علوان فواز محتشمي
ليَكن عيد، ولننسَ همومنا ولو ساعة واحدة، ولكن كيف والباب له مائة مِفتاح؟ ماذا يقول لي النيل؟ وماذا يقول الشجر؟ اسمع جيدًا، إنها تقول: يا علوان، يا فقير، يا عائشًا بين الأسوار، رندة تعود إليك تحت مِظلَّة الصداقة والحوار، في ظل حب غير مُعلَن يقوم على أرضية مستندة إلى عمودَين من الصُّلب واليأس تُظلُّها أحلام غامضة. لا مطاردة من الأهل ولا أمل ولا يأس، امشِ مشيةً عسكرية سريعة؛ فهذا يوم الجنود. وها هو المقهى مُكتظٌّ بعلماء الكلام. هنا ينعدم الرضا والفعل. بيننا مائدة عليها ترانزستور تطوَّع أحدهم بإحضاره، كما فعل يوم أذاع علينا الرئيس الراحل هزيمته عقب ٥ يونيو. أول ما سمعت قائلًا يقول: الرئيس الراحل في هزيمته أعظم من هذا في نصره.
هذا يُذكِّرني برأيٍ أدلى به جدي مرةً، قال لي: نحن قومٌ نرتاح للهزيمة أكثر من النصر؛ فمن طول الهزائم وكثرتها ترسَّبت نغمة الأسى في أعماقنا؛ فأحببنا الغناء الشجيَّ والمسرحية المُفجِعة والبطل الشهيد. جميع زعمائنا شهداء؛ مصطفى كامل شهيد الجهاد والمرض، محمد فريد شهيد المنفى، سعد زغلول شهيد النفي أيضًا، مصطفى النحاس شهيد الاضطهاد، جمال شهيد ٥ يونيو. أما هذا المُنتصِر المعجباني فقد شذَّ عن القاعدة، تحدَّانا بنصره، ألقى في قلوبنا أحاسيس وعواطف جديدة لم نتهيَّأ لها، وطالبَنا بتغيير النغمة التي ألِفناها جيلًا بعد جيل، فاستحقَّ منا اللعنة والحقد، ثم غالى بالنصر لنفسه تاركًا لنا بانفتاحه الفقر والفساد، هذه هي العقدة.
وغرقنا في دوَّامة الحوار الأرعن والترانزستور يُذيع تفاصيل عيد النصر لمن يسمع حولنا من روَّاد المقهى. وسرقَنا الوقت كالعادة حتى انتبهنا على أصوات غريبة وصوت المُذيع وهو يصرخ: الخونة .. الخونة.
شلَّت الألسنة وزاغت الأبصار، تلاصقت الرءوس فوق الترانزستور، ولكنه انقطع عن متابعة الحفل وراح يُذيع بعض الأغاني.
– ماذا حدث؟
– شيءٌ غير عادي.
– قال .. الخونة .. الخونة .. الخونة.
– اعتداء!
– على من؟
– سؤالٌ سخيف حقًّا.
– الأغاني المذاعة تدل …
– متى كان للمنطق أهمية؟
– شيئًا من الصبر!
ماتت أيُّ رغبة في العودة إلى البيت، تلاصقنا بشعورٍ دعانا إلى البقاء معًا أمام المجهول.
تناولنا غداءً موجزًا من المكرونة وانتظرنا. وبعد وقت عنيف أعلن المُذيع أنه حصلت محاولة للاعتداء فاشلة، وأن الرئيس غادَر الحفل، وأن قوات الأمن مُسيطرة على الموقف تمامًا، وانطلقت الأغاني من جديد.
– ها هي الحقيقة.
– الحقيقة؟
– فكِّر قليلًا.
– بعض الحقائق لا يمكن إخفاؤها.
– ولكن يمكن تأجيلها.
– من المُعتدون؟
– مَن غير التيَّار الديني؟
– لكنه يجلس بين الجنود والحرس.
– انتبِهوا .. بدأت إذاعة الأناشيد الوطنية.
وإذا بإذاعة جديدة تُعلِن عن إصابة طفيفة للرئيس، وأنه يلقى العناية الكاملة في المستشفى. قلوبنا ترقص في مد الاحتمالات المتصاعد. الزمن توقَّف وغيَّر لونه ثم أطلَّ علينا بوجه جديد.
– أصيب الرجل، ماذا بعد؟
– استعِدُّوا للسجن.
– عودة مؤكَّدة للإرهاب.
– سينجو وينتقم.
– هل نسمع القرآن بعد الأناشيد؟!
وتحمَّلنا الوقت على ثقله حتى صحت النكتة وبدأت التلاوة. بُهتنا أول الأمر. إنه اليقين. يا للذهول! حقًّا؟! انتهى الرجل؟ .. من كان يتصوَّر؟ لماذا نؤمن أحيانًا بأنه يوجد مُستحيل. لماذا نتصوَّر أنه توجد حقيقة في هذه الدنيا سوى الموت؟ الموت هو الموت، هو الدكتاتور الحقيقي. ويجيء البيان الرسمي كالجملة الختامية. تُرى ماذا يقول الناس؟ أريد أن أسمع ما يُقال حولنا في المقهى. وتحرَّكت مُرهف السمع. لا حول ولا قوة إلا بالله. هو وحده الدائم. البلد يُواجه خطرًا لا يُستهان به. لا يستحقُّ هذه النهاية مهما قيل عن أخطائه .. في يوم نصره؟ مؤامرة .. توجد مؤامرةٌ مُحكَمة ولا شك. في داهية .. الموت أنقذه من الجنون. على أي حال كان يجب أن يذهب. هذا جزاء من يتصوَّر أن البلد جثةٌ هامدة، بل هي مؤامرة خارجية. لا يستحقُّ هذه النهاية. إنها نهاية محتومة. كان لعنة. من قتل يُقتَل ولو بعد حين. في لحظة انهارت إمبراطورية، إمبراطورية اللصوص. فيمَ تُفكر العصابة الآن؟ عُدت إلى مجلسي تُمزِّقني انفعالاتٌ مُتضارِبة من الأسى والخوف والسرور، وأفعمني ترحيبٌ غامض باحتمالات مجهولة واعدة بتحطيم الجمود والروتين والانطلاق نحو آفاق غير محدودة. ليَكن الغد ما يكون أسوأ من اليوم، حتى الفوضى خير من اليأس، ومقاتلة الأشباح خير من الخوف. هذه الضربة زلزلت عرشًا واخترقت حصونًا. ومع المساء هِمت على وجهي. أرهقني الكلام. ما أرغبني في المشي! على كل عابر أرى أثرًا من الموت، وأجدني فجأةً أمام فيلا جولستان، وأرى سيارة أنور علام واقفةً تنتظر صاحبها. تتفجَّر في داخلي كل شهوة للجنس وكل نزوع للقتال.