يفعلا غير ذلك؟ لم تبلغ العاشرة مساءً بعد. الأمواج ترتطم بالشاطئ تحت الأضواء الكاشفة الضوء. غدًا ستمطر.

لين تربح ٥ / ٣

(بعد شهر تقريبًا من مباراة تنس الطاولة هذه وقعتُ بالفعل من فوق الحصان — أسبُّ يورج الذي أنقذ مرة، عام ١٩٧٢م، عملًا لي استغرق ستة أعوام، أنقذه من التشويه الكامل؛ أي إنه صديق. أخذت أذرَع الغرفة جيئة وذَهابًا، وأضحك: الأحاديث بيني وبينه، أحاديث رجال، بينما كان يعلم ما لا أعرفه عن زوجتي. معذرة! أسحب ما قلته أثناء سورة غضبي. ولكن إلى أين بغضبي؟ ليس صحيحًا كذلك: لم تكن هي التي باحت له، كثيرون كانوا يتحدثون، وهو — كصديق — سألها إذا كنت على علم. عليَّ أن أفهم: موقفها المحرج. أكان عليه إذن أن يخون ثقتها، وهو الذي احتفظ لها في هذا المنزل برزمة خطابات عشق أمريكية؟ مذهول أنا بالرغم من ذلك. أقول كلامًا فظيعًا وسخيفًا، وهو ما لم يتوقعه يورج أبدًا من رجل رزين مثلي. ماذا يفيدني أن أعرف عدد الذين كانوا يعرفون قبلي؟ أنا مذهول من نفسي؛ إنه الغرور؛ أي شيء سواه يمكن أن يُكرهني على أن أجعل من الأمر سرًّا؟ هل هو سري أنا منذ أن عرفت؟ مندهش أنا لغروري. لماذا لا يحكي، العشيق، قصته مع زوجتي لهذا أو ذاك قبل أن أعلم بالأمر؟ إنها قصته هو.)

لا يصلح البار مكانًا للحديث؛ صخب وظلمة مُقبضة. لم يكونا متعبين، شعرا بالحرارة فحسب بعد تنس الطاولة؛ مرحبًا بدشٍّ الآن. وفجأة يمسي كل شيء هشًّا؛ كآبة الضياع المشترك. لا بد أن يفكر المرء الآن في فعل شيء، لكن لا شيء يخطر على بالهما. تقول لين:

It was a beautiful day!

بعد أسبوع ستجتمع الأكاديمية في برلين. ماذا ستفعل لين بعد أسبوع من اليوم؟ لا يقود ذلك إلى حديث؛ خططها، خططه. يجلسان في الشرفة بعض الوقت، لين بالبيجاما وفوقها السترة الوبرية؛ الأمواج القريبة تتزايد شجاعتها تحت فيضان أضواء الكشافات؛ لا يستطيعان سوى تبادل أحاديث عامة:

هل ما زال الزواج يمثل لك مشكلة؟

أتذكر امرأة أخذت تخربش على جدران التواليت بأصابعها العشرة حتى دَمِيَت، بعد أن اعترفت بخيانتي الزوجية. آثار الدماء على الطلاء لاحظته في المساء، أما أصابعها المجروحة فلم أرها إلا في الصباح التالي. وأتذكر أيضًا امرأة تجلس منتصبة في فراشها وتتصل بزوجها في عيادته: من كابينة تليفون، تتحدث، وأتشاغل عن السمع، وبعد مرور ساعة نتناول ثلاثتنا الطعام معًا …

لا يشجعه الموضوع على الثرثرة

لا يعلو هدير الأمواج تحت الأضواء الكاشفة إلى الدرجة التي تمنعهما من الحديث. رغم ذلك يصمتان. لا تصل بعيدًا تلك الأضواء الكاشفة؛ تظهر ثلاث موجات متكسرة يعلوها زَبَد يسبح في الضوء، وفي الخلف سواد، الليل، لا منارة تُرى، ليل بلا أفق. I am fine، قالت لين عندما جلست في الشرفة، It is not cold at all. ولكنها رحبت بارتداء السترة الوبرية التي أمسكها لها مؤخرًا لأول مرة بعد إجراء الحديث الصحفي، وبعد ذلك أخذت أيضًا بطانية صوف بيضاء. ثم أصوات من الشرفة المجاورة؛ تحذير لهما من أن صوتهما قد يكون مسموعًا. يتفرجان على الموجات الثلاث المتكسرة (التي سرعان ما تصير اثنتين) المتوجة بالزبد الملفوف المولود من رحم الليل. لين الآن بلا نظارة شمس؛ عندما تتكئ إلى الوراء في مقعدها بالشرفة فإن شعرها المحلول يكاد يصل إلى ألواح الأرضية الخشبية. في التجويف الذي يتكون تحت الزبد تبدو الأمواج القادمة خضراء اللون، أخضر باهت حليبي. توقفت الموسيقى الصادرة من البار. منتصف الليل. أحيانًا ترتطم الأمواج بقوة على الشاطئ حتى إن المرء ينسى ما كان يفكر فيه. في الغالب تهدر الأمواج بانتظام رتيب. ذات مرة تتعاقب أربع موجات. خسارة أن يغفو المرء الآن، وهكذا يجلسان طويلًا. You are watching me. عندما يمسك بكتفها، أو يفرد شعرها ويداعبه براحتيه المفرودتين حتى تتحرر جبهتها من التجاعيد وتغدو جبهة شخص يألفه، أو عندما يمر بإصبعه فوق حاجبيها المائلين إلى الحمرة: لا يشك في أن مداعباته الرقيقة تخص لين وحدها، الشابة الغريبة؛ وعندما يقبل جسدها وتضمه إليها فإنها لا تستبدل مشاعره بآخرين. شعرها على وجهه، الفم الواسع البض، عيناها التي ضاقت الآن، التشابه الفجائي لكل النساء في لحظة المتعة. ثم رأسها على كتفه، صلابة الجمجمة. You are thinking. امرأة ما ستكون الأخيرة، أتمنى أن تكون لين، سيصبح وداعنا سهلًا وصادقًا … في السابعة صباحًا، عندما وقف وحيدًا في الشرفة، لم تكن السماء قد أفصحت بعد عن النهار: هل سيكون رماديًّا أم صحوًا؟ يأمل ألا يكون قد شخَّر. الحصير تحت الأقدام الحافية مبتل، زلِقٌ قليلًا. لا يعرف في أي شيء يفكر؛ مستيقظ هو. كالنوارس. درابزين الشرفة الخشبي، الذي يستند عليه، مبتل أيضًا. يستمتع برعشة البرد وبعدم التفكير في شيء. يتحسس بقدميه الألواحَ الخشبية الباردة، وبيديه خشبَ الحاجز؛ يسمع النوارس لكنه لا ينظر تجاهها. يفكر فيما يمكن أن يراه. يُشعره جسده بوجوده في هذه اللحظة. أحيانًا يتساءل عَرضًا عما فعله في عقود عمره. قد يقول آخرون: خمس سنوات في الحرب، سنتان في الأسر. آخر: ٤٠ سنة في السكك الحديدية. آخر: عشر سنوات في المخازن. يعرفون لمَ كانت الحياة قصيرة.

الهندسة المعمارية

١٢ سنة مع لوح الرسم والقلم الرصاص والمسطرة الحاسبة وورق الرسم الشفاف ومسطرة الرسم والبرجل ورائحة الحبر. عندما يلف المرء فرخًا من الورق الشفاف: الخشخشة المتموجة. لفات من الكرتون. الرحلة اليومية إلى العمل: لم أعد طالبًا، ولم أعد كاتبًا، أنتمي للأغلبية. وجوههم في القطار صباحًا ومساءً. أحب ارتداء معطف الرسامين الأبيض، وأحب الرسم. السماء تثلج، لذا يحتاج المرء إلى ضوء مصباح الرسم؛ اللمعان فوق الورق الشفاف. الحرب مشتعلة. عندما أمد ببطء خطًّا بالحبر فإنني أحبس الأنفاس. أحب أيضًا الكتابة بخط جميل؛ أمحو ما كتبت إذا كانت أرقام القياس ليست جميلة، وإن مقروءة. أسمنت، مادة السيكا، مقابض، زنك، عازل من الصوف الزجاجي، أسبستوس: هذه هي المفردات التي أخطها. بلغتُ الثلاثين ولديَّ أخيرًا مهنة أرتزق منها، شهادة جامعية، أشعر بالعرفان لأني وجدت وظيفة: من الثامنة إلى الثانية عشرة، ومن الواحدة حتى الخامسة. بمقدوري الزواج. عندما أستخدم المسطرة الحاسبة أشعر بأنني أصبحت خبيرًا. لماذا مهندس معماري؟ كان والدي مهندسًا معماريًّا (بلا شهادة جامعية): ورق الرسم الشفاف، الحامل الذي قد يتأرجح، الشريط المتري كلعبة محرمة. أرسم بصورة أدق مما كنت أكتب. بالمناسبة، أشعر برجولتي أكثر عندما أرسم تصميمات المصانع. ذات مرة وأنا في موقع البناء علمت أن الدرج الذي قمت بحساب مقاييسه ورسمه لا يصل إلى بسطة السلم العليا؛ تنقص درجة، بينما الطول مناسب. لا يتكرر ذلك أبدًا. درجات الدرج كانت قد قُطعت، أخذ الرئيس المسئولية على عاتقه. في موقع البناء ينادونني: يا سيادة المهندس. عندما أرى ما كتبته في يد أحد عمال البناء أو النجارين فإنني أشعر بالضآلة، حتى وإن كانت التصميمات صحيحة. ليس لديَّ في الغالب أدنى فكرة عن كيفية تنفيذ شيء؛ أعرف فقط أن العامل يعرف ذلك. شعور فاتر تجاه الحرفيين من كل نوع. عندما يقطبون جبينهم فإنني أبتهج لأنهم لا يسألونني عما ينبغي عليهم أن يفعلوا. أما عندما يسبون ويلعنون فإنني أبتعد. أيضًا بعد أن أدركت بمرور الوقت كيفية فعل شيء: لا تستطيع يداي. تمتد يداي عندئذ إلى لفة ورقية تكون سندي في تلك اللحظة. ويبقى الشعور بعدم الكفاءة. يبدو أن العمال لا يلاحظون ذلك. أود لو أتفرج عليهم مدة طويلة؛ لكن هذا لا يليق. مرتبي لا يزيد عن راتبهم إلا قليلًا، إلا أنني لا أتقاضى نقودًا بصفتي متفرجًا. معظم العمال أكبر مني سنًّا. ذات مرة يهبني أخي ثقته. نقوده قليلة، سيكون بيتًا صغيرًا. كلما كان تصميمي بسيطًا كان أفضل. إلا إنني أريد أن أظهر خيالي الواسع، وتكون النتيجة بيتًا قبيحًا، لكنه يُبنى: الحفر، السقالات، الأساس، الدعامات الخشبية، كل شيء وَفق التصميم، ثم الطلاء الأولي للجدران، والأشياء الأخرى التي لم يتضمنها التصميم: مخلفات الحفر الكثيرة، الألواح، أكوام الطوب الأحمر — كلها أشياء عينية. بعد انصراف العمال أبقى لفترة وأتظاهر بأنني أقوم بقياسات. مواسير الصرف الصحي، زلط، المجاريف، عربات اليد، لفات الكرتون المشبع بالزفت، خشنة ولزجة بعض الشيء، أكياس مليئة بالأسمنت، المرحاض تحت شجرة الكرز المزدهرة، ربطة أسياخ الحديد فوق النجيل وقد بدأ الصدأ يغزوها. ذات مرة أحلم: البيت المبني لا يتشابه إطلاقًا مع تصميمي، ولكنهم يقولون إنه بُني حسب التصميم. مقارنةً بالحلم فإن المفاجآت غير السارة التي تنتظرني في الموقع صغيرة: شباك أكبر من اللازم. لم يعد بالإمكان تصغيره؛ لقد تم طلب إطارات الشبابيك. حتى الأفكار التي قد تقلل من التكاليف تأتيني بعد فوات الأوان. أشعر بالأسف لأخي. (بعد عشرين عامًا يهبني مرة أخرى ثقته؛ البيت الثاني معقول على الأقل، يقوم مستويًا على الأرض ولا يثير الاستهزاء.) أول أخطائي كرئيس: أوظف صديقًا من الجامعة، كنا نعمل حتى الآن معًا، أعرض عليه ٥٠٠ فرنك سويسري في الشهر بدلًا من ٣٥٠؛ ولأننا كنا دائمًا نشعر بالضيق من أوقات العمل الجامدة — من الثامنة حتى الثانية عشرة، ومن الثانية حتى السادسة — فإنني أمنحه حرية أن يؤدي عمله متى شاء، أربعين ساعة في الأسبوع. الآخر، العامل الفني، كنت أعرفه من الجيش حيث كان عريفًا. آنذاك كان سعيدًا لحصوله على وظيفة، كنا نتخاطب معًا بلا كلفة أيضًا. عملنا يتسم بالسرعة والجمال، علينا أن نضع التصميمات. كنت أعمل غالبًا في المنزل حتى ساعة متأخرة من الليل، ومع ذلك كنت أشعر بأنه لا يليق بي — الآن كرئيس — أن أجيء إلى المكتب متأخرًا عن الآخرين أو أن أنصرف مبكرًا. ولكنني إذا وصلت في تمام الثامنة وأقف مرتديًا معطف الرسم الأبيض عند مجيئهم، فإنني أبدو كمن يلعب دور المراقب، وهو ما يضايقني أنا أيضًا. يجب عليَّ أحيانًا أن أذهب إلى اجتماعات عمل، وعندما أعود بعد ساعتين فإن كورت — صديق الجامعة — لا يكاد يطيق انتظارًا كي يُريني رسوماته ويثبت لي اجتهاده في العمل. اقتراحاته لا وزن لها، إلا أنه يتقبل النقد بصدر رحب، ويبدي استعداده لدراسة الأمر من جديد. الآخر، رسام المباني، يغلب عليه الصمت الذي يزداد مع الأيام إلى أن ينطق يومًا باستقالته. لماذا؟ لا يريد أجرًا أعلى، ولكن ما يملأ نفسه مرارة أن صديقي الجامعي ينهمك على الفور في أشغاله الخاصة بمجرد انصرافي من المكتب. لست في حاجة إلى التفتيش تحت لوحة رسمه، فأنا أرى ما يعرضه عليَّ: تفاهات مرسومة بسرعة، تخطيطات يمكن إنجازها في عشر دقائق وأرى أيضًا كيف ينافقني كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا. الآخر، رسام المباني، هو الشخص العملي الوحيد في مكتبي، حي الضمير؛ يعمل مقابل ما يتلقاه من أجر، بينما يخدعني منذ شهور المهندس المعماري الجامعي الذي يتقاضى أجرًا أعلى — هذا هو ما يضايقه ويسلب منه متعة يقظة ضميره. اسمه: آدم. يسكن في البيت نفسه الذي نعمل فيه. في أحد الصباحات، عندما وصلت إلى المكتب كالمعتاد، وجدت زوجته كالمجنونة، أمسكت بي صارخة: لست قاتلة يا أستاذ فريش، لست قاتلة، قل لي إنني لست قاتلة! وتريني الرضيع. لقد هبطت بالمهد في الليل — حتى تستطيع النوم — ووضعته في مكتبي. رضيع أزرق. مخنوق. زوجها، العريف، كان في ذلك الوقت في الجيش؛ وجب عليَّ أن أخبره. يصيب القدر ذوي الضمير الحي. تمر أسابيع قبل أن أطلب من الآخر أن نتقابل في مقهى؛ لم أكن في حاجة إلى قول شيء تقريبًا، فقط إن علينا بحث أمر. إقالة؟ يقبلها قبل أن أنطق بها ومن دون أن يسأل عن أسبابي؛ أنا سعيد لأنني غير محتاج لذكر السبب، وإلا فإن كورت كان بإمكانه أن يرد قائلًا: هذا بالضبط هو ما فعلته أنت أيضًا كموظف، تحت لوحة الرسم كنت ترسم تصميمًا للمسابقة التي اشتركت فيها. ظل المشروع فترة طويلة حبرًا على ورق لنقص الأسمنت في تلك السنوات، ونقص الحديد الذي استهلكته الحرب. آنذاك لم أكن أعمل كل الوقت، وهكذا عاودت الكتابة: مسرح — حتى يتجسد شيء. الكتابة بعد الانتهاء من العمل. لا أريد أن يضبطني أحد وأنا أفعل شيئًا آخر في المكتب؛ فقط للخواطر الملحة كانت هناك ورقة تحت لوحة الرسم. في خمسة أسابيع المسرحية الأولى، المسرحية الثانية في ثلاثة؛ ومسرح زيورخ يعرضها. لا يفوت مصلحة البناء إذن أنني أكتب. ذات مرة دعاني المشرف على البناء إلى كشكه في الموقع ليُسِرَّ إليَّ بشيء. يحتوي تصميم موقع بإمضائي ككل التصميمات على خطأ فادح في المقاييس. مع مراعاة مراجعة المقاييس أثناء عملية البناء، هكذا ينص الختم المعتاد على كل تصميم؛ أشكر المشرف لاكتشافه الخطأ قبل أن تحفر البلدوزرات أعمق من اللازم، وأقول له إن المخطئ في ذلك ليس رسام المباني، بل أنا شخصيًّا؛ إذ إنني لم أوقع فحسب، بل قمت أيضًا برسم التصميم. لم أكن في حاجة إلى قول ذلك. كانت العاقبة أن مشرف البناء هذا وحتى نهاية أعمال البناء (بعد عامين) لم يعترف أبدًا أنه يسهو أيضًا ويخطئ؛ وكأنه قد تم الاتفاق على الشخص الذي تغافله الأخطاء هنا. لفترة يسير الأمران متوازيين، البناء والبروفات على خشبة المسرح. في الثامنة أتوجه إلى المكتب، وفي العاشرة أذهب إلى المسرح للبروفات، أجلس كشخص عادي في الصالة وأصغي. عندما يعود الممثلون إلى المنزل لحفظ نصوصهم، أذهب إلى موقع البناء لأشاهد كيف ينزعون ألواح الخشب عن منصة القفز في المسبح، ثم يركبون الألواح في مكان آخر، وأرى النجار الذي يحضر أخيرًا ما أنجزه في ورشته ليركبه في المبنى. لا يسير كل شيء كما ينبغي، تمامًا مثل البروفات على المسرح. تجسيد هنا، وتجسيد هناك. صحيح أن الآخرين هم الذين يفعلون ذلك، رغم ذلك يغمرني شعورٌ بالمشاركة. يتكون شيء. أعي تمامًا أن وقتي مزدحم عن آخره، كل يوم؛ كما أنه لا يخلو من هموم مهنية، إذ يتضح مثلًا أن الطلاء الأخير خفيف، وأن دهان الخشب قبيح ولا يمكن تغييره. قبل أن أغادر موقع البناء أنظف حذائي بشريط خشبي أو سلك، ثم أركب دراجتي. أحيانًا أُصفِّر فوق الدراجة.

