رندة سليمان مبارك
ست أعيُن تدور في فلك الحيرة؛ عيناي في عينَي أمي، عيناي في عينَي أبي، عينا أمي في عينَي أبي، أعيُننا جميعًا تتنافر هاربة. في تلك الساعة من الليل ذُهلت أمي لمرآي، شحب لون وجهها عاكسًا لون وجهي، همست وأبي يغطُّ في نومه تحت الملاءة الأرجوانية: رندة .. ماذا وراءك؟
وقفنا في وسط الصالة وأفرغت ما في صدري دفعةً واحدة: إنه الطلاق.
وصببت عليها الحكاية بتفاصيلها، وعَلِم أبي بها بعد الفطور صباحًا على درجات. قلت له: لا يمكن أن نتَّفق.
وراحت أمي لتتحدَّث عن الزوار والخمر. احتقن وجهه بالغضب فقلت له: لا تُحمِّل صحتك فوق طاقتها.
فقال بحنق: فهمت كل شيء. لو بي قدرة لأدَّبته.
– لا ضرورة لذلك، كان صريحًا، وسرعان ما اعترف بفشله.
– كيف غابت عنك حقيقته؟
– لكلٍّ أسراره، ولا أنكر أنني خُدعت.
– يُستحسن أن نستشير مُحاميًا.
فقلت بإشفاق: هو أقصر سبيل لنشر الفضيحة، ومن ناحية أخرى فقد سلَّم لي بكافة حقوقي دون أدنى اعتراض.
– قد يُغري هذا الطلاق السريع ألسنة السوء بكِ؟
– إني واثقة من نفسي، وسرعان ما يُنسى كل شيء.
ورغم أن أحدًا من الزملاء لم يُكدِّر صفوي، فقد شعرت طيلة الوقت بجوٍّ محموم بالتساؤلات المكتومة.
خاصةً من ناحية علوان الذي بلغ غضبي منه مداه. ومرةً همس لي ونحن مُنفرِدان: إني حزين جدًّا.
فسألته ببرود: لماذا؟
– لعله الشعور بالذنب.
– لا شأن لك بما كان.
فتحوَّل عني بعينَيه وهو يقول: ما زلت أُحبُّك.
فقلت بحدة: لا أريد سماع هذه الكلمة من فضلك.
وبمرور الوقت ضِقت بكل شيء، وحتى بغضبي ضِقت، ورجعت أنظر إليه كما أنظر إلى نفسي برثاء، بل وجدت شيئًا من خلوِّ البال، فتساءلت: تُرى كيف تسير الأمور بينه وبين جولستان؟ هل يتزوَّج منها يومًا ما؟ وأيُّ غرابة في ذلك؟ وربما كانت المرأة خيرًا من أخيها. لم أجد بها ما يسوء، وهي تُريده ما في ذلك من شك. اللعنة .. إنها تُحبُّه. من كان يتصوَّر أننا نفترق؟ من كان يتصوَّر أن الآمال الكبار يمكن أن تتلاشى كقبضة من غُبار؟ وهمس لي عند ميعاد الانصراف يومًا: أشعر بدافع قوي لتبادُل الرأي.
صمتُّ صمت القبور لرغبتي الشديدة في الحديث.
وذهبنا إلى استراحة الهرم فتناولنا بعض السندوتشات مع الشاي، ورُحنا نتبادل النظر في بلاهة. سألني: هل لديك خطة؟
فقلت ببساطة: أعيش بلا خُطة ولا أحلام، وهو غاية الراحة.
– وأنا أيضًا، ولكنَّ جدي يقول إنه ما بين غمضة عين و…
قاطعته: دعنا من جدك وأمثاله؛ فهي لا تصلح لنا. متى تتزوَّج من جولستان؟
فقطَّب مُتسائلًا: من قال ذلك؟
– مجرد سؤال.
– أنا لا أبيع نفسي.
– إذَن ترى أنني بعت نفسي؟
فقال بسرعة: كلَّا، الأمر مختلف، لا غرابة في أن تتزوج فتاة من رجل يكبرها، أما العكس …
وتصفَّح وجهي بقوة ثم سألني: ما أسباب الفشل في زواجك؟
بي رغبةٌ حقيقية للاعتراف له بالحقيقة، وهو دون الآخرين.
– تعدني بألا تبوح بالسر لإنسان؟
– أعد بشرفي.
وأفرجت عن المأساة الحبيسة في ضلوعي، حتى هتف: الوغد!
– انتهى وقت الغضب؛ فلا تنسَ وعدك.
– فاقَ أي خيال.
– ليس أعجب مما سمعنا في حياتنا.