محتشمي زايد
أرى في أحلامي أبي وأمي وأختي محاسن .. ورأيتهم مرةً في مِنطاد يُحلِّق فوق رأسي. تُرى هل أزِف الرحيل؟ هل آن للعجوز أن يعفي الدولة من صرف معاشه؟ الصحة جيدة رغم عين الحسود سليمان مبارك، ولكن الصحة مَهلكة مثل المرض. كفى بالصحة داءً! صدق رسول الله. عبدك مُنتظِر يا رب، يتوقَّع بين آونة وأخرى أن يدق الجرس، وسوف يستقبل الطارق بما يليق به من طاعة وترحاب. حُسن الختام يا رب، جنِّبني الأوجاع والعجز، وشكرًا على حياة طويلة عريضة. حسبي أني لم أقدِّم أذًى لإنسان في هذا العالم الحافل بالأذى. والشيخوخة قضيتها جوَّالًا بين كلماتك وأنبيائك وأوليائك، وقبل ذلك كابدتها في دنياك ونعمائك. رياضتي العبادة، وتسليتي الطرب، وسروري الطعام الحلال. ها هو العيد يُطلُّ علينا مُتوَّجًا بأنداء الخريف، نهر من السُّحب البيضاء يتدفَّق فوق النيل الأسمر والأشجار الباسقة دائمة الخُضرة. أيامٌ قلائل نادرة في حياة هذه الأسرة المُمزَّقة. فواز يملأ جلبابه في استرخاء، وهناء تمشط شعرها الأبيض، وعلوان يَحلق ذقنه تأهبًا للانطلاق. قلت بسرور وأنا أتصفَّحهم حولي: أخيرًا نجتمع كأسرة يا أولاد.
فقال فواز بصوته الجهير: نقطة راحة في بحر من التعب.
– لو كانت الدنيا غير الدنيا لخرجنا إلى القناطر.
– فكرةٌ غير صالحة للعصر، أو قُل إنها جنونية.
قالت هناء ضاحكةً: نأكل وننام، هذا ما تبقَّى لنا من العيد.
– وأنت يا علوان؟
– إلى المقهى على الأقدام.
فقال فواز باسمًا: ثرثرة كالعادة.
فقلت: وعيدٌ آخر اتفقت دورته مع العيد؛ عيد النصر.
فقال علوان ساخرًا: النصر والسجن.
فقلت بنشوة غازية: لا دوام لحال، الجديد أيضًا آتٍ لا ريب فيه.
– حقًّا؟! .. يحيا الصبر والانتظار.
فقال فواز حالمًا: مُفاجأة بترولية أو اكتشاف نهر مغمور في الصحراء.
فقال علوان: أو اندلاع ثورة.
فتساءل فواز: هل تعني الثورة إلا مزيدًا من الخراب؟
فقال علوان مُتهكمًا: ضربوا الأعور على عينه!
يتحدَّثون عن الثورة بلا معرفة، لم يسمعوا عنها. حكى لهم الراوي المأجور حكايةً زائفة كاذبة. يبدأ المدرِّس المغلوب على أمره درسه بالسؤال الخائن: «لماذا فشلت ثورة ١٩١٩؟» يا أبناء الأبالسة، ألا توجد قطرة حياء؟ يا زبانية المعتقلات وعباد نيرون، ها هو علوان يُلوِّح بيده ويذهب؛ يذهب حاملًا خيبة فرد وجيل معًا. وفتحت هناء التليفزيون قائلةً: نُشاهد الحفل.
المنظر العام ثريٌّ يُوحي بالفرح الشامل. قدوم الرئيس في هالةٍ لَألاءة كلَيلة القدر، عليه بزَّة القيادة، وبيده صولجان الملك، وتتابعت الصفوف والأعلام. قالت هناء ببراءة: شدَّ ما هو مُعجَب بنفسه.
فقلت: اليوم يومه.
فقال فواز: إنه لسعيد، وهو حقيق بذلك.
ثم مُستدركًا في أسًى: خسر الكثير منذ ٥ سبتمبر.
عَرْض فوق الأرض وعرض في السماء، منظرٌ نادر لا يتكرر. قلت بصوت من الماضي: لم نكن نرى الجيش إلا يوم المحمل.
– انظر يا أبي، هذا عالم آخر.
وقالت هناء ضاحكةً: وجه مُورَّد كأنه مطليٌّ بروج.
وتمرُّ الفيالق ويمرُّ الوقت، ويزحف عليَّ الكسل وشيء من النعاس، وأصحو في لحظة غريبة من الزمان. قَرص التاريخ أُذني، والدهر. قالا لي: هكذا وقعت الأحداث التي قرأتها في صحف التاريخ بانتباه عابر. ها هي تقع في حجرة المعيشة، تضطرب الشاشة الصغيرة وتتميَّع، وتنقضُّ حركةٌ غير عادية، وتنطلق أصوات، ثم يدهمنا الاختفاء.
– هل حصل شيء في التليفزيون يا فواز؟
– ليس في الجهاز .. لا أدري ماذا حصل.
وقالت هناء بقلق: شيءٌ غير عادي .. قلبي غير مطمئن.
فقال فواز: ولا أنا.
تساءلت: هل …؟!
قال فواز: الله أعلم يا بابا، عما قليل سنعرف كل شيء.
وقلت من قلبي: اللهم حوالَينا لا علينا.