١٢ / ٥ / ١٩٧٤م

بحر الصباح كالمحار الرمادي تحت السحب الكثيفة، الأمواج على الشاطئ فاترة، لا أثر للشمس. من الأفضل خلع الحذاء والمشي حافيًا فوق الرمال، والحذاء في اليدين. النوارس فوق الشاطئ الخالي، أكثر صخبًا من أي مشاعر، ومن هدير الأمواج. يفكر: ستمطر اليوم. تجمعات الأعشاب على الكثبان الرملية. الرياح تهب بقوة، وهو لا يرتدي غير قميص، ليس معه جاكت. لا يشعر بالبرد إذا ما واصل غرز قدميه في الرمال. لم تمطر بعد. على طول المدى لا يُرى إنسان. هنا وهناك علبة بلاستيكية في الرمل، لم يلاحظها بالأمس. يسأل نفسه إلى أي مدى يمكنه السير والحذاء في اليدين. كرسيَّا الأمس ضئيلان من بعيد، من الصعب رؤيتهما. يشعر بالراحة. يسير غارزًا قدميه. بعد أن كاد يتعثر يعرف — والحذاء في كلتا يديه — في أي شيء كان يفكر: أرغب لو استطعت وصف نهاية الأسبوع هذه، من دون أن أخترع شيئًا، هذا الحاضر الهش — ولكن الفكرة نفسها خطرت على باله بالأمس في البوتيك؛ نسي اسم المكان. ثم، مرة أخرى، لا يفكر في أي شيء … ثم الفكرة ذاتها: أرغب في ألا أخترع شيئًا، أرغب في معرفة ما أعيه وما أفكر فيه عندما لا أفكر في القراء المحتملين. هل أكتب لإرضاء القراء، لتزويد النقاد بأدب؟ السؤال حول ما إذا كان الكاتب يضع القارئ نصب عينيه أثناء الكتابة من الأسئلة التي تُطرح في كل جامعة. يفكر، على سبيل المثال، في أنه لم يقدم نفسه لقرائه حافيًا أبدًا … هناك، حيث يكون الرمل رطبًا، وبالتالي أصلب، عند التقاء الموج بالشاطئ، يصبح السير أهون وتبرد القدمان. البحر في مد، الشاطئ أضيق من الأمس. بعيدًا عن الأمواج، حيث الرمال جافة، فإن غرز القدمين في الرمال أمر منهك. يشعر بالاحتراق في بشرة الكعب. رمل خشن. ذات مرة، ينبغي على المرء أن يسير طويلًا حتى تبلى بشرة الكعبين، ويتحدث إلى نفسه حقًّا.

عدا ذلك يبقى الأمر حلمًا

ثلاثة أو أربعة كلاب، ربما من فصيلة الكلاب الدانماركية، كلاب كبيرة. محبوس أنا معها في عربة الكلاب. لكنها لا تهاجمني. تنبح. لا أنظر إلى الخارج. تنبح كالمسعورة. ولا أعلم من يقف خارج عربة الكلاب، أصوات تُسمع، وتبقى العربة مغلقة. وإلا فسوف تنهش الكلاب لحمكم. لا تعوي فحسب، بل تخربش بأظافرها عند فتحة الباب؛ عندما تسحب أرجلها ألاحظ أن أصابع الأرجل مبتورة، واحدًا بعد الآخر.

بالأمس عصرية طويلة وخفيفة: وكأن الجرح قد اندمل تمامًا (كثيرًا ما قال ذلك)، النظر إلى الخلف بلا غضب أو شفقة على الذات، انجرح وتطهر إلى الأبد (لا ينقص إلا الوزن وتصبح قصيدة)، والآن يبقى واقفًا فوق الكثيب الرملي، الحذاء في اليدين، كي يقول:

Damn!

أولًا، البحر ليس رماديًّا كالمحار، والنوارس ليست بيضاء، والرمل لا هو أصفر ولا رمادي، ولا حتى العشب لونه أخضر أو أصفر، والسحب الكثيفة الداكنة ليست بنفسجية.

Damn!

أحيا دومًا في جهل بحقيقة الموقف.

Damn!

لا أفهم سلوكي بعد ذلك. الجملة التي طعنتني كالسكين لم تُنطق أبدًا؛ كلهم شهدوا بذلك. أنزف من جرح جنوني. غالبًا لا يظهر للناس أن عقلي يخذلني؛ إلا إنني ألاحظ كل يوم أخطائي. يسبب ذلك القلق والعدوانية. خوفي من أن يخذلني عقلي، وخوفي من انفعالاتي: مهزوز، متوتر، هش. لا يفيد في الأمر شيئًا أنني أعتقد بأنني أعرف هذا أو ذلك. عصرية طويلة وخفيفة. العالم يتزحزح من غيري في اتجاه المستقبل، وهكذا أبقى محصورًا في الذات التي تعرف أنها مستبعدة عن الاشتراك في المستقبل. لا يتبقى سوى الاحتياج المجنون إلى اللحظة الحاضرة من خلال امرأة. خبرت الخواء: عندما تبدو ربع الساعة، التالية، أطول من العام الفائت كله، مع أنني كنت أعتقد لتوِّي أن لديَّ أملًا في شيء. المريض في داخلي يشتهي الموت ويصمت عن ذلك؛ بهدوء يرغب في أن يقذف بمخي في وجه أقرب حائط.

Shit!

يوم الأربعاء سأتم الثالثة والستين … اليوم ستمطر، ليست خاطرة جديدة، لقد فكر فيها منذ ربع ساعة، وحتى الآن لم تمطر. بضع قطرات فقط. الساعة الآن التاسعة. بعد العاشرة (قرأ ذلك على باب الغرفة) ليس هناك فطور — الآن يتذكر في أي شيء كان يفكر، والحذاء في يديه: لا بد أن أوقظها … لا يمكن الحديث مع لين في الصباح. جفناها الآن شاحبان من دون مساحيق، كأنهما مكسوان بطبقة من الشمع. لكنها تتنفس. شعرها الطليق على الوسادة، ذراع عارية كأنها معلقة فوق الأرض، وقدم تظهر من تحت الغطاء الكتاني.

