محتشمي زايد
فوقنا على بُعدِ أشبار ثَمة حفل لإعلان خطبة رندة. علوان انتهى من ارتداء قميصه نصف الكُم وبنطلونه الرمادي. بدا ساعداه مفتولَين، وزغب صدره من فتحة القميص فاحمًا، وتجلَّى الانسجام في قسمات وجهه المحتقِنة بالحزن، شباب وجمال وأسًى. ماذا يعتلج في أعماقه في هذه الساعة اللعينة؟ لم أذُق مرارتها إلا في الشعر. هل لديَّ ما أقوله له؟ لم أجد سوى نظرة وابتسامة. ورفع يده تحيةً ومضى وهو يقول كعادته: فُتَّك بعافية يا جدي.
وساء طبعي فجأةً كأنما ازدردت كيلو شطة وفلفل. رميت بعيدًا عني بَخُور العبادة. عالم مجنون وبائس. أيها الأحبَّاء الراقدون تحت الأرض، ما أكثركم! رأسي ثمل بذكرياتكم دون سبب واضح، وسبقكم مئات الأنبياء والأولياء، فلينعم التراب بأطيب ما في الحياة. لماذا يتدفَّق الماضي في روحي كشلَّال وبقوة بركان ثائر؟! هتافات الثورة تُدوِّي من جديد؛ الاستقلال التام أو الموت الزؤام، الشعب فوق الملك. أزيز النار المشتعلة في القاهرة، عظمة الراحل وهزيمته، عظمة خليفته ونكسته. الجنون يشقُّ طريقه في الصخر حاملًا الجوع والديون. أيها الأحباب الذاهبون، ما أكثركم! ما فكَّرتم في الموت ولا جرى لكم المرض في حساب، ومنكم من مزج الكونياك بالزنجبيل وطارَد النسوان في الموالد، ومن كان يخلع نفسه من مائدة القمار ليُصلِّي الفجر حاضرًا، ومن رمى نفسه في مياه النيل المشعشعة بضوء القمر والزورقُ الشراعي يدور حوله حاملًا الحشاشة المجدع، وفِتية القدر الذين تسلَّحوا بالإيمان والأحجار وخرجوا يتحدَّون الشرطة والجيش في عيد الدستور المُلغى، إني أشهد المعركة وأسمع أزيز الرَّصاص ووقع الأقدام الثقيلة المطاردة، ما أكثركم أيها الراحلون والأعزاء، وما أجهل القبور اللامُبالية بأقداركم! وذكرى جدي الأزهري مُدرِّس النحو الذي كان يُخاطِب جدَّتي الأُمية بالفصحى، وخلَّف ذُرية من العقلاء والمجانين ما زالت حتى اليوم منجبة للعقل والجنون، ما ذنب حفيدي يا حثالة الأرض؟ ورَّثتم أبناءكم المال والأمان وأورثتمونا الضياع والفقر والديون، وكأن الثورة ما قامت إلا من أجل سعادتكم وتعاستنا. آه يا ربي، متى تهبني الشجاعة لأنبذ الدنيا وما فيها؟ حتى متى أحنُّ إلى كرامات لا تتيسَّر؟ متى أطير في الهواء أو أمشي فوق الماء؟ متى أُشير إلى الظالم فأصعقه وأريح الدنيا من شره؟ الحق أنها تجرِبة فاشلة، وأن الإنسان عجز عن أن يتعامل معها كنعمة كبرى فنجَّسها بالغدر والأنانية والخيانة. ها أنا أتمشَّى في الشقة لأفرخ غضبي، وها أنا أتصفَّح قِطع الأثاث البالية كأنما أودِّعها، وأقرأ وسط مسند الكنبة حكمة مرقومة بالخط الفارسي الأسود وسط هلال من الأصداف: «من تأنَّى نال ما تمنَّى.» أي أناة يا ربي؟ صبرنا آلاف السنين حتى انقلب الصبر رذيلة والتمني عاهة، وأشرب قدحًا من الأنيسون وأعود إلى مجلسي، وترفُّ على شفتيَّ ابتسامة، ابتسامة؟! من أي مكان في الغيب ورَدت هذه الابتسامة الضالَّة في غابة الأحزان؟! تقول إنها قادمة من زمن الجنون المليح مُقتحمةً جدار التقوى، نديَّة بأنفاس الخمر وعرق الغانيات في البقاع المحرَّمة، من محراب أقران الشباب والنزق والجهاد، ضحكاتهم تطير في الفضاء البعيد لم تظفر بعدُ بجهاز استقبال يُعيدها إلى الأرض، وزمردة ترقص شِبه عارية وتغنِّي: «المية حصَّلت نصِّي.» ليالي العربدة والمجون والمنبوذين بلا ذنب، حيث تتجلَّى الحكمة والصدق فوق جباه العاهرات والقوَّادات، يقلن لنا بكل تواضع: ألسنا أرحم بكم من حكامكم العظام؟ نحن نبذل أنفسنا في سبيل الترفيه عنكم، وهم يُضحون بكم بُغية الترفيه عن ذواتهم؛ فإلى جنة الخلد يا زمردة ويا لهلوبة ويا أم طاقية، ويا جميع المنحرفين والمنحرفات ممن لم نُقرَّ بفضلهن حتى ورد الزمان علينا بأبطال النحس والفاقة والهزائم. سقيًا للياليكم المُنزوية في أعطاف الدخان والنشوة، المُنطوية في فنون التلميع والتسمين، المبذولة للدهن والتمشيط، كل جهد وتخطيط من أجل الآخرين، والرضا بعد ذلك باللقمة والازدراء وشماتة الشامتين. هذا ما قالته ابتسامة رفَّت في غير أوانها، وفي ظل زمن مجنون وقلب كسير، والندم كبير، والطمع في المغفرة بلا حدود، والضيق بالغ غايته من كثرة الأسئلة عما يجوز ولا يجوز، وعما يجب أو لا يجب، على حين ينشغل اللصوص بتوزيع الغنائم؛ أستعيذ بالله وبكل صاحب كرامة وبكل مالك علم أن يقدم لتبديد ظلمات هذا الليل الطويل. وجاءني فواز وهناء قُبَيل النوم، وسألني الرجل: ماذا تتوقَّع لعلوان؟
فقلت بهدوء يُوحي بالثقة: كل خير، إنه قوي، وسوف يَعبُر الأزمة بسلام.
وقالت هناء: إنه الآن حُر ويستطيع أن يشقَّ طريقه كيفما يشاء.
– لا تنسَ أنه هو صاحب القرار.
تمنيت أن يرجع قبل أن أخلد للنوم، وعرضت لي فكرة قديمة جديدة، وهي أن الإنسان يجب أن يعشق الدنيا وأن يتحرَّر من عبوديتها في آن. وعدت أقول لنفسي ما أكثر الأحباب الذين ذهبوا، وهل حقًّا عاشرتهم طويلًا في هذه الدنيا الدائبة على أكل بنيها؟!