محتشمي زايد
نومٌ قليل، وفترة انتظار ثملة بالدفء تحت الغطاء الثقيل. النافذة تنضح بضياء خفيف، ولكنه يتجلَّى بقوة في ظلام الحجرة الدامس، اللهم إني أنام بأمرك، وأصحو بأمرك، وإنك مالك كل شيء. ها هو أذان الفجر يفتتح يومي الجديد، ويسبح في بحر الصمت الشامل هاتفًا باسمك. اللهم عونَك لهجر حنان الفِراش، والخروج إلى قسوة برد هذا الشتاء الطويل. حبيبي يغطُّ في نومه في الفِراش الآخر؛ فلأتلمس طريقي في الظلام أن أوقظه. ما أبرد ماء الوضوء! ولكني أستمدُّ الحرارة من رحمتك. الصلاة لقاء وفناء. من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه. كل يوم لا أزداد فيه علمًا يُقرِّبني إلى الله فلا بُورِك لي في شمس ذلك اليوم. أنتزع نفسي من تأمُّلاتي أخيرًا لأوقظ النيام. أنا مُنبِّه هذه الأسرة المُرهقة. حسن ألا تخلو من نفع وأنني في هذا العمر؛ طاعن في السن متين الصحة بفضل الله. لا بأس أن أُضيء المِصباح الآن، وأنقر باب الحجرة بأصبعي هاتفًا: «فوَّاز.» حتى أسمع صوته وهو يقول: «صباح الخير يا أبي.» أرجع إلى حُجرتي وأُضيء مِصباحها أيضًا، فأرى حفيدي مُستغرقًا في نومه لا يبدو منه إلا وسط وجهه بين حافتَي الغطاء والطاقية. ما باليد حيلة، عليَّ أن أُخرِجه من دنيا الراحة إلى الجحيم، وأهمس بقلب مُفعَم بالعطف عليه وعلى جيله: «علوان .. اصحُ.» ويفتح عينَيه العسليَّتين، ويتثاءب، ويقول باسمًا: «صباح الخير يا جدي.» ويُعقِب ذلك حركة أقدام، ونشاط ألسنة، وحياة تدبُّ ما بين الحمَّام وحُجرة السُّفرة، وأستمع إلى قرآن الصباح في الراديو حتى تُناديني هناء زوجة ابني: «السُّفرة جاهزة يا عمِّي.» أهمُّ ما بقي لي في مسرَّات الدنيا الطعام. ما أكثرَ نِعَم الله في دنياه! اللهم جنِّبني المرض والعجز، لا أحد ثَمة للعناية بالآخرين، ولا فائض مال للتمريض. الويل لمن يسقط. يجمعنا في الصباح المدمس وحده أو الطعمية، هما معًا أهم من قنال السويس. سُقيًا لعهد البَيض والجبن والبسطرمة والمربى، ذلك عهدٌ بائد، أو ق.ا. أي قبل الانفتاح. الأسعار جُنَّت، كل شيء قد جُن. ما زال فوَّاز مائلًا للبدانة، وهو يستعين بالخبز، ومِثله هناء، ولكنها تُسرِع نحو الكِبَر قبل الأوان. ابن خمسين يبدو اليوم كأنه ابن ستين. وقال فواز بصوته الجهير: سنعمل أيامًا صباحًا ومساءً بالوزارة، فأُضطرُّ إلى الانقطاع عن الشركة.
ساوَرني قلق. إنه وزوجه يعملان في شركة قطاع خاص، ودخلُهما ومعاشي ومُرتَّب علوان تفي بالكاد بضرورات الحياة، فما الحال إذا استغنت عنه الشركة؟!
فقلت برجاء: لعلها أيامٌ قليلة.
وقالت هناء: سأقوم ببعض عملك، وآتيك بما لم يُنجَز منه، وأشرح لمدير القسم ظروفك.
فقال فواز مُتسخِّطًا: هذا يعني أن أعمل في الصباح حتى منتصف الليل.
أتمنَّى دائمًا ألا نُثير غُبار الهموم على مائدة الطعام، ولكن كيف؟ وقال علوان: والد أستاذتي علياء سميح يسوق تاكسي في أوقات فراغه ويربح أكثر طبعًا.
فسأله والده: هل يملك التاكسي؟
– أظن ذلك.
– ومن أين لي بشراء واحد؟! وهل كان أبو أستاذتك غنيًّا أو مُرتشيًا؟
– كل ما أعرفه أنه رجل محترم.
فقلت: اختار طريقًا شريفًا في النهاية.