في هذه الأيام أستفيق مع أشجار البتولا،
وأمشط شعري القمحي المتهدل على جبيني،
أمام مرآة من جليد.
في هذه الأيام لا يؤلمني
أنني أستطيع النسيان،
وأنني لا بد أن أتذكر.٢٤
في غبش الفجر، قبل أعوام (١٩٥٨م)، أسير في الطريق الساحلي بينما كانت هي نائمة؛ لم أتمشَّ حافيًا، ولكن القدمين بدأتا تلتهبان في الصندل رغم ذلك. الأمر مُلح، لذا أمشي مسرعًا. لا أكاد أبصر. ومع ذلك أرى في الخليج السفن الراسية في صفوف كي تباع خُردة، وعلى البعد قوارب الصيادين في غبش الفجر. في البداية ظللت أروح وأجيء أمام المنزل، ثم جلست عند حاجز الأمواج، وبين الحين والآخر ألقي نظرة نحو الأعلى في اتجاه البيت. هل كنت آمل أن تبحث عني؟ عندما يكون المرء نائمًا فإن ساعة ليست بالشيء الكثير؛ لكن ما أطولها على المستيقظ. ثم هِمت على وجهي حتى لا أرتعش من البرد. وفجأة أشعر بالضجر أيضًا. هناك، حيث يلتف الشارع الساحلي حول الصخرة، وحيث يمكن للمرء أن يرى الميناء الصغير والمنزل الذي تنام فيه، والشرفة الصغيرة في الطابق العلوي، هناك جلست ثانية فوق السور فاردًا يديَّ على الجانبين، باسطًا راحتي على مِلاط السور الخشن، ومؤرجحًا قدمي بالصندل. بعد أن فركت المِلاط من كفي واصلت السير قبل أن يتنفس الصبح. أسير مبتعدًا كشخص يجب عليه أن يوصل رسالة، رسالة عاجلة. La Spezia. أتوقف في المدينة. الوقت أبكر من أن أحصل على قهوة. ليس ثمة إنسان — إنسان عاقل — على قدميه، كل المحلات مغلقة. حتى باعة السوق لم يصلوا بعد. ولا باص. يمكنني السير في وسط الشارع. سعيد بارتعاد أوصالي وأنا أجلس على دكة في الطريق العام، التفكير لا يجدي شيئًا، لا أعرف في أي اتجاه أجد المستقبل. وفي محطة السكك الحديدية أحصي النقود في جيب بنطلوني بعد أن قمت بلا نظارة بدراسة جدول مواعيد السفر. السفر بعيدًا عنها أم إليها؟ بقربها لا أشعر بسواها، بقربها يبدأ الجنون. كل هذا كنت أعرفه من قبل. ما زلت أعتقد أن الأمر يمكن حسمه كعملة معدنية يلقيها المرء ليرى: ملك أم كتابة؟ ولكن الأمر قد حُسم. تهكمًا ألقي بالفعل عملة، مائة ليرة، ثم ألتقطها من على الأرض من دون أن أنظر إليها لأرى صورة الملك أو الكتابة؛ أنتظر فحسب حتى أستطيع شرب قهوة في هذه المدينة: لا سبيتسيا … في مثل هذا الفجر الرمادي تمامًا، قبل شهرين: باريس، القبل الأولى على مقعد في الطريق العام، ثم في القاعات التي تُقدم قهوة في الساعات المبكرة: على المائدة المجاورة يجلس جزارون بمآزر ملطخة بالدماء، يا لفجاجة هذا التحذير! رحلتها إلى زيورخ. الذاهلة في المحطة؛ متاعها، مظلتها، وحقائبها. أسبوع في زيورخ كعاشقين، ثم الوداع الأول عن وعي واضح بالموقف. هذا يحدث بالفعل: أن يقف شعر الرأس. رأيت ذلك لديها. وعي واضح باستحالة العيش معًا أكثر من أربعة أسابيع. رحلتي إلى نابولي. هي في المحطة، ساعداها قويان. ما مصيرنا؟ إنها في النهاية مجرد مصادفة أن نبيت في مكان ما؛ الفجاجة مرة أخرى: Porto Venere، حيث نصل في تاكسي وكأننا نفرُّ … قبل أن أنهض، أفرغت الرمال من الصندل، والعملة أصرفها للقهوة. نعيش معًا سبعة أشهر، بعدها أمرض (التهاب كبدي). في الثامنة والأربعين ولم أرقد أبدًا في مستشفى. أستمتع بإدخالي إلى المستشفى، كل شيء أبيض، وهناك دائمًا من يخدمون المريض. ثم الخوف من فقدان الذاكرة. لأول مرة هذا الخوف. في الليل تلح عليَّ جملة لا بد أن أقولها لها: الجملة. تبدو لي جملة صائبة، ولذا من المهم — فأنا عاجز عن تسجيل الملاحظات — أن أحفظها غيبًا. صباحًا ينقلون سوائل إلى الساعد الأيمن، تستمر العملية ثلاث أو أربع ساعات: هذه النقط من الأنبوبة فوقي. حتى لا أفقد الجملة الليلية، أكررها كل ربع ساعة، من دون أن أفكر كل مرة في معناها. مجموعة من الكلمات. من المُلحِّ أن أُعيد صياغة تلك المجموعة من الكلمات، خصوصًا بعد أن عادني رئيس الأطباء، وبعد أن سمعت كلمات أخرى. بعد نقل السوائل إلى الجسم يكون المرء منهكًا، ليس هذا فحسب، ثمة تهيؤات بصرية أيضًا. ولكن يجب أن أسجل الجملة قبل أن يغلبني النعاس. مع اقتراب المساء أشعر بنفسي مستيقظًا؛ أقرأ الجملة التي ليست بجملة: الفاعل مطموس، أحذر سدًى، ولا أثر لأي فعل. أنا خائف. تعودني، ولا أستطيع النطق بها. هل أسمع؟ لا ألاحظ أنها ترتدي اليوم فستانًا جديدًا، فستانًا صيفيًّا. علا الإحباط وجهها، فقد جابت زيورخ طوال اليوم حتى تبهجني بالثوب الجديد. كما أنها اشترت لي زهورًا، زهور «العائق»، لأنني أحب تلك الزهور؛ الزهور في الشقة، تقول، ثلاث باقات. لا أفهم شيئًا على الإطلاق. أطلب منها أن تنصرف. أنا أكثر اصفرارًا من صيني حقيقي. سأشتري، عندما أخرج من هذا المستشفى، سيارتين من طراز «فولكسفاجن»، واحدة لها وواحدة لي، لحسن الحظ فإن شخصًا توقف هنا أثناء سفره ويمكن أن يرافقها إلى روما. ليس أي شخص: هانز ماجنوس.٢٥ صرفتها، في صيف عام ١٩٥٩م. وبعدها بقليل أتماثل للشفاء. أستطيع السير ثانية: نصف ساعة إلى منابع الكبريت، ونصف ساعة للعودة. بعد ذلك أكثر. تحضر الذاكرة من جديد؛ هي إذن في روما. وعندما أستطيع السير لمدة أربع أو خمس ساعات في اليوم فإنني أعرف أنني لا أريد الحياة دونها. Roma non risponde،٢٦ لا أستطيع تحمل عدم الاتصال بها لمدة ليلة واحدة، ولا حتى أثناء النهار، Roma non risponde، أستطيع التفكير في أسباب عديدة، وكلها بالنسبة إليَّ سيان؛ ما يدفع بي إلى حافة الجنون هو هذا الجرس، إلى أن أسمع الصوت مرة أخرى: Roma non risponde. أحضر غطاء لأن النعاس يغلبني مرة بعد أخرى بجانب الجهاز، وأضبط المنبه حتى أتصل بها كل ساعة. مريض طلب منها الانصراف، أعرف. سمح الطبيب لي أن أرتدي ملابسي وأتمشى لدقائق في الشارع حتى ألوح للاثنين عند ركوب السيارة. ألم تستلم خطاباتي؟ زال اصفرار لوني. أريدها. Roma non risponde, Roma non risponde. ثم أسمع صوتها ذات مرة، بعدها بأيام قليلة نلتقي على الحدود الإيطالية السويسرية، وننطلق في عربتي فولكسفاجن تجاه زيورخ. تحكي لي ما حدث في روما. في زيورخ نحاول السكنى في شقتين منفصلتين. تسكن في البيت الذي سكن فيه جوتفريد كلر أثناء عمله كاتبًا في ديوان الدولة، الأبواب من خشب الجوز ومكسوة برقائق من النحاس الأصفر. ما الذي أنا مقدم عليه؟ في زيينا، خريف ١٩٥٩م، أقف أمام مكتب البريد كمن استيقظ بعد أن تجول أثناء نومه، لفترة غير قادر على عبور الميدان المشمس: أُرسل الخطاب، بالبريد السريع، خطابًا سميكًا. عرضت عليها الزواج. نعم. لا أستطيع التكهن بإجابتها. لا. الصديق الذي انتظرني في بار قريب يلاحظ أنني ذاهل بعض الشيء، ولا يعرف السبب. متى يصلني ردها على أقرب تقدير؟ مُنعت من الشرب في ذلك الخريف، ولا حتى قهوة؛ هكذا، بكامل وعيي، عرضت عليها الزواج. في أسيزي أذهب أولًا إلى مكتب البريد، ثم إلى الكاتدرائية حيث يُعقد في تلك اللحظة قران، قران كاثوليكي؛ في فلورنسا أذهب إلى البريد قبل أن أبحث مع الصديق عن فندق. هل أقدم على الاتصال بها؟ وصل خطابي، الذي أحفظه الآن غيبًا، لا أسمع منها شيئًا إلا عند لقائنا في زيورخ. كيف أتخيل الزواج بعد نصف عام من طلاقي المتأخر من زوجة برجوازية؟ أصحبها إلى فرانكفورت؛ في قاعة المحاضرات بالجامعة أجلس أثناء إلقائها أولى محاضراتها واضعًا معطفها فوق ركبتي. في المرات التالية تريد السفر وحدها إلى فرانكفورت. ذات مرة على رصيف محطة القطار حيث جئت لاستقبالها تظل واقفة بمجرد رؤيتي وهي من الاضطراب في غاية. ما الذي قرأتْه في التلغراف وجعلها في اليوم التالي مذهولة هكذا؟ يبقى الأمر سرها الخاص. ذهابي إلى امرأة أخرى في ذلك الشتاء — وأنا أتنقل بين شقتينا — لا يحررني من عبوديتي. أطفالي أيضًا يحبونها، على ما أعتقد. بعد ذلك نسكن معًا في روما، Via Giulia 102، ضجيج. روما الخاصة بها هي. شائعة عزمنا على الزواج تنتشر بين الصحف كالنار في الهشيم، يذكرون أيضًا اسم كنيسة إيطالية صغيرة لم أرها في حياتي. ألا يصدقون أنها حرة؟ إذا استضافنا أصدقاء، أصدقاؤها أو أصدقائي، فإنهم يعطوننا من دون سؤال غرفة مشتركة؛ نحن زوجان، شبه زوجين، أمر لم نعد نستطيع إخفاءه. في مطعم إيطالي يأتي ألماني إلى مائدتنا، أرى تحية تفيض بشرًا لمصادفة اللقاء، وأصغي نصف ساعة. لا تقدمني إليه، وأنا لا أقدم نفسي لأنني أعرف أنها لا تود ذلك، وهو — الشاعر بيتر هوخل — لا يجرؤ على تقديم نفسه أيضًا رغم أنه تعرف عليَّ. أحيانًا يكون الأمر غريبًا. عندما زرتها في نابولي فإنها لا تريني البيت الذي تسكن فيه، ولا حتى الشارع؛ أتفهم ذلك. تخشى كثيرًا أن يتقابل المقربون منها مع بعضهم البعض. لا تريد أن أظهر في أي اجتماع لجماعة ٤٧ الأدبية؛٢٧ يبقى ذلك في دائرة اختصاصها. لديها دوائر اختصاص عديدة. بين الحين والآخر أضيق ذرعًا بهذا التكتم والتستر. ماذا تخشى؟ ذات مرة نسافر إلى كلاجنفورت؛ تُريني النافورة ذات التنين التي اشتهرت عبر نصها؛ أنا (هكذا تقول) أول رجل تريه إياها، وتعرفني إلى العائلة. ثم مرة أخرى — في روما — تفرق بين الماضي والحاضر؛ فجأة تظل واقفة وكأن صاعقة أصابتها، وتلمس بظهر يدها جبهتها المائلة: من فضلك، لا، فلنسر في أي شارع آخر غير هذا، لا، من فضلك لا! لا أسأل. بالأسرار يصون المرء كرامته. هذا صحيح. تصور فظيع أن يجتمع معًا كل الذين لعبوا دورًا في حياتنا أو سيلعبونه يومًا ما: تعارفهم، توافقهم بعد تبادل المعارف المتضاربة، التفاهم الذي يبدونه تجاه بعضهم البعض — كأنها جنازة لصورتنا عن أنفسنا. بهاؤها! نجلس عند سمسار في روما يؤجر لنا شقة البارونة، ويوصل إلينا رسالة البارونة بأنها قد تفضل كمستأجر دبلوماسيًّا أمريكيًّا، أنا دكتورة، dottore، تقول منفعلة وكأنها ابنة ملك لم يتعرف عليها أحد، ثم تتردد قبل أن تقول: senta, siamo scrittore،٢٨ ونحصل على الشقة؛ شرفة تطل على روما. كثيرًا ما تغيب أسابيع، وأنتظر في روماها. وفي يوم، وقد كنت أعرف أنها في الطريق إلى روما، لم أكن أستطيع أن أنتظر ساعة أخرى، لذا أنطلق بسيارتي إلى خارج المدينة، وأقبع على جانب الطريق مراقبًا؛ أنتظر سيارتها الفولكسفاجن الزرقاء. لكي أرحب بها. في حالة لو لم ترني السائقة فإن سيارتي جاهزة للانطلاق في اتجاه Roma/Centro. بين الحين والآخر تمر سيارات فولكسفاجن، زرقاء أيضًا، حتى أنني ألوِّح. ربما ما زالت تتناول طعامها في زيينا، Ristorante Di Speranza، لديَّ وقت. لم تتعرف عليَّ عندئذ، إلا إنني سرعان ما لحقت بها، رأيت رأسها المستدير من الخلف، شعرها. من الواضح أنها لا تفهم لماذا أستخدم آلة التنبيه، ثم يمر بعض الوقت حتى أستطيع أن أسبقها، وكأنني سيارة شرطة تريد إيقاف عربة، وهكذا يستولي عليها الرعب أيضًا. أنا أبله، وأعرف ذلك. حريتها جزء لا يتجزأ من بهائها. الغيرة هي الثمن من جانبي؛ أدفعه كاملًا. في الشرفة الضيقة المطلة على روما أنام ووجهي في قيئي. أعاني كي تتكاثر الرغبة الحنون داخلي. عندما تكون حاضرة، فإنها تكون حاضرة. أم أنني أخدع نفسي؟ ما لم يحدث أبدًا: الزواج كحياة منزلية بائسة. ماذا يعذبني؟ أجلس في غرفتي ولا أتنصت عليها، ولكن يتناهى إلى سمعي أنها تتحدث مع شخص في التليفون؛ صوتها جذل، تضحك، وتطول المكالمة؛ لا أعرف لمن تقول: بعد غد سأسافر إلى لندن، من دون أن تذكر أننا سنسافر معًا إلى لندن لحضور عرض أحد مسرحياتي. ذات مرة فعلتُ ما لا يجب أن يُفعل: قرأت خطابات لا تخصني، خطابات مرسلة من رجل؛ يفكران في الزواج. أخجل من نفسي وأصمت. عندما أسألها لا تكذب. تكتب: إذا تغير شيء بيننا فسأقول لك. ثم مرة أخرى يعاودني الاعتقاد بأنني لا أستطيع الحياة من غيرها. أقود سيارتي في اتجاه الشمال، طريق أحفظه عن ظهر قلب. عشر ساعات حتى كومو حيث أبيت في العادة، ولكن في تلك المرة أواصل السفر من دون استراحة. لا تعرف أنني في الطريق إليها. أواصل السفر إلى أيرولو، سويسرا، هناك أقبل الليل. القمر مكتمل. لا بد أن الرحلة عبر طريق سانت جوتهارد ستكون الآن جميلة. بعد ذلك بوقت قصير أدخل في ضباب كثيف، لا بد أن يجهد المرء نفسه حتى يتعرف على علامات الطريق. بعد ذلك يهطل المطر. وأفكر إذا كان من التعقل أن أبيت ليلتي في البنسيون، إلا إنني لا أغادر السيارة. لا أشعر بالتعب على الإطلاق، على العكس. بعد البنسيون بقليل، وأنا سائر في اتجاه الوادي، يتعطل مصباح السيارة الأمامي الأيمن. لا أتوقف، فقط أُبطئ السيارة. عشرون كيلومترًا في الساعة، بكل بساطة لا يمكن أكثر من ذلك؛ إذ ليس لديَّ الآن سوى المصباح الأيسر، بينما العلامات التي ترشدني إلى طريقي في الجانب الأيمن. المطر ينهمر. أنا الآن السائق الوحيد على الطريق، غير مجهد إطلاقًا، أو نعسان فقط (هكذا أعتقد) بعد أربع عشرة ساعة على عجلة القيادة وحدي. عندما لاحظت فجأة أن علامات الطريق لم تعد على يميني، وإنما على اليسار، أعرف أنني ضللت الطريق، وأفرمل السيارة بعنف. تظل السيارة واقفة، وقد مالت قليلًا. لا أهبط كي أرى أين تقف السيارة على المنحدر، بل أسير إلى الخلف. أفلح في ذلك وأواصل الرحلة. ببطء بالغ. بين الحين والآخر يظل الضباب جاثمًا، حتى بعد أن خف المطر قليلًا. في أندرمَت لا أجد فندقًا مفتوحًا، هكذا يبدو؛ انتصف الليل منذ مدة. إذن فلأواصل السير، بعد أن فحصت أخيرًا المصابيح التي ما زالت تعمل في السيارة: المصباح الأيسر، وضوء التوقف الصغير الأحمر الباهت على الجانبين. لا أستطيع التوقف عما أفعل. لم أشرب شيئًا (عدا كأس من الكمباري في زييتا، وثلاثة فناجين قهوة إسبريسو في كومو، وبيرة في أيرولو)، أشعر بالحيوية. السائقون في الاتجاه المعاكس يعترضون على ضوء سيارتي الأمامي؛ لكنني لا أستطيع إطفاءه والاعتماد على أنهم سوف يرون الضوء الضعيف على الجانبين. آمل ألا تقابلني الشرطة. حوالي الثالثة فجرًا أصل إلى البيت (أوتيكوم أم زيه). لم يحدث شيء، لم يحدث شيء على الإطلاق: أنا قادم من روما! هذا هو كل شيء. أنا هنا. لا أعرف لماذا لم أتصل تليفونيًّا على الأقل؛ لم أفكر في ذلك، فقط كنت آمل أن تكون موجودة. حدث ذلك قبل ١٤ عامًا. ماتت إنجبورج. تحدثنا آخر مرة عام ١٩٦٣م ذات ضحًى في أحد مقاهي روما. سمعت أنها وجدت في تلك الشقة (بيت الشجرة الباسقة) يومياتي في درج مقفل؛ قرأتها وحرقتها. لم ننجح في تجاوز النهاية، كلانا لم ينجح.

Gurney’s Inn

خادمة المطعم الشابة، تختلف عن خادمة الأمس، تصب الماء بقطع الثلج في الكأسين؛ لم تحضر لين بعد، إلا إنه يعرف ماذا ستطلب: melon, pan cake with bacon and jam, coffee، فطورها يوم الأحد، والآن تمطر بغزارة.

My Life as a Man

بعد سنوات أرى نفسي ولا أتعرف عليها — ترقد في مصحة بيرشر بنر في زيورخ. يذهب لزيارتها؛ عليه الانتظار، يبدو أن زيارته تلقى الرفض. إلا إنه مصر على رؤيتها والحديث معها. لا يعتبر نفسه إنسانًا متوحشًا. عندما دخل الغرفة صمتت مرتاعة. لماذا دخلت هذه المصحة؟ هي نفسها طلبت الدخول. يرى زهورًا ولا يسأل عن مرسلها. يشاهد الممرضة تبدل زهور اليوم بزهور الأمس. لا يجلس على حافة الفراش، بل يقف، بعد ساعتين أو ثلاث لا بد أن يكون في المطار. عندما أرادت مغادرة الفراش حتى ترتدي ملابسها والخروج معه للتمشي، طلبت منه أن يخرج من الغرفة حتى لا يراها بقميص النوم. سيطير إلى أمريكا، نعم، بدونها. تعرف كل ذلك من الرسائل. تعرف مَريانَّه وتحدثت معها كامرأة بالغة. جاء حتى يودعها في العام الخامس. لا يصدق تمامًا أنها مريضة. ولكنه يصدق حكاية الزهور التي تتلقاها يومًا بعد يوم. لا يشعل ذلك غيرته؛ استهلك عشقه الذي حوله إلى عبد. وهكذا يسيران في الغابة، لمدة ساعة كما أوصى الطبيب. الخبر الذي أرسلته إلى روما عن دخولها المصحة أفزعه للغاية، ولكن لم يغير خططه. ما زالت تأمل أن يتفهم الأمر عندما يصل إلى أمريكا، ويدعوها للمجيء إلى أمريكا؛ سيكون ذلك هو الشفاء. وهكذا يتحمل هو وزر مرضها. ماذا وجد الطبيب لديها؟ منظرها يثير الشفقة. بماذا أمر الطبيب غير الراحة التامة والنظام الغذائي؟ الزيارات ممنوعة؛ وخصوصًا زياراته ستضرها. يمكنهما السير ذراعًا في ذراع كي يكونا معًا تحت المظلة. لا يدري لماذا يشعر بأنه يعرف هذه التمشية، هذه الساعة. عما يتحدثان؟ كيف يصمتان؟ شارد الذهن هو؛ ثلاث ساعات قبل طيرانه. سوف يخبرها بعنوانه … إلخ. يتذكر، نعم، حدثته في الماضي مرة عن رجل مسن رأته في فيينا، ولكنها لم تتحدث معه؛ ربما يهودي؛ تفاهما بنظرة واحدة، هكذا بدا لها، ثم هربت كأنها أمام قدر. إنه لغز: هذا الغريب كان هنا، نعم، في المصحة. مصادفة. تعرفا أحدهما على الآخر في الرَّدهة؛ ثم تمشى معها هنا أيضًا. لكنها لا تقول اسمه، ولا تحكي في العموم كثيرًا. كل شيء بالغ الغموض. هذا الغريب يرسل إذن الزهور كل يوم، دائمًا الزهور نفسها: ٣٥ وردة. هكذا تقول، وهو يصدق الحكاية؛ لن تكون وحيدة عندما يذهب. وأنتَ، هكذا قالت بعدها بنصف عام في روما، طرت إلى أمريكا عندما كنتُ أرقد في المصحة، ولم توجه إليَّ دعوة للسفر إلى أمريكا. بل حتى لم تفهم أنني أرسلت الزهور لنفسي حتى تدعوني.

Check out

ماذا يمكنهما أن يفعلا بعد الفطور؟ التمشية بالمظلة؟ تنس طاولة؟ يمكن الجلوس على الشرفة والتفرج على المطر وهو يتساقط على البحر … يزعجه أن لين — لأنها قامت بالحجز — تعرف على وجه التقريب المبلغ الذي دفعه لليلتين. تجلس الآن في السيارة. يدفع تقريبًا ضعف ما تكسبه في أسبوع: نقود الرجل أمر بديهي في إطار الزواج … عندما يرمق لين من الجانب (لا يفعل ذلك أبدًا من دون التذرع بحجة؛ إشعال سيجارتها مثلًا، أو التصرف كأنه يريد ألا يفوته منظر طبيعي، الكثبان، الأكواخ، الصواري): لين أمام عجلة القيادة، النظرة غالبًا إلى الأمام، إما أنه اعتاد على كون شفتيها ساخرتين أثناء النهار، أو أن شفتيها قد تغيرتا. ذات مرة — أمس الأول على المائدة — لين مجروحة. لماذا؟ على الأقل لاحظ ذلك، وسألها، إلا إنه لم يعرف السبب. سوء تفاهم؟ يقطعان الطريق نفسه في العودة. من المرجح أنها أيضًا كانت تخشى أن يكون الفشل من نصيب نهاية الأسبوع هذه. الآن ليس من الضروري أن يخبئا الخوف. يكتشف أنه فقد كيس تبغه؛ الصمت بلا غليون في الفم. كل منهما يعرف قليلًا عن الآخر، أقل من اللازم كي ينساب حديثهما بيسر. إنه حتى لا يعرف موطن ضعف لين، أو ما الذي قد يؤدي إلى أول شجار بينهما. بالمناسبة، يبدو أن لين لم تعد تفكر في ذلك؛ المرة الأولى لا تُحسب. إنه في حاجة إلى زواج، زواج طويل، حتى يتحول إلى رجل متوحش.

Amagannsett

هو إذن اسم المكان الصغير حيث قرر بالأمس أن يقص نهاية الأسبوع هذه: كسيرة ذاتية، نعم كسيرة ذاتية. من دون أن يخترع أشخاصًا؛ من دون أن يخترع أحداثًا تكون أكثر دلالة على واقعه الشخصي؛ من دون الهروب إلى الخيال. من دون أن يبرر كتابته بالمسئولية تجاه المجتمع؛ بلا رسالة. ليس لديه رسالة ويحيا رغم ذلك. إنه يرغب في أن يقص فحسب (من دون أن يراعي مشاعر كل هؤلاء الذين يذكرهم بأسمائهم): حياته.

أجرِّب القصص كالملابس

كثيرًا ما يفزعني تذكر شيء ما، غالبًا ذكريات غير مرعبة في الأساس؛ توافه لا تستحق حتى أن أحكيها في المطبخ، أو وأنا جالس بجانب سائق سيارة. ما يفزعني هو هذا الاكتشاف: لقد تسترت على حياتي. زودت رأيًا عامًّا ما بقصص. تعريت في تلك القصص، أعرف، تعريت إلى درجة يستحيل معها التعرف عليَّ. لا أعيش قصتي أنا، بل تلك الأجزاء التي استطعت أن أصنع منها أدبًا. مناطق بأكملها ظلت غائبة: الأب، الأخ، الأخت. العام الماضي توفيت أختي. تأثرت لكثرة ما أعرفه عنها. لم أكتب أبدًا شيئًا من قصتها. لم أصف نفسي قط. لقد خنت نفسي فحسب.

Max, what is your state of mind?

