علوان فواز محتشمي
صباح يوم جديد، قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، قديم جديد. دوَّخيني يا ليمونة. إن لم يوجد قديمٌ حسَن فليُوجَد جديدٌ سيِّئ. أي شيء خيرٌ من لا شيء. الموت نفسه تجديد، المشي صحة واقتصاد. المفروض أنه طريق العشق والجمال فانظر ما هو. آه يا قدمي! آه يا حذائي! تحمَّلا وتصبَّرا، هذا زمن التحمل والتصبر. في زمن النار والوحوش لا نسمة تُرطِّب الفؤاد إلا أنتِ يا حبيبتي. للأشجار الباسقة فضل، وللنيل فضل أيضًا لا يُنكَر. انظُر إلى أعلى إلى السُّحب البيضاء ورءوس الأشجار لتنسى سطح الأرض المجدور، ستلقى يومًا شيطانًا بريئًا فتؤاخيه. إني عبد العقل الراجح، والخُلق الكريم، والعينين السوداوين المظلَّلتين بحاجبَين مقرونين؛ منذ الصغر منذ الصِّبا منذ الشباب في البيت القديم الضائع بين العمائر الشاهقة، دسيسة بين الأغنياء. سيقتلنا صاحب البيت ذات يوم. عجيبٌ أن يخلد الحب في ظل الفساد المنتشر. هذا الطِّوار المُتهرِّئ، هل تخلَّف عن غارة جوية؟ وأكوام القُمامة رابضة بالأركان تحرس العُشاق. صباح الخير أيها المُكدَّسون في الباصات، وُجوهكم تُطلُّ من وراء الزجاج المشروخ مثل المساجين في يوم الزيارة. والجسر المُكتظ بالعابرين. السائرون على عجَل يلتهمون سندوتشات الفول بِنَهم وبلا تذوُّق. جدي قال: اشتدِّي أزمةُ تنفرجي.
يا جدي المحبوب حتى متى نحفظ ونُردِّد؟ إنه صديقي الأول، ما أنا إلا يتيم؛ فقدت أبويَّ بعد أن فقدا نفسهما في عمل يتواصل من الصباح حتى المساء، مُوزَّعين بين الحكومة والقطاع الخاص في سبيل اللقمة والضرورة، لا نلتقي إلا خطفًا.
– لا وقت للفلسفة من فضلك، ألا ترى أننا لا نجد وقتًا للنوم؟! إن صادفَت إحدى أخواتي عثرة في حياتها الزوجية نُدبتُ أنا لإصلاح ذات البَين! زمن لا يجد فيه أحد عند آخر عونًا، على كلٍّ أن يُصارع وحُسن حظه وحده. أخيرًا ها هي شركة الأغذية، إحدى شركات القطاع العام، أقرأ على مدخلها بالبنط العريض: «ادخلوها بلا أمل.» ها هي محبوبتي في إدارتنا العتيدة، العلاقات العامة والترجمة، تُغدِق عليَّ ابتسامة الحب. قلت لها مُعاتبًا: لو انتظرت دقائق لجئنا معًا.
فقالت بمرح: لظروفٍ كان عليَّ أن أتناول فطوري في البرازيل.
بفضل جدي جمعتنا شركةٌ واحدة وإدارةٌ واحدة، أو بفضل ضابط من الضباط الأحرار كان يومًا تلميذه. جدي شخصيته لا تُنسى، يتذكر فضلَه رجلٌ من جيلٍ أنكر فضل السابقين. ما أكثر البنات في إدارتنا! ها هي جيوش الأوراق تجمُّ عملنا في غير حاجة إلى تركيزٍ جدي؛ أعمل حينًا وأسترق النظر إلى حبيبتي رندة حينًا. أتذكَّر وأحلم وأحلم وأتذكَّر. قصة طويلة ترجع إلى أقدم عصور الحياة في بيتنا القديم الفريد. لعبنا في الطفولة واحد وعمرنا واحد. ماما تؤكد بغير دليل أنها أكبر مني، ويجيء البلوغ مصحوبًا بالحياء والحذر، والرقيب يتدخل هادمًا المسرَّات، لكن الحب اقتحم في حينه. في المرحلة الثانوية، انهالت على السُّلم بين الطابقَين المُداعَبات العابرة والعبارات الرمزية. وذات يوم دسست في يدها رسالة اعتراف. كجواب منها أهدتني قصة وفاء الجيلين. لما نجحنا في الثانوية العامة في عام واحد قُلت لجدي: أريد أن أخطب رندة سليمان جارتنا. جدي قال لي إنه على أيامه لم يكن يُباح الكلام في الخِطبة قبل أن يستقل الشاب بحياته، ولكنه وعد بمفاتحة بابا وماما في الموضوع كما وعد بتأييدي. أمي قالت إن آل سليمان مبارك أقرب من الأقارب، ورندة بمنزلة بناتها، ولكنها أكبر منك! وقال أبي: إنها تُماثلك في السن إن لم تكن أكبر، وتُماثلك أيضًا في الفقر. أُعلنت الخطبة في يوم سعيد. وقتها كان الحلم يمكن أن يصير واقعًا. منذ التحقنا بالعمل موظفين واجهتنا حقائق جديدة، ومرَّت أعوامٌ ثلاثة فختمنا السادسة والعشرين. كنت عاشقًا فأصبحت مُرهقًا عاجزًا مسئولًا، لا نجتمع اليوم للمناجاة، ولكن لمناقشات توشك أن تُلحقنا بالمجموعة الاقتصادية؛ الشقة .. الأثاث .. أعباء الحياة المشتركة. لا حل لديها ولا حل لديَّ، ولا نملك إلا الحب والإصرار. أُعلنت الخطبة في عهد الناصرية، وواجهنا الحقيقة في عصر الانفتاح، غرقنا في دوَّامة عالم مجنون، حتى في الهجرة لا مجال لنا، بين الفلسفة والتاريخ ضعف الطالب والمطلوب. لا لزوم لنا. ما أكثر من لا لزوم لهم! كيف حاق بنا هذا الضياع؟! إني مسئول مُطارَد تُحاصِره التساؤلات، وهي جميلة ومطلوبة، وأنا قائم مثل السد في طريق حظها. نظرات والدَيها المُمتعِضة لا تُفارقني .. أكاد أسمع ما يُقال من ورائي. فوق ذلك تهيم أحلام الإصلاح، تجيء من فوق أو من تحت، بقرارات أو بانتفاضات، معجزة العلم والإنتاج، لكن ما الحل مع ما يُقال عن الفساد واللصوص؟ ما أفظع ما تقول الدكتورة علياء سميح وما يقول محمود المحروقي! أين الصواب؟ لمَ أشكُّ في كل شيء؟ منذ تهاوى مَثلي الأعلى في ٥ يونيو، كيف يجد أناس سبيلًا سحريًّا إلى الثراء الفاحش وفي زمن لا يُصدَّق؟! ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ ما سرُّ حِرصي على الاستقامة؟ ما أطمح في هذه الساعة إلى أكثر مما يؤهِّلني للزواج من رندة. دُعينا إلى مقابلة مدير الإدارة أنور علام، أنا ورندة. كثيرًا ما نُدعى معًا لتعاوننا المشترك على ترجمة اللائحة؛ إنه مديرٌ لطيف المعاملة، جميل الاستقبال، مُحبٌّ للدعاية، نحيل طويل غامق السُّمرة، مُستدير العينَين ذو نظرة نافذة، وأيضًا كهل يُشارِف الخمسين من عمره وأعزب. وكعادته قال: أهلًا بالعروسَين!
وراح ينظر في أوراقنا بسرعة وذكاء مُبديًا بعض الملاحظات. وردَّ التسويدة مُتسائلًا: متى نفرح بكما؟
إني أعتبر أسلوبه في التدخل في الشئون الخاصة للموظفين سياسة، وإن لم تُصادِف مني ارتياحًا مثل نظرة عينَيه، على أني أحببته: مشكلتنا حتى الآن لا حلَّ لها.
فقال باستهانة جريئة: لا مشكلة بلا حل.
فقلت كالمُحتج: ولكن …
وإذا به يُقاطعني: لا تُردِّد أقوال العاجزين.
فملأني الغيظ وسألته: ما الحل في تصورك؟
فضحك ضحكةً مستفزَّة وقال: لا تطلب الحل عند الآخرين.
رجعتُ إلى مكتبي وفكرةٌ تُساورني أنه تعمَّد أن يُظهرني في صورة العاجز أمام رندة، وعِشت في غبش هذه الفكرة طيلة الوقت حتى أَذِن موعد الانصراف. ولدى عودتنا معًا إلى شارع النيل ملفوفين في مِعطفَينا قلت لها: الرجل أثار أعصابي.
فقالت وهي تَحبك طوق المِعطف حول عنقها السمح: وأنا كذلك.
– إنه سمجٌ يدَّعي الظرف.
– هو كذلك.
– هل تُصدِّقين أنه يوجد حلٌّ لمشكلتنا لم نهتدِ إليه بعد؟
فتفكَّرت قليلًا ثم قالت: أملي في الله كبير، نحن نُفكر وكأن كل شيء سيبقى على حاله إلى الأبد!
فقلت بقلق: ولكن العمر يجري يا رندة.
فقالت باسمة: ربما، ولكن الحب ثابت!