محتشمي زايد
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ما هذا القرار أيها الرجل؟! تُعلن ثورة في ١٥ مايو ثم تُصفِّيها في ٥ سبتمبر؟ تزجُّ في السجن بالمصريين جميعًا من مسلمين وأقباط ورجال أحزاب ورجال فِكر؟ لم يعد في ميدان الحرية إلا الانتهازيون، فلكِ الرحمة يا مصر، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وأذكُر يوم حُدِّدت إقامة سعد زغلول في بيت الأمة، فزحف الانتهازيون بالولاء الزائف نحو القصر، لماذا تُعيد تمثيل تلك المسرحية القديمة من ريبوتوار المآسي المصرية؟ وأذكُر عهود الاستبداد بسوادها الكالح، أفكانت ثورة ١٩١٩ حُلمًا أم أسطورة؟! «ليس الشديد بالصُّرعة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.» تُرى ماذا تُخبِّئ أيها الغد؟ أما عن أمسي فقد فقدت أقدم وآخر صديق. صداقة دامت خمسة وسبعين عامًا، يوم تعارفنا على عتبة المدرسة الأولية، لولا الشيخوخة وسوء المواصلات .. آه. صمَّمت على تشييع الجنازة. رحلة شاقَّة كرحلة الحاج، وتوكَّأت على علوان. في دار المناسبات استعرضت فيلم العمر الثري: المدرسة، الشارع .. المقهى .. الحانة .. لجان الطلبة .. ليالي الزفاف .. أعياد الميلاد. الوجه ها هو .. الابتسامة ها هي .. هل سمعت آخر نكتة؟ .. والشكوى من الدهر .. أنتَّفق في كل شيء ونختلف في الأهلي والزمالك؟! عليك بقدح ماء على الريق .. ولا تنسَ دواء الذاكرة، فاتَني أن أسمع تعليقك على ٥ سبتمبر، ولكنني أعرفه، وبدأت التلاوة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. سرعان ما جاء الموت بابتسامة المراوغة وجلس إلى جانبي. لا تتعجل فلم تبقَ إلا خطوة. موت صديقي القديم بروفا لموتي، أرى كل شيء؛ الغُسل والدفن والمشيِّعين. وأقرأ النعي؛ محتشمي زايد من رجال التربية القدامى وشباب الحركة الوطنية. هل تذكُره؟ ظننته مات من زمان، ويجيء النسيان مُتثائبًا، ولكني أُسلِّم بمُنتهى الرضا. حقًّا إنه عمر طويل، ولكنه يبدو الساعة كلحظة عابرة. الحب والعنف والغضب والأمل، ألا ما أكثر الراحلين! لا فرق الآن بين أن تكون أنت في النعش وأنا ماشٍ وراءك أو العكس. وحيَّاني ابنُه بحرارة وقال لي: في احتضاره حمَّلني التحية إليك.
وفي المساء عاتبني ابني فواز قائلًا: في سنِّك يُعفى الإنسان من أمثال هذه الواجبات.
أما هناء فقالت: اشتريت اليوم كتابًا لا يُقدَّر بثمن، هو «كيف تُصلح أجهزتك المنزلية؟» فلعلَّه يُحرِّرنا من السبَّاك والكهربائي.
وعند ذاك تساءل علوان: ألا يوجد كتاب يُحرِّرنا من الحُكام؟
فقال فواز: لا حديث للناس إلا اعتقال الذين اعتُقلوا.
فعاد علوان يقول بعصبية: أستاذتي علياء في السجن، وصديقي محمود المحروقي أيضًا!
فقلت مُلاطفًا: ثَمة وعد بمحاكمة سريعة حتى لا يُضارَّ بريء.
– أما زلت تُصدِّق الأكاذيب يا جدي؟
ما أنقذه من القضبان إلا حيرته والويل للمُنتمين.
ولما خلا لنا المكان قلت له: آمل أن تتغلب على أزمتك بما أعهده فيك من شجاعة.
فقال ساخرًا: المصائب تقلُّ حدُّتها بالتكاثر، فتتكسَّر النِّصال على النِّصال.
وأغلق التليفزيون، ورجع إلى مجلسه إلى جانبي وهو يقول: جدي، لا أُحبُّ أن أُخفي عنك سرًّا.
أصغيت إليه مُستطلعًا باهتمام، فقال: توجد قرائن قوية على دعوة مُوجَّهة لي للزواج من شقيقة أنور علام زوج رندة.
– حقًّا! إليَّ بمزيد من المعلومات.
– هي أرملة تكبرني بعشرين عامًا، غنية جدًّا.
– والشكل؟!
– ليس كما تظن، مقبولة ومحترمة أيضًا.
فلذت بصمتٍ ثقيل، فسألني: ما رأيك يا جدي؟
فقلت من مأزقي: إنه قرار خاصٌّ جدًّا يحسن ألا يُشاركك فيه أحد.
– ولكنني مُصمِّم على معرفة رأيك.
– هل تُحبُّها؟
– كلا، ولكنني لا أكرهها.
– لا أدري ماذا أقول.
– يوجد ما يُقال.
– لا حقَّ لي في تشكيل مصيرها، إني أنتمي إلى عالم آخر، وليس من الحكمة أن يستبدَّ عالم بعالم آخر.
– ولكنك لم تُعوِّدني الهرب.
فصمتُّ قليلًا ثم قلت: للمشروع مزايا لا يُستهان بها، وعيوب لا يُستهان بها أيضًا، وفي مثل حالك ترجح مزاياه بعيوبه.
فابتسم ابتسامةً غامضة وقال بحدة: إني أرفض أن أبيع نفسي.
فجرى ماء الراحة في أعماقي المُلتهِبة، ولكني سألته: هل اتخذت قرارك مع التفكير اللازم؟
– وأكثر من اللازم.
فقلت بحرارة: أسأل الله أن يُعوِّضك عنها خيرًا.
وقلت لنفسي: «كراماتك يا سيدي الحنفي!»