تعقيب

ولد ماكس فريش (١٥ مايو ١٩١١–٤ أبريل ١٩٩١م) في مدينة زيورخ السويسرية. بدأ دراسة اللغة والأدب الألماني، غير أنه لم يتم دراسته، وعمل صحفيًّا. وفي عام ١٩٣٦م شرع في دراسة الهندسة المعمارية، ونال درجة دبلوم. كتب بعد الحرب عددًا من المسرحيات التي حققت نجاحًا، مثل «ها هم يعاودون الغناء» و«سور الصين»، ثم حقق الشهرة العالمية بروايته الأولى «شتيلر» (١٩٥٤م) التي ترجمتُها إلى العربية وصدرت لدى داريْ «سرد» و«ممدوح عدوان» في عام ٢٠٢١م.

وهناك سمات مشتركة بين أولى رواياته، «شتيلر»، وبين قصته الطويلة، التي تعد من أعماله الأخيرة، «مونتوك» (١٩٧٥م)، وبينهما رواية «يقولون إن اسمي جانتنباين» (١٩٦٤م): كل من هذه الأعمال الثلاثة محوره الهوية، وصورة الذاتية للإنسان، ومدى تطابقها أو اختلافها عن صورته في أعين الآخرين. وفي الأعمال الثلاثة نرى انعكاسًا لحياة فريش الشخصية وعَلاقاته النسائية.

لكن، يمكن اعتبار «مونتوك» ذروة أعمال فريش الذاتية ودرة أعماله في رأي غالبية النقاد. في «مونتوك» يزيل فريش الحدود الفاصلة بين الشعر والحقيقة، بين الواقع والخيال، وبين سيرته الذاتية وسيرة الآخرين. ومونتوك هو اسم المكان الصغير الذي قضى فيه القاصُّ/الكاتب نهاية أسبوع مع أمريكية شابة، وهناك قرر أن يقص ما عاشه: «كسيرة ذاتية، نعم كسيرة ذاتية. من دون أن يخترع أشخاصًا؛ من دون أن يخترع أحداثًا تكون أكثر دلالة على واقعه الشخصي؛ من دون الهروب إلى الخيال. من دون أن يبرر كتابته بالمسئولية تجاه المجتمع؛ بلا رسالة. ليس لديه رسالة، ويحيا رغم ذلك. إنه يرغب في أن يقص فحسب (من دون أن يراعي مشاعر كل هؤلاء الذين يذكرهم بأسمائهم): حياته.»

عبر العَلاقة الغرامية التي نشأت بين ماكس فريش والشابة التي وظفتها دار النشر الأمريكية لمرافقة الكاتب المسن خلال رحلته الأمريكية يسترجع فريش عَلاقاته الغرامية والزوجية طوال حياته، مُقدمًا سيرة ذاتية مفرطة في صراحتها وقسوتها، وخصوصًا في المقاطع التي يتحدث فيها عن حبه للفتاة اليهودية في الحقبة النازية، أو تلك التي يستعرض فيها مشاكله الزوجية مع زوجته الأولى ثم الثانية، وأخيرًا عَلاقته بالشاعرة النمساوية إنجبورج باخمان التي انتحرت محترقة في شقتها في روما.

يتحدث فريش عن «هذا الهوس» الذي أصابه، أي «كتابة جمل على الآلة الكاتبة»، وهو الهوس الذي يدفعه إلى استخدام حياته وحياة الآخرين كموضوع لأعماله، إلى أن تصرخ فيه زوجته الثانية: «لم أعش معك كمادة لأدبك!»، وتطلب الطلاق منه.

«أجرب القصص كالملابس» يقول فريش في «مونتوك» أيضًا، ثم يضيف: «لقد تسترتُ على حياتي. زودتُ رأيًا عامًّا بقصص ما. تعريتُ في تلك القصص، أعرفُ، تعريتُ إلى درجة يستحيل فيها التعرف عليَّ … لم أصف نفسي قط. خنتُ نفسي فحسب.»

وفي الحقيقة، لم يخن ماكس فريش نفسه، بل قدم أدبًا ذاتيًّا صادقًا قادرًا على مخاطبة الإنسان المعاصر في كل مكان، وذلك في وقت كان الأدب الألماني يبحث فيه عن دور اجتماعي وسياسي ويبتعد عن كل ما هو ذاتي. آنذاك كان النقاد يحتفون برواية «الطبل الصفيح» لجونتر جراس و«حصة اللغة الألمانية» لزيجفريد لنتس و«آراء مهرج» لهاينريش بول، وهي كلها أعمال تتمحور حول الماضي النازي ومسئولية الألمان في الحرب وتدمير العالم وملاحقة اليهود. في تلك الفترة تخصص ماكس فريش، مثلما يقول الناقد فولكر فايدرمان، في الكلام عن الهوية والذات، وحققت أعماله نجاحًا كبيرًا لأنه أصاب عصب الوقت، ومنح ملايين الألمان الأمل في أن يبدءوا حياة جديدة ويكتسبوا هوية جديدة؛ وهو أمل سيظل ربما يراود ملايين البشر، في كل عصر، وفي كل مكان.

صدرت الطبعة الأولى من ترجمتي لقصة «مونتوك» في عام ٢٠٠١م لدى دار الجمل، ولكن شابتها للأسف الشديد أخطاء عديدة، إذ كانت أول ترجمة طويلة أنجزها. ومما زاد الطين بلة أن دار النشر لم تراجع الترجمة بأي شكل من الأشكال، فطُبعت بكل الأخطاء التي وردت فيها. ولذلك يسرني أن أقدم هنا، عبر موقع «هنداوي» نسخة منقحة ومُراجعة من الترجمة، لا سيما وأن «مونتوك» من أكثر الأعمال التي ترجمتها قربًا إلى قلبي. ومما أسعدني أن تصلني عقب صدور «مونتوك» في طبعتها الأولى رسالة إلكترونية من الروائي الكبير صنع الله إبراهيم تاريخ ١٥ أغسطس ٢٠٠٢م، قال فيها: «الكتاب مفاجأة لي، إذ لم أكن أعرف بوجوده، واستمتعت به لأنه مكتوب بفنية عالية، وحقق فيه فريش إيقاعًا شعريًّا وموسيقيًّا جميلًا. الأهم أن الترجمة لم تخذل النص، بل خدمته بشكل ممتاز. لم أشعر بأي اهتزاز أو غموض لأنك استوعبت النص جيدًا وأحببته.»

تبقى إشارة أخيرة: ترد في النص كلمات وجمل كتبها ماكس فريش بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية. هذه الجمل لم أترجمها في النص، وخصوصًا العبارات الإنجليزية لسهولتها. أما العبارات التي ارتأيت أن أقدم لها ترجمة، فسيجدها القارئ — إذا أراد — في خاتمة الترجمة، مع عدد من الهوامش والشروحات الأخرى.

سمير جريس
برلين، سبتمبر ٢٠٢٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