تسألني لين لأن المطر يهطل … شيء من الكآبة يظهر على وجهي في كل صورة تقريبًا، وهو ما أكرهه منذ سنوات وسنوات. السبب في ذلك هو شلل في الجفنين، ما يكسب وجهي — أعرف — ملمحًا من التكبر. شُل جفناي وأنا صبي، عندما كنت مصابًا بالحصبة، وكان عليَّ أن أرقد في غرفة شبه مظلمة؛ إلا إنني أخذت أقرأ سرًّا لساعات تحت الغطاء مستخدمًا كشافًا صغيرًا: دون كيشوت. بعد ذلك عُولج الجفنان، مرتين في الأسبوع؛ كان طبيب العيون يقلب كل جفن ويدهنه من الداخل بسائل بني مؤلم، جزاء مَن لا يطيع. كنت أشعر بحرقان هائل، ثم كان عليَّ أن أجلس ساعة معصوب العينين في غرفة الانتظار. لم ينفع العلاج كثيرًا. أصبح الجفنان (تبدو النظرة دائمًا وكأنها منكسرة تنم عن ريبة وسخرية) جزءًا من سمات وجهي — سمعت وأنا تلميذ كيف كان جفناي يسببان الضيق لهذا المعلم أو ذاك: تلميذ بهذا المستوى المتوسط وهذه العجرفة! لم أكن أعرف على الإطلاق ماذا تعني هذه الكلمة على وجه الدقة، شيئًا سيئًا على كل حال، شيئًا كريهًا. اجلس! فات على ذلك وقت طويل؛ بعد ذلك لم يعودوا يأمرونني بالجلوس. لكن سمات الوجه بقيت، وكذا ما تتركه من أثر. أُدرك ذلك عندما يتعجب شخص — بعد أن يتعرف إليَّ عن قرب — من أنني لست متعجرفًا. هذا الاكتشاف يخفف عن الآخر أكثر مما يخفف عني. وأستنتج من ذلك: ينبغي أن أحترس وأبدو جم التواضع. الكبرياء الطبيعية لا بد أن تظهر مع سمات وجهي بالذات كأنها تكبر. فلأكن إذن متواضعًا ظريفًا، وإذا لم يصدق الآخر ذلك فلا بد من أن أؤنب ذاتي.

يقول: No, I am fine

لا يزعجه المطر. كل حاضر يبهجه. مسَّاحتا المطر الآن تروحان وتجيئان. ينتبه إلى كل ما يراه. لا يريد مذكرات. يريد اللحظة الحاضرة. الطبيعة، في هذه اللحظة، مقفرة؛ يتأملها مع ذلك. يلحظ قدمها على دواسة البنزين، وحذاء تالف، يدها اليمنى على عجلة القيادة، يد نحيلة، وحركة مسَّاحتي المطر جيئة وذهابًا. لا يفتقد شيئًا؛ يشعر بالامتنان لنهاية الأسبوع التي لم تنقضِ بعد.

بروتاني

نسافر ثلاثتنا في السيارة الموريس الصغيرة، أجلس طيلة الوقت في الخلف. لماذا أتسبب في تضليل السائقة بأن أقترح طريقًا خاطئًا؟ لا أنطق بحرف؛ ولا ألومها إذا انحرفت عن الطرق، وسارت في اتجاه Orly بدلًا من Orleans، ليست كارثة، طريق أطول، يستغرق ساعة إضافية فقط، لا ذنب لي في ذلك؛ هذا ما يجعلها عصبية. أنا إنسان مقزز، أعرف، أتأمل الطبيعة ولا أشعر في حاجة إلى تأنيب ذاتي، بل أتحدث (مثلًا) عن الكاتب بيتر هاندكه، حزن غير محتمل،٢٩ ترك لديَّ النص انطباعًا طيبًا. تصيب أحيانًا في لومها الذي توجهه إليَّ عندما أقود السيارة. أحتاج إلى إجازة، أرغب في ألا أتسبب لمدة ثلاثة أسابيع في أخطاء أثناء القيادة؛ أن أتفرج على فرنسا. شرطي فرنسي يجيء بملامح صارمة ويطلب منها بطاقة هويتها، ثم يسألها إذا كانت لم تر الضوء الأحمر؛ نكتشف — بعد أن تفحص وجه السائقة — أنه جنتلمان: Madame، يقولها من دون أن يبالغ في إظهار جاذبية قد ينكرها عليه الرجلان الجالسان في الموريس، ثم يضع يده على قبعته المخططة، ويتمنى لها رحلة سعيدة: Bon voyage! نصل إلى البحر المنحسر، Mont Saint Michel. التجول في الرمال الموحلة مبتعدين عن بعضنا. الموقف صعب بالنسبة للصديق العزيز، هكذا أفكر، مع رجل وامرأة حزينين بائسين. غداء، بسيط ولكن لذيذ؛ صديقنا، الموسيقار، يحكي لنا أخبار السيلت القدماء، بالذكاء نفسه الذي يحدثنا به عن ميونيخ. ثم تهفو نفسها الآن إلى سيجارة. لم يكن معي سجائر لأنها توقفت عن التدخين. تسأل الصديق. يمد يده إلى جيبه ويضع العلبة على المائدة حتى تأخذ منها. وهو ما تفعله. وأنا أصغي إليه. نظرتها إليَّ: ألا أرى أنها تنتظر كبريتًا؟ أسأله إذا كان عنده أعواد كبريت. أعواد كبريت؟ لديه: في جيب المعطف الأيسر أو الأيمن، يقول ذلك من دون أن ينصرف عن طعامه. ليس أمامي سوى النهوض من على المائدة حتى أبحث على كبريته في جيب معطفه الأيسر أو الأيمن. لماذا أضحك؟ لأن في جيبي كبريت، وبالتالي لست في حاجة إلى النهوض، أشعل سيجارتها؛ نظرتها لا تخلو من لوم: ما معنى هذا السخف! إنه صديقنا الوفي منذ سنوات، ذواقة طعام، وخير من يفتح أمامك آفاقًا جديدة، أيضًا أثناء الرحلات. بعد ذلك أسأله في السيارة، لماذا يأمرني كأني خادمه الخاص. مثال من أمثلة عديدة. الموقف يتوتر؛ لا يفهم ما الموضوع، وهي تفزع لسلوكي، وأنا لا أطيق أحدًا.

أنت تجرح كل أصدقائنا!

ثم حساسيتي عندما لا ألوم ذاتي، وتواجهني الرقابة، على أبعد تقدير عند انفرادنا؛ حساسيتي المريضة كالوجه الآخر لتأنيب الذات، الذي هو بدوره الوجه الآخر للصلف والتكبر. وكأنه ليس من حق الآخرين تحديد نقاط ضعفي أو أخطائي.

Sunrise Highway

لأنها لم تنجز على الشاطئ عملها المكتبي، ترجوه لين أن يتولى القيادة. تشرع في القراءة. يحب قيادة السيارات عندما يثق به الآخرون. ومن الواضح أن لين تفعل ذلك، وإلا فإنها لن تستطيع القراءة. طريق يكاد يكون مستقيمًا، أي إنه ممل إذا لم يتجاوز بين الحين والآخر سيارة أمامه. ثم يفكر في صمت عما سوف يفعلانه في مانهاتن: بعد ظهر يوم الأحد، مطر، شقتها الصغيرة ذات القضبان.

Max, you are wrong

تقول الغريبة الشابة، وهو يتقبل الجملة كأي إنسان طبيعي، إنسان متوازن، إنسان عاقل — يخفف هذا عني، لأنني لم أظن أنه قادر على ذلك … لا يسمع الجملة على أنها تأنيب. يفهم أن عليه أن يلتزم اليسار، وهو ما يفعله ببساطة، ولا يرد قائلًا: Sorry! كي يصمت بعدها متبرمًا. يتقبل ما يقال كلفتةٍ صغيرة تهدف إلى مساعدته، وليس كلومٍ. حديثًا قال: Alice in the Wonderland، والصحيح هو: Alice in Wonderland؛ هو في الأساس يعرف ذلك. لا يقشعر عندما تقوم لين — وهي بالمناسبة لم تطالع الكتاب قط — بتصحيح ما قال، ولا تفتر حماسته بسبب ذلك. لا يفهم قولها على أنه رقابة. خطؤه بالأمس، عندما تنبأ على الشاطئ بيوم أحد صحو، ليس بالهزيمة؛ إنهما فقط يظهران الأسف لأنها تمطر اليوم. عندما تخطئ لين في عدد سكان برلين فإنه أيضًا يقول: You are wrong، يقولها بلا حساسية زائدة؛ ليس انتقامًا، لذا فإنه ليس في حاجة إلى تزويد جملته التصحيحية بواقٍ للصدمات. لا يحتاج إلى القول: I think you are wrong. يحدث ألا يعرف كلاهما شيئًا ما، مثلًا متى عاش آخر هندي أحمر في هذه الجزيرة. بين الحين والآخر تبادره لين أيضًا بالسؤال: Are you sure?، ولكن ذلك ليس مدعاة إلى أن يضبط أعصابه؛ سؤال طبيعي. عندما تعرف شيئًا أكثر منه فإنه يكون راضيًا؛ يوفر ذلك وقتًا أو مالًا، يوفر عليهما طريقًا أطول أو أملًا كاذبًا. أما إذا كان متأكدًا، مثلًا من مواعيد فتح متحف «ويتني»، فإن سؤالها لا يجعله منفعلًا؛ من الممكن الذهاب إلى متحف «ويتني»، والوقوف أمام اللوحات، من دون أن يشعر المرء بالضيق من نفسه، ومن دون أن يبقى في الفم مذاق فاتر بأن الآخر يريد أن يكون على حق. لا يترقب وقوعه في الخطأ التالي؛ لا يشعر بأنه في امتحان. ذات مرة في السنترال بارك انزلقت قدم لين من فوق صخرة سوداء، عندما اعتذر لها سألته: Are you crazy? — لم يدللها بعد بتأنيبه لذاته … تجاهلت لين وهي تسوق (منذ نصف ساعة) سؤاله: كيف يمكن بالنظر إلى مكان غريب معرفة إذا كان اليوم هو الأحد؟ ولكن لين تسأله الآن إذا كان قد عرف الإجابة. هو أيضًا انشغل في تلك الأثناء بأشياء أخرى:

سمعنا كيف يقرأ بابلو نيرودا

الآن فات أوان زيارتي لتشيلي

غدًا (الإثنين) عليَّ إنجاز بعض الأشياء؛ إحضار الكتب إلى مكتب البريد حتى لا يكون معي وزن إضافي، لا بد من الاتصال ببضعة أشخاص، أصدقاء من المرة السابقة، أهملتهم، كلهم يسألون عن مَريانَّه ومتى ستزورهم مرة أخرى.

Did you have a good time?
كلاهما أنجز عمله، أستطيع أن أقول ذلك، وأيضًا قضى إجازة؛ مرة في لندن، وأخرى في بروتاني. أما بالنسبة للصحة فقد كانا عمومًا محظوظين. لندن هي المدينة المناسبة. ولكن لديهما الآن شقة في برلين. تعود المرء على ضجيج الطائرات نهارًا، والأذن تفرق بين ضجيج الطائرة الهابطة والمقلعة. الطائرات الهابطة تكون قد أنزلت عجلاتها عندما تظهر فوق الطريق؛ الطائرات المقلعة التي تُرى من الشباك ذاته فوق الطريق ذاته — تطير أعلى وتنفث وراءها غالبًا أربعة ذيول من الدخان؛ الضجيج الصادر عنها أكثر حدة، ليس صفيرًا كما هو حال الطائرات الهابطة، بل دوي ينتشر في الهواء بين البيوت. تكون البداية في السابعة صباحًا؛ الوقت المفضل للنهوض والذَّهاب إلى المطبخ، ثم إلى المكتب. كلما كبرت، قل احتمالي لنفسي من دون عمل. أكتب: ذكريات عن فترة التجنيد، خطابًا عن الوطن، خطابًا مفتوحًا إلى المجلس الاستشاري الاتحادي عن اللاجئين من تشيلي. إذا سطعت الشمس في الخارج فلا بد من ضبط الستارة المعدنية البيضاء حتى لا تبهر الأشعة العين. نور رقيق. شتاؤنا الثاني في برلين هذه، الربيع الثاني. الاحتفال الذي أُقيم بمناسبة عيد ميلادك كان جميلًا؛ مكتبي كبوفيه بارد؛ أصدقاء أذكياء كثيرون ورقص. يومي أقضيه مع الكتب، أحيانًا مع الزهور. لم تصبح الشقة مكدسة، لا أبسطة، أسمع الخطوات فوق الباركيه (ليست الأحذية فقط) في تلك الغرفة المسماة بالغرفة البرلينية،٣٠ عندئذ أعرف: ستأتين لتتمني لي يومًا طيبًا، حافية.

ما الذي نخطئ فيه معًا؟

على السفينة في أوروبا (سوف يتوقف الخط الملاحي هذا العام) ألعب الشطرنج يوميًّا عدة ساعات. أنت تفضلين البقاء بمفردك على سطح الباخرة بعد أن لفك الخادم بالأغطية، وحيدة مع أفكارك؛ ثم تفضلين — عندما تشتد الريح — أن تجلسي بمفردك على البار. ألاعب نفسي الشطرنج؛ أخسر غالبًا، هذا يعني أنني أتوحد مع اللون الخاسر عندما يموت ملكه، بلا مناقشات. عندما أجلس على الطرف الآخر من الطاولة الخضراء الصغيرة، وقبل أن يُحسم الأمر فوق الرقعة، فإنني أكون الخاسر أيضًا: لا يتغير شيء! ولم أستطع معرفة السبب.

But where are you today? Probably out with your husband for a walk … Do you think he has noticed? What foolishness! It is as obvious as a bumper sticker, as obvious as an abdication … I have spent many message units seeking your voice, but I always get Frederick instead. Well, Frederick, I ask cordially, what amazing triumphs have you accomplished today? ٣١
ما أسرع حدوث الماضي: هيئة الغريبة الشابة فوق الدرب الضيق خلال الشجيرات، Overlook، كان هذا بالأمس.

Exit 35

يرى اللافتات الخضراء.

No Left Turn

لين تقرأ.

Exit 29

هل استولى عليه النعاس أثناء ذلك؟

Max, you are a fortunate man ٣٢

تقول لين بعدما حكى لها مرة أخرى — حتى لا يصمت طوال الأميال — حكاية حصولي على شقة الضيوف الخاصة بالممثلة مارلينه ديتريش، عام ١٩٦٣م، حكاية حقيقية لإثارة الضحك الخفيف … ليس معتادًا على قيادة سيارة أوتوماتيكية كهذه. الأمر في غاية السهولة؛ منذ ساعتين أو أكثر وهو يقودها، يرى المرء الآن الملامح الرمادية لمانهاتن، ثم مرة أخرى بالقرب من كوينز تظهر هذه المدافن التي لا تنتهي. قدمه اليسرى تنسى: ليست دواسة التعشيق، إنها الفرامل؛ من حسن الحظ أن لين قد ربطت الحزام، ومن حسن الحظ أيضًا أن سائق السيارة التالية استطاع بالكاد تفادي الفورد التي وقفت فجأة … هذا ما كان ينقص: راح شخصان ضحية حادث مرور، أمريكية شابة (البيانات الشخصية بالتفصيل) وسويسري طاعن في العمر (البيانات الشخصية بالتفصيل)، كانت نهاية أسبوعهما على الساحل جديرة بالقص، نهاية أسبوعنا.

تقود لين الآن مرة أخرى

يجلس صامتًا، مفزوعًا بعض الشيء: إذا كنت لم تعد تتحمل أطفال أفضل أصدقائنا وكلبهم الصغير، فعلينا أن ندخل بيت المسنين على الفور! وبعدها بثوانيَ قليلة يكون الحق عندها: أواصل القيادة على طريق «البونديس أليه» (برلين) والإشارة حمراء.

ما زال اليوم أحدًا

الخطيبة اليهودية من برلين (في زمن هتلر) لا تُدعى حنة وإنما كيته، ولا تتشابهان في أي شيء، الفتاة في قصة حياتي وتلك الشخصية في رواية كتبتها. لا تشتركان إلا في الموقف التاريخي، وفي الشاب الذي لا يستطيع فيما بعد أن يوضح سلوكه؛ الباقي فن، فن الكتمان تجاه الذات … ما الذي حدث؟ عجيبة هي الأماكن التي أتذكر فيها أحيانًا: في محطة القطارات «فريدريش شتراسه»، عندما أُظهر لموظفي ألمانيا الديمقراطية جواز سفري، وأرى كيف يتفحصونني، وأرقب سحنتهم أثناء ذلك. لا أخلط بينهم وبين ذلك الموظف النازي الذي تفحصني، عام ١٩٣٧م، في الجزء الواقع على الحدود الألمانية في محطة قطارات بازل: صحفي؟ ثم أضاف بعد أن صدرت مني إيماءة لا تخلو من افتخار صبياني بالمهنة: وهذه اليهودية تمدك إذن بالحكايات البشعة! أتوسل إليها على رصيف القطار: لا تعودي إلى ألمانيا. ولكنها تريد؛ والدها في برلين. على سلم القطار كنت ما زلت ممسكًا بها: ابقي هنا! حُب الشباب يرزح تحت ضغط هائل من الضمير. إنها أول شريكة لي؛ لا نسكن معًا، لكننا نتقابل يوميًّا. طالبة. ساعات خلوتنا رومانسية تغلب عليها قلة الخبرة والسذاجة. في الوقت ذاته تُعلن في نورمبرج القوانين العنصرية. ولا مرة خلال خمس سنوات هفت نفسي للخيانة. ترغب في طفل، الأمر الذي يفزعني؛ لست مستعدًّا لذلك على الإطلاق؛ فشلت ككاتب، والآن على أعتاب مهنة جديدة حتى لا أظل خائبًا. زيارة والديها في ضاحية لانكفيتس ببرلين؛ الأب قصير القامة أبيض الشعر، يقودوني خلال المتحف، حيث يحييه — هو الذي أشرف على تأثيث المتحف — حارس عجوز بكل هدوء: هَايل هتلر،٣٣  يا صاحب السعادة. أثناء تجوالي ألمح فترينات العرض التي أقامتها قوات الصاعقة النازية عارضين داخلها صورًا تبين طقوس قتل الأطفال الآريين عند اليهود. أذهب إلى المسرح: بدون الخطيبة، فهي غير مرغوب فيها. في مرة أخرى أرى تظاهرة نازية، وأسمع الناس تردد: الموت لليهود، يقولونها بالفعل؛ أقف تحت أشجار الزيزفون في برلين، أرتعد خوفًا، ولا أقوى على رفع ذراعي الأجنبية لأؤدي التحية النازية. كن رجلًا وانتظرني، يهتف أحد رجال الصاعقة، وألمح بعض الواقفين في الطابور يستديرون. في نورمبرج — مسقط رأس أمها — تريد أن تريني محلًّا شهيرًا للسجق؛ ولا تلاحظ اللافتة: غير مرغوب في اليهود. لا يحدث شيء لأن ليس لها ذلك الأنف المميز لليهود، إلا إنني لا أستطيع أكل أي شيء خلف ذلك اللوح الزجاجي السميك. بعد ذلك في القطار (أتذكر: نقف، كي نكون وحدنا، في الجزء الخلفي بآخر عربة، مرسلين النظر إلى القضبان التي تتلاشى في المنظور) تقول: لا تسئ الظن بألمانيا. عندئذ أبدي استعدادي للزواج حتى تستطيع البقاء في سويسرا. نذهب معًا إلى دار بلدية زيورخ، مكتب السجل المدني، لكنها تلاحظ: ليس هذا حبًّا يريد أطفالًا. وترفض، لا، ليس هذا هو ما تريده. بعد ذلك أجد في حقيبة أوراقها سلاحًا ناريًّا؛ مسدسًا صغيرًا مكسوًّا بالنيكل، ولكن مشحون بالذخيرة؛ أسرقه منها. هل لا أريد طفلًا لأنها يهودية؟ عندما يختلط عليَّ كل شيء، أذهب إلى الغابة كي أفكر. لم أعد أصدق ما أفكر فيه؛ ألقي بعملة على الأرض: ملك أم كتابة؟ لم أعد أتذكر على أي وجه وقعت العملة، وماذا كانت النبوءة. تقول لي: أنت على استعداد للزواج مني لأنني يهودية، وليس لأنك تحبني. وأقول: سنتزوج، نعم، فلنتزوج. تقول: كلا. خالها في القاهرة، الذي اكتشف تمثال نفرتيتي، يستطيع أن يمكنها ماليًّا من الدراسة في بازل، وأبقى أنا في زيورخ. والداها — من اليهود الألمان حتى النخاع الذين لم يحسبوا يومًا أن كلمات هتلر تعنيهم — استطاعا عام ١٩٣٨م الخروج من ألمانيا، وعاشا حتى جاوزا التسعين.

سوبر ماركت

ينبغي أن تشتري لين بعض الأشياء لأمسية الإثنين. تهتم بالنظر إلى الأسعار، تتفحص البضاعة، ثم ترجعها. لا يستطيع مساعدتها في ذلك. يتسكع بين الأرفف ويتفحص الناس؛ silent majority،٣٤ ليسوا فقراء، لكن رماديون. يا لخسارة البشر، تقول ابنة أنديرا، مع أن الأرفف ممتلئة؛ خضار، فواكه، في مكان آخر رُصت العلب الصفيح كأنها ذخيرة؛ كل شيء موجود. يقرأ الأسعار لمقارنتها بأسعار بلده؛ لم يعد يعرف أسعار بلده. يخجله هذا. May I help you?، سؤال من عاملة سوداء. ثم تسأله لين عما إذا كان يفضل الزيتون الأخضر أم الأسود — هي شاردة إلى حد ما، لكنها غير متسرعة. إنه الأحد، بعد الظهر. عندما يتسوق هو ويتناول البضائع من على الأرفف ويضعها في العربة الصغيرة ذات الأسلاك الشبكية، فإنه يفعل ذلك بسرعة ووفق المزاج؛ لين لا بد أن تحسب، وهو سعيد لأن الوقت يمر. وهي سعيدة لأن أحدًا ينتظر حتى يأخذ الأكياس الممتلئة بعد أن تدفع الحساب، ويحملها إلى السيارة. لكن المسافة ليست بعيدة إطلاقًا. تبحث عن نوع من التوابل. لديه وقت. ليس بديهيًّا بالنسبة إليها أن ينتظرها أحد. يقف ويطالع الجريدة. عندما رفع رأسه كانت لين قد اختفت في الزحام، لم يعد يراها. كيف تبدو؟ ثم يتعرف عليها من شعرها الأحمر الفاتح الذي يراه من الخلف؛ يترقب لبرهة، مثلما يرى المرء في الشارع أو في متحف شكلًا غريبًا من الوراء: قد تكون لهذا الشكل وجوه عديدة. لن يكون وجهًا فارغًا، يعرف هذا. عندما وقفت بالسلة الشبكية في الطابور أمام الخزينة أرسلت نظرة، ابتسامة، ثم دفعت ورقتين ماليتين، ربما من فئة العشرة دولار، ثم تعدُّ بكل دقة العملات الورقية من الفئة الأقل وأيضًا العملات المعدنية التي تأخذها. ما اشترته ليس كثيرًا، كيس واحد يكفي، يحمله على ساعده الأيسر.

Money

الجهاز الأوتوماتيكي الأخضر في الممر الذي يمدنا بالغاز. على الأم دائمًا أن تلقي بعملة من فئة العشرين رابن حتى تتمكن من إشعال الموقد، وفجأة ينقطع الغاز مرة أخرى، وهكذا نحتاج إلى عملات كثيرة من فئة العشرين رابن إذا طبخنا شيئًا يستمر فترة طويلة على الموقد؛ لا يجدي عندئذ شيئًا أن الأب — عندما يعود أواخر الليل — ربما يكون لديه عملة في جيبه. ترفض شركة الغاز الحكومية أن تمدنا بالغاز من دون دفع مقدم. منذ متى أعرف معنى كلمة نقود؟ جهاز الغاز الأخضر لقنني درسًا: ما لا نستطيع سداد ثمنه ليس لنا حق فيه. عندما أجلس مع فتاة في قارب شراعي مؤجر، ثم لا تبقى الرياح ساكنة، ونحتاج إلى أكثر من ساعة، مع علمي بأنني لن أستطيع سداد ثمن سوء الحظ هذا، فإن هذا ليس فقرًا، وإنما فقط أمر محرج. لسنوات وأنا أحلم بدراجة سباق أراها عند التاجر. أعرف: ليس لي حق في اقتنائها. لا يقدر أبي على شرائها. غالبًا ما يحمل الهم عندما ينبغي أن أشتري كتبًا للدراسة أو أدوات للرسم الهندسي. أتذكر عندما انتاب أمي لأول مرة الخوف من توقيع الحجز علينا. أما إذا نجح أبي في عقد صفقة سمسرة عقارات فإنه لا يود أن يسدد الديون فحسب؛ إنه يعشق اللفتات: بروش ذهبي للأم. لا يفهم في الادخار؛ علينا إذن أن نتعلمه. أتذكر ذلك الاكتشاف الهائل الذي مكننا من صنع القهوة من ثمار شجرة البلوط. يحصل أخي على كمان، أجد ذلك شيئًا في محله: موهوب موسيقيًّا وأكبر مني عمرًا. أن ندرس في الجامعة كان من طموحات الأب والأم، الدراسة التي تروق لنا. وهكذا أصبحُ طالبًا في قسم الدراسات الجرمانية؛ بروفيسور ودود في الجامعة يحصل لي على منحة لأكمل دراستي بعد وفاة الوالد: ٨٠٠ فرنك في العام. أكتب عن هوكي الجليد، عن المواكب الاحتفالية، وعن المسرحيات الساخرة التي تقام في المقاهي، عن البجع الصغير في نهر ليمات، إلخ. المكافأة حسب عدد السطور. عند تسلمي أول مكافأة نشر كبيرة، ٢٠ فرنكًا، كتب خطاب شكر إلى الجريدة. أشعر بالاستقلالية إذا استطعت دفع الإيجار الشهري في موعده. لا يخطر على بالي أن أحملق طويلًا في نافذة عرض إذا كنت لا أستطيع سداد الثمن، مثلًا إذا أعجبتني كاميرا جيدة؛ لا أجرؤ أبدًا على الدخول إلى المحل والإمساك بمثل هذه الكاميرا في يدي. تتاح لي فرصة السفر إلى إسطنبول، ومنها أصل إلى اليونان حيث أبيت في الهواء الطلق. في إسطنبول نادٍ سويسري؛ عندما يسألني السادة هناك إذا كنت قد تغديت فإنني أكذب وأقول نعم، وأكون شاكرًا للقهوة السوداء التي أشربها مع سكر كثير. النقود كوسيلة تبادل؛ إما أن تكون معك أو لا تكون؛ عدا ذلك هي ليست موضوعًا. المهم: لا ديون. توفي الوالد مدينًا. أصبحنا على أعتاب الحجز. أخي الأكبر، كيميائي ومتزوج حديثًا، يتولى مسئولية سداد الديون؛ يسددها ببطء قسطًا بعد آخر حتى لا يعرض الأم لفضيحة. لم أستدن أبدًا، عدا مرة واحدة: أول آلة كاتبة اقتنيتها، Remington Portable، كانت مخفَّضة، ١٥٠ فرنكًا، لا أستطيع أن أسدد سوى ٥٠ فرنكًا. لم أدفع الباقي قط … أتذكر متى لعبت النقود لأول مرة دورًا كبيرًا في حياتي. كانت لديَّ صديقة، من ويلز، أكبر مني قليلًا؛ تكسب قوتها بإعطاء دروس خصوصية. ما زلت طالبًا أسكن مع الأم. لا يزعجني أن أُدعى من طرف الحبيبة على الطعام. بين الحين والآخر أُحضر معي زجاجة نبيذ، أما اللحم فهي التي اشترته. أحدهم يرى أنها في حاجة إلى الراحة، ويرغب في إهدائها لهذا الغرض ٥٠٠ فرنك. لا اعتراض لي على ذلك، لا بد أنه إنسان نبيل. عندما عدت كجندي في إجازة لم تستقبلني. تفتحت عيناها، هكذا تقول، فيما يخص رجولتي. لم أفهم أي شيء مطلقًا. بعد ذلك بقليل تتزوج رجلًا من رجال الصناعة. من ناحية أخرى، لم يخامرني طيلة حياتي شك في أنني ربحت حبيبة بالمال؛ غروري كرجل يمنعني من ذلك. أول راتب لي كمهندس معماري: ٣٥٠ فرنكًا في الشهر، ثم ٥٠٠ فرنك، وهو ما يكفي بالكاد آنذاك لعائلة وطفل.
أغسطس ١٩٤٣م الدخل/المصروفات
الجائزة الأولى في المسابقة ٣٠٠٠
أجري من البروفيسور دونكل ٤٩٠
لأمي ٥٠٠
وليمة للزملاء ٦٠
مع «ترودي» ١٥
قمصان ٣٤
مصاريف البيت ٣٥٠
سبتمبر ١٩٤٣م الدخل/المصروفات
دراجة لي ٣٥٢
أدوات رسم ٤٠
حوامل لطاولة الرسم ٣٣
تجليد الكتب ٧٫٥
مصاريف جيبي كجندي ٥٠
مصاريف البيت ٣٥٠
إعانة اجتماعية ١٩٠٫٩٦
مكافأة نشر ٣٢
جريدة «شفايتسر روندشاو» ٢٠
ختم للمكتب ٤٢
كونسير مع «ترودي» ١٤
غريبة عني تلك الفكرة التي تنادي بأن الراتب لا بد أن يُحدد وَفق الاحتياجات. على المرء أن يعيش وفق دخله. أرى بكل بساطة متى يكون مطعم ما للآخرين؛ لا أحتاج عندئذ حتى إلى قراءة قائمة الطعام المعلقة على الباب حتى أعرف أنني لا أتناسب مع المكان، حتى لو كانت النقود في جيبي في تلك اللحظة. لا أستطيع نسيان إحدى عواقب نقص المال، لأنها تصاحبني، في فمي: أسناني. أيام الدراسة الأولى، عندما كنت أكسب قوتي بمكافآت الأسطر، لم يكن معي نقود لطبيب أسنان حقيقي؛ أخذ طلبة طب الأسنان يتدربون على أسناني، ويتعلمون علاج الجذور، مجانًا. العواقب تظهر بعد ذلك، عندما لم تعد النقود تقدر على إنقاذ أي شيء. لوقت طويل، إلى أن بلغت الثلاثين، لم أتعرف إلى أثرياء، بغض النظر عن «ف»، صديق المدرسة وراعيَّ؛ كنت أنظر إلى الثراء من الخارج فحسب، بلا تصور من أين يأتي، بلا أي حسد. فيلا بحديقة: شيء لا أستطيع تخيله لي، لا بد أن يولد المرء لشيء كهذا. مرة واحدة فقط حدث أني شعرت بالجوع لأنني كنت معدِمًا، طيلة ثلاثة أيام فحسب، في براغ عام ١٩٣٣م. أخذت — وتاج الأسنان التشيكي في فمي — ألقي النظرات على نوافذ عرض المخابز لأتأكد في كل مرة أنني فعلًا لا أشعر بالجوع؛ إلا إني لا أعرف ماذا أفعل بهذه الأيام الثلاثة، لا يثير أي متحف اهتمامي، ولا المدينة بأكملها. في عام ١٩٤٢م أتزوج مهندسة زميلة لأني أحبها، ابنة عائلة برجوازية كبيرة، جرترود كونستانسه فون ماينبورج. لم يؤثر فيَّ ارتياب الأصدقاء أنني أتزوج المال؛ بيت والديها، مزرعة كبيرة تمتزج فيها الوجاهة الأرستقراطية مع نزعة الادخار. تحصل العروس على جهازها، كما تفرض العادات؛ أثاث، وملابس تعيش العمر كله، وفضيات. لوازم المطبخ على العريس. فوق هذا تحصل العروس على حفل كبير ألزمت العائلة به نفسها (أرتدي لأول وآخر مرة بدلة «الفراك»)، وتحصل كذلك على جزء مقدم من ميراثها؛ ١٢٠٠٠٠ فرنك، على حد علمي. لا أعرف ما إذا كان في استطاعتي أن أسحب من هذا المبلغ؛ على كل حال لم أفعل ذلك أبدًا. تلك المبالغ ليست من حقي. دخلي كان محترمًا آنذاك؛ يكفي للإيجار ومصروف البيت. إلا إنها تدفع من حسابها الخاص راتب الآنسة التي تعتني بالطفل. في رأيي أن حسابها موجود لهذه الأغراض؛ الرضيع مُجهِد. وقبل أن أنسى: عندما أسست مكتبًا هندسيًّا خاصًّا بي حصلت على غرفتين في بيت قديم تملكه عمة، بدون إيجار. حَمِيَّ أيضًا على استعداد للمساعدة؛ إنه يتفهم أنني أحب أن أرى المسرحية — أول مسرحية لي تعرض في زيورخ — مطبوعة، وعندما لم يجرؤ ناشري آنذاك، مارتين هوليمان، على طبعها من دون إعانة مالية، أراد حَمِيَّ أن يُهديني ألف فرنك. إلا إن كبريائي لم تسمح؛ آنذاك كنت أعتبر مسرحيتي (ها هم يعاودون الغناء) مهمة، وتستحق أن تُطبع من دون إعانة مالية. بعد ذلك بسنوات سافرنا ذات يوم إلى مزرعة الوالدين كي نسبح مع الأطفال في البحيرة القريبة. لم يكن الوالدان هناك، أمرنا الطباخة أن تعد لنا وجبة باردة نأخذها معنا، واستمتعنا باليوم. بعدها يصلني خطاب من والدها، جادٌّ وشديد اللهجة: يجب ألا يتكرر ذلك في المستقبل، بيته ليس فندقًا. ولم يتكرر ذلك أبدًا بعد ذلك. ليس هذا بخلًا، لكنه أسلوب. أتذكر حالة بخل: تاجر أعمال فنية فاحش الثراء (أوروبي) في بيركلي — كنت في ضيافته عدة أيام — يبين للوافد الجديد إلى أمريكا كيف يلقي المرء بالعملات المعدنية في جهاز التذاكر بالباص، وأي نوع من العملات؛ بعد أن رأيت ذلك وفهمت كيف أقطع تذكرة في المستقبل، شكرته، فإذا به يطلب مني أن أعيد له العملة، One Dime. في زواجي الأول جلبت معي أشياء قليلة: أريكة وغطاء لهذه الأريكة، الآلة الكاتبة، كتبًا، مكتبًا مستعملًا، بساطًا صغيرًا، طاولتين للرسم على حوامل، مصباحًا … إلخ، ولهذا كنت الطرف المدين عندما حل الطلاق بعد ثلاثة عشر عامًا، عندما اقتسمنا الممتلكات. طبعة الأعمال الكاملة لجوته المبطنة بجلد ناعم ملكها هي، أعرف ذلك، هدية من والدها. جزء من هذه الطبعة لدينا مرتين، الشعر والحقيقة، عندها حق: حتى هذا الجزء ملك لها. فيما بعدُ أفهم حَمِيَّ الذي يرد على خطابي المتألم بعبارة مفادها أن زواجي مع ابنته قد فشل بعد اثنتي عشرة سنة، والآن فالسؤال المطروح هو إذا كنت أستطيع التكفل ماليًّا بأعباء الطلاق. عندما تعلمت قيادة السيارات واشتريت أول سيارة في حياتي، سيارة فولكسفاجن، كنت في الثامنة والأربعين من عمري. طوال سنوات لم أعد أعرف مصروفاتي: في روما لا أدخر، وفي زيورخ أميل إلى الادخار؛ في الغربة يكاد يطغى عليَّ الشعور بأن من حقي أن أحصل على ما أستطيع دفع ثمنه. مثلًا شقة في باريولي، إيجارها الشهري ٢٠٠٠ فرنك. لا يتغير شيء في ملابسي. لست في حاجة لحساب كل شيء، هذا هو الجديد. ماذا أحتاج؟ يبدو أن النقود لم تعد تلعب الآن دورًا، على الإطلاق. لحسن الحظ ثمة زملاء لديهم على الأرجح دخل أكبر من دخلي، من بينهم كتَّاب مُجيدون. الشيء الذي أقتنيه الآن من دون تردد: غليون جميل جدًّا، بل اثنان، وأشياء تجعل الحياة أكثر راحة؛ وكذا ما يوفر الوقت: طيران بدلًا من رحلات طويلة بالقطار، تاكسي إلى المطار. في روما لدينا «بينا» التي خدمت طوال عمرها عند الأرستقراطيين. لا تطاوعني نفسي على الضغط على الجرس عندما نحتاج إلى مكعبات ثلج من الوعاء بجانبي؛ أفضل أن أقوم وأخدم ضيوفي ونفسي. لن أصبح أرستقراطيًّا. ذات يوم يأتي هاينريش بُل لزيارتي.٣٥ يتصبب عرقًا. يخلع — بينما تقوم بينا بالخدمة على المائدة — سترته. انتهى أمرنا بالنسبة إلى بينا. في زيورخ، أثناء سفري، أرى واجهة مصرف «فولكس بنك»؛ أتذكر فجأة هذه الواجهة، أدخل إلى القاعة التي تبدو لي مألوفة وأسأل عن الشباك إذا كان لي رصيد هنا؛ أريهم جواز سفري. هذا هو الحال: ٢٠٠٠٠ فرنك، ادخرتهم آنذاك خوفًا من ألا أستطيع يومًا سداد نفقاتي الشهرية؛ أصبح المبلغ الآن ٢٣٠٠٠ فرنك. أشكرهم. عندما رأيت بعدها بربع ساعة مصرف «شباركَسه» التابع لمدينة زيورخ دخلت وسألت هناك أيضًا؛ يعطونني دفتر التوفير: ١٧٤٫٣٠ فرنك، آخر مرة صرفت منه كانت في عام ١٩٣٨م. مقابله يقع مصرف «كانتونال بنك»؛ أسأل هناك أيضًا وأعطيهم جواز سفري من تحت زجاج الشباك؛ يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى يعود الصراف ويقول: لا، للأسف لا. أعتذر. لماذا أنا غني؟ مصروفاتي تضاعفت، أجدها مفزعة عندما أراها مكتوبة بالأرقام؛ حتى لا يستولي عليَّ الرعب أتفحص بين حين وآخر ما إذا كانت أرقام دخلي صحيحة، هذا هو الحال: أكبر مما كنت أعتقد. تتكون ثروات، الرقم الإجمالي يتضخم كما يحلو له؛ لم تعد للأمر عَلاقة بالأجر أو الراتب، إنه بالأحرى يانصيب. عندما يمر أحد بضائقة ويقترض مني ورقة بمائة أو ألف فإنني أنساها. تنشأ في الخفاء عَلاقة مختلة، ليس فقط مع الناس الذين عليهم أن يحسبوا مصروفاتهم بدقة، وإنما أيضًا عَلاقة غريبة مع ماضي الإنسان ذاته: الأمر يثير الضحك، طبعًا كان في استطاعتي عام ١٩٥٥م أن أشتري دراجة بخارية عندما كنت أسكن خارج المدينة. لم أبدأ في تدليل ذاتي إلا بعد أن صممت على ذلك. إذا كان لا بد من اقتناء جهاز أسطوانات، لم لا يكون أفضل جهاز معروض في السوق؟ ولم لا أقتني أفضل سماعات أيضًا؟ عندئذ لا بد أن أتغلب على شيء في داخلي، طبعي القديم: الرخيص يؤدي الغرض أيضًا! مع الأصدقاء في لقاءاتنا أميل إلى البذخ؛ لست غنيًّا، ولكن محدث غنى. لا ألحظ عند الأصدقاء أي بادرة حسد، إلا إن شيئًا ما أصبح مختلفًا. نادرًا ما يتحدثون الآن عن همومهم المالية. يعرفون أنني ساعدت البعض. ما تغير هو تعاملي مع الأغنياء وسلوكهم معي. فجأة يتحدثون بلا حرج ليس فقط عن الأدب والفنون، وإنما أيضًا عن أسعار العقارات، وعن أي الأماكن في العالم يستطيع فيها المرء أن يشتري بأثمان مناسبة، مجوهرات وأنتيكات مثلًا … إلخ. بالطبع رأيت مقتنياتهم منذ فترة طويلة، وتكلمنا عن بولياكوف، عن كونو أميت وعن هودلر، ليس عن جاكومتي بعد. كان من اللياقة ألا يتحدثوا عن منقولات لا يستطيع الضيف اقتناء مثلها، وأنا قد سمعت عن صيد أسود في أفريقيا، وعن يخت يرسو الآن في باليرمو، لكنني لم أسمع عن أثمان. كنت أعتقد أن المال لا يلعب دورًا لدى الأثرياء. مؤخرًا بدأت أفهم: الثراء كالمهنة، مهمة ليست بالسهلة؛ حياة الأثرياء لا تخلو من هموم. لا يحسدونني على نجاحي، أشعر بذلك، كما إنهم لا يحسدون فريدريش دورنمات الذي يملك — حسبما سمعت — بيتًا رائعًا في نوينبورج. يتناهى إلى سمعي أن بناتهم يقبلن على قراءة كتبي بدرجة تصل إلى الشغف. بالطبع لست في أعينهم غنيًّا، ولكنني أقود سيارة جاكوار ٤٢٠ على كل حال، وهذا يقرب بيننا، كما يعتقدون. في رأيهم، يختلف التوجه السياسي ولا شك مع هبوط الثروة. مليونير اشتراكي؟ ناهيك عن أن يكون معاديًا للرأسمالية؟ لأنهم يفهمون الاشتراكية على أنها أيديولوجية الحسد فإنني أفقد صدقيتي في عيونهم؛ هل لديَّ دافع لمثل هذا الحسد؟ عندما كنت أزورهم كاتبًا فقيرًا لم أكن أحيرهم مثل الآن. ما لم يخطر على بالي أبدًا: أن أستخدم المال كسلطة. لقد ظل بالنسبة إليَّ مجرد وسيلة تبادل. ثمة شيء ما خطأ، وأعرف بالطبع ما هو. صديق شاب، أقدره لدرجة العبادة، لا يطلب مني قرضًا، فقط يتناهى إلى علمي أنه في حاجة إلى قرض كبير، وأستطيع أن أمنحه إياه: بلا فوائد، فمن غير المعقول أن يعمل هو، الصديق، من أجلي أنا الغني. لكن هذا بالضبط ما يفعله الموظفون والعمال الذين أعرفهم؛ وإلا ما كانت هناك فوائد. هذا هو الخطأ. أعرف رسامًا غير محظوظ في بيع لوحاته ويحب أن يشرب نوعًا معينًا من النبيذ، أرسل إليه بمناسبة عيد ميلاده الستين ستين زجاجة من نبيذه. قال فيما بعد إنه حطم أو أهدى كل الزجاجات. كنت مسافرًا في الخارج لذا لم أستطع أن أشترك في افتتاح معرضه، إلا إنني لم أكتب حتى رسالة. ستون زجاجة، شيء يوزعه المليونير أثناء مروره كما يوزع الأوراق المالية! أفهم غيظه. لو لم أكن أملك المال، ربما لم أكن سأكتب إليه أيضًا؛ ولكن ما كان ذلك سيجرحه. هل أرتكب الآن أخطاء مشابهة لما كان يفعله «ف»؟ … أتذكر إنجبورج وعَلاقتها بالمال؛ في يدها حفنة نقود، مكافأة نشر، تبتهج كطفل، ثم تسألني عما أتمناه. النقود وُجِدت لتُستهلك. كيف كانت تصرف النقود: ليس باعتبارها مقابل عملها، وإنما كأنها من علبة إحدى الدوقات؛ دوقة فقيرة في بعض الأحيان. تعودَتْ على الاستغناء؛ المال مسألة حظ: مالها، مالي، مالنا؟ إما يكون في حوزة المرء أو لا يكون، وعندما لا يكفي تندهش وكأن شيئًا ما ليس على ما يرام في هذا العالم. لكنها لا تشكو. لا تلاحظ أن الإذاعة، التي سعت كي تعمل الشاعرة لديها، تستغلها ماليًّا، وتوقع — وهي شاردة الذهن — عقدًا يخزي الناشر. لا تحسب أن الآخرين يحسبون. تشتري لنفسها أحذية وكأن لها ألف قدم. لا أعرف كيف تفعل ذلك. لا أتذكر أنها ندمت مرة على مال صرفته؛ سواء كان ذلك إيجارًا مرتفعًا أو حقيبة يد من باريس تتلف على الشاطئ. المال يطير من أيدينا على هذا النحو أو ذاك. تشعر بالحرج إذا أحبت إنسانًا مقترًا على ذاته. في الواقع، من حقنا أن نقتني قصرًا صغيرًا، أو كبيرًا، إلا إنها ليست ناقمة على الآخرين لأنهم يملكون. أشعر بالسرور عندما أهديها شيئًا: وجهها يسطع عندئذ بهجةً. لا تطلب الترف، ولكن إذا كان موجودًا فإنها تعرف كيف تتعامل معه. من أسرة برجوازية صغيرة مثلي، لكنها تحررت من تقاليدها، من دون أيديولوجية؛ بحيويتها. إذا كانت تتوقع شيئًا، فهو حدوث معجزة. كما هو الحال عند بعض النساء: الأوراق المالية في حقيبتها غالبًا مكرمشة، تريد أن تُفقد أو تتحول إلى شيء أجمل. بمناسبة عيد ميلادي الخمسين تهديني رحلة إلى اليونان.

White Horse

البار البني المظلم — حيث شرب الشاعر ديلان توماس حتى الموت — به مرايا كبيرة تظهر أن في الخارج نهارًا، ليس مشمسًا، نهار أحد رماديًّا قاسيًا. من دون هدير عربات النقل؛ هذا هو ما يميز يوم الأحد. لديه وقت للذهاب إلى هدسون مرة أخرى، إلا إنه لا يفعل. بدلًا من ذلك يقلب في أجندته لعام ١٩٧٤م: مايو، يونيو، يوليو، أغسطس، سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، أيام كثيرة خالية، أيام الأسبوع بيضاء: الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة. ثم يدفع ثمن البيرة التي لم يشربها حتى الثمالة.

كم تريد أن تبلغ من العمر؟

هل تحب أحدًا؟

كيف تعرف ذلك؟

ذات مرة ينهمك في الفرجة: المطافئ أثناء العمل، العربات الحمراء الكثيرة اللامعة، أبواق الإنذار، الأضواء الزرقاء الدائرية؛ يكسر رجل مطافئ زجاج ثلاث نوافذ، يتدافع الدخان إلى الخارج. ثم يواصل عمله. ما زال اليوم أحدًا؛ تمطر باعتدال. يسير والمعطف مفتوح، اليدان في جيبي البنطلون. من تقاطع إلى آخر، اللعبة نفسها: Walk/Don’t Walk. ينسى أنه كان يريد أن يشتري تبغًا. يقرأ لافتات الشوارع من دون احتياج إلى معرفة أين هو في هذه الساعة: Canal Street. سار مسافة بعيدة. من فتحة بالوعة يتصاعد بخار هنا وهناك، مشهد مألوف؛ تلك الدوامات البيضاء من البخار. الساعة الآن الثالثة بعد الظهر، يوم الأحد. باستطاعة المرء هنا عبور الشوارع حيثما شاء؛ الحفر تتناثر فوق الأسفلت. ذات مرة يُسمَع صوت مروحة هليكوبتر غير مرئية، كتصفيق قوي في الهواء؛ يلمح مرور الغيوم الرمادية فوق الأسطح. ثم يسود الهدوء ثانية في شارع طويل ليس فيه إنسان واحد؛ وحدها صناديق القمامة، قطيع من صناديق القمامة. يشعر بالمطر في الظهر. يرسل البصر من دون أن يتوقف عن السير، وكأن أمامه هدفًا: المواسير الصفراء وسط الميدان، موقع بناء بحواجز ورايات صغيرة، يتصاعد البخار وكأنه من مدخنة باخرة غارقة في الأسفلت. يستمتع بشيء ما، من دون أن يعلم ما الذي يستمتع به. ما زال يشعر بحبات الرمل في حذائه. فجأة يسمع زئيرًا من قضبان فوقه، غالبًا ما يتصاعد من بين هذه القضبان رائحة ضعيفة، Subway، لا يستخدمه؛ لا حاجة به إلى هدف. كان يريد أصلًا البقاء في الفندق كي يستريح ساعة؛ يمشي، اليدان في جيبي البنطلون. لم يعد المطر يهطل. ذات مرة يتوقف عن السير: مجموعة شبان على كراسي متحركة، يلعبون على الأسفلت هوكي الجليد؛ قرص حقيقي، لكنه لا ينزلق فوق الأسفلت، وإنما يتدحرج؛ لبرهة يشعر بالرغبة في أن يمسك هو أيضًا بعصا في يده. ثم يواصل السير. يرسل البصر: مرة أخرى صناديق قمامة من الصفيح المتموج، إلى جانبها أكوام من أكياس القمامة البلاستيكية السوداء التي تنتظر يوم الإثنين — سوادها اللامع.

Count Down ٣٦

خلال ٤٨ ساعة سأطير … لا تتوقع لين أن يغير موعد سفره، ولا يتوقع أن تتطلب منه ذلك. يسود التفاهم بينهما. في المساء تأتي لين إلى الفندق. تذكرة طيرانه تحت المصباح الأصفر.

Tell Me!

يقولها كثيرًا، وكأن الإنسان يستطيع أن يحكي نفسه، ويصغي، يصغي بالفعل؛ لا تصدق لين تمامًا أن الأمر مهم بالنسبة إليه، يعنيه أن يعرف مَن كانت لين.

«بعد شهور، يناير ١٩٧٥م، لا ألتزم بالاتفاق. لم أجرؤ على الاتصال بها: كصوت من الماضي. إلا أنني وقفت في غرفة الاستقبال وأعطيت بياناتي المهنية. Lynn is no longer with us. أصمت. ماتت؟ هكذا تُفهم الجملة. عندما رأت السوداء مدى تأثري لم تقدني إلى الموظفة التي خلفتها في المكتب، وإنما قالت: I liked her very much indeed. أين هي الآن؟ عرفت ذلك من رسالة وصلتني فيما بعد في أوروبا، رسالة طويلة، كتبتها على سطح سفينة بخط مهزوز: إنها لا تعمل الآن، وتريد عمومًا مهنة أخرى، وطفلًا، تلعب تنس الطاولة كثيرًا، وتقرأ هذه الأيام كتابي، الكتاب الذي كنت قد أهديتها؛ من الواضح أنها تسافر بمفردها؛ تفكر في مستقبلها.»
الزر الذي تخيطه لين في جاكتِه القذر ليس مناسبًا، وإنما هو زر معطفه للمطر. أغمق من اللازم، وأكبر أيضًا؛ سيلفت الانتباه. جاكت إنجليزي، اشتراه منذ أحد عشر عامًا في شارع المحطة بزيورخ؛ لم ينسَ ذلك: هي التي وجدته، لعلها كانت المرة الأولى التي أعطته فيها رأيها أثناء شراء ملابس. لا بد من تغيير البطانة مرة أخرى. جاكت مثل هذا (مانشستر) لم يعثر عليه أبدًا، ولا في لندن. جاكت للأبد، نُظف مئات المرات؛ ويلمع من كثرة الارتداء، وهذا هو السبب وراء شعور المرء بأنه في بيته وهو يلبسه. في الكم الأيمن زر أيضًا يلفت الأنظار، عمدًا: زر صغير، صغير جدًّا، يكاد يكون أحمر اللون. من خاط هذا الزر؟ خمنت لين: Your wife? لم يكن لينساها حتى من دون هذا الزر. كان ذلك يوم الإثنين. الصديقان، اللذان دعتهما لين على العشاء الأخير، انصرفا عند انتصاف الليل: كانت هي المرة الأولى التي لا يتناول فيها الطعام مع لين بمفردهما. تلك كانت رغبتها، ورغبتها أسعدته؛ إنها لا تخبئُه. عندما نهض صديقاها كي ينصرفا، ارتدى هو أيضًا الجاكت: من غير زر. فهم الصديقان عندئذ: إنها الفرصة الأخيرة كي تفي لين بوعدها أن تخيط زرًّا للجاكت. بعد أن قالت: Your Wife، يشعر بالرغبة في مدحها صامتًا، بينما ما زالت لين تخيط الجاكت، ويكتشف أثناء ذلك: الصفات لا تصلح لمدح إنسان. ستكون النتيجة كلامًا عامًّا عن امرأة جذابة فحسب، الآن في الخامسة والثلاثين، الآن في برلين حيث الساعة الخامسة فجرًا، عندها تقول لين: You love her. مع أنه لم ينطق بكلمة، بل وضع الأطباق في الغسالة. ضحكت عندما فرغت: Your dirty jacket! عندما ارتداه كانت الرابعة فجرًا. لا بد أن تنام لين. كانت قد استغرقت في النوم عندما سحب باب الشقة بكل هدوء وراءه وسمع تكة القفل. في الميدان الخالي يستمتع بفكرة أنه سيقول للين إنه سار لمدة ساعة من دون أن يعتدي عليه أحد. لم يعد الظلام سائدًا. يتصاعد بخار على شكل دوامات من بالوعات المجاري، من القضبان وسط الأسفلت. بعد عشر دقائق فقط يجلس في تاكسي أصفر، No Smoking، لذا لا يعلم ماذا يفعل. ليلتهما الأخيرة لم تكن حزينة؛ إلا إن جسده خذله. يحاول أن يثرثر مع سائق التاكسي اليوناني، ثم لا يصغي، إذ فجأة يخطر على باله أنه نسي أن يختبر ما إذا كان الباب، الذي سحبه حتى سمع تكة القفل، مقفلًا من الخارج بالفعل، أم أنه يمكن فتحه بضغطة على المقبض. سطو، قتل، يبدو كل شيء ممكنًا. يريد أن يتصل بمجرد وصوله الفندق؛ في رعبه لا يجد فكرة أفضل. يخرج ورقة بعشرين دولارًا من دون أن ينتظر الباقي. يستغرق الأمر بضعة دقائق حتى يظهر أخيرًا موظف الوردية الليلية، نعسان، لذا لا يجد على الفور المفتاح؛ لا بد أن يكرر المرء الرقم ثلاث مرات: ١١١٢ A (في الحقيقة ١١١٣، لكنهم يتجنبون رقم ١٣). عندما وقف أخيرًا في غرفته، لم يتصل؛ لا بد أن تنام لين. يجلس لبرهة، من دون أن يخلع الجاكت، ويفكر في الأقفال، في حين يغمر ضوء الصباح الشارع؛ وتتلقى خزانات المياه على الأسطح أشعة الشمس الأولى. ثم يلاحظ أنه لا يفكر في أي شيء؛ لا في الأمس، ولا في الغد، ولا في اليوم. لم يستغرق في النوم بعد؛ إنه يسدد بصره عبر النافذة المفتوحة، إلى الواجهة أمامه. ليس متعبًا، أو هو متعب إلى حد لا يستطيع معه النوم. لا مشاعر. عندما يغلق عينيه، يرى وجهها النائم قريبًا تمامًا. لا يشغله أن جسده خذله، عندما يتذكره عرَضًا. الواجهة أمامه: طوب بني محروق، النوافذ في أطر حديدية، ببعضها ستائر، زرقاء أو حمراء أو صفراء، كل النوافذ مزودة بذلك الصندوق الخاص بمكيف الهواء. في إحدى النوافذ البارزة يلحظ نباتًا ذا أوراق بلا زهور؛ قطة ترقد على الإفريز. يرى المرء أكثر من هذه الواجهة إذا وقف: في الأسفل، اصفرَّ لون تقاطع الطرق تحت ضوء الكشافات، ثم يلقي المرء نظرة على أسطح المنازل المنخفضة؛ هنا وهناك يتصاعد بخار أو دخان إلى السماء الصباحية، وهو ما يُظهر أن هذه البيوت مسكونة. ما زال الناس نيامًا. ذات مرة يزعق نفير سفينة؛ ثلاث مرات. ثم يرسل النظر إلى الفناء بالأسفل، أراضٍ واطئة بحدائق. ينسى أنه فتح الصنبور لملء البانيو؛ إذ إن الأمر يستغرق وقتًا طويلًا حتى يحصل على خط، حتى يسمع صوتًا يقول: Operator، وحتى يسمع جرسًا في الناحية الأخرى. لا رد. لين ميتة أو نائمة. يتذكر الحمام ويغلق الصنبور، ينزع السدادة، ويخرج إلى الممر كي يدرس الأمر من الناحية التقنية: باب غرفة الفندق إذا أغلق من الخارج — كما أغلق بابها — لا يمكن فتحه من غير مفتاح. يطمئنه ذلك. لحسن الحظ، نسي وأخذ في يده مفتاح الغرفة، وهكذا يستطيع العودة إلى غرفته؛ ثم يرقد بملابسه على السرير بالعرض.

لن تصبح لين اسمًا لذنب

ما يمكن وصفه هو مائدة حجرية … البيت في برتسونا الذي شاهدناه معًا أثناء رحلتنا، والمطر الغزير يهطل: بيت فلاحي، الأسوار آيلة للسقوط، بعض عروق الخشب أصبحت هشة. كنا آتيين من روما (عن طريق مارجوتا)، سكنَّا هناك في بيت أجرناه من الباطن؛ طوال حياتي وأنا مستأجر أو مستأجر من الباطن. الآن أرغب في امتلاك بيت معكِ. تحت المظلتين تغوص أقدامنا في الأرض المهملة؛ أدغال من «بنات النار» والعليق والسرخس؛ كما هو معتاد في هذه الناحية: أسوار جافة من الأحجار الخشنة تسند الشرفات. تسيرين شبه خرساء، وأنا أشير إلى أشجار الجوز الجميلة. أرض شاسعة. بها أيضًا أشجار كستناء عديدة. الهواء فاسد داخل البيت؛ هنا وهناك فطر على الجدران. أتولى مهمة طمأنتها بأن كل ذلك من الممكن إعادة ترميمه وتوسيعه، وأتولى كذلك المفاوضات المضنية حول ثمن الشراء. منذ الساعة الأولى كان واضحًا بالنسبة إليَّ: وحدي، كأعزب، ما كنت أستطيع السكنى في هذا الوادي. أرى الخشبة التي سأتأرجح عليها؛ من السهل صنع الأرجوحة بمدها من شباك صغير. لكنني أحيا معك، منذ ثلاث سنوات؛ لم نتحدث يومًا عن الزواج. ما يعجبني: السقف الثقيل من حجر الجرانيت، ثم الموقع كله فوق المنحدر، البيت وحظيرة حجرية تكاد تشبه برجًا. لن يكون بمقدرة مهندس معماري أن يشيِّد شيئًا كهذا بسرعة، العَلاقة المكانية بين السورين؛ التصميم عشوائي، لكنه كامل. جرفتني الحماسة. رغم المطر. لم أحلم قط بامتلاك منزل؛ الآن أرغب. سنسافر بالرغم من ذلك؛ ليس من المفروض أن يتحول إلى سجن، فقط إلى بيت، وإذا كنتِ على استعداد لذلك: بيتنا. لا أتعجل الشراء، ليس فقط لأن الثمن أعلى من المتوقع. قرب عيد الميلاد، عندما كنتِ عند والدتك، أسافر مرة أخرى إلى هناك. يحدث في تلك الأودية ألا يرى المرء الشمس مرة واحدة خلال الشتاء، أو يراها لمدة ساعة فقط. أبقى يومًا كاملًا هناك؛ يوم شتوي صحو بلا ثلوج. في المقابل القمة العالية، لكن الشمس تتدحرج في التو على هذه القمة، وتدخل الشمس البيت لمدة ست ساعات ونصف. ضربة حظ. داخل المنزل يبدو لي كل شيء أكثر خرابًا؛ أنا سعيد لأنك لست معي. آخر من سكن هنا كان مستأجرًا عجوزًا، مجنونًا. لم تتبق رائحة من الحساء الذي يقولون إنه طبخه من الخنازير الثلاثة. ولكن العفن يفوح من مرتبة مهترئة وكراكيب من كل نوع، على المرء أن يتخيل عدم وجودها. آخذ المقاسات. الغرف صغيرة، الجدران سميكة، ولن يمكن هدم أجزاء كبيرة من الحوائط؛ رغم ذلك يبدو لي ممكنًا تحويل المكان إلى مسكن مريح. في الخارج فوق طاولة من الجرانيت، كما هو مألوف في إقليم تِسين، أبدأ في رسم التصميم الأوَّلي. في روما أُريكِ إياها، أشرح لك الإمكانيات المحدودة، وترين أن لديَّ رغبة. ما أكثر ما بدلت الشقق. هنا مكان لمكتبة تكبر؛ مكتبتنا. هنا غرفة مكتبك بباب يؤدي إلى الحديقة. هنا حجرة للضيوف. أتشاور مع مهندس شاب يسكن في المنطقة ويستطيع الإشراف على الترميم والتجديد، وأقرر الشراء، في عام ١٩٦٤م. حياتنا في روما: تزداد احتفالاتنا من يوم لآخر، وتكثر تنقلاتنا؛ كل يوم أجمل من سابقه. Valle Onsernone، لا تقع في نهاية العالم؛ يمكنك مثلًا أن تدرسي في زيورخ، إذا كنت تريدين. بين الحين والآخر نذهب للتفرج على أعمال التجديد التي تستمر طويلًا. لفترة من الزمان يبدو المكان فوضويًّا مجنونًا: أطلال، الأرضية الهشة قد نُزعت، ليس هناك سوى الجدران الضخمة التي تحمل السقف، في الخارج أكوام من عروق الخشب الهش. لا بد من صب طبقة خرسانية حتى يتماسك البيت. يتعثر المرء في أدغال من الألواح الخشبية. تستغرق عملية الترميم والتجديد والتوسيع، التي أشرف عليها المهندس الشاب برغبة وضمير، عامًا كاملًا. نذهب معه لشراء البلاط، ولوازم المطبخ والحمامات؛ الاختيار لكِ. في تلك الأثناء كنتِ قد عرفت التصميم، ومنحتِ المهندسين ثقتك؛ المهندس الشاب والمهندس السابق. تلاحظين فرحتي الطفولية بالبناء، فرحتي الذكورية. ما زلت لا تستطيعين تخيل بعض الأشياء، الدرَج على سبيل المثال؛ ترين فقط الهوة الكبيرة وتقفين خائفة أمام السقالات، وأمد لك يدي. أشياء عديدة يمكن اختيارها الآن من خلال النماذج. كل ما هو تقني لا يثير اهتمامك: سعة خزان الزيت، ماركة المدفأة أو السخان … إلخ، في مثل هذه الأشياء تثقين بالآخرين، وتبتهجين بضوء الخريف الأزرق في المكان. يريد المهندس تركيب ألواح من الحجر الجيري كإطار للمدفأة، لكنك تعارضينه، وأنا أيضًا؛ لا نريد فيلا. نحن في حاجة أيضًا إلى مصابيح، وهو أمر دائمًا صعب. في السابق كان بعض أصحاب المنازل يطلبون مشورتي؛ مَن يدفع يحدد الذوق. الآن نحن نحدد، أنتِ وأنا. بعض الأشياء لا تقنعك على الإطلاق بعد أن يتم تنفيذها، أرضية غرفة الجلوس مثلًا؛ النموذج الصغير كان خادعًا. لكنك تفهمين أنني لست أوناسيس، وهكذا نتركها كما هي؛ ليست مهمة إلى هذا القدر أيضًا. أما الأرضية الجديدة في الشرفة الصغيرة فإنها تخلب لُبَّك، طوب محروق عليه شكل عظام سمك، مثل الأديرة الإيطالية؛ أيضًا بدأ الطوب الزيورخي الأحمر في غرفة السفرة ينال إعجابك بعد أن كُسي بمادة شمعية حافظة، ثم أخذ مع مرور الوقت — وكما وعدتك — يغمق لونه. خبرات صغيرة جديدة بالنسبة إليك. تفرحين. البيت إنجازك أنتِ أيضًا. نتفق في الرأي: كل الجدران بيضاء. كما في سبيرلونجا. قبل أن نغادر روما تصلنا دعوة إلى القدس، عام ١٩٦٥م، يعجبك ذلك أيضًا، وعندما غادرنا روما لم يكن في حوزتنا الكثير لننقله: بعض الأوعية، ثلاثة مصابيح رومانية، مائدة على الطراز التوسكاني بخمسة مقاعد، الكتب (التي تراكمت في روما فحسب؛ الكتب الأخرى سترسل إلينا من أحد المخازن) وبعض الأسطوانات (لجهاز أسطوانات أفضل) ومكتبك الصغير (قطعة أثرية رديئة، أعرف) وكرسي هزاز، وطاسات، وصندوق (Mille Sette Cento)، وقليل من الملابس، فرش السرير الروماني، والآلة الكاتبة التي أملكها. لسنا متاعًا منزليًّا، وإنما محبان. عندما انتقلنا إلى البيت كان العمال ما زالوا هناك، وكذا ماكينة لخلط الخرسانة. لم يتم الانتهاء بعد من الدرَج الصاعد إلى شارع القرية؛ نسير على ألواح زلقة. في الحظيرة انتُزعت للتو الأرضية التي تفصل بين الخنازير والماعز، أما ستوديو العمل الخاص بي فما زال تحت الإنشاء. العمال الإيطاليون الخمسة يعبرون الحدود يوميًّا، ويعودون في المساء إلى نوفارا. ما زال لديهم عمل يستغرق أسابيع. نشعر سرًّا بالسعادة لوجودهم معنا. رئيسهم العجوز، كما تعتقدين، يشبه صامويل بيكيت القروي. يحضرون طعامهم في حقيبة ظهر، يجلسون في الظهيرة على المائدة الحجرية أو على النجيلة؛ وأنت تسخنين لهم الحساء الذي أتوا به في وعاء من الصفيح، أو تعدين حساء لنا جميعًا. يعجبني هذا. وأتكفل بالبيرة والنبيذ. لا يتضمن التصميم كل خطوة من خطوات التجديد؛ مثلًا كيف سيبدو سور بعد بنائه، أو الأرضية المصنوعة من ألواح الجرانيت، يتوقف ذلك على ذوقهم. ندين لهم بالكثير. لا يبدو لي ضروريًّا وضع مدفأة في مكان عملي؛ صحيح أنها موجودة ولا تحتاج إلا إلى تصليح؛ لكنني أقول: دعنا من ذلك. بيكيت يعترض قائلًا إن الكاتب، un scritore، لا بد أن يحرق ورقًا كثيرًا. أوافق على رأيه. bella ciao, bella ciao،٣٧ تتصاعد نغمات الأسطوانة، التي أحضرناها معنا من روما، من الشباك المفتوح أثناء عملهم. عندما تمطر، يواصلون عملهم في القبو. ما زال عامل الطلاء في البيت أيضًا؛ إنه يختفي أحيانًا لمدة ساعتين، ويذهب إلى الغدير كي يصطاد سمكًا. حائط الكتب، الذي تم تنفيذه وَفق تصميمي، يعجبك في النهاية. ترصين الكتب في المكتبة؛ أفتح الصناديق المسمَّرة. كثيرًا ما يتعثر العمل، إذ إنك تجلسين كي تقرئي؛ هذا يُشرِّف الكتب. تزرعين حوض أعشاب. ونزرع أيضًا ثلاث شجيرات كروم، تغطي أوراقها بعد تسع سنوات التعريشة فوق المائدة الحجرية … لِمَ أحكي هذا؟ ولمن أحكي هذا؟ — مرة يهبطون بصندوقين ثقيلين من شارع القرية؛ في البداية خمنَّا أنه فرن ساونا فنلندي. الآخر مملوء عن آخره بالأحجار لهذا الفرن: جرانيت، ما أكثره هنا! أجهز أيضًا قبوًا للنبيذ. عندما أجلس أمام الآلة الكاتبة فإن العمال الذين يأخذون في الدق لا يزعجونني، على العكس: نحن نعمل. وفي يوم من الأيام يجمعون عدتهم كلها؛ تطبخين «ريزوتو» مع لحم محمر. كانت، هكذا يقولون، سنة جميلة هنا. Auguri. مئات الضيوف يأتون، أصدقاؤك، أصدقائي. أنت المضيفة، وفي رأيي فإنك تحسنين القيام بهذا الدور، لأنك تفعلين هذا بتلقائية، وبلا تكلف (هكذا يبدو) تضفين جوًّا احتفاليًّا. هناك عواصف تدخل الرهبة على النفس، وتستمر ثلاثين ساعة. أو جرف للثلج في الشتاء. أقطع حطبًا وأشعل المدفأة، لكنني أنجز أشياء أخرى أيضًا في تلك الأعوام. وأنتِ تنجزين أشياء أخرى. في الفجر أحاول بالمنجل أو الفأس أن أفتح ثغرة في الأدغال ينفذ منها الضوء، بعد ذلك بمنشار كهربائي مستعار. سنبقى أهل مدن. سكان القرية لا ينادونك ﺑ: Signora، لأننا لسنا متزوجين؛ يقولون: Marianne، وإذا كنتِ غير موجودة: La Marianne، لكنهم أبدًا لا يقولون: La signorina. ذات مرة رغبتِ في رؤية خراف في حديقة منزلنا أيضًا، وليس فقط القطط الكثيرة التي وجدت طريقها إلينا. أكلف العمال بإقامة سياج، وأشتري أربعة خراف، بينهم خروف أسود. إذا رآها أحد في الحديقة، لاحظ أنها تقف دائمًا في الاتجاه نفسه، الأربعة معًا، تفعل أو لا تفعل الأشياء ذاتها. يمزق كلب متوحش ثلاثة منها؛ عندئذ نهدي الرابع. شيئًا فشيئًا تتشابه الأصياف في الريف … ما يمكن وصفه هو هذه الوجبة أو تلك التي اخترعتِها. كيف تربحين شبانًا وشيوخًا مما يجعلهم يترددون على بيتنا بسرور؟ عندما نسبح في مياه الغدير الباردة، وعندما أنزع السدادة عن الزجاجة التي بردناها في الغدير: حضورك الفرِح. أكوام الكتب (معظمها كتب ألمانية، أيضًا إنجليزية وفرنسية وإيطالية) على الأرض بجانب سريرك. هداياك لكثيرين. توترك الطفولي قبل أعياد الميلاد. كيف تجلسين كامرأة على الدراجة وتتصرفين مع ذلك بتلقائية الفتيات؟! مكتبك، هذه الفوضى من القواميس الثقيلة، والأوراق المكتوبة، والأوراق البيضاء، ومجلات الحداثة الأدبية، وطوابع بريد، ومجلات موضة لا تلبسين وفقها، ورسائل رددتِ عليها. اهتمامك بعملي وكأنك أم. قبعتك الجلدية من تكساس التي حال لونها من المطر، عندما أتعرف عليها في المحطة وسط الزحام؛ والأماكن التي كانت ستختلف بدونك: براغ، وارسو، أفنيون، باريس، لنينجراد، أوديسا، فنيسيا، لندن، القدس، مانهاتن … إلخ، والمائدة الحجرية الصغيرة في تيسين.

هذا كتاب صادق، أيها القارئ

عن أي شيء يصمت ولماذا؟

Fifth Avenue

سيدة ترتدي فستانًا طويلًا أبيض وقبعة بيضاء، الموضة التي سادت أوائل القرن الماضي؛ مخبولة: يداها تتحسسان السطح الحجري أو المعدني للواجهات، وكأنها تريد أن تتأكد أن كل شيء في مكانه. أيادٍ كقرون استشعار. لا يمكن أن تكون عمياء فهي تنتظر عند الإشارة الحمراء. معظم المارة لا يلاحظونها على الإطلاق؛ تمشي أبطأ من الآخرين، ولكنها لا تقف في طريق أحد؛ تسير بمحاذاة الواجهات. حيثما يكون زجاج — هكذا يبدو — فإنها تتحسس برفق سطحه العاكس، وترتسم على وجهها علامات السعادة. أتعمد أن أسبقها كي أستدير تحت أي ذريعة وأرى وجهها. إنها سعيدة. يحدث أن تظل فجأة واقفة وكأنها أصبحت الآن في الخواء، ثم ترجع بضع خطوات. لا تكاد أصابعها تلمس سطح الواجهة، أحيانًا لا تقترب منه إطلاقًا؛ تبدو وكأنها تدشنه فقط، حتى يظل هناك — ذلك السطح القبيح. أترى الناس؟ ثوبها غريب، كانت تريد أن يكون فستانًا احتفاليًّا. على فكرة، تسير حافية، وهو ما لم ألحظه إلا بعد فترة. بين الحين والآخر تتفوه بكلمات. يصاحب ذلك إيماءات تنم عن أحاسيس رقيقة عظيمة وخَفية. يبدو أنها تعيش يومًا خاصًّا، يومًا تتحقق فيه الأماني، تعيش حاضرًا.

هيلين وولف، الناشرة، راضية عمومًا عن الصحافة. الزهور، الآن في مزهرية فوق مكتبها، تُسعد السيدة المبجلة. تحيات إلى أوروبا، تحيات إلى أصدقائنا في برلين، أوفه، جونتر٣٨ … أودِّع الأماكن الأخرى من دون كلمة؛ أودِّع:

Washington Square

لاعبي الشطرنج العواجيز على الطاولات الحجرية تحت الأشجار الخضراء التي تشي الآن بمقدم الصيف.

Sheridan Square

التمثالَ النحاسي الذي اخضرَّ لونه لرجل كان اسمه شريدان، يحمل على قبعته حمامتين تهدلان.

Bigolow

أولئك الذين يجهزون الفطور بسرعة.

8th Street

بائعَ التبغ الذي بات يعرف ما أدخن، وفي كل مرة يكون الجو بديعًا يشير إلى ذلك بودٍّ.

Chinese Laundry

الصيني النحيف مثل عصا، الذي غسل قميص تنس الطاولة المبتل بالعرق ثم كواه.

Balducci

تلك الفاكهة الجميلة المرصوصة.

Trattoria da Alfredo

أودِّعُ صديقها الذي يتعجب من أنني أتناول طعامي لأول مرة في هذا المطعم الإيطالي الصغير. آنذاك طُلب مني ألا أذهب أبدًا إلى هذا المطعم والتزمت بذلك. تبقى الصراحة بيننا — الآن أصبحت ممكنة — عند الحد اللائق. لدينا موضوعات أخرى. هذا صحيح: الطعام في هذا المطعم الإيطالي طيب وليس غاليًا، الأثاث إيطالي من دون بهرجة، الزبائن من النخبة المثقفة، وألفريدو — الأب الروحي للمكان — يقدر تمامًا الشخص الذي يتحدث معه بالإيطالية. لأن المطعم ليس به عرق نذهب بعد ذلك إلى شقته: ليست بعيدة عن هنا. سبع دقائق سيرًا على الأقدام. هو الآن مُطلَّق، الشقة من دون تغيير، طُليت جدرانها حديثًا، ملصق الفنان إنجريس في مكانه. حين عادت رفيقته الجديدة إلى المنزل نظر إلى ساعته: أين كانت كل هذا الوقت؟ إنها (هكذا يقولون) رائعة؛ تقابلني بفضول فائق، وإن لم تتحرر تمامًا من الشعور بالحرج، إلا أن ذهنها حاضر ونظراتها صريحة، وكأنها شرطي يقارن الواقف أمامه بأوصاف مجرم يجري البحث عنه. شقراء، الشعر صففته إلى أعلى. لا أبقى طويلًا؛ ما زال عليَّ أن أشتري هدية، قبعة من قبعات الكاوبوي: A brown campaign hat. أين أجد شيئًا كهذا؟ يتصرفون وكأنهم يمزحون. الساعة الثالثة، لقد خرجَت من البيت في الحادية عشرة. أحكي عن أي شيء. عن برلين الغربية وبرلين الشرقية، أعتقد. يريد فعلًا أن يعرف أين كانت منذ الحادية عشرة. تضحك وتشير إلى ما اشترته؛ أشياء قليلة. أربع ساعات من أجل هذا؟ يهمها أمر برلين الغربية وبرلين الشرقية. تعرف باريس جيدًا جدًّا. تُعد قهوة ببشاشة. ما زال يهزل معها. عندما يتصل بها في المكتب تكون في الشارع تتسوق أو في المكتبة حيث لا يستطيع الاتصال بها؛ وإذا لم يتصل في المكتب تكون طيلة الوقت في المكتب. تضحك، هو لا.

Swiss Bank Corporation

أودِّعُ حسابي.

Hotel Lobby

أودِّعُ مارك وإنجر اللذين أرجعت إليهما الأطباق وأدوات المائدة التي استعرتها، مع شكري وقبلات على الخدين الأيسر والأيمن.

Senator Lounge

أودِّعُ توني تسفيكر، السويسرية البشوش، التي أوصلتني مرة بسيارتها إلى المطار، مع قبلات على الخدين الأيسر والأيمن.

آن الأوان، ليس فقط لأن أفكر في الموت، بل لأن أتحدث عنه أيضًا. ليس بطريقة احتفالية، ولا هزلية. ليس عن الموت عمومًا، وإنما عن موتي أنا. ما زلت، قياسًا إلى عمري، في صحة جيدة نسبيًّا. لا يجد الطبيب شيئًا. الإرهاق بعد الإفراط في تناول الكحوليات، صداع عند هبوب الرياح الدافئة من جبال الألب … إلخ، ليست هذه أمراضًا. رغم أسلوب حياتي غير الحذر لا أعاني تليفًا في الكبد. بين الحين والآخر أوجاع في القلب. منذ عشرين عامًا. لا ألم. حينما يكون عليَّ أن أصفه للطبيب، أقول: شعور بالضيق، بالضعف، بالاحتياج إلى التنفس الذي يصعُب عليَّ عندئذ. أقول للطبيب: كأن يدًا تمتد إلى القلب، مخالب بلا أظافر؛ إذ إنني أكاد لا أشعر بوخز. بعد ساعتين، أو ربما ربع ساعة، يكون الأمر قد انقضى، غالبًا لا يلاحظ أحد شيئًا. إذا كنت وحيدًا فإن الأمر يقترن بالخوف؛ ليس خوفًا حقيقيًّا من الموت. الرقود سيئ للغاية؛ أما إذا جلست فالخوف من أن أقوم من المقعد؛ لا أستطيع عندئذ تخيل فعل أي شيء، عبور الشارع مثلًا. نتيجة الفحوص من وقت لآخر لا تتغير: حالة القلب مثالية. أدوية؟ نصيحة الطبيب: احتسِ كأسًا من الكونياك. الكلى على ما يرام، الرئة على ما يرام. من الأفضل التقليل من التدخين. لا يلازمني الشك في الإصابة بالسرطان الذي يصاحب كثيرين في كل مرة يسعلون أو يشعرون بألم في المعدة. نادرًا ما مرضت. أحلم كثيرًا بالموت. حتى لو لم يكن في الحلم أي تحذير فإنني أستيقظ مرعوبًا: عمري الآن ٦١، ٦٢، ٦٣. مثلما يحدث للمرء الذي يلقي نظرة على الساعة ويرى: ياه، لقد تأخر الوقت! كئيب هو الخوف من الموت، أما الوعي بالموت فشيء آخر؛ وعي يقترن بالبهجة. مثل كل الناس أخشى الموت المؤلم. عندما أحاول قبل السفر ترتيب أشيائي، فإنني أفعل ذلك بلا انفعال. أصبحت الآن أكبر سنًّا من والدي وأعرف أنني سأصل قريبًا إلى متوسط العمر هنا. لا أريد أن يتقدم بي العمر كثيرًا. في الأغلب يحيط بي شباب؛ أرى الفارق في كل شيء، أيضًا في الأشياء التي قد لا يرون فيها فارقًا، بعض الأشياء يمكن فهمها. أتحدث عندئذ عن مشاريعي المهنية. أعرف كذلك أنه ليس من اللائق أن أقيد امرأة شابة بي، أنا الذي لا مستقبل له.

نُشرت المقابلة الصحفية في تلك الجريدة البائسة. بعض الأشياء صحيحة: الجنس، عدد الأطفال، ارتداء نظارة، القامة قصيرة، الهواية: تنس الطاولة.

في المساء من الطائرة، بعد أن يُسمح للركاب بحل الأحزمة، فإنه سيكون على الجانب الأيسر لسان يختلط الأخضر فيه بالرمادي والبني، وفنار، اللاعمق الأصفر يظهر فقط عند انسحاب الموج من اليابسة؛ البحر، الرحب، يُرى أيضًا على الجانب الأيمن: كاللباد الباهت، ثم كالأردواز الصلب (الكوارتز) … في اليوم الأخير رأيت لين لأول مرة في مكتبها، وقبل ذلك في الممر حيث توجب عليَّ الانتظار. أتت مبتهجة. مكتبها صغير، المنظر من النافذة مبهر. كان علينا الانتظار قليلًا حتى انتصف النهار؛ لين على المقعد بجوار الشباك: لا تشبه الآن الحورية إلا من بعيد، حركاتها أمريكية جدًّا (ما معنى ذلك؟)، حركات موظفة. بقي الباب المؤدي إلى غرفتها مفتوحًا؛ عندما أطلت زميلة برأسها، قدمتني لين. ثم طلبت مني أن أوقع على كتاب؛ بعدها استطعنا الذَّهاب، Lunchtime، المصعد مكتظ تمامًا، تحدث شخص مع لين التي بدت أقل سمرة مني؛ من الواضح أن ردها كان مضحكًا، لم أفهم إلا القليل. اجتزت وحدي الباب الدوار وانتظرت في الخارج. عندما لم تحضر لين، نفذت ما اتفقنا عليه إذا فقد أحدنا الآخر: سرت بمفردي إلى المطعم وانتظرت على البار. يبدو أنها في حاجة إلى مناورة كي تتخلص من ذلك الشخص؛ جاءت لين بعد ٢٠ دقيقة. مطعم فرنسي، الموائد الصغيرة لشخصين متراصة بجانب بعضها؛ لا يصلح المكان لحديث حميمي، وكان ذلك بالأحرى مدعاة لسرورنا. بعد أن طلبنا الطعام ناولتني هدية؛ افتحها. كيس تبغ من النوع نفسه الذي أدخنه، والذي تحسسته لين ذات مرة، ثم ضاع مني خلال نهاية الأسبوع في مكان ما؛ وعليه الحرف الأول من اسمي. Very nice، قلت، but unfair، لأن لين منعتني من إهدائها شيئًا، باستثناء آلتي الكاتبة (أوليفتي ليترا ٣٢) التي قد تحتاج إليها. Today I have got my period،٣٩ قالت. ما زال عليَّ أن أحزم حقائبي، ليست أشياء كثيرة؛ أي ما زال عندي وقت طويل. وقت لين محدود، بالضبط ساعة. اقترحت أن نتمشى في الحديقة العامة القريبة، United Nations. كنا نهرول تقريبًا. I am going to miss you، قالتها وهي ترفع حاجبيها كشخص مرغم على الاعتراف بخطأ، وتحت إشارة مرور حيث قالت في النَّفَس ذاته تقريبًا: come on, come on. بالمناسبة، كنت في هذا المتنزه لأول مرة. الضوء ساطع في الظهيرة، لا يكاد يُحتمل من دون نظارة شمس. المياه تبرق. المتنزه مزدحم بناس يتصرفون كأنهم يستمتعون بالشمس الصيفية. لكن سطوعها كان باهرًا لدرجة أن المرء لم يكن يستطيع أن يفكر في شيء أو أن يشعر بشيء. لم تكن المياه زرقاء، وإنما سوداء؛ يتلألأ سطحها كالزئبق. استندنا على الدرابزين. حتى النوارس كانت تبهر العين. لم نشرب إلا قليلًا، لم يكن هذا هو السبب. في الجبال العالية يحدث الشيء نفسه: الثلوج البيضاء، أما الصخرة فتكاد تكون سوداء، وعندما يرفع المرء ناظريه: منتصف الليل بلا نجوم. لم يكن الجو حارًّا: ريح حادة قارصة آتية من الماء. القوارب السوداء يسبح أمامها الزبد اللامع. في الناحية الأخرى الدخان الأبيض المتصاعد من مدخنة عالية. الضوء يذكره بالرياح الدافئة التي تهب من جبال الألب؛ يتلألأ الضوء على سطح الماء، وعلى أوراق الشجر أيضًا. عندما يتجه الناس إلى الظل فإنهم يختفون. الواجهات الزجاجية تعكس الظلال المظلمة للواجهات المقابلة لها؛ أشكال البنايات المنعكسة مشوهة بعض الشيء. لم نصمت، لكني لا أعرف فيمَ تحدثنا. السطح القصديري للدرابزين، الذي استندنا عليه بمرفقينا، كان يلمع كأنه جمرة. في السماء كانت طائرة تضيء. ثم نظرت لين إلى ساعتها؛ ما زال لدينا وقت، لكنه وقت لا يمكن فعل شيء خلاله. جلسنا على طريق حجري صاعد يقعد عليه المحبون؛ فوقنا آلاف من إطارات النوافذ المعدنية المتوهجة. حيثما نظر المرء: هذا الضوء، اللمعان أو التوهج. أسعدها أن كيس التبغ أسعدني؛ مناسب تمامًا، ملمس الجلد الداكن ناعم ورقيق. لا نتبادل الأسف بسبب وجوب طيراني اليوم. أرسلنا البصر فحسب: النوارس والقوارب السوداء مع الزبد الذي تدفعه أمامها. نظرت لين إلى ساعتها، فسحبتُ اليد من على كتفها. وقفنا حتى يقبِّل أحدنا الآخر. ليس في استطاعة المرء السير أخف مما نفعل الآن ونحن نهبط الدرج الذي غمره الضوء الساطع. لم يتبق أمامنا الآن سوى العثور على مكان يصلح للافتراق، مع الانتباه إلى حركة المرور؛ أمسك كل منا بيد الآخر عندما عبرنا الميدان، وتمشينا، من دون قبلة، ثم قلناها مرة أخرى بيد تلوح: «هاي». بعد خطوات رجعتُ إلى الناصية، وتأملت هيئتها السائرة؛ لم تستدر، ظلت واقفة. احتاجت إلى وقت طويل حتى استطاعت عبور الشارع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