فقال علوان ضاحكًا: لعلي أختار طريقًا مِثله يومًا ما.
فسألته هناء بجدية: ماذا ستفعل؟
– سأُكوِّن عصابة للسطو على البنوك!
فقال فواز بامتعاض: خير ما تفعل.
ومُسحت الأطباق مسحًا، ومضت بها هناء إلى المطبخ، وما لبثوا أن ودَّعوني وذهبوا. وجدتُني في الشقة الصغيرة وحيدًا كالعادة. اللهم ارزقهم واكفِهم شر الأيام. اللهم امنحني شيئًا من نعمة القُرب والولاية. لو تركت البيت على حاله لبقي ملهوجًا في فوضى شاملة حتى المساء. أفعل ما أستطيع في حجرة نومي وحجرة المعيشة، حيث أُمضي وَحْدتي مُستمِعًا للقرآن والأغاني والأخبار في رحاب الراديو أو التليفزيون. لو توجد حجرة رابعة لأمكن أن يُقيم علوان فيها عُشه. الحمد لله، لا اعتراض على قضائه. مرَّ العارف أبو العباس المُرسي بالقاهرة بأناس يزدحمون على دكان خبَّاز في سنة الغلاء فرَقَّ قلبه لهم، ثم وقع في نفسه أنه لو كان معي دراهم لآثرت بها هؤلاء؛ فأحس بثقل في جيبه فأدخل فيه يده، فوجد فيه جملة من الدراهم، فأعطاها للخبَّاز وأخذ بها خُبزًا فرَّقه، فلما انصرف وجد الخبَّاز الدراهم زائفة فاستغاث عليه وأمسكه؛ فعَلِم أن ما وقع في نفسه من الرِّقة اعتراض على قضاء الله، فاستغفر وتاب، وسرعان ما تبيَّن للخبَّاز أن الدراهم صحيحة! ذلك هو الولي الكامل، ولا تتأتَّى الولاية إلا لمن يُعرِض عن الدنيا. شارفتُ الثمانين وما وسِعني أن أُعرض عن الدنيا. هي دنيا الله وهِبتُه الخاطفة لنا، فكيف أُعرض عنها؟! أُحبُّها ولكنْ حب الحُر التَّقي العابد، فلِمَ تضنُّ عليَّ بالولاية؟ يهمُّني القرآن والحديث كما يهمُّني الانفتاح، وكما تهمُّني لقمة المدمس بالزيت الحارِّ والكمُّون والليمون. ومن ذا يُحيط برحمة الله الواسعة؟ فقد أُشير ذات يوم من بعيد إلى المصباح فيُضيء دون أن أمسَّ مِفتاحه. لم يبقَ لي من أصدقاء العمر إلا واحد فرَّقت بيننا الشيخوخة. وحدة النفس والمكان والزمان. وكفَّت العينان عن القراءة منذ عام. نومي قليل جدًّا ولا أخاف الموت. أُرحِّب به حالَما يجيء ولكن ليس قبل ذلك. عندما افتتح الملك فؤاد المدرسة انتُدبت لإلقاء كلمة المدرسين؛ يوم مجد أثلَج صدري بهتاف الأولاد: «يعيش الملك ويحيا سعد.» تغيَّر الهُتاف وتغيَّرت الأغاني. انفجر أخيرًا الغلاء. من وراء الزجاج المغلق أرى النيل والأشجار. بيتُنا أقدم وأصغر بيت في شارع النيل؛ قَزَم وسط العمائر الحديثة. النيل نفسه تغيَّر وكأنه مِثلي يُكابد وَحدة وشيخوخة. لَبِسَته حالٌ واحدة، فقدَ مجده وأطواره، لم يعد في مقدوره الغضب. ما أكثر السيارات، ما أكثر الثروات، ما أشد الفقر، ما أكثر الأحباب الراحلين! يومٌ غائم مُنذِر بالمطر، في مثله كانت تحلو الرحلة إلى حدائق القناطر. أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلي والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحي، إن كنت أسامح وأنسى الأسيَّة، كلهم هياكل عظمية، وضحكاتهم المُترَعة بالسرور والأمان ذابت في تضاعيف الفضاء. وقفوا ورائي صفًّا ليلة الزفاف؛ ليلة كشف النقاب لأول مرة عن وجه فاطمة. خمس سنوات مضت على آخر زيارة لقبرك. أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلًا مذ غُرست في عصر إسماعيل؟! المجنون يجري بلا وعي نحو حادثة يرصده عندها الأجل. قال رسول الله ﷺ: «يا عبد الله، كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدُد نفسك في الموتى.» صدق رسول الله